ارتقاء النفس والنجاة من أسر الطبيعة
في الارتقاء الطبيعي
عندما أُهبطت الروح من مكانتها العليا إلى عالم المادة تقطعت ثلاث فرق: «فرقة اتحدت بجوهرية المعادن، وفرقة اتحدت بجوهرية النبات، وفرقة اتحدت بجوهرية الحيوان الذي أفضله عالم الإنسان … ولا تزال الأشياء موجودة على ما هي به من اجتماع الكثيف باللطيف، ما دامت النفوس الجزئية متحركة بالنشوء والبلى، والكون والفساد والترقي من الحال الأدنى إلى الحال الأعلى، حتى تترقى كلها، وتصعد بأجمعها كما تتصاعد المياه من البخارات وتصير في الغمام ولا تبقى في الأواني إلا تفالاتها، فيرمى بها؛ إذ لا حاجة إليها. واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأنه سترجع النفوس الجزئية إلى النفس الكلية بأجمعها، وتصير في عالمها الروحاني ومحلها النوراني وحالها الأزلي ووقتها الدهري الأبدي السرمدي الذي لا نهاية لطوله، الذي كانت فيه قبل تعلقها بالجسم» (جا: ٢٧٢).
إن العالم الطبيعي مليء بالأرواح، والنفوس التي أُهبطت من عليائها لم تُسجن فقط في الهيئة الحيوانية التي أشرفها الهيئة الإنسانية، وإنما في الهيئة النباتية، وحتى في العناصر التي تتكون منها الأرض، والتي نظنها مواتًا لا حياة فيها:
«واعلم يا أخي أن لهذه الجواهر [المعدنية] خواص كثيرة، وطباعها مختلفة، فمنها متضادة متنافرة، ومنها متشاكلة متآلفة، ولها تأثيرات بعضها في بعض، إما جذبًا أو إمساكًا أو دفعًا أو نفورًا. ولها أيضًا شعور خفي وحس لطيف كما للنبات والحيوان، إما شوقًا ومحبة، وإما بغضًا وعداوة. والدليل على صحة ما قلنا وحقيقة ما وصفنا، قول الحكماء في كتاب الأحجار ونعتهم لها أن طبيعة تألف طبيعة، وطبيعة تناسب طبيعة أخرى، وطبيعة تلتصق بطبيعة، وطبيعة تأنس بطبيعة، وطبيعة تقهر طبيعة» (١٩: ٢، ١١٠).
وهنالك عملية ارتقاء دائبة تحصل في هذه المستويات الثلاثة التي حُبست فيها النفوس الجزئية في العالم الطبيعي الذي هو بمثابة جهنم لهذه النفوس. فالنفوس المعدنية ترتقي وتتحول إلى نفوس نباتية، وهذه بدورها ترتقي وتتحول إلى نفوس حيوانية، وهذه أيضًا تصعد نحو المرتبة الإنسانية التي يحصل عندها وحدها التحرر والخلاص من سجن المادة. وهيئة الإنسان المنتصبة هي الصراط المستقيم الذي يصعد بالروح إلى الملأ الأعلى:
«ولما أُهبطت النفس الجزئية وقُرنت بالهياكل الجسمانية، افترقت من حال إلى حال حتى بلغت إلى آخر باب في جهنم عالم الكون والفساد، وهي الصورة الإنسانية … فإن صورة الإنسان أجلُّ الأشكال وأتم الصور، وذلك أنه منتصب، وهو الصراط الممدود بين الجنة والنار، وهو سيد الصُّوَر، وذلك أنه منتصب وجميع الصور التي دونه ساجدة له وراكعة وهو ربها وسيدها … وهي مكلفة بطاعته والسجود له، كما هو مكلف بطاعة ربه والخضوع إليه … وعبادته سبحانه وتعالى حق عبادته. ولذلك وجب عليه الطاعة والانقياد لباريه، وسقط ذلك عن غيره من الحيوانات» (جا: ٦٣-٦٤).
«إن الأرض بما عليها من المدن والقرى والجزائر التي في البحار، وما فيها من المساكن، كلها حبوس ومطامير وسجون ومضائق للنفوس الجزئية، وكذلك جميع أشخاصها من النبات والحيوان ذوات النفوس كلها قيود وأغلال وكبول للنفوس المتعلقة بما يجذبها إلى أسر الطبيعة؛ وأنها كلها برازخ، ولكنها متفاوتة الصفات ومتغايرة الدرجات، ومتباينة الصور من الضيق والاتساع والاتضاع والارتفاع والآلام واللذات؛ وأن منها ما هو في العذاب المهين والذل المقيم مثل البهائم المستعملة والحيوانات المذبوحة في الهياكل والبيع، والنبات الذي هو في غاية الذل والهوان؛ وأن من أكملها صورة وأتمها بنيةً وأعلاها منزلةً الصورة الإنسانية، وأنها صراط مستقيم وكتاب مبين وطريق قويم، وهي المطية التي من سار عليها قاصدًا، وكان في سيره على الحق معتمدًا، فلا شك أنه يصل بها إلى دار السعادة، ويفارق دار الهوان» (جا: ٥٣-٥٤).
ونحن هنا أمام البوادر الأولى للنظرية الحديثة في التطور الطبيعي وارتقاء الأنواع، فالنبات قد نشأ عن عناصر الأرض الطبيعية، والحيوان قد نشأ عن النبات، والإنسان قد نشأ عن الحيوان. وهذا الارتقاء في الشكل المادي يرافقه ارتقاء روحي من الصراط المنكوس إلى الصراط المستقيم الذي يوصل إلى الصورة الملائكية التي تحررت من الشكل المادي، والتي هي الغاية القصوى:
«واعلم أيها الأخ، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن الجواهر المعدنية هي في أدون مراتب المولَّدات من الكائنات، وهي كل جسم متكون منعقد من أجزاء الأركان الأربعة التي هي النار والهواء والماء والأرض؛ وأن النبات يشارك الجواهر في كونها من الأركان، ويزيد عليها وينفصل منها بأنه كل جسم يتغذى من الأركان وينمو ويزيد في أقطاره الثلاثة طولًا وعرضًا وعمقًا؛ وأن الحيوان أيضًا يشارك النبات في الغذاء والنمو، ويزيد عليه وينفصل عنه بأنه جسم متحرك حسَّاس؛ والإنسان يشارك النبات والحيوان في أوصافها ويزيد عليها وينفصل عنها بأنه ناطق مميز جامع لهذه الأوصاف كلها.
ثم اعلم يا أخي بأن النبات متقدم الكون والوجود على الحيوان بالزمان؛ لأنه مادة لها كلها، وهيولى لصورها، وغذاء لأجسادها، وهو كالوالدة للحيوان، أعني النبات. وذلك أنه يمتص رطوبات الماء ولطائف أجزاء الأرض بعروقه إلى أصوله، ثم يحيلها إلى ذاته، ويجعل من فضائل تلك المواد ورقًا وثمارًا وحبوبًا نضيجًا ويتناوله الحيوان غذاءً صافيًا هنيئًا مريئًا، كما تفعل الوالدة بالولد إنها تأكل الطعام نضيجًا ونيئًا، وتناول ولدها لبنًا خالصًا سائغًا للشاربين. فلو لم يكن النبات يفعل ذلك من الأركان لكان يحتاج الحيوان إلى أن يتغذى من الطين صِرفًا، ومن التراب سفًّا، ويكون مُنغَّصًا في غذائه وملاذه. فانظر يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، إلى معرفة حكمة الباري، جل ثناؤه، كيف جعل النبات واسطة بين الحيوان وبين الأركان …
واعلم يا أخي بأن الحيوانات التامة الخلقة كلها كان بدء كونها من الطين أولًا، من ذكر وأنثى توالدت وتناسلت وانتشرت في الأرض سهلًا وجبلًا وبرًّا وبحرًا، من تحت خط الاستواء حيث يكون الليل والنهار متساويين، والزمان أبدًا معتدلًا هناك بين الحر والبرد، والمواد المتهيئة لقبول الصورة موجودة دائمًا. وهناك أيضًا تكوَّن أبونا آدم أبو البشر وزوجته، ثم توالدا وتناسلت أولادهما وامتلأت الأرض منهم …
ثم اعلم يا أخي بأن الحيوانات كلها متقدمة الوجود على الإنسان بالزمان؛ لأنها له ولأجله [وُجدت]، وكل شيء هو من أجل شيء آخر فهو متقدم الوجود عليه. هذه الحكمة في أولية العقل لا تحتاج إلى دليل من المقدمات ونتائجها؛ لأنه لو لم يتقدم وجود هذه الحيوانات على وجود الإنسان لما كان للإنسان عيش هنيء، ولا مروءة كاملة، ولا نعمة سائغة، بل كان يعيش عيشًا نكدًا …
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن صور النبات منكوسة الانتصاب إلى أسفل لأن رءوسها نحو مركز الأرض ومؤخرها نحو محيط الأفلاك، والإنسان بالعكس من ذلك؛ لأن رأسه مما يلي الفلك، ورجليه مما يلي مركز الأرض في أي موضع وقف على بسيطها شرقًا وغربًا وجنوبًا وشمالًا … والحيوانات متوسطة بين ذلك لا منكوسة كالنبات، ولا منتصبة كالإنسان، بل رءوسها إلى الآفاق، ومؤخرها إلى ما يقابله من الأفق الآخر …
وقد بيَّنَّا في رسالة لنا أن قوى النفس الكلية أول ما تبتدئ تسري في قعر الأجسام من أعلى سطح الفلك المحيط نحو مركز الأرض. فإذا سرت في الأفلاك والكواكب والأركان والمولَّدات وبلغت إلى مركز الأرض من أقصى مدى غاياتها ومنتهى نهاياتها، عطفت عند ذلك راجعة نحو المحيط، وهو المعراج والبعث والقيامة الكبرى.
فانظر الآن يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، كيف يكون انصراف نفسك من هذا العالم إلى هناك، فإنها هي إحدى القوى المنبثة من النفس الكلية السارية في العالم، وقد بلغت إلى المركز، وانصرفت ونجت من الكون في المعادن، أو في النبات، أو في الحيوان، وقد جاوزت الصراط المنكوس [صورة النبات] والصراط المقوس [صورة الحيوان]، وهي الآن على صراط مستقيم آخر درجات جهنم، وهي الصورة الإنسانية. فإن جاوَزْتَ وسلمْتَ من هذه دخلت الجنة» (٢٢: ٢، ١٨٠–١٨٣).
حلقات التطور هذه مرتبطة بعضها ببعض عبر مراحل وسيطة تتحوَّل عندها إحدى الحلقات إلى التي تليها:
«آخر مرتبة الجواهر المعدنية متصلة بأول مرتبة الجواهر النباتية … وآخر مرتبة النبات متصلة بأول مرتبة الحيوانية، وآخر مرتبة الحيوانية متصلة بأول مرتبة الإنسانية، وآخر مرتبة الإنسانية متصلة بأول مرتبة الملائكة الذين هم سكان السماوات وقاطنو الأفلاك …
اعلم يا أخي بأنك مندوب للقاء ربك، ومبعوث من هذه الدنيا إلى هذه المرتبة [الملائكية]، ومقصود بك إليها منذ يوم خُلقْتَ، تنتقل من حال أدوَن إلى حال هي أتم وأكمل وأشرف إلى أن تلقى ربك … فمن تلك الحالات ما قد جاوزْتَ وشاهدْتَ، ومنها ما لم تبلغها بعد» (٢١: ٢، ١٥٠-١٥١).
«واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن الباري، جل ثناؤه، لما أبدع الموجودات واخترع الكائنات، جعل أصلها كلها من هيولى واحدة، وخالف بينها بالصور المختلفة، وجعلها أجناسًا وأنواعًا مختلفة متفننة متباينة، وقوَّى ما بين أطرافها، وربط أوائلها وأواخرها بما قبلها رباطًا واحدًا على ترتيب ونظام لما فيه من إتقان الحكمة وإحكام الصنعة، لتكون الموجودات كلها عالمًا واحدًا منتظمًا نظامًا واحدًا وترتيبًا واحدًا، لتدل على صانعٍ أحد.
فمن تلك الموجودات المختلفة الأجناس المتباينة الأنواع، المربوطة أوائلها بأواخرها وأواخرها بما قبلها في الترتيب والنظام، المولدات الكائنات التي دون فلك القمر، وهي أربعة أجناس، المعادن والنبات والحيوان والإنسان. وذلك أن كل جنس منها تحته أنواع كثيرة، فمنها ما هو في أدون المراتب، ومنها ما هو في أشرفها وأعلاها، ومنها ما هو بين الطرفين. أدون أطراف المعادن مما يلي التراب: الجص والزاج وأنواع الشبوب؛ والطرف الأشرف: الياقوت والذهب الأحمر، والباقي بين هذين الطرفين [على درجات متفاوتة] من الشرف والدناءة، كما بيَّنَّا في رسالة المعادن.
ولا تنبت الكمأة ولا خضراء الدمن إلا في أيام الربيع في البقاع المتجاورة، لتقارب ما بينهما؛ لأن هذا [أي خضراء الدمن] معدن نباتي، وذاك [أي الكمأة] نبات معدني.
وأما النخل فهو آخر المرتبة النباتية مما يلي الحيوانية، وذلك أن النخل نبات حيواني؛ لأن بعض أحواله مباين لأحوال النبات، وإن كان جسمه نباتًا. بيان ذلك أن القوة الفاعلة [فيه] منفصلة من القوة المنفعلة، والدليل على ذلك أن أشخاص الفحولة منه مباينة لأشخاص الإناث، ولأشخاص فحولته لقاح في إناثها كما يكون ذلك للحيوان … وأيضًا فإن النخل إذا قطعت رءوسها جفت وبطل نموها ونشوءُها وماتت. كل ذلك موجود في الحيوان. فبهذا الاعتبار تبين أن النخل نباتي بالجسم، حيواني بالنفس؛ إذ كانت أفعاله أفعال النفس الحيوانية، وشكل جسمه شكل النبات.
وفي النبات نوع آخر فعله أيضًا فعل النفس الحيوانية، لكن جسمه جسم النبات، وهو الكشوث. وذلك أن هذا النوع من النبات ليس له أصل ثابت في الأرض كما يكون لسائر النباتات، ولا له أوراق كأوراقها، بل إنها تلتف على الأشجار والزروع والشوك، فتمتص من رطوبتها وتتغذى بها كما يتغذى الدود الذي يدب على ورق الأشجار وقضبان النبات ويقرضها، فيأكلها ويتغذى بها … قد بان بما وصفنا أن آخر الرتبة النباتية متصل بأول المرتبة الحيوانية، وأما سائر المراتب النباتية فهي بين هذين.
واعلم يا أخي بأن أول مرتبة الحيوان متصل بآخر مرتبة النبات … فأدون الحيوان وأنقصه هو الذي ليس له إلا حاسة واحدة فقط، وهو الحلزون، وهو دودة في جوف أنبوبة، تنبت تلك الأنبوبة على الصخر الذي في سواحل البحار وشطوط الأنهار. وتلك الدودة تُخرج نصف شخصها من جوف تلك الأنبوبة، وتبسط يمنة ويسرة تطلب مادة يتغذى بها جسمها، فإذا أحست برطوبة ولين انبسطت إليه، وإذا أحست بخشونة أو صلابة انقبضت وغاصت في جوف تلك الأنبوبة حذرًا من مؤذٍ لجسمها ومفسد لهيكلها. وليس لها سمع ولا بصر ولا شم ولا ذوق، إلا الحس واللمس قط. وهكذا أكثر الديدان التي تتكوَّن في الطين وفي قعر البحار وأعماق الأنهار … فهذا النوع حيوان نباتي؛ لأن جسمه ينبت كما ينبت بعض النبات، ويقوم على ساقه قائمًا. وهو من أجل أن يتحرك جسمه حركة اختيارية حيوان، ومن أجل أنه ليست له إلا حاسة واحدة فهو أنقص الحيوان رتبة في الحيوانية. وتلك الحاسة أيضًا قد يشارك بها النبات، وذلك أن النبات له حس اللمس فقط. والدليل على ذلك إرساله بعروقه نحو المواضع الندية، وامتناعه من إرسالها نحو الصخور واليبس. وأيضًا فإنه متى اتَّفق منبته في مضيق مال وعدل عنه طالبًا للفسحة والسعة … فهذه الأفعال تدل على أن له حسًّا وتمييزًا بمقدار الحاجة …
فقد بان بما وصفنا كيفية مرتبة الحيوانية مما يلي النبات، فنريد أن نبين كيفية مرتبة الحيوانية مما يلي رتبة الإنسان فنقول: إن رتبة الحيوانية مما يلي رتبة الإنسانية ليست من وجه واحد ولكن من عدة وجوه. وذلك أن رتبة الإنسانية لما كانت معدنًا للفضل وينبوعًا للمناقب، لم يستوعبها نوع واحد من الحيوان ولكن عدة أنواع؛ فمنها ما قارب رتبة الإنسانية بصورة جسده مثل القرد، ومنها ما قاربها بالأخلاق النفسانية كالفرس في كثير من أخلاقه … ومثل الفيل في ذكائه، وكالببغاء والهزاز ونحوهما من الأطيار الكثيرة الأصوات والألحان والنغمات، ومنها النحل اللطيف الصنائع، إلى ما شاكل هذه الأجناس، وذلك أنه ما من حيوان يستعمله الناس ويأنس بهم إلا ولنفسه قرب من نفس الإنسانية.
أما القرد، فلقرب شكل جسمه من شكل جسد الإنسان صارت نفسه تحاكي أفعال النفس الإنسانية، وذلك مُشاهد منه متعارف بين الناس. وأما الفرس الكريم فإنه قد بلغ من كرم أخلاقه أنه صار مركبًا للملوك، وذلك أنه ربما بلغ من أدبه أنه لا يبول ولا يروث ما دام بحضرة الملك أو حاملًا له. وله أيضًا ذكاء وإقدام في الهيجاء وصبر على الطعن والجراح، كما يكون الرجال الشجعان … وأما الفيل فإنه يفهم الخطاب بذكائه، ويمتثل الأمر والنهي كما يمتثل الرجل العاقل المأمور المنهي. فهذه الحيوانات في آخر مرتبة الحيوان مما يلي رتبة الإنسان، لما يظهر فيها من الفضائل الإنسانية. وأما باقي أنواع الحيوانات فهي فيما بين هاتين المرتبتين» (٢١: ٢، ١٦٦–١٧٠).
«واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن أحق النفوس الحيوانية أن تنتقل أن رتبة الإنسانية التي هي الخادمة للإنسان، المستأنسة به، المنقادة لأمره، المتعوبة في طاعته، الشقية في خدمته، وخاصة المذبوحة منها في القرابين. وعلى هذا المثال والقياس حكم النفوس الإنسانية، فإن أحقها أن تنتقل إلى رتبة الملائكة التي هي الخادمة في أوامر الناموس ونواهيه، المنقادة لأحكامه، المتعوبة في حفظ أركانه» (٩: ١، ٣٢٠).
ونحن هنا أمام نظرية شمولية في مبدأ التناسخ التصاعدي المرافق لعملية الارتقاء الطبيعي والنفسي:
«النفوس الجزئية إنما رُبطت بأجسادها التي هي أجسام جزئية كيما تُكمِل فضائلها وتخرج كل ما في القوة والإمكان إلى الفعل والظهور من الفضائل والخيرات. ولم يمكن ذلك إلا بارتباطها بهذه الأجساد وتدبيراتها لها … واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن الباري جلَّ ثناؤه لما رتب النفوس مراتبها كمراتب الأعداد المفردات كما اقتضت حكمته، جعل أولها متصلًا بآخرها، وآخرها متصلًا بأولها بوسائطها المرتبة بينهما. وذلك أنه رتب النفوس النباتية تحت الحيوانية وجعلها خادمة لها ورتب الحيوانية تحت الناطقة الإنسانية وجعلها خادمة لها، ورتب الناطقة الإنسانية تحت الحِكمية وجعلها خادمة لها، ورتب العاقلة تحت الناموسية وجعلها خادمة لها، ورتب الناموسية تحت الملكية وجعلها خادمة لها. فأية نفس منها انقادت لرئيسها وامتثلت أمره في سياساتها نُقلت إلى مرتبة رئيسها وصارت مثلها في الفعل» (٩: ١، ٣١٨–٣٢٠).
وأيضًا:
«واعلم يا أخي بأن مراتب النفوس ثلاثة أنواع، فمنها مرتبة الأنفس الإنسانية، ومنها ما فوقها، ومنها ما هي دونها؛ فالتي هي دونها سبع؛ والتي فوقها سبع أيضًا، وجملتها خمس عشرة مرتبة. والمعلوم من هذه المراتب التي ذكرناها عند العلماء، ويمكن لكل عاقل أن يعرفها ويحس بها، خمس، منها اثنتان فوق رتبة الإنسانية وهي رتبة الملكية القدسية، ورتبة الملكية هي رتبة الحكمية، ورتبة القدسية هي رتبة النبوة والناموسية، واثنتان دونها وهي مرتبة النفس النباتية والحيوانية … فأما المراتب التي دون النباتية وفوق القدسية فبعيدة معرفتها على المرتاضين بالعلوم الإلهية، فكيف على غيرهم.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن الله، جل ثناؤه، لما ربط الأنفس الجزئية بالأجسام الجزئية للعلة التي ذكرناها، أيدها وأعانها بضروب من المعاونة وفنون من التأييدات، كل ذلك جود منه ولطف بها وإنعام منه عليها … وذلك أنه كلما بلغت نفس منها رتبةً ما، أمدها بزيادة فضلًا منه وجودًا، أو نقلها إلى ما فوقها وأرفع منها وأعز وأشرف وأجل وأكرم، كل ذلك ليبلغها إلى أقصى مدة غاياتها وتمام نهاياتها» (٩: ١، ٣١١-٣١٢).
وأيضًا:
يتضح مما أوردناه آنفًا أن عقيدة التناسخ عند إخوان الصفاء تختلف عن عقيدة التناسخ في أديان الهند والشرق الأقصى وفي الغنوصية، في أمر جوهري يجعلها نسيجًا متفردًا. ففي معتقدات التناسخ الأخرى يجري انتقال الأرواح على مستوى أفقي من جسد إنساني إلى جسد إنساني آخر، وعلى مستوى هابط من جسد إنساني إلى جسد حيواني، وعلى مستوى صاعد من جسد إنساني إلى كينونة قدسية؛ أما في معتقد إخوان الصفاء فإن انتقال النفس لا يتم إلا صعودًا نحو الأعلى، عندما تصير النفس الجزئية في المرتبة الإنسانية لا يوجد أمامها إلا فرصة واحدة في حياة واحدة تتطور أثناءها داخل المرتبة الإنسانية قبل الانتقال إلى المرتبة الملائكية، وإلا رُدت إلى أسفل سافلين وبقيت في البرزخ إلى يوم يبعثون. وهذه نقطة سوف نبحثها بتفصيل أكثر في فصل الآخرة والنشأة الثانية.
في الارتقاء النفسي
«الإنسان إنما هو جملة مجموعة من جسد جسماني في أحسن الصور، ومن نفس روحانية من أفضل النفوس. واعلم يا أخي أن لكل واحد من جزأيه غاية إليها ينتهي، ونهاية إليها يرتقي. فأعلى رتبة ينالها الإنسان بجسده، وأشرف رتبة يبلغها ببدنه هي سرير الملك والعز والسلطان على أجساد أبناء جنسه، والقهر والغلبة بالقوة الغضبية. وأما أعلى رتبة ينالها الإنسان من جهة نفسه، وأشرف درجة يبلغها بصفاء جوهرها، فهي قبول الوحي الذي به يعلو الإنسان على سائر أبناء جنسه، وبه يغلبهم بما يدرك من المعارف الحقيقية بالقوة الناطقة. ولما تبين أن النفس أشرف جوهرًا من الجسد، صارت الرتبة التي ينالها الإنسان بنفسه أشرف وأعلى من التي ينالها بجسده؛ لأن هذه جسمانية دنيوية، وتلك روحانية أُخروية» (٤٦: ٤، ٨٣-٨٤).
«إن كل إنسان تكون نفسه أصفى جوهرًا وأذكى فهمًا، كما بيَّنَّا في رسالة كيفية الطريق إلى الله تعالى، فكانت أخلاقه وسجاياه لأخلاق الكرام أقرب وأشبه، كما بيَّنَّا في رسالة الأخلاق، وكان مذهبه واعتقاده باعتقاد الأنبياء ومذهب الحكماء أشد تحقيقًا، كما بيَّنَّا في رسالة الناموس، وكانت أعماله وسيرته بأفعال الملائكة وسيرتها أشد تشبهًا، كما بينا في رسائل إخوان الصفاء. فأقول: إن قبول نفسه لإلهام الملائكة والوحي والأنباء أمكنُ، وفهمه لمعانيها أسهل، مثل نفوس الأنبياء، ثم بعدهم نفوس الصديقين، ثم بعدهم نفوس المؤمنين المصدقين الأخيار الفضلاء الأبرار، ثم الأمثل فالأمثل والأقرب فالأقرب» (٤٦: ٤، ١١٦-١١٧).
«ومثل آخر في كيفية قبول الإنسان إلهام الملائكة، فنقول: إن العلماء ذكروا أن العلوم ثلاث مراتب: أولها الرياضيات وبعدها الطبيعيات وبعدها الإلهيات. فمن ابتدأ أولًا بتعلم الرياضيات وأحكمها كما ينبغي، سهل عليه تعلم الطبيعيات، ومن أحكم الطبيعيات كما ينبغي، سهل عليه تعلم الإلهيات. فهكذا نقول: من يريد أن يهذب نفسه ويهيئها لقبول إلهام الملائكة إذا ابتدأ أولًا فأصلح أخلاقه الرديئة التي نشأ عليها منذ الصبا ثم سار سيرة عادلة في متصرفاته كما رُسم له في الشريعة، ثم نظر في العلوم الحسية فأحكمها كما يجب، مثلما ذكرنا في رسالة الحاس والمحسوس، ثم نظر في الأمور العقلية فأحكمها كما يجب ليحل بها عن ضميره، والآراء الفاسدة التي اعتقدها قبل البحث عن حقائق الأشياء، كما بيَّنَّا في رسالة العقل والمعقول. فأقول: إن نفسه عند ذلك متهيئة لقبول إلهام الملائكة. وكلما زاد في المعارف استبصارًا، صارت نفسه لقبول إلهام الملائكة أسهل طبعًا، ولطاعة العقل أشد تشبهًا، وإلى السمائية أقرب قربةً. وإنما يمنعها عن الصعود إلى ملكوت السماء نوازع طبيعة الجسد ما دامت تتعلق به. فإذا فارقته عند الممات كانت في طرفة عين مع أبناء جنسها ممن مضى على سُنن الهدى …
واعلم أن كل عالم تكون أكثر معلوماته روحانية فهو إلى الملائكة أقرب نسبة. ومن أجل هذا جعل الله طائفة من بني آدم واسطة بين الناس وبين الملائكة؛ لأن الواسطة هي التي تناسب أحد الطرفين من جهة، والطرف الآخر من جهة؛ وذلك أن الأنبياء عليهم السلام كانوا يناسبون الملائكة بنفوسهم وصفاء جوهرها، ومن جهة أخرى كانوا يناسبون الناس بغلظ أجسامهم» (٤٦: ٤، ١٢٠ و١٢١).
«ثم اعلم أيها الأخ أنه ليس كل نفس وردت إلى عالم الكون والفساد تكون محبوسة فيه، كما أنه ليس كل من دخل الحبس يكون محبوسًا فيه، بل ربما دخل الحبس من يقصد إخراج المحبوسين منه، كما أنه قد يدخل بلاد الروم من يستنقذ أسارى المسلمين؛ وإنما وردت النفوس النبوية إلى عالم الكون والفساد لإنقاذ هذه النفوس المحسوبة في حبس الطبيعة الغريقة في بحر الهيولى، الأسيرة في الشهوات الجسمانية» (٣٤: ٣، ٢١٨). «ثم اعلم أن النفوس التامة الكاملة إذا فارقت الأجساد تكون مشغولة بتأييد النفوس الناقصة المجسدة، لكيما تتم هذه وتكمُل تلك، وتتخلص هذه من حال النقص، وتبلغ تلك إلى حال الكمال، وترتقي هذه المؤيَّدة أيضًا إلى حالة هي أكمل وأشرف وأعلى» (٤٠: ٣، ٣٧١).
سُبل الارتقاء
من هذه المقاطع نفهم أن ارتقاء النفس يقوم بعدد من الأسباب، أولها وأهمها: اكتساب العلوم والمعارف. ذلك أن النفس التي انقطعت عن أصلها لما حصل منها من خطيئة قد تراكمت عليها حجب الجهل، وغرقت في نوم الغفلة ورقدة الجهالة، ولا سبيل إلى رفع هذه الحجب والاستيقاظ من نوم الغفلة إلا بالعلم الذي تتيحه للنفس الحياة في جسد إنساني تؤهلها لتذكر أصلها ومعرفة ماهيتها والارتقاء من الرتبة الإنسانية، آخر بوابات جهنم، إلى الرتبة الملائكية، فصعودًا بعد البعث والنشور للاتحاد بالنفس الكلية:
«اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن الإنسان لما كان هو جملة مجموعة من جسد جسماني ونفس روحانية، وهما جوهران متباينان في الصفات، متضادان في الأحوال، ومشتركان في الأفعال المعارضة والصفات الزائلة، صار الإنسان من أجل جسده الجسماني مريدًا للبقاء في الدنيا، متمنيًا الخلود فيها، ومن أجل نفسه الروحانية صار طالبًا للدار الآخرة، متمنيًا البلوغ إليها، وهكذا أكثر أمور الإنسان وتصور أحواله مثنوية متضادة … صارت قِنيته أيضًا نوعين: جسمانية كالمال ومتاع الدنيا، وروحانية كالعلم والدين، وذلك أن العلم قِنية للنفس كما أن المال قِنية للجسد. وكما أن الإنسان يتمكن بالمال من تناول اللذات من الأكل والشرب في الحياة الدنيا، فهكذا بالعلم ينال الإنسان طريق الآخرة، وبالدين يصل إليها؛ وبالعلم تضيء النفس وتشرق وتصح، كما أن بالأكل والشرب ينمي الجسد ويزيد ويربو ويسمن. فلما كان هكذا صارت المجالس أيضًا اثنين: مجلس للأكل والشرب واللهو واللعب واللذات الجسمانية لصلاح هذا الجسد المستحيل الفاسد الفاني، ومجلس للعمل والحكمة وسماع روحاني من لذة النفوس التي لا تبيد جواهرها ولا ينقطع سرورها في الدار الآخرة … فلما كانت المجالس اثنين صار أيضًا السائلون اثنين، واحد يسأل حاجة من عرض الدنيا لصلاح هذا الجسد ولجرِّ المنفعة إليه أو لدفع المضرة عنه، وواحد يسأل مسألة من العلم لصلاح أمر النفس وخلاصها من ظلمات الجهالة، أو للتفقه في الدين طلبًا لطريق الآخرة … ونجاة من عالم الكون والفساد» (٧: ١، ٢٥٩–٢٦١).
«وليس من فريضة من جميع مفروضات الشريعة وأحكام الناموس أوجب ولا أفضل … من العلم وطلبه وتعليمه. وبيان ذكر شرف العلم ما رُوي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «تعلموا العلم فإن في تعلُّمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمونه صدقة، وبذله لأهله قُربة» … واعلم يا أخي بأن كل علم وأدب لا يؤدي صاحبه إلى طلب الآخرة، ولا يعينه على الوصول إليها، فهو وبال على صاحبه وحجة عليه يوم القيامة» (٩: ١، ٣٤٦–٣٤٩).
«واعلم أن نفوس الحكماء تجتهد في أفعالها ومعارفها وأخلاقها، في التشبُّه بالنفس الكلية الفلكية، وتتمنى اللحوق بها، والنفس الكلية أيضًا كذلك، فإنها تتشبه بالباري في إدارتها الأفلاك، وتحريكها الكواكب، وتكوينها الكائنات، كل ذلك طاعة لباريها، وتعبُّدًا له واشتياقًا إليه. ومن أجل هذا قالت الحكماء: إن الله هو المعشوق الأول، والفلك إنما يدور شوقًا إليه» (٣٦: ٣، ٢٨٥).
«واعلم أن من الأنفس الجزئية ما يتصور بصورة النفس الكلية، ومنها ما يقاربها، وذلك بحسب قبولها ما يفيض عليها من العلوم والمعارف والأخلاق الجميلة. وكلما كانت أكثر قبولًا كانت أفضل وأشرف من سائر أبناء جنسها، مثل نفوس الأنبياء، عليهم السلام … ومثل نفوس المحققين من الحكماء التي استنبطت علومًا كثيرة حقيقية … ومثل نفوس الكهنة المخبرة بالكائنات قبل كونها بدلائل فلكية وعلامات زجرية … واعلم يا أخي أن فضائل النفس الكلية فائضة على الأنفس الجزئية دفعة واحدة، مبذولة لها دائم الأوقات؛ لكن الأنفس الجزئية لا تطيق قبولها إلا شيئًا بعد شيء … ثم إن المانع للأنفس الجزئية قبول فيض النفس الكلية دفعة واحدة هو لأجل استغراقها في بحر الهيولى، وتراكم ظلمات الأجسام على بصرها، لشدة ميلها إلى الشهوات الجسمانية، وغرورها باللذات الجرمانية. فمتى انتبهت من نوع الغفلة واستيقظت من رقدة الجهالة … وأخذت ترتقي في العلوم والمعارف، ودامت على تلك الحال، لحقت بالنفس الكلية، وشاهدت تلك الأنوار العقلية والأضواء البهية» (١٥: ٢، ١٠-١١).
«واعلم يا أخي أن الإنسان إذا سلك في مذهب نفسه، وتصرف في أحوالها، مثلما سُلك به في خلق جسده وصورة بدنه، فإنه سيبلغ أقصى نهاية الإنسانية مما يلي رتبة الملائكة … وأما ما سُلك به في خَلْقه فهو أنه ابتُدئ من نطفةٍ من ماءٍ مهين، ثم كان علقة جامدة في قرار مكين، ثم كان مضغة، ثم كان جنينًا مصورًا تامًّا، ثم كان طفلًا متحركًا حسَّاسًا، ثم كان صبيًّا ذكيًّا فهمًا، ثم كان شابًّا متصرفًا قويًّا نشيطًا، ثم كان كهلًا مجربًا عالمًا عارفًا …
واعلم يا أخي بأنك لم تُنقل رتبة من هذه المراتب إلا وقد خُلع عنك أعراضٌ وأوصافٌ ناقصة، وأُلبسْتَ ما هو أجود منها وأشرف؛ فهكذا ينبغي أن لا ترتقي في درجة العلوم والمعارف إلا وتخلع عن نفسك أخلاقًا وعادات وآراء ومذاهب وأعمالًا مما كنت معتادًا لها منذ الصبا من غير بصيرة ولا روية، حتى يمكنك أن تفارق الصورة الإنسانية، وتلبس الصورة الملكية، ويمكنك الصعود إلى ملكوت السماوات وسعة عالم الأفلاك» (١٤: ١، ٤٤٨-٤٤٩).
إن الهدف الأقصى للمعرفة هو معرفة الإلهيات. ولكن معرفة الأمور الإلهية لا تأتي إلا بالتدرج من العلوم الرياضية إلى العلوم الطبيعية، «فمن لم يكن مرتاضًا بالنظر في هذه الأشياء فلا يسعه النظر في أمور الطبيعة؛ لأنه لا يمكن له أن يعرفها كنه معرفتها البتة، ولو لم يكن مرتاضًا في الأمور الطبيعية، فلا يسعه الكلام في الأمور الإلهية» (١٥: ٢، ١٩). ثم إن عملية المعرفة من ناحية أخرى تتدرج ابتداء من معرفة الأمور المحسوسة التي تدركها الحواس بشكل مباشر إلى معرفة الأمور العقلية والروحانية:
«واعلم يا أخي أن الباري جل جلاله جعل الأمور الجسمانية المحسوسة كلها مثالات ودلالات على الروحانية العقلية، وجعل طرق الحواس درجًا ومراقي يُرتقى بها إلى معرفة الأمور العقلية التي هي الغرض الأقصى في بلوغ النفس إليها.
فإذا أردت يا أخي أن تبلغ إلى أفضل المطلوبات وأشرف الغابات التي هي الأمور العقلية، فاجتهد في معرفة الأمور المحسوسة فإنك بذلك تنال الأمور العقلية. وقد بيَّنَّا في رسائلنا الطبيعية طرفًا من ذلك. ثم اعلم أن معرفة الأمور الجسمانية المحسوسة، هي فقر للنفس وشدة الحاجة، ومعرفة الأمور المعقولة الروحانية هي غناها ونعيمها، وذلك أن النفس في معرفة الأمور الجسمانية محتاجة إلى الجسد وحواسها وآلاتها لتدرك بتوسطها الأمور الجسمانية، وأما إدراكها الأمور الروحانية فيكفيها ذاتها وجوهرها بعدما تأخذها من الحواس بتوسط الجسد. وإذا حصل لها ذلك فقد استغنت عن الجسد وعن التعليم بالجسم بعد ذلك.
فاجتهد يا أخي في طلب الغنى الأبدي بتوسط هذا الهيكل وآلاته ما دام يمكنك ذلك قبل فناء العمر وتصرُّم المدة، وفساد الهيكل وبطلان وجوده. واحذر كل الحذر أن تبقى نفسك فقيرة محتاجة إلى هيكل ليتم به ما فاته من الكمال، فتكون ممن يقول: يا ليتنا نُرد فنعمل غير الذي كنا نعمل» (٣٥: ٣، ٢٤٦-٢٤٧).
واعلم أن فهم القراءة والكتابة ومعرفتها متأخرة عن فهم الكلام والأقاويل، كما أن فهم الكلام والأقاويل ومعرفتها إنما هي متأخرة عن فهم المحسوسات … وذلك أن الطفل إذا خرج من الرحم فإنه في الوقت والساعة تدرك حواسه محسوساتها … إلى أن تتم سنة التربية، ويُغلق باب الرضاع ويُفتح [باب] الكلام والنطق. ثم بعد ذلك تجيء أيام الكتابة والقراءة، والآداب والصنائع والرياضيات، وسماع الأخبار والروايات، والفقه في الدين، والنظر في العلوم والمعارف، وطلب حقائق الموجودات والبحث عن الكائنات، والاستدلال بالحاضرات على الغائبات والمحسوسات على المعقولات، وبالجسمانيات على الروحانيات، وبالرياضيات على الطبيعيات، وبالطبيعيات على الإلهيات التي هي الغاية القصوى في العلوم والمعارف، والسعادة الأبدية والدوام السرمدي. بلغك الله وإيانا إلى هذه الغاية، وشرح صدرك وفتح قلبك» (٤٢: ٣، ٤١٤-٤١٥).
ويرى الإخوان أن التفكر في الأمور العقلية هو في مرتبة أعلى من العبادات المفروضة والمسنونة في الشرائع، والوقوف عند هذه العبادات هو شأن العامة والجهال، أما الخواص فيتجاوزونها، دون أن يسقطوها، نحو آفاق المعرفة المنجية للنفوس:
ثم اعلم أن الإنسان إذا عقل الأمور المحسوسة وعرفها، وتفكر في الأمور العقلية وبحث عنها وعن عللها، استقبلته عند ذلك طريقان: إحداهما ذات اليمين تؤديه إلى الهداية والرشاد، والأخرى ذات الشمال تؤديه إلى الغي والضلال. وذلك أن أمور العالم نوعان: كليات وجزئيات لا غير. فإذا أخذ الإنسان يفكر في كلياتها ويعتبر أحوالها وتصاريفها، ويبحث عن الحكمة فيها بانت له، وأمكنه أن يعرفها بحقائقها وأُرشد إليها … وإذا أخذ يتفكر في جزئياتها، والبحث عنها وعن عللها، خفيت وانغلقت مناحيها، وكلما ازداد تفكُّرًا ازداد تحيُّرًا وشكوكًا، ومن الله بُعدًا …
مثال ذلك أنه إذا ابتدأ الإنسان أولًا وتفكر في نفسه، ونظر إلى بنية هيكلها وكيفية تركيب جسده، وكيف كان أولًا في صلب أبيه ماءً مهينًا، ثم كيف صار نطفة في قرار مكين … ثم كيف أُخرج من الرحم … [إلخ]. فإذا فكَّر الإنسان في هذه الحالات التي يُنقل فيها من أدونها إلى أتمها، ومن أفضلها إلى أكملها، فيعلم بالضرورة ويشهد له عقله أن له صانعًا حكيمًا هو الذي اخترعه وأنشأه وأنماه … فهذا هو الطريق ذات اليمين المؤدي سالكه إلى الله تعالى وإلى نعيم جنانه.
وأما الطريق الآخر، ذات الشمال، المؤدي إلى الشكوك والحيرة والضلالة والعمى، فهو أن يبتدئ الإنسان، قبل النظر في العلوم والآداب والرياضيات وقبل أن يُحسِّن أخلاقه ويهذب نفسه، بالكشف عن الأمور الجزئية الخفية المشكلة على الحُذَّاق من العلماء والفلاسفة فضلًا عن غيرهم، نحو معرفة ألم الأطفال، وطلب معرفة مصائب الأخيار، والبحث عن الأنباء وتيسير أمور الأشرار، ولِمَ زيدٌ الحازم فقير وعمرو العاجز غني؟ ولِمَ جعفر الغبي أمير وعبد الله الحكيم فقير؟ ولِمَ هذا الرجل ضعيف والآخر قوي صحيح؟ … ولماذا يصلح البق والذباب والقردان والبراغيث؟ … وأي حكمة في خلق العقارب والحيات، وما شاكل ذلك من المسائل التي لا يُحصي عددها إلا الله ولا يعلم سواه عللها … فيبتدئ أولًا بطلب الأمور المشكلة التي تقدم ذكرها فلا يدركها ولا يعقلها، فيرجع عند ذلك خاسرًا متفكرًا متحيرًا غافلًا بنفسه، وسواسًا في قلبه، فينظر عند ذلك إلى أمر العالم مهمَلًا، والكائنات باتفاق لا بعناية حكيم ولا صنع صانع عليم، أو نظر إلى أن رب العالمين غافل عن أمر عالمه حتى يُجري فيه ما لا يليق بالحكمة، أو يظن أنه لا يعلم ما يجري فيه … وما شاكل هذه من الظنون والشكوك والحيرة والضلال الذي قد تاهت في طلب معرفته عقول كثير من العقلاء المتقدمين المرتاضين بالعلوم الحكمية، فكيف غيرهم ممن ليست له رياضة ولا معرفة بحقائق الأسرار» (٤٢: ٣، ٥٠٤–٥٠٧).
فالارتقاء يحصل بالناموس، أي الشريعة، وبالعلوم الحِكمية: «اعلم أن الإنسان العاقل إذا سمع أوامر الناموس ونواهيه، ووعيده وزواجره، ثم لم يأتمر بحدوده ولم ينقَدْ لأحكامه، أو سمع العلوم الحكمية فلم يقم بواجبها … [إلخ]» (٣٠: ٣، ٧٩). ولكن الناموس لا يُختصر إلى شكليات الصيام والصلاة وما إليها من أحكام وحدود، بل هو أن تحيا بروح المعارف العقلية فتعيش بعيش العلماء الربانيين، وهذا طريق الخاصة من الناس إلى النجاة:
«فقد بينَّا أن خير صناعة تبلغ إليها طاقة البشر [هي] وضع الناموس الإلهي، وقد ذكرنا كيفيتها وشرائطها في رسالة الناموس الإلهي. فاجتهد يا أخي في معرفة أسراره، لعل نفسك تنتبه من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، وتحيا بروح المعارف العقلية فتعيش بعيش العلماء الربانيين، وتنال نعيم عالم الروحانيين … فإن لم يستوِ لك ذلك فكن خادمًا في الناموس يحفظ أحكامه والقيام بحدوده، فلعلك تنجو بشفاعة أهله من بحر الهيولى وأَسْر الطبيعة» (٨: ١، ٢٩٥).
وقد أسهب الإخوان في تعداد أنواع العلوم، ودخلوا في تفاصيل كل علم ممَّا لم نجد ضرورة للخوض في معظمها. ولكننا سوف نتوقف هنا عند تعدادهم لأجناس العلوم لإعطاء فكرة عن الموضوعات التي تطرقوا إليها في مواضع متفرقة من رسائلهم:
«واعلم يا أخي بأن العلم إنما هو صورة المعلوم في نفس العالم، وضده الجهل وهو عدم تلك الصورة من النفس. واعلم بأن أنفس العلماء علامة بالفعل، وأنفس المتعلمين علامة بالقوة، وأن التعلم والتعليم ليسا شيئًا سوى إخراج ما في القوة، يعني الإمكان، إلى الفعل، يعني الوجود. فإذا نُسب ذلك إلى العالِم سُمِّي تعليمًا، وإن نُسب إلى المتعلم سمي تعلُّمًا» (٧: ١، ٢٦٢).
«فاعلم يا أخي بأن العلوم التي يتعاطاها البشر ثلاثة أجناس: فمنها الرياضية ومنها الشرعية الوضعية ومنها الفلسفية الحقيقية. فالرياضية هي علم الآداب التي وُضع أكثرها لطلب المعاش وصلاح أمر الحياة الدنيا. وهي تسعة أنواع، أولها علم الكتابة والقراءة، ومنها علم اللغة والنحو، ومنها علم الحساب والمعاملات، ومنها علم الشعر والعروض، ومنها … علم الحِرَف والصنائع، ومنها علم البيع والشراء والتجارات …
فأما أنواع العلوم الشرعية التي وُضعت لطب النفوس وطلب الآخرة فهي ستة أنواع: أولها علم التنزيل، وثانيها علم التأويل، والثالث علم الروايات والأخبار، والرابع علم الفقه والسنن والأحكام، والخامس علم التذكار والمواعظ والزهد والتصوف، والسادس علم تأويل المنامات …
وأما العلوم الفلسفية فهي أربعة أنواع: منها الرياضيات، ومنها المنطقيات، ومنها الطبيعيات ومنها الإلهيات. فالرياضيات أربعة أنواع: أولها الأرتماطيقي [= الحساب] … والثاني الجومطريا وهو الهندسة … والثالث الأسطرنوميا وهي النجوم … والرابع الموسيقى. والعلوم المنطقيات خمسة أنواع: أولها أنولوطيقا وهي معرفة صناعة الشعر، والثاني ريطوريقا وهي معرفة صناعة الخُطب، والثالث طوبيقا وهي معرفة صناعة الجدل، والرابع بولوطيقا وهي معرفة صناعة البرهان، والخامس سوفسطيقا وهي معرفة صناعة المغالطين في المناظرة والجدل. وقد تكلم الحكماء الأولون والمتأخرون في هذه الصنائع والعلوم وصنفوا فيها كتبًا كثيرة، وهي موجودة في أيدي الناس. وقد عمل أرسطاطاليس ثلاثة كتب أُخر، وجعلها مقدمة لكتاب البرهان، أولها قاطيغورياس [= كتاب المقولات]، والثاني باريمنياس [= كتاب العبارة]، والثالث أنولوطيقا الأولى [= كتاب القياس]. وإنما جعل عنايته أكثرها بكتاب البرهان؛ لأن البرهان ميزان الحكماء يعرفون به الصدق من الكذب في الأقوال، والصواب من الخطأ في الآراء، والحق من الباطل في الاعتقادات، والخير من الشر في الأفعال … وقد عمل فرفوريوس الصوري كتابًا وسماه إيساغوجي، وهو المدخل إلى صناعة المنطق الفلسفي. ولكن من أجل أنهم طولوا الخطب فيها، ونقلها من لغة إلى لغة من لم يكن عارفًا بها وبمعانيها، انغلق على الناظرين في هذه الكتب فهم معانيها وعسُر على المتعلمين أخذُها. وقد عملنا في كل واحدة من هذه الصنائع رسالة ذكرنا فيها نُكت ما يُحتاج إليه وتركنا التطويل …
وأما العلوم الطبيعية فهي سبعة أنواع: أولها علم المبادئ الجسمانية، وهي معرفة خمسة أشياء: الهيولى والصورة، الزمان والمكان والحركة … والثاني علم السماء والعالم، وهو معرفة جواهر الأفلاك والكواكب وكميتها وكيفية تركيبها وعلة دورانها … والثالث علم الكون والفساد، وهو معرفة ماهية جواهر الأركان الأربعة التي هي النار والهواء والماء والأرض، وكيف يستحيل بعضها إلى بعض بتأثيرات الأشخاص العالية، ويكون منها الحوادث والكائنات من المعادن والنبات والحيوان … والرابع علم حوادث الجو، وهو معرفة كيفية تغييرات الهواء … وتصاريف الرياح والضباب والغيوم والأمطار والثلوج والبرد والبروق والرعود والشهب والصواعق … وما شاكلها ممَّا يحدث فوق رءوسنا من التغييرات والحوادث. والخامس علم المعادن … والسادس علم النبات … والسابع علم الحيوان …
والعلوم الإلهية خمسة أنواع: أولها معرفة الباري، جل جلاله وعمَّ نواله، وصفة وحدانيته، وكيف هو علة الموجودات … والثاني علم الروحانيات، وهو معرفة الجواهر البسيطة العقلية العلَّامة الفعَّالة، التي هي ملائكة الله وخالص عباده، وهي الصور المجردة من الهيولى، المستعملة للأجسام المدبرة لها … والثالث علم النفسانيات، وهي معرفة النفوس والأرواح السارية في الأجسام الفلكية والطبيعية، من لدن الفلك المحيط إلى منتهى مركز الأرض، ومعرفة كيفية إدارتها للأفلاك وتحريكها للكواكب، وتربيتها للحيوان والنبات، وحلولها في جثث الحيوانات، وكيفية انبعاثها بعد الممات. والرابع علم السياسة وهي خمسة أنواع … والخامس علم المعاد، وهو معرفة ماهية النشأة الأخرى وكيفية انبعاث الأرواح من ظلمة الأجساد، وانتباه النفوس من طول الرقاد …» (٧: ١، ٢٦٦–٢٧٤).
نلاحظ من هذا العرض لأجناس العلوم أن الإخوان قد وضعوا العلوم الفلسفية في نقطة المركز، وأولوها العناية القصوى. فالفلسفة هي أشرف الصنائع بعد النبوة:
«واعلم بأن المنطق ميزان الفلسفة، وقد قيل إنه أداة الفيلسوف. وذلك أنه لما كانت الفلسفة أشرف الصنائع البشرية بعد النبوة، صار من الواجب أن يكون ميزان الفلسفة أصح الموازين، وأداة الفيلسوف أشرف الأدوات، لأنه قيل في حد الفلسفة إنها التشبُّه بالإله بحسب الطاقة الإنسانية.
واعلم بأن معنى قولهم: طاقة الإنسان، هو أن يجتهد الإنسان ويتحرز من الكذب في كلامه وأقاويله، ويتجنب من الباطل في اعتقاده، ومن الخطأ في معلوماته، ومن الرداءة في أخلاقه، ومن الشر في أفعاله، ومن الزلل في أعماله، ومن النقص في صناعته. هذا هو معنى قولهم: التشبُّه بالإله بحسب طاقة الإنسان؛ لأن الله عز وجل لا يقول إلا الصدق، ولا يفعل إلا الخير. فاجتهد يا أخي في التشبه به في هذه الأشياء، فلعلك تُوفَّق لذلك فتصلح أن تلقاه، فإنه لا يصلح للقائه إلا المهذبون بالتأيب الشرعي والرياضيات الفلسفية» (١٣: ١، ٤٢٧-٤٢٨).
وإذا كانت الفلسفة أشرف الصنائع بعد النبوة، فإن الفلاسفة والحكماء يأتون في سلم الارتقاء الإنساني بعد الأنبياء مباشرة:
«اعلم أيها الأخ، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن الحيوانات زينة الأرض، كما أن الكواكب زينة السماء، وأن أتم الحيوانات هيئة، وأكملها صورة، وأشرفها تركيبًا هو الإنسان؛ وأفضل الإنسان هم العقلاء، وأخيار العقلاء هم العلماء، وأعلى العلماء درجة وأرفعهم منزلة هم الأنبياء، عليهم السلام، ثم بعدهم في الرتبة الفلاسفة الحكماء» (٤٧: ٤، ١٢٤). ولكن الفرق الأساسي بين الأنبياء والفلاسفة يكمن في أن معرفة الأنبياء إلهامًا، أما معرفة الفلاسفة فاستنباطًا:
«واعلم أن من إحدى الخصال التي يضعها صاحب الشريعة أن لا يَنسُب إلى رأيه واجتهاده وقوته شيئًا مما يقول ويفعل ويأمر وينهى في وضع الشريعة، لكنه ينسبها إلى الواسطة التي بينه وبين ربه من الملائكة التي توحي إليه في أوقات غير معلومة. وأما الحكماء والفلاسفة إذا استخرجوا علمًا من العلوم، وألَّفوا كتابًا أو استخرجوا صنعة من الصنائع، أو بنوا هيكلًا، أو دبَّروا سياسة، نسبوا ذلك إلى قوة أنفسهم واجتهادهم وجودة رأيهم وفحصهم وبحثهم» (٤٧: ٤، ١٣٦).
فالفلسفة هي الحِكمة ومحبة النفس إياها، كما ورد في أكثر من موضع في رسائل الإخوان: «لفظ الفيلسوف عند اليونانيين معناه الحكيم، والفلسفة تسمى الحكمة. والحكيم هو الذي أفعاله تكون مُحكمة، وصناعته متقنة، وأقاويله صادقة، وأخلاقه جميلة وآراؤه صحيحة، وأعماله زكية، وعلومه حقيقية. وهي [أي الحكمة] معرفة حقائق الأشياء وكمية أجناسها، وأنواع تلك الأجناس، وخواص تلك الأنواع واحدًا واحدًا، والبحث عن عللها …» (٤٠: ٣، ٣٤٥).
والأصل في الحكمة اتفاقها مع الشريعة لا اختلافها معها، فكلاهما يتفقان في الغرض المقصود، وهو تهذيب النفس الإنسانية وإصلاحها والارتقاء بها:
«ثم اعلم أن العلوم الحكمية والشريعة النبوية كلاهما أمران إلهيان يتفقان في الغرض المقصود منهما، الذي هو الأصل، ويختلفان في الفروع. وذلك أن الغرض الأقصى من الفلسفة هو ما قيل: إنها التشبُّه الإله بحسب طاقة البشر، كما بينا في رسائلنا أجمع. وعُمدتها أربع خصال؛ أولاها معرفة حقائق الموجودات، والثانية اعتقاد الآراء الصحيحة، والثالثة التخلق بالأخلاق الجميلة والسجايا الحميدة، والرابعة الأعمال الزكية والأفعال الحسنة. والغرض من هذه الخصال هو تهذيب النفس والترقي من حال النقص إلى التمام، والخروج من حد القوة إلى الفعل بالظهور، لتنال بذلك البقاء والدوام … وهكذا الغرض من النبوة والناموس هو تهذيب النفس الإنسانية وإصلاحها وتخليصها من جهنم عالم الكون والفساد، وإيصالها إلى الجنة ونعيم أهلها …
وأما اختلافهما في الطرق المؤدية إليها فمن أجل الطبائع المختلفة والأعراض المتغايرة التي عرضت للنفوس، وبذلك اختلفت موضوعات النواميس وسنن الديانات ومفروضات الشرائع، كما اختلفت عقاقير الأطباء وعلاجاتها بحسب اختلاف الأمراض العارضة للأجساد … ومثال آخر في اختلاف سنن الديانات النبوية والفلسفية جميعًا، وفنون مفروضات النواميس، والمقصد واحد، كاختلاف طرقات القاصدين نحو بيت الله الحرام وتوجههم شطره بحسب مواضع بلدانهم» (٢٧: ٣، ٣٠).
وما التناقض الذي يبدو أحيانًا بين الحكمة والشريعة إلا لقصور فَهم جماعة من العاملين في العلوم الحِكمية وجماعة من العاملين في العلوم الشرعية. ولهذا فقد جهد الإخوان في رسائلهم من أجل تبيان الاتفاق بين الدين والفلسفة:
«ثم اعلم أن الحكماء الأولين قد تكلمت في فنون من العلوم وضروب من الآداب، وغرائب من الحِكم لا يحصي عددها إلا الله الواحد القهار. فمنها من تكلم في تركيب الأفلاك وأحكام النجوم، وتكلموا أيضًا في الطب والطبائع والكائنات التي تحت فلك القمر؛ وقوم من العلماء الشرعيين ينكرون أكثره، إما لقصور فهمهم عمَّا وصف القوم، أو لتركهم النظر فيها واشتغالهم بعلم الشرع وأحكامه، أو لعناد بينهما. وكذلك أيضًا إن أكثر من ينظر في العلوم الحكمية من المبتدئين فيها والمتوسطين من بينهم يتهاونون بأمر الناموس وأحكام الشريعة ويزرون بأهله، ويأنفون من الدخول تحت أحكامه إلا خوفًا وكرهًا … كل ذلك لقصور فهم الفريقين جميعًا عن معرفة حقائق هذه الأشياء المذكورة ولقلة علمهم أيضًا بماهيات الكائنات. ولما كان مذهب إخواننا الفضلاء الكرام النظر فيها جميعًا والكشف عن حقائق أشيائها، أعني العلوم الحِكمية والنبوية جميعًا، وكان هذا العلم بحرًا واسعًا وميدانًا طويلًا، احتجنا أن نتكلم في ما دعت الضرورة إلى عمل هذه الرسائل التي هي إحدى وخمسون رسالة، والكلام فيها بأوجز ما يمكن» (٢٧: ٣، ٢٩).
«فإن اجتهد الإنسان وفعل ما رُسم في الشريعة من لزوم أحكامها ومفروضاتها، وعمل بما وُصف في الفلسفة وصبر عليه مدة … فإنه يرجى لتلك النفس أن تهتدي إلى الرجوع إلى عالمها النفساني ومحلها الروحاني، واللحوق بأبناء جنسها الذين مضوا قبلها، ووصلوا إلى هناك، وتخلَّصوا من دركات عالم الكون والفساد» (٢٥: ٢، ٤٤٩).
«وإنَّ مُكْثَ الجنين في الرحم مدة ما، إنما هو لكي يُتمَّ الجسد وتُستكمل صورة البدن. والغرض من ذلك أن المولود ينتفع بالحياة الدنيا بعد الولادة. وكذلك أيضًا قد قال الحكيم: إن مكث الإنسان العاقل، الذي هو تحت الأمر والنهي، إما بموجب العقل أو بطريق السمع بأوامر الناموس ونواهيه، وفي طول عمره الطبيعي مدة ما [في هذه الدنيا] إنما هو لأن تُتمَّ فضائل النفس، وتُستكمل أخلاقها المختلفة، ومعارفها الربانية، بالتأمل والبحث في النظر، والسعي والاجتهاد في العمل … أو بما رُسم في الناموس من الوصايا والأوامر والنواهي، كل ذلك لكيما تستكمل النفس فضائل الملائكة فيها. والغرض من هذا كله هو أن يُمكِنها ويتهيأ لها الصعود إلى عالم الأفلاك والدخول في سعة السماوات …
اعلم يا أخي أن الله، جل ثناؤه، لما علم بأن أكثر الناس لا يعيشون أعمارًا طبيعية على التمام، ولا يُتركون في الدنيا زمانًا طويلًا تُهذب فيها نفوسهم وتُستكمل فضائلهم، لطف بهم من أجل ذلك، وبعث إليهم الأنبياء والرسل واضعي النواميس بالوصايا والأوامر والنواهي والسنن الزكية والشرائع المَرْضيَّة، إذا استعملوها على نحو ما رُسم لهم من السيرة العادلة، استتمت فضائل نفوسهم، وتهذبت أخلاقهم [حتى] وإن كانوا قصيري الأعمار … وأما حكم نفوس الأطفال والمجانين، فهي تنجو بشفاعة الآباء والأمهات والأنبياء والمرسلين … وإذ قد تبين لك يا أخي ما الغرض من المكث في الرحم مدة ما، وما الغرض من المكث في الدنيا مدة ما أيضًا، فبادر الآن وتشمر وتزود، فإن خير الزاد التقوى، وشد وسطك للرحيل من الدنيا الفانية إلى دار القرار الباقية، قبل فناء العمر وتقارب الأجل» (٢٥: ٢، ٤٥٣–٤٥٥).
«فاجتهد يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، في تصفية نفسك وتخليصها من بحر الهيولى وأسر الطبيعة، وعبودية الشهوات الجسمانية، وافعل كما فعلت الحكماء ووضعت في كتبها، فإن جوهر نفسك من جوهر نفوسهم، وصَفِّ نفسك من الأخلاق الرديئة والآراء الفاسدة والجهالات المتراكمة والأفعال السيئة، فإن هذه الخصال هي المانعة لها عن الصعود إلى هناك بعد الموت … واعلم يا أخي أن الموت ليس شيئًا سوى مفارقة النفس الجسد، كما أن الولادة ليست شيئًا سوى مفارقة الجنين الرحم. قال المسيح عليه السلام: من لم يولد ولادتين لم يصعد إلى ملكوت السماء» (٥: ١، ٢٢٦).
ومن الآراء الجيدة والاعتقادات النافعة لنفوس معتقديها … اعتقاد الإنسان العاقل وعلمه اليقين أنه متوجه إلى ربه وقاصد نحوه من يوم خلقه نطفة في قرار مكين، ينقله ربه وخالقه حالًا بعد حال من الأدون إلى الأشرف والأفضل إلى أن يلقى ربه …» (٣٨: ٣، ٢٩٦-٢٩٧).
«ثم اعلم أن الآراء الفاسدة والاعتقادات الرديئة كثيرة لا يحصى عددها، ولكن نذكر منها طرفًا … فمن ذلك رأي من رأى واعتقد أن العالم قديم لا صانع ولا مدبر له. وإن هذا الرأي مؤلم لنفوس معتقديه معذب لقلوبهم، وذلك أنه لا يخلو من أن يكون صاحب هذا الرأي سعيد أهل الدنيا أو من أشقيائهم، فإذا كان من سعدائهم فإنه لا يدري من أين له هذا، وما هو فيه … وقد علم يقينًا أن الذي هو فيه من النعمة ورغد العيش لا يدوم له، وأنه مفارقه على رغمه مع شدة محبته للبقاء … كلما ذُكر الموت والفناء نغص عليه شهواته، فيعيش طول عمره خائفًا من الموت … ثم يموت على رغم وحسرة وندامة لا يرجو بعد الموت خيرًا … وإن كان من أشقيائها فهو أسوأ حالًا وأمرُّ وأشرُّ سيرة من غيره، وذلك أنه يفني العمر كله بجهل وعناء وتعب، وشقاء في طلب ما لم يُقدَّر له … فهو بجهله بربه يعيش طول عمره مغتمًّا حزينًا ضجرًا لما رأى أنه فاته ما وجد غيره، ثم يموت بحسرة وغصة وندامة لا يرجو بعد الموت خيرًا …
ومن الآراء الفاسدة الرديئة المؤلمة لنفوس معتقديها رأي من يرى ويعتقد أن العالم محدث مصنوع وله صانع واحد حكيم، ولكن لا يرى البعث والنشور والقيامة ولا الحشر والحساب ولا لقاء ربه. فمن يعتقد هذا الشأن … يُفني عمره كله في طلب الدنيا وإصلاح أمر المعاش لجر منفعة إلى جسده، أو دفع مضرة عنه، أو نيل شهوة أو الوصول إلى لذة، متمنيًا للخلود في الدنيا مع علمه ويقينه أنه لا يدرك فيها ولا يبقى هو له، وأنه لا بد من الموت، ثم لا يرجع ولا يرجو بعد الموت ثواب عمل ولا جزاء إحسان، بل يموت بحسرة وندامة آيسًا مما يرجوه المؤمنون» (٤٢: ٣، ٥٢١-٥٢٢).
في الأخلاق
ترتبط الأخلاق عند إخوان الصفاء ارتباطًا وثيقًا بعملية الارتقاء النفسي. والإخوان هنا متشائمون بخصوص الطبيعة الإنسانية التي لا يرون أنها خيرة من حيث الأصل؛ لأن الإنسان ورد إلى الدنيا جاهلًا تُوجِّهه غرائزه ورغباته الطبيعية التي يسعى لإرضائها دون حسبان لمسألة الخير والشر، وهو لا يغدو كائنًا أخلاقيًّا إلا بالكد والاجتهاد من أجل تهذيب نفسه وإصلاح أخلاقه. ولما لم يكن بإمكان كل عاقل أن يفعل ذلك، نظرًا لأن كل ما في السلوك الأخلاقي يتعارض مع ما هو مغروس في الجبلة الإنسانية من الرغائب والشهوات وحب الدنيا، فقد خفف الله تعالى على الناس وبعث الأنبياء بالوصايا الشرعية وأمرهم بامتثال أمرهم ونهيهم. فالأصل في الأخلاق الحميدة الاكتساب لا الطبع، والخاصة من الناس تهتدي إلى السلوك الأخلاقي بموجب العقل، أما العامة فبموجب الناموس ونواهيه وأحكامه وحدوده. فمن هذَّب نفسه بسلوك إحدى هاتين الطريقتين أو كلاهما، فهو من أبناء الآخرة؛ ومن اتبع أخلاقه المغروسة في الطبيعة الإنسانية، فهو من أبناء الدنيا:
وأما أشقياء الدنيا والآخرة، فهم الذين بُخسوا حظهم من الدنيا ولم يُمكَّنوا منها وشقوا في طلبها، فعاشوا فيها طول أعمارهم بأبدان متعوبة ونفوس مهمومة، ولم ينالوا خيرًا، ثم لم يأتمروا بأوامر الناموس، ولم ينقادوا لأحكامه، وتجاوزوا حدوده … فهم الذين خسروا الدنيا والآخرة جميعًا، ذلك هو الخسران المبين.
وإذا قد تبين بما ذكرنا، بأقسام عقلية، أنه لا يخلو أحد من الناس من أن يكون داخلًا في أحد تلك الأقسام الأربعة، فنريد أن نذكر أخلاق أبناء الدنيا وطباعهم، وأخلاق أبناء الآخرة وسجاياهم، ليُعرَف الفرق بينهم.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأنك إذا أنعمت النظر بعقلك، وفكَّرت برويتك، وتأملت أوامر الناموس ونواهيه وأحكامه وحدوده … عرفت وتبينت أن أكثر أوامره هي بخلاف ما في طباع الناس … وذلك أنه أمر الصيام وترك الأكل والشرب عند شدة الجوع والعطش، وبالطهارة عند البرد، وبالقيام في الصلاة وترك النوم على الفراش الوطيء، وبالمواساة عند القلة وشدة الحاجة، وبالتعفُّف عند هيجان الشهوة، وبالحلم عند سورة الغضب، وبالشجاعة عند المخاوف، وبالعفو عند المقدرة … وما شاكل هذه الأفعال والأعمال والأخلاق والسجايا التي في الجبلة خلافُها، وفي الطباع مركوزٌ غيرها …
واعلم يا أخي بأن أخلاق بني الدنيا وسجاياهم إنما جُعلت طبيعة مركوزة في الجبلة؛ لأنهم وردوا إلى الدنيا جاهلين غير مستعدين لها. فأما أبناء الآخرة فصارت أخلاقهم مكتسبة معتادة [لأنهم استعدوا لها] بما أُعلموا بها وأُخبروا عنها وبُشروا بها وجدُّوا في طلبها وأُوضِح لهم طريقها …
واعلم يا أخي أنه لما لم يكن في مُكنة كل عاقل أن يفعل ما وصفنا؛ إذ كان يحتاج فيه إلى عناية شديدة وبحث دقيق ونظر قوي، خفَّف الله تعالى ذلك عليهم، وبعث واضعي النواميس الإلهية مؤيَّدين مع الوصايا المَرْضيَّة، وأمرهم بامتثال أمرهم ونهيهم، فبنوا لهم الهياكل والمساجد والبيع ومواضع الصلوات وبيوت العبادات، وأمورهم بالدخول إليها بعد طهارة ونظافة … وترك أشياء كانت مباحة لهم … كل ذلك ليكون دلالة لكل عاقل فهمَ أنه هكذا ينبغي أن تكون سيرة من يريد أن يدخل الجنة ويعرج بروحه إلى هناك» (٩: ١، ٣٣١–٣٣٦).
«واعلم يا أخي، أيدك الله، بأنه، جل ثناؤه، قد فرض على المؤمنين المقرين به وبأنبيائه أشياء يفعلونها، ونهاهم عن أشياء ليتركوها، كل ذلك ليبتليهم بها، وجعلها عللًا وأسبابًا ليرقيهم فيها وينقلهم حالًا بعد حال إلى أن يُبلغهم إلى أتم حالاتهم وأكمل غاياتهم.
واعلم يا أخي بأن من بلَّغه الله درجة ورتبة، فوقف عندها، ولم يرجع القهقرى بعد بلوغها، ثم قام بحقها ووفَّى بشرائطها، جعل جزاءه وثوابه أن ينقله من تلك الرتبة والدرجة إلى ما فوقها، ويرفعه من تلك إلى ما هو أشرف وأجلُّ منها، ومن جهل قدر النعمة التي في تلك الرتبة فلم يشكرها، ولا اجتهد في طلب ما فوقها، ولا رغب في الزيادة عليها، كان جزاؤه أن يُترك مكانه ويوقف حيث انتهى به عمله ويُحرم المزيد، فيفوته ما وراء ذلك وفوقه من الدرجات والمراتب، وكان ذلك الفوت والحرمان هو عقوبته» (٩: ١، ٣٤٥-٣٤٦).
في الخير والشر
تعد آراء إخوان الصفاء في مسألة الخير والشر استمرارًا لآرائهم في الأخلاق. فكما أن الخُلُق السيئ هو تقصير من الإنسان على الكد والاجتهاد في تهذيب نفسه والارتقاء بها، كذلك الشر الذي هو تخلُّف عن اللحاق بالخير الأفضل المتقدم عليه؛ فمتى غفل المفضول عن اللحاق بالفاضل ورضي لنفسه بالمكان الخسيس فهو الشر البعيد عن الخير. فما من شر كوني وما من مملكة للشر تعارض مملكة الخير، والكون كله خير ومخلوق من قبل إله خيِّر، وما نرى فيه من شر ليس بالقصد الأول وإنما بالقصد الثاني، وليس إبليس إلا تجسيدًا للنفس الشهوانية الغضبية المغوية للنفس الناطقة:
«إن الشر لا أصل له في الإبداع الأول من جهة المبدع الحق سبحانه. فإن قال قائل: فإذا لم يكن للشر أصل في الإبداع، فمن أين كان؟ وكيف يكون؟ ولمَ كان؟ فليعلم هذا القائل أن الخير الكلي والجود المحض [هو] إفاضة الباري سبحانه على العقل بجوده، فكان له [أي للعقل] السبق والتمام والكمال والتقدم بالوجود على الأشياء. ثم كانت النفس منبعثة منه تالية له، فكان ما بينهما من التفاضل مرتبة منحطة بالنفس عن اللحوق بالعقل ونقصانًا عن درجته فقصرت عن الكمال، فصار ذلك التقصير عنه عجزًا، فحدث عن ذلك العجز نقص عن البلوغ إلى الفضل الكلي. ثم حدثت الطبيعة عن النفس، وكانت النفس أفضل منها لكونها أصلًا لها، فكان ما بينهما من التفاضل عجزًا هو أكثر من عجز النفس عن بلوغ درجة العقل ومرتبته. ثم كانت الأشياء من المُركَّبات بحدوث بعضها من بعض، ولها وجود التفاضل، وبوجود التفاضل وجود العجز، وبوجود العجز وجود النقص، وبوجود النقص معرفة الفاضل والمفضول. فعند ذلك عطف العقل على النفس بخيراته وفضائله ليرقيها إليه، ويبلغها إلى درجته، ويزيل عنها النقص ويرفعها إلى درجة الكمال، ولم يرضَ لها بالتخلُّف عن البلوغ إلى درجته واللحوق بمنزلته؛ لأنه ليس من شأنه الحسد ولا الكبر، وإنَّ أحب الأشياء إليه كونها مثله لأنه خير كله؛ وعطفت النفس عند ذلك على الطبيعة، وعطفت الطبيعة على المولَّدات منها، وعطفت الأشياء كلها بعضها على بعض، فالفاضل أبدًا إنما يجتهد ليُرقَي المفضول إلى درجته ويُبلغه منزلته، دائمًا في ذلك مجتهدًا فيه. فقد بان بالبرهان وصح أن الشر لا أصل له في الإبداع، وسُمِّي عجز الأشياء لحدوث بعضها من بعض شرًّا، بمعنى التخلف عن اللحوق بالخير الأفضل المتقدم عليه؛ فمتى غفل المفضول عن اللحوق بدرجة الفاضل ورضي لنفسه بالمكان الخسيس الرذِل، فهو الشر المحض البعيد عن الخير، وهو النحس البعيد من السعد. فإذًا العالم إذا قبل الفيض والجود وارتقى إلى الفاضل صار خيرًا كله وسعدًا كله، فزال الشر، وعاد الخلق إلى أوله فصار خيرًا كله …
اعلم يا أخي أن الغرض الأقصى في إدارة الأفلاك وتسيير الكواكب، ومجيء الأنبياء والرسل والحكماء … هو أن يصير العالم خيرًا كله ويزول منه العجز والنقص والشر، ويعود إلى ما بدا منه فيصير لاحقًا به» (جا: ٢٥-٢٦).
وكمثال على أن الشرور في العالم ليست بالقصد الأول، يعالج الإخوان مسألة الأوجاع والآلام والأمراض، وأكل الكائنات الحية بعضها لبعض، وهي القضايا التي عدَّها فلاسفة الخير والشر، ولا سيما الثنويين منهم، التجلي الأمثل للشر في العالم:
«ثم اعلم أن الله تعالى جعل في جبلة الحيوان أربعة أسباب: آلامها، ودواعي عطب أبدانها، وشقاوة نفوسها، وهلاك هياكلها، وهي الجوع والعطش والشهوات المختلفة واللذات الذليلة. أما قصد الباري الحكيم في فعله ذلك كله فهو لبقاء نسلها وصلاح معاشها. وأما الذي يعرض لها من الآلام والنكب فليس بالقصد الأول ولكن بالعرض، من أجل النقص الذي في الهيولى. وذلك أن الله تعالى جعل لها الجوع والعطش لكيما يدعواها إلى الأكل والشرب ليخلُف على أبدانها من الكيموس [= سوائل البدن] بدل ما يتحلل من البدن؛ لأن البدن في التحلُّل دائمًا من أسباب خارجة وأسباب داخلة؛ وأما الشهوات فلكيما تدعو إلى المأكولات المختلفة الموافقة لأمزجة أبدانها وما تحتاج إليه طباعها. وأما اللذة فلكيما تأكل بقدر الحاجة من غير زيادة ولا نقصان.
فإن قيل: لمَ جعل للنفوس من الآلام والأوجاع والأفزاع عند الآفات العارضة لأجسادها؟ قيل له: لكيما تحرص نفوسها على حفظ أجسادها من الآفات العارضة لها إلى وقت معلوم؛ إذ كانت الأجساد لا تقدر على جر منفعة ولا دفع مضرة عنها. فإن قيل: لمَ جعل بعض الحيوانات آكلة لحوم بعض؟ قيل: لكيما لا يضيع شيء مما خلق الله بلا نفع؛ وذلك أنه قد تاهت أوهام العلماء وتحيَّرت عقولهم في طلب علة أكل الحيوانات بعضها بعضًا، وما وجه الحكمة منه؛ إذ كان الباري جعل ذلك في طباعها جبلة، وهيَّأ بها آلات وأدوات تتمكن بها، كأنيابٍ ومخالب وأظافير حِداد … فلما تفكروا في ذلك ولم تسنح لهم العلة ولا ما وجه العلة والحكمة، اختلفت عند ذلك بهم الآراء والتبست بهم المذاهب، حتى قال بعضهم: إن تسلط الحيوانات بعضها على بعض، وأكل بعضها لبعض ليس من فعل الحكيم، بل فعل شرير قليل الرحمة؛ فلهذا قالوا: إن للعالم فاعلين: خيِّر وشرير؛ ومنهم مَنْ نسب ذلك إلى النجوم، ومنهم مَنْ قال: عقوبة لها لما سلف منها من الذنوب في الأدوار السالفة، وهم أهل التناسخ، ومنهم مَنْ قال بالعَرض، ومنهم مَنْ قال: إن هذا أصلح، ومنهم مَنْ أقرَّ على نفسه بالعجز وقال: لا أدري ما العلة في أكل الحيوانات بعضها بعضًا، ولا ما وجه الحكمة فيه، غير أنه قال: الباري الحكيم لا يفعل شيئًا إلا بحكمته؛ ومنهم مَنْ قال: بل لا حكمة فيه.
ولما كان نزول الأمر في المنقلب إلى الصلاح العمومي والنفع الكلي، كانت الشدائد والجهد والبلوى في جنبه أمرًا صغيرًا جزئيًّا. على هذا المثال والقياس ينبغي أن يعتبر من يريد أن يعترض ما العلة وما وجه الحكمة في أكل الحيوانات بعضها بعضًا، ليتبين له الحق والصواب. ونحن نريد أن نبين ما العلة وما وجه الحكمة في الكل، وفي أكل الحيوانات بعضها بعضًا، ولكن لا بدَّ أن نقدم أشياء لا بد من ذكرها، فنقول:
اعلم أن عقول القوم إنما أنكرت أكل الحيوانات لما ينالها من الآلام والأوجاع عند الذبح والقتل، ولولا ذلك لما أنكروا، كما لا ينكرون أكل الحيوان النبات، إذ ليس ينال النبات الآلام والأوجاع، فنقول: قصدُ الله وغرضه في ألم الحيوانات ما جُبلت عليه طباعها، والأوجاع التي تلحق نفوسها عند الآفات العارضة، ليس عقوبة لها وعذابًا كما ظن أهل التناسخ، بل حث لنفوسها على حفظ أجسادها وصيانة هياكلها من الآفات العارضة لها، إذ كانت الأجساد لا تقدر على جر منفعة ولا دفع مضرة عنها؛ ولو لم يكن ذلك كذلك لتهاونت النفوس بالأجساد وخذلتها وأسلمتها إلى الهلاك قبل فناء أعمارها وتقارب آجالها، ولهلكت كلها دفعة واحدة في أسرع مدة. فلهذه العلة جُعلت الآلام والأوجاع للحيوان دون النبات، وجُعل فيها حب للبقاء، إما بالحرب والقتال، وإما بالهرب والفرار والتحرز لحفظ جثتها من الآفات العارضة إلى وقت معلوم، فإذا جاء أجلها فلا ينفع القتال ولا الهرب ولا التحرز بل التسليم والانقياد …
وإذ قد ذكرنا ما يُحتاج إليه، نقول الآن: إن الله تعالى لما خلق أجناس الحيوانات التي في الأرض، وعلم أنها لا تدوم بذاتها أبد الآبدين، جعل لكل نوع منها عمرًا طبيعيًّا أكثر ما يمكن منه، ثم يجيئه الموت إن شاء أو أَبَى. وقد علم الله أنه يموت كل يوم منها في البر والبحر والسهل والجبل عدد لا يحصيه إلا الله تعالى. ثم جعل بواجب الحكمة جثة جيف موتاها غذاء لأحيائها ومادة لبقائها، لئلا يضيع شيء مما خلق الله بلا نفع ولا فائدة، وكان في هذا منفعة لأجسادها ولم يكن فيه ضرر على الموتى. وخصلة أخرى، لو لم تكن الأحياء تأكل جيف الموتى منها، لبقيت تلك الجيف، واجتمع منها على ممر الأيام والدهور، حتى تمتلئ منها الأرض وقعر البحار، وتنتن ويفسد الهواء والماء من نتن روائحها … فأي حكمة أكثر من هذه أن جعل الباري تعالى في أكل الحيوانات بعضها بعضًا من المنفعة للأحياء، ودفع المضرة عنها كلها، وإن كانت تنال بعضها الآلام والأوجاع عند الذبح والقتل وليس قصد القابض من القاتل من ذبحها وقبضها إدخال الألم والوجع عليها، بل لينال المنفعة فيها لدفع مضرة بها.
ثم اعلم أن الله تعالى لما أبدع الموجودات واخترع الكائنات، قَسَّمها قسمين اثنين: كليات وجزئيات؛ ورتب الجميع ونظمها مراتب الأعداد المفردات، كما بَيَّنا في رسالة المبادئ. وكانت مرتبة الكليات أن جعل الأشرف منها علة لوجود أدونها، وسببًا لبقائها ومتممًا لها، ومبلغًا إلى أقصى غاياتها وأكمل نهاياتها. وكانت مرتبة الجزئيات أن جعل الناقص منها علة للكامل وسببًا لبقائه، والأدون منها خادمًا للأشرف ومعينًا ومسخرًا له. وبيان ذلك من النبات الجزئي: لما كان أدون رتبة من الحيوان الجزئي وأنقص حالة منه، جُعل جسم النبات غذاءً لجسم الحيوان ومادة لبقائه، وجعل النفس النباتية في ذلك خادمة للنفس الحيوانية ومسخَّرة لها. وهكذا أيضًا لما كانت رتبة النفس الحيوانية أنقص وأدون من رتبة النفس الإنسانية، جُعلت خادمة ومسخرة للنفس الإنسانية الناطقة … ولما كان بعض الحيوانات أتم خلقة وأكمل صورة، كما بيَّنَّا قبل هذا، جُعلت النفس الناقصة منها خادمة ومسخرة للتامة منها الكاملة، وجُعلت أجسادها غذاءً ومادة للأجساد الناطقة منها وسببًا لبقائها، لتبلغ إلى أتم غاياتها وأكمل نهاياتها، كما جُعل جسم النبات غذاءً لجسم الحيوان ومادة لبقائه وسببًا لكماله» (٤٠: ٣، ٣٦٤–٣٦٩).
وقد كان لا بد للإخوان في مناقشتهم لمسألة الخير والشر من التعرض للعقائد الثنويَّة القائلة بوجود أصلين للعالم واحد خيِّر والآخر شرير، فنقدوها على قاعدة فلسفية مكينة في أكثر من موضع في رسائلهم. ومن ذلك قولهم:
«اعلم، وفقك الله، أن القائلين بالأصلين طائفتان: إحداهما ترى وتعتقد أن لهما فاعلين أحدهما نور خيِّر، والآخر ظلمة شرير. وهذا رأي زرادشت وماني وأتباعهما وبعض الفلاسفة. والطائفة الأخرى ترى وتعتقد أن إحدى العلتين فاعل، والأخرى منفعل، يعنون به الهيولى. وهذا رأي بعض الحكماء اليونانيين، والذي دعاهم إلى هذا الرأي هو نظرهم إلى الشرور التي تجري بين كل اثنين متنازعين من الناس والحيوان، من القتل والحروب والخصومات والعداوات، وما يحدث بينهما من الأسباب والأحوال. فبهذا الاعتبار قالوا، وبهذا القياس حكموا بأن حدوث العالم كان سببه فاعلين اثنين متنازعين، لكن أحدهما خيِّر والآخر شرير …
فأما القائلون بأن أحد الأصلين فاعل والآخر منفعل، فإنما دعاهم إلى هذا الرأي ما رأوا أنه يلزم القائلين بالفاعلين من الشنعة والقبح، وما يوجب لهما من العجز والنقص من فعالهما وتناقضهما، وما يقتضي دون ذلك من قلة النظام في تركيب العالم وخلق السماوات، وما يعرض من الفساد العام والبوار الكلي … وذلك أنهم قد تبيَّنوا نظام العالم، وعرفوا إتقان خلق السماوات مع سعتها وكبر أجزائها وكثرة خلائقها التي هناك، وليس فيها شيء من الفساد والشرور البتة، وأنها كلها على أحسن النظام، وأجود الترتيب والهندام، وأن الشرور لا توجد إلا في عالم الكون والفساد التي تحت فلك القمر، ولا توجد الشرور أيضًا في عالم الكون والفساد إلا في النبات والحيوان دون سائر الموجودات، ولا في كل وقت أيضًا، ولكن في وقت دون وقت، وأسباب عارضة لا بالقصد الأول من الفاعل، بل من جهة نقص الهيولى وعجز فيه عن قبول الخير في كل وقت أو على كل حال … ومثال ذلك أن الحكيم منا، في الشاهد، في وده أن يُعلِّم كل علم وكل حكمة يحسنها لأولاده وتلامذته، وأن يجعلهم حكماء فضلاء مثله في أسرع ما يكون، ولكنهم لا يقبلون ذلك إلا على التدريج، وفي ممر الأيام والأوقات شيئًا بعد شيء، [وذلك] لنقصٍ فيهم لا لعجز في الحكيم … والنقص في الكمال يسمى شرًّا، وليس الشر سوى عدم الخير والتمام والكمال.
فأما القائلون بالعلة الواحدة وأنها قديمة فإنهم نظروا أدق من نظر أولئك وبحثوا أجدَّ من بحثهم وتأملوا غير تأملهم، فرأوا من القبيح الشنيع أن يكون محدث العالم [اثنين] قديمين؛ واعتبارُهم وقياسهم كان في ذلك هكذا: [فقد] قالوا لا يخلو الأصلان القديمان من أن يكونا متفقين في كل شيء من المعاني، أو مختلفين في كل المعاني، أو متفقين في شيء ومختلفين في شيء. فإن كانا متفقين في جميع المعاني فواحد [هما] لا اثنان، وإن كانا مختلفين في المعاني فأحدهما عدم، وإن كانا متفقين في شيء ومختلفين في شيء فالشيء الثالث، وقد بطلت المثنوية فيجب أن يكون أصل العالم ثلاثة، والقائلون بالثلاثة أو أكثر لازمة بهم هذه الحكومة والشنيعة أيضًا» (٤٢: ٣، ٤٦٢–٤٦٤).
إذن وفي ظل معتقد التوحيد الإسلامي الصارم الذي يتبناه إخوان الصفاء، لا وجود للشر على المستوى الكوني، وما من أصل قديم للشر، ولا من ملحمة للصراع بين الأصلين، سواء أكانا قديمين أم كان أحدهما قديمًا والآخر محدثًا، وما يبدو لنا من شرور جزئية على المستوى الطبيعي إنما تخدم صالحًا عامًّا وخيرًا شموليًّا، حتى وإن خفيت هذه الغاية أحيانًا عن الأفهام. وبهذه النظرة لا يبقى من مجال للصراع بين الخير والشر إلا في النفس الإنسانية، وعلى مستوى الحياة الاجتماعية؛ لأن الإنسان هو الكائن الحر الوحيد المخير بين إتيان الشر أو إتيان الخير. فكيف عالج الإخوان هذه المسألة، وما هو دور إبليس في ذلك كله؟
في العديد من المواضع، وفي أكثر من قصة ومثلٍ مما أورده الإخوان في رسائلهم، تم تصوير إبليس على أنه شخصية مستقلة ذات وجود موضوعي يسعى إلى إغواء البشر ودفعهم إلى إتيان الشرور، وذلك جريًا على التفسير الظاهري لآيات القرآن الكريم. ولكنهم في غوصات التأويل لا يرون في إبليس إلا نوازع النفس الشهوانية الغضبية إذا تغلبت على نوازع النفس الناطقة. وليس اندحار إبليس في النهاية إلا تعبيرًا عن وصول الإنسانية إلى ذروة ارتقائها في نهاية الزمن، وضعف النفس الشهوية الحائدة عن التقوى، وظهور النفس الناطقة عليها بتأييد من النفس الكلية التي تستعد الآن إلى التخلي عن الطبيعة التي تعلقت بها، والعودة إلى التعلق بالعقل لا يشوبها كدر من علق الطبيعة، فتقبل منه الخير الكلي والجود المحض، مما سنبحثه في فصل الآخرة.
وأما إبليس الروحاني الذي يجري مجرى الدم من ابن آدم، فهو كما قلنا في رسالة الأخلاق إنه منزلة النفس الغضبية الشهوانية الحائدة عن التقوى المعتكفة على شهوات الدنيا، فإنها أيضًا في أوان دور الكشف [= نهاية الزمن] تضعف قوتها وتقل شهوتها، وتقهرها النفس الناطقة إذ أيدتها النفس الكلية، بظهور النفس الزكية والإفاضات العقلية وتلاشي الأمور الطبيعية وخراب المحاسن الدنيوية، وحدوث أمر الآخرة والنشأة الثانية والبعث الجديد والقيامة الكبرى، فلا يكون حينئذٍ نفس حيوانية؛ فذلك أن الحيوان لا يكون في مثل ذلك الزمان … وأنه يترقى على التدريج حتى يلحق التمام. وعند بلوغ الأشياء إلى تمامها، وكونها على أفضل حالاتها وأتم نهاياتها في الفضائل، تتخلى النفس عن الطبيعة دفعة واحدة وترجع إلى التعلق بالعقل لا يشوبها كدر يعلق بها من علق الطبيعة، ولا عائق يعوقها، فتقبل منه الفيض الكلي والجود المحض …
«النفس الناطقة هي رئيسة الجسد … وإن معها مقارنًا لها يغويها ويخدعها، ويجذبها إلى شهوات الطبيعة ولذَّاتها، ويدعوها إلى كل ما نُهيت عنه، وتناول ما حُذرت منه وحُظر عليها تناوله، وأمرها ربها بالبعد عنه والتخلي عنه، وأن لا تقربه ولا تدنو إليه إلَّا بقدر الحاجة إليه وما لا غناء لها عنه؛ وكانت الطبيعة ولذاتُها الحسية، والانهماك في رقدة الجهالة ونومة الغفلة، وهي الشجرة المنهي عن قربها والممنوع من أكلها، وقد حذَّر عنها في بدء الأمر وزجر عنها بتبليغ الذكر. وكانت النفس الناطقة في هذا الموضع مثل آدم، وكانت النفس الشهوانية مثل إبليس الغوي المغوي. ولذلك أنه متى انخضعت النفس الناطقة للنفس الغضبية، وقبلت منها وسارعت إلى شهواتها وانهمكت في لذاتها، وقعت في الخطيئة، وفارقتها الأنوار العقلية وانكشفت عورتها، ونُزع عنها لباس التقوى، واستوجبت العقوبة والهوان. كما قيل: إن إبليس كان أكثر همه وأشد عزمه لِما أضمره لآدم هو أن يوقعه في الخطيئة ليزول عنه لباسه، ويسخط عليه ربه، وكذلك حال النفس الشهوانية مع النفس الناطقة. ولذلك قال الحكيم الناطق، النبي الصادق: رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر. [وقد] عنى بالجهاد الأصغر جهاد السيف للعدو والمخالف، وبالجهاد الأكبر مجاهدة النفوس الناطقة للنفوس الشهوانية الغضبية. فتأمل يا أخي هذا القول فإنه يؤيد ما ذكرناه» (جا: ٦٤-٦٥).
هذا الشيطان الداخلي عند الإنسان، هو شيطان بالقوة، أي بالإمكان، ولكنه يتحول إلى شيطان بالفعل إذا حضرت المنية ولم يستكمل هذا الإنسان عملية الارتقاء وقهر النفس الشهوانية الغضبية:
«إن في العالم نفوسًا أفعالها ظاهرة وذواتها خفية يُسمون الروحانين، وهم أجناس الملائكة وقبائل الجن وأحزاب الشياطين. فأجناس الملائكة هي نفوس خيرة موكلة بحفظ العالم وصلاح الخليقة، وقد كانت متجسدة قبلُ وقتًا من الزمان [في أجسام بشرية] فتهذبت واستبصرت وفارقت أجسادها واستقلت بذاتها وفازت ونجت، وساحت في فضاء الأفلاك وسعة السماوات، فهي مغتبطة فرحانة مسرورة ملتذة ما دامت السماوات والأرض. وأما عفاريت الجن ومردة الشياطين، فهي نفوس شريرة مفسدة، وقد كانت متجسدة قبلُ وقتًا من الزمان [في أجسام بشرية] فارقت أجسادها غير مستبصرة ولا متهذبة … فهي سابحة في ظلمات بحر الهيولى، غائصة في قعر من الأجسام المظلمة …» (٣٠: ١، ١٤٢-١٤٣).
وأيضًا:
ويرى إخوان الصفاء، في النهاية، أن الاعتقاد بوجود إبليس باعتباره شخصية موضوعية مجسدة للشر، هو من الآراء الفاسدة التي لا بد للمؤمن الحق من التخلي عنها:
«ومن الآراء الفاسدة من يعتقد أن الله خلق خلقًا ورباه وأنماه وأنشأه، وسلطه وقواه على عباده متمكنًا في بلاده، ثم ناصبه بالعداوة والبغضاء، وهو إبليس وجنوده من الشياطين، وهم يفعلون ما يريدون على رغم منه، وهو الجاعل لهم المشيئة والإرادة والعداوة والاستطاعة وطول العمر والمهلة وسعة الرزق والنعمة. فإن صاحب هذا الرأي إذا فكر في أمر إبليس وجنوده، وما نُسب إليه من الشرور، وما يعتقده من مخالفتهم لله وعداوتهم، فإنه امتلأ منهم غيظًا وحقدًا عليهم وناصبهم العداوة والبغضاء، حتى إنه لو أنه أمكنه قتلهم كلهم … وإذا لم يقدر على ذلك بقي طول عمره مغتاظًا مغتمًّا متألمًا نفسه معذبًا قلبه؛ حتى إنه ربما فكر في خلق الله لهم وتربيته إياهم وسعة رزقه عليهم وتمكينه لهم فيما يفعلون وإمهاله لهم، فعاتب ربه في الضمير وخاصمه في السر، ويقول: لمَ خلقهم، ولمَ رباهم ورزقهم، ولمَ مكَّنهم وسلطهم … وما شاكل هذه الوساوس والظنون الموبقة المؤلمة لنفوس المعترضين على الله في تدبير خلقه» (٤٢: ٣، ٥٢٨-٥٢٩).