الآخرة والنشأة الثانية
في الدنيا والآخرة وحكمة الموت
إن الغاية التي تسعى إليها الحياة هي الموت، والدنيا ليست إلا عارضًا مؤقتًا في الطريق إلى الآخرة، وليس الكدح العرفاني للإنسان إلا تهيئة للموت الذي هو ولادة ثانية. فإذا كانت الولادة الأولى من الرحم ولادة للجسد الفاني، فإن الولادة الثانية بالموت هي ولادة للروح:
«واعلم يا أخي … أن الدنيا والآخرة هما داران متقابلتان، واسماهما مضادان، ومعناهما وحقيقتهما وصفتهما مختلفات متضادات؛ إحداهما كالقشرة وهي الدنيا، والأخرى كاللب وهي الآخرة … أما الدنيا فاسمها مشتق من الدنو والقرب، والآخرة من التأخُّر؛ وأما حقيقتهما، فالدنيا هي تصاريف أمور تجري على الإنسان من يوم ولادة الجسد إلى يوم الممات الذي هو ولادة النفس ومفارقتها إياه، والآخرة هي تصاريف أمور تجري على الإنسان من يوم الممات ومفارقة النفس الجسد إلى ما بعدها أبد الآبدين ودهر الداهرين.
واعلم يا أخي بأن الله، جل ثناؤه، سمَّى الحياة الدنيا عَرَضًا ومتاعًا إلى حين؛ لأن كون الإنسان في الدنيا عارض عرض في طريق الآخرة، ولم يكن القصد والغرض المَقامَ فيها، كما أن الغرض في الكون في الرحم لم يكن الغرض والقصد [منه] طولَ المكث والمقام هناك، ولكن طريقًا وجوازًا إلى الدنيا؛ فكذلك كون النفس في هذا الجسد، هو سفينة ومركوب ومعبر إلى الدار الآخرة. وذلك أنه لم يكن الورود إلى الدنيا [ممكنًا] دون الكون هنالك [أي في الرحم] زمانًا لتتميم بنية الجسد وتكميل صورته، كما بيَّنا في رسالة مسقط النطفة، فهكذا أيضًا حُكم المكث في الدنيا والكون فيها زمانًا هو طريق وجواز إلى ما بعدها؛ وذلك أنه لم يمكن الورود إلى الدار الآخرة دون الجواز على الدنيا والكون فيها زمانًا ما لكيما تتم أحوال النفس وتكمُل فضائلها …
واعلم يا أخي بأن الله، جلَّ ثناؤه، سمى الدار الآخرة الحيوان؛ لأنها عالم الأرواح ومعدن النفوس، والدنيا عالم الأجسام، وجواهر الأجسام موات بطبائعها، وإنما تكسبها الحياة النفوس والأرواح بكونها فيها ومعها، كما تُكسب الشمسُ الهواء النورَ والضياء بإشراقها عليه» (٩: ١، ٣٢٨–٣٣٠).
وأيضًا:
«… وقد تبين مما ذكرنا أن مكث الجنين في الرحم تسعة أشهر إنما هو لكيما تتم البنية، وتُستكمل الصورة، وتفيض عليها قوى الأشخاص الفلكية. ولو أمكن تتميمها وتكميلها في يوم واحد لما تُركت هناك يومين، ولو أمكن في شهرين. قد يعرف كل عاقل أن من يولد غير تام البنية ولا كامل الصورة، لا ينتفع في هذه الدنيا ونعيمها، ولا يتلذذ ولا يتمتع بلذاتها على التمام والكمال، ولم يزل شقيًّا منغص العيش، مبتلى كالزمنى [= أصحاب العاهات] والمفاليج والناقصي الخلقة الغير تامي الصورة. فهكذا الحكم والقياس في الدار الآخرة بعد الموت. وذلك أن الإنسان إنما يُترك في هذه الدنيا مقدار ما يمكنه تتميم أحوال نفسه مع الجسد … وتَكمُل فضائلها بالكون في الدنيا … فإذا فارقت النفس الجسد عند الموت الذي هو ولادة ثانية، انتفعت بالحياة في الدار الآخرة، ويمكنها الصعود إلى ملكوت السماوات، كما قال المسيح عليه السلام: مَن لم يولد ولادتين لا يلج في ملكوت السماء» (٢٥: ٢، ٤٤٢-٤٤٣).
اعلم أنما ربطت الأنفس الجزئية [بالجسد الجزئي] كيما تكمل بالرياضة وتُخرج ما في جوهرها من الحكمة والصنائع والفضائل من حد القوة إلى حد الفعل، لتتم الهيولى الجزئية، وتكمل هي أيضًا، ويتشبه ذلك الجزء بالكل، وهو أن تتعلم النفس الجزئية السياسة والتدبير والتهذيب بالأخلاق الجميلة والآراء الصحيحة، والأعمال الزكية والمعارف الحقيقية. وهكذا تَشَبَّه الجزء بالكل، كما قيل في حد الحكمة إنها التشبه بالإله بحسب الطاقة الإنسانية.
وإذا بلغت النفس الإنسانية إلى أقصى مدى غاياتها، وكملت بما أظهرت من الفضائل، وهُدِمَ الجسد، نُقلت هذه الأنفس بعد مفارقة الجسد إلى حالة أخرى ونشوء آخر أعلى وأشرف من هذا الجسد المؤلف من اللحم والدم والأخلاط الأربعة القابلة للكون والفساد …
اعلم بأن لكل كون ونشوء أولًا وابتداءً، وله غاية ونهاية إليها يرتقي، ولغايتها ثمرة تُجتنى. فمسقط النطفة كون قد ابتُدئ، وغايته الولادة التي إليها المنتهى، والولادة أيضًا كون قد ابتُدئ، والموت غايته التي إليها المنتهى. وكما أن ثمرة مسقط النطفة لا تكون إلا بعد الولادة؛ لأن الطفل لا يتمتع إلا بعد الولادة، فهكذا النفس لا تتمتع إلا بعد مفارقة الجسد؛ لأن موت الجسد ولادة النفس وهي الروح …
واعلم يا أخي أن مَثل النفس مع الجسد كمثل الصبي في المكتب؛ ليتعلم ويتأدَّب ويرتاض، فإذا تعلم وأحكم ذلك فليس حال أخرى إلا الخروج من المكتب والانتفاع بما حصَّل في المكتب؛ لأنه قد تم ما يراد منه وبقي الإكرام والمجازاة. فهكذا حكم النفس مع الجسد إذا أحكمت ما يراد منها بكونها معه، ليس من طريقة إلا المفارقة. وكما أن الصبي إذا أحكم ما يراد منه في المكتب، استغنى عن حمل اللوح والدواة والمداد والقلم … فهكذا حكم النفس مع الجسد إذا هي أحكمت أمر المحسوسات بطريق الحواس، وأمر المعقولات بطريق الفكر والروية، وعرفت حقائق أمور هذا العالم من الكون والفساد، وارتقت بعد ذلك بطريق الرياضيات التي هي البراهين إلى معرفة الأمور الغائبة عن الحواس، وارتاضت فيها وعرفتها حق معرفتها، واستبان لها أمر عالمها ومبدئها ومعادها، وعاينت بعين البصيرة أحوال أبناء جنسها من السابقين الذين مضوا على سنن الهدى، وارتقوا إلى ملكوت السماء وفسحة الأفلاك وسعتها، اشتاقت هي عند ذلك الصعود إلى هناك واللحاق بأبناء جنسها، ولا يمكنها ذلك بهذا الجسد الثقيل إلا بتركها ومفارقتها إياه، وهو الموت. فلو لم يكن الموت لكانت ممنوعة من الوصول إلى هناك. فإذن الموت حكمة ونعمة ورحمة وفضل ورضوان من الله عز وجل للنفوس المخيَّرة المستبصرة» (٢٩: ٣، ٤٠–٤٣).
وللإخوان في ذلك تشبيهات أخرى؛ فملاك الموت في قبضه للأرواح إنما يَعبُر بها من دار إلى دار، ويساعد على ولادتها الجديدة في الحياة الثانية، فهو بمثابة قابلة الأرواح، ومهمته تشبه مهمة قابلة الأجساد التي تساعد النساء على الوضع والولادة. والنفوس تشبه الدرَّ بينما تشبه الأجساد الصدف … وما الموت إلا استخراج الدرة من الصدفة ليُستأنف بها أمر آخر إذا رُمي بالصدف وحُصل الدُّرُّ. والنفوس أيضًا تشبه لبَّ الحَبِّ إذا نضجت السنابل وآن أوان الحصاد، حيث يُرمى بقشورها ويُحصَل لبها ويُستأنف بها أمر آخر. (٥: ١، ٢١١-٢١٢).
ويورد الإخوان الحوار الآتي في ذم الدنيا ومدح الآخرة:
«ويُحكى عن بعض من كان يعتقد هذا الرأي أنه لقي أخًا من رأيه فقال له: كيف أصبحت يا أخي، وكيف حالك من الدنيا؟ قال: بخير، ونرجو خيرًا من هذا إن سلمنا من آفاتها وبليَّاتها، إن شاء الله تعالى؛ فكيف أنت وكيف حالك؟ قال … أصبحنا في الدنيا معذبين في صورة المنعمين، مجبورين في صورة المختارين، مغرورين في صورة المغبوطين، أحرارًا كرامًا في صورة عبيد مهانين، مسلطًا علينا خمسة حكام يسوموننا سوء العذاب، ينفذون أحكامهم علينا شئنا أم أبينا، ليست لنا حيلة في الخروج عن أحكامهم، ولا دفع سلطانهم، ولا الخلاص من جورهم إلى الممات.
قال: أخبرني من هؤلاء الحكام؟ قال: نعم. أولهم هذا الفلك الدوار الذي نحن في جوفه محبوسون، وكواكبه السيارة لا تزال تدور علينا ليلًا ونهارًا لا تقر، تارة تجيئنا بالليل وظلمته، وتارة بالنهار وحرارته، وتارة بالصيف وسمائمه، وتارة بالشتاء وزمهريره، وتارة بالرياح والعواصف في زعازعها، وتارة بالغيوم وأمطارها، وتارة بالرعود والزوابع وصواعقها، وتارة بالجدب والغلاء والموتان والبلاء، وتارة بالحروب والفتن، وتارة بالهموم والأحزان. ليس منها نجاة إلا بجهد وبلوى، وكدر وعناء، وخوف ورجاء إلى الممات. ثم قال: فهذا واحد.
وأما الآخر، فهو هذه الطبيعة وأمورها المركوزة في الجبلة، من حرارة الجوع، ولب العطش، ونار الشبق، وحريق الشهوات والآلام، والأمراض والأسقام، وكثرة الحاجات، وليس لنا شغل ليلًا ولا نهارًا إلا طلب الحيلة لجر المنفعة، أو لدفع المضرة عن هذه الأجساد المستحيلة [= المتغيرة] التي لا تقف على حالة واحدة طرفة عين، فنفوسنا منها في جهد وبلاء، وكد وعناء، وبؤس وشقاء. ليس لنا راحة إلى الممات. فهذا اثنان.
وأما الرابع، فهذا السلطان المسلط الجائر الذي قد ملك رقاب الناس بالقهر والغلبة، واستعبدهم جبرًا وكرهًا، يتحكم عليهم كما يشاء، ويرفع ويكرم من يريد ممَّن يخدمه ويطيعه، ويتصرف بين يديه ويمتثل أمره ونهيه، ويضع ويبعد من خالفه، ويعذب ويقتل من خانه أو غشَّه. فإذا خرجنا من مملكته، وفررنا من سلطانه، لا عيش لنا في الوجود في هذه الدنيا إلا عيشًا نكدًا … وإن خدمناه وقمنا بواجب طاعته، فما نقاسي من الجهد والبلوى أكثر مما يُحصى … فهذه أربعة.
وأما الخامس، فهو شدة الحاجة إلى المواد التي لا قوام لهذا الهيكل إلا بها، من المأكولات والمشروبات واللباس والمسكن والمركب والأثاث … وما نقاسي من الجهد والبلوى في طلبها ليلنا ونهارنا، في تعلُّم الصنائع والتجارات المتعبة، والمكاسب الكدَّة من الحرث والزرع، والبيع والشراء، والمناقشة في الحساب، والحرص والشره، وجمع الأموال وحفظها من حيَل اللصوص ومكابرة القطاع، وأخذ السلطان لها بالجور والظلم، وحراستها من الآفات العارضة التي لا يُحصى عددها. كل ذلك بالكد والعناء، والهموم والغموم، وتعب الأبدان، وعناء الأرواح، وشقاء النفوس التي لا راحة لنا منها إلى الممات.
فهذه حالنا يا أخي، وحال أبناء جنسنا في هذه الحياة الدنيا. فأما من يريد المقام في الدنيا، ويتمنى الخلود فيها مع هذه الآفات كلها، فهو من أجل إحدى خلتين: إما أنه لا يؤمن بالآخرة ولا يُصدق بالمعاد، ولا يتصور الوجود إلا هكذا، ويظن ويتوهم أن بعد الموت عدمًا أو شرًّا محضًا، فمن أجل هذا الرأي وهذا الاعتقاد يريد المقام في الدنيا ويتمنَّى الخلود فيها مع هذه الآفات كلها. ويكون معذورًا في تمنيه وإرادته الخلود؛ لأن في جبلة الخلائق وفي طبائع الموجودات محبة البقاء وكراهية الفناء. فمن أجل هذه الخصال والشرائط يرضى أكثر أبناء الدنيا المقام فيها ويتمنون الخلود.
في البعث والقيامة الصغرى
إن أفكار إخوان الصفاء في البعث وقيامة النفس، وما يتصل بذلك من ثواب وعذاب وجنة ونار، على جانب من الغموض، بسبب محاولتهم التوفيق بين التفسير الظاهري الحرفي والتفسير الباطني لآيات القرآن. وهم يقولون: إن هذا العلم خافٍ عن أهل التقليد الذين يأخذونه تسليمًا وتصديقًا، وإن أهل الحكمة والعرفان وحدهم من يعرف حقيقته. وبشكل عام، وعلى الرغم من كل محاولاتهم التوفيقية، فإن أفكار إخوان الصفاء في مسألة البعث والقيامة الصغرى التي هي قيامة الفرد إذا مات، تلتزم الخط الغنوصي الواضح، حيث يتركز إيمانهم على بعث النفس وقيامتها لا على بعث الجسد الفاني. ويبلغ تأويلهم ذروته في تصوراتهم عن الجنة والنار والحساب والثواب والعقاب، على ما سنراه في حينه:
«اعلم، أيَّدك الله وإيانا بروح منه، أن العلوم كثيرة وكلها شريفة، وفي معرفتها عزة، وفي طلبها نجاة من الهلكة، ونيلها حياة للنفوس وراحة للقلوب … ولكن بعض العلوم أشرف من بعض، وأهلها يتفاضلون. وذلك أن أفضل العلماء هم أهل الدين والورع الذين هم من أمر الآخرة على يقين وبصيرة لا على تقليد ورواية. واعلم يا أخي، أيَّدك الله وإيانا بروح منه، أن معرفة حقيقة الآخرة والعلم بالمعاد محجوب عن إبليس وذريته المنكرين لما غاب عن رؤية الأبصار، و[محجوب] عن أهل التقليد الذين لا يعرفون حقيقة ما هم مقرُّون به من أمر الآخرة والبعث والقيامة والحشر والحساب والميزان والصراط والمعاد والجزاء هناك … لأن هذا العلم هو لب الألباب، وسرٌّ لأولياء الله دون سواهم … ونريد أن نلوح من هذا العلم طرفًا في هذه الرسالة الجليلة القدر [رسالة البعث والقيامة] بإشارات مرموزة، وأمثال مضروبة للمريدين لله عز وجل، الطالبين دار الآخرة؛ إذ كان الإخبار عن حقيقتها يدق عن البيان، ويبعد عن التصور بالأفكار والتخيل بالأوهام، إلا لأنفس زاكية وأرواح طاهرة وقلوب واعية وآذان سامعة …
اعلم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن الذين أنكروا أمر البعث والقيامة … وما شاكل هذه الأمور المذكورة في كتب الأنبياء عليهم السلام، لشكوك في نفوسهم وحيرة في قلوبهم. والعلة في ذلك طلبهم حقيقة معرفتها، وكيفيتها وأبنيتها وماهيتها وكميتها، قبل معرفتهم أنفسهم وحقيقة جوهرها، وكيفية كونها مع الجسد، ولمَ رُبطت به وقتًا ما … ومن أين كان مبدؤها، وإلى أين يكون معادها بعد مفارقتها جسدها. وهذه المباحث علم غامض وسر لطيف، ليس إليها طريق للمبتدئين في العلوم الحِكمية إلا التسليم والإيمان والتصديق للمخبرين عنها الصادقين عن الله، جلَّ ثناؤه، الذين أخذوا هذا العلم عن الملائكة وحيًا وإلهامًا بتأييد من الله، جل ثناؤه.
وأما الذين لا يرضون أن يأخذوا هذا العلم تسليمًا وتصديقًا، بل يريدون براهين عقلية وحججًا فلسفية، فيحتاجون إلى أن تكون لهم نفوس زكية وقلوب صافية، وأذن واعية وأخلاق طاهرة، وأن يكونوا غير متعصبين في الآراء والمذاهب المختلفة، ومع ذلك يكونون قد ارتاضوا في الرياضيات الفلسفية من علم العدد والهندسة والمنطق والطبيعيات، ثم نظروا في العلوم الإلهيات …
ثم اعلم يا أخي أن معنى القيامة مشتق من قام يقوم قيامًا، والهاء فيه للمبالغة، وهي [أي القيامة] من قيامة النفس من وقوعها في بلائها. والبعث هو انبعاثها وانتباهها من نوم غفلتها ورقدة جهالتها. وهي بالفارسية رست خيزاي [أي] قيامًا مستويًا …
واعلم يا أخي أن العلم هو تصور الشيء على حقيقته وصحته، فأما الإيمان فهو الإقرار بذلك الشيء والتصديق لقول المخبرين عنه من غير تصوُّر له. فالأنبياء، عليهم السلام، وأولياؤهم هم المخبرون عن الآخرة، المتصورون لها بقلوبهم، والعارفون حقيقتها بعقولهم. والمؤمنون هم المقرون بالآخرة بألسنتهم، المصدقون الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، في إخبارهم، المنتظرون لكشفها لهم.
واعلم يا أخي أن المنتظرين لأمر الآخرة طائفتان من الناس: إحداهما ينتظرون كونها وحدوثها في الزمان المستقبل، عند خراب السماوات والأرضين، وهم لا يعلمون من الأمور إلا المحسوسات، ولا من الجواهر إلا الجسمانيات، ولا من أحوالها إلا ما ظهر. والطائفة الأخرى ينتظرونها كشفًا وبيانًا واطِّلاعًا عليها، وهم الذين يعرفون الأمور العقولة والجواهر الروحانية والحالات النفسانية …
واعلم يا أخي أن من لا يوقن ببعث الأجساد ولا يتصوره، فليس من الحكمة أن يخاطَب ببعث النفوس؛ لأن بعث الأجساد يمكن تصوره ويقرب فهمه وعلمه، فأما من لا يقرُّ به ولا يتصوره، فهو لبعث النفوس أنكرُ وبه أجهلُ، ومن تصوُّرِه أبعد؛ لأن بعث النفوس هو من علم الخواص، ولا يتصوره إلا المرتاضون بالعلوم الإلهية والمعارف الربانية. وإنما وعدَ الكفار أن يبعث أجسادهم ليوافقهم على تكذيبهم ويجازيهم بسوء أفعالهم، ووعد الله المؤمنين أن يحيي نفوسهم ويبعث أرواحهم؛ ليجازيهم على حسناتهم ويثيبهم بأعمالهم. فلا تكن يا أخي ممن ينتظر بعث الأجساد ويؤمل نشر الأبدان، فإن ذلك ظلم عظيم في حقك إذا كنت تتوهم ذلك. ولكن إن استوى لك، فكن من الذين ينتظرون بعث النفوس، ويؤمِّلون حياتها ووصولها إلى عالمها الروحاني ودار قرارها الحيواني.»
أي إن النفوس الخاطئة هي التي تُردُّ إلى أجسادها مرة أخرى، أما النفوس الناجية فقد تخلصت من عبء أجسادها إلى الأبد:
«واعلم يا أخي أن بعث الأجساد من القبور الدراسات وقيامها من التراب، إنما يكون ذلك إذا رُدَّت إليها تلك النفوس والأرواح التي كانت متعلقة بها وقتًا من الزمان، فيما سلف من الدهر، فتنتعش تلك الأجساد، وتحيا تلك الأبدان، وتتحرك وتحس بعدما كانت جمودًا، ثم تحشر وتحاسب وتجازى؛ لأن الغرض من البعث هو المجازاة والمكافأة.
واعلم يا أخي أن رد النفوس الناجية إلى الأجسام، الفانية في التراب من الرأس، ربما يكون موتًا لها في الجهالة، واستغراقًا في ظلمات الأجسام، وحبسًا في أَسْر الطبيعة وغرقًا في بحر الهيولى. فأما بعث النفوس وقيام الأرواح، فهو الانتباه من نوم الغفلة واليقظة من رقدة الجهالة، والحياة بروح المعارف … والرجوع إلى عالمها الروحاني ومحلها النوراني …» (مقاطع مختارة من الرسالة ٣٨: ٣، ٢٨٧–٣٠١).
«واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن علم الإنسان المعلومات: بعضها بطريق الحواس، وبعضها بطريق السمع والروايات والأخبار، وبعضها بطريق الفكر والروية والتأمُّل والعقل الغريزي، وبعضها بطريق الوحي والإلهام، وبعضها بطريق القياس والاستدلال، وهو العقل المكتسب. وبهذا العقل يفتخر العلماء، وبه يتفاضل الحكماء والفلاسفة.
واعلم يا أخي، أيَّدك الله وإيانا بروح منه، أنك إذا طلبت علم البعث ومعرفة حقيقة القيامة وما يوصف من أحوالها، فليست تخلو معرفتها من أحد هذه الطرق التي تقدم ذكرها. فإن أردت أن تعرفها بطريق القياس والبرهان، فأعمل هذه المسألة وابحث كما يعمل أصحاب [كتاب] المجسطي عند طلبهم معرفة عظم جرم الشمس. وذلك أنهم قالوا: لا يخلو جرم الشمس من أن يكون مساويًا لجرم الأرض، أو أعظم أو أصغر منها في المقدار؛ إذ ليس في القسمة العقلية غير هذه. ثم بحثوا عن واحد واحد من هذه الأقسام الثلاثة حتى عرفوا حقيقتها، كما هو مذكور في كتبهم بشرح طويل. فاعمل أنت يا أخي، أيَّدك الله وإيانا بروح منه، في هذه المسألة مثلما عمل هؤلاء في مسألتهم، وهو أن تقول: لا يخلو أمر البعث ومعنى القيامة، أن تُبعث الأجساد دون النفوس، أو النفوس دون الأجساد، أو الجميع؛ إذ كان ليس في القسمة غير هذه الوجوه الثلاثة. ثم ابحث وتصفح عن حقيقة واحد واحد من هذه الوجوه الثلاثة، كما نبين في هذا الفصل.
وأما من كان فوق هذه الطوائف في العلوم والمعارف، فهو يرى ويعتقد بأن مع هذه الأجساد جواهر أخرى أشرف منها وأفضل، وليست بأجسام، تسمى أرواحًا أو نفوسًا. فهو لا يتصور أمر البعث ولا يتحقق أمر القيامة إلا برد تلك النفوس والأرواح إلى تلك الأجساد بعينها، أو أجساد أُخَر تقوم مقامها، ثم يحشرون ويحاسبون ويجازون بما عملوا من خير أو شر. وهذا الرأي أجود وأقرب إلى الحق، وفي اعتقادهم له صلاح لهم ولغيرهم. و[لكن] اعلم يا أخي أن هذا الرأي والاعتقاد جيد للنساء والصبيان والجهال والعوام، ومن لا ينظر في حقائق العلوم ولا يعرفها. وذلك أنهم إذا اعتقدوا هذا الرأي وتحققوا هذا الاعتقاد، يكون ذلك حثًّا لهم على عمل الخير وترك الشرور واجتناب المعاصي وفعل الطاعات … [إلخ]. ويكون ذلك صلاحًا لهم ولمن يعاملهم …
في رمزية الجنة والنار
لقد قال لنا الإخوان في أكثر من موضع في رسائلهم إن النفوس التي حققت الارتقاء في المرتبة الإنسانية تصل إلى الرتبة الملائكية في سُلم الارتقاء العام، وتنضم إلى أبناء جنسها سائحة في عالم الأفلاك متحررة من قيود الجسد والعالم المادي عالم الكون والفساد ما دامت السماء والأرض؛ فإذا قامت القيامة الكبرى في نهاية الزمن عادت للاتحاد بالنفس الكلية التي تتخلَّى عن الجسم الكلي لتلحق بالعقل الكلي. أما النفوس الشريرة التي قصرت عن الارتقاء، فتتحول إلى شياطين تبقى سائحة في قعر عالم المادة لا تقدر على الصعود بسبب ثقل خطاياها وأعمالها السيئة. وفي الحقيقة فإن هذه هي نظرة الإخوان للجنة والنار التي عبَّر عنها الناموس بصور مادية قريبة من أفهام عامة الناس. فعالم الكون والفساد هو جهنم، وعالم الأفلاك هو الجنة، وما من جحيم مادي تحترق فيه أجساد الكفار، أو جنة مادية تتنعم فيها أجساد الأبرار بكل ما لذَّ وطاب من طعام وشراب وملبس ومسكن ونكاح:
وإنما قيل: إن جهنم هي سبع طبقات؛ لأن الأجسام التي دون فلك القمر سبعة أنواع: أربعة منها هي الأمهات المستحيلات التي هي الأركان الأربعة، وهي النار والهواء والماء والأرض، وثلاثة هي المولَّدات الكائنات الفاسدات التي هي المعادن والنبات والحيوان.
أما ترى يا أخي أنه قال: مَثَل الجنة، على سبيل التشبيه والتمثيل ليقرُب من الفهم تصوُّرُها؛ لأنه يقصِّر الوصف عنها بحقائقها. وإنما خاطب كل طائفة من الناس بحسب عقولهم ومراتبهم في المعارف والفهوم؛ لأن دعوة الأنبياء، عليهم السلام، عموم للخاص والعام جميعًا ومَن بينهما من طبقات الناس. وقد صرح المسيح عليه السلام، في وصف الجنان ونعيم أهلها بأوصاف غير جسمانية، فقال للحواريين في وصية لهم: إذا فعلتم ما فعلتُ وما قلت لكم، تكونون معي غدًا في ملكوت السماء عند أبي وأبيكم، وترون ملائكته حول عرشه يسبحون بحمده ويقدسونه، وأنتم هناك ملتذون بجميع اللذات بلا أكل ولا شرب. وإنما صرح المسيح، عليه السلام، ولم يرمز؛ لأن خطابه كان مع قومٍ قد هذبت نفوسهم التوراة وكُتب الأنبياء، عليهم السلام، وكتب الحكماء أيضًا، وكانوا غير محتاجين إلى الإشارات والتنبيهات، بل كانوا متهيئين لصورها مستعدين لقبولها.
فأما سيد الأنبياء وخاتم المرسلين صلى الله عليه وآله، فقد اتفق مبعثه في قوم أميين من أهل البوادي، غير مرتاضين بالعلوم ولا مقرِّين بالبعث والنشور … فجعل أكثر صفة الجنان في كتابه جسمانية، ليقربها من فهم القوم ويُسهِّل عليهم تصوُّرَها، وترغب نفوسهم بها. ونحن قد جعلنا بحثنا عن أسرار الكتب الإلهية، وبينَّا في أكثر رسائلنا معنى أسرار التنزيلات النبوية، وكشفنا عن أكثر الرموزات والإشارات وعن الموضوعات الناموسية. وذلك لأن خطابنا لا يكون إلا مع أقوام علماء فضلاء، مارسوا إخوان الصفاء ورسخوا في العلم، وارتاضوا بالرياضيات الحِكمية المقرونة بأسرار الكتب الإلهية وإشارات الأنبياء عليهم السلام» (٣٠: ٣، ٧٦-٧٧).
من هنا فإن الاعتقاد بمادية عذاب جهنم ونعيم الجنة هو من الآراء والاعتقادات الفاسدة التي ينبغي على العاقل أن يتخلَّى عنها في سعيه نحو الارتقاء:
«ومن الآراء الفاسدة رأي من يرى ويعتقد أن الله الرحيم الرءوف الحنَّان يعذب الكفار والعصاة في خندق في النار غيظًا عليهم وحنقًا، وكلما احترقت أجسادهم وصارت فحمًا ورمادًا، عادت فيها الرطوبة والدم لتُحرق مرة ثانية.
واعلم يا أخي أن هذا الرأي يسيء ظن صاحبه بربه، ويعتقد فيه قلة الرحمة وشدة القساوة، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.
وأما من رزقه الله قليلًا من التمييز والعقل والفهم، ونظر في علوم الحكمة، فإن هذا الرأي لا يصلح له ولا يليق به؛ لأنه إذا عرضه على عقله أنكره عليه، فيقع عند ذلك في شك وحيرة وسوء ظن وتخيلات فاسدة.
في هذا الإطار، يفسر الإخوان وعيد الله تعالى للمسيئين تفسيرًا خاصًّا:
«اعلم أن مسألة الوعيد هي أيضًا إحدى أمهات مسائل الخلاف بين العلماء. وذلك أن منهم من يرى ويعتقد أنه واجب في حكم الله وعدله أن يفي بوعيده كما وفى بوعده؛ لأنه إن لم يفعل كان كاذبًا، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا. ومنهم مَنْ يرى ويعتقد أنه لا يكون كاذبًا لأن الكذب هو الخبر بأنه قد فعل ولم يكن فعل، أو يقول: ما فعلت وقد كان فعل. فأما إذا قال: سأفعل، ثم لم يفعل فيكون مخالفًا [لا كاذبًا]؛ والمخالف في الوعد يكون مذمومًا غير وفيٍّ، فأما في الوعيد فربما كان الخلاف عفوًا وصفحًا ورحمة وتحننًا وإشفاقًا وكرمًا وسماحة وإنعامًا. وكذلك هذه الخصال ممدوحة محمودة، تليق بفضل الله ورحمته وكرمه وإحسانه. ومنه قول بعض العرب:
فإن إخلاف الوعيد مكرمة افتُخر بها. وذلك أن وعيد الله لعبيده مماثل لوعيد الأب الشفيق الطيب العالم للولد الجاهل العليل، يقول [له]: لا تأكل ولا تشرب كيت وكيت، وافعل كيت وكيت، فإنك إن لم تفعل ولم تقبل نصيحتي، ضربتك وحبستك وعاقبتك. فإن لم يفعل الولد، ولم يقبل نصيحة والده ولم يأتمر له، ولم ينتهِ عما نهاه عنه، وأكل وشرب ما نهاه عنه، وترك ما كان مأمورًا به، بقي عليلًا سقيمًا، وفاتته الصحة والأنفع والأصلح، وبقي متألمًا وجيعًا، فإنَّ الأب الشفيق يشفق عليه أن يفي بوعيده فيضربه ويزيده ألمًا وعذابًا. فهكذا حُكم عذاب الله ووعيده لعباده، وهذا أليق به وبرحمته وجوده وكرمه وإحسانه.
وأما وقت وفاء الوعد لثواب المحسنين متى يكون وكيف يكون؟ فإن هذه المسائل هي من غوامض العلوم ودقائق الأسرار، وقد أكثر العلماء فيها القال والقيل، وتحيرت فيها عقول الكثير من الناس أولي الألباب. فمنهم مَنْ يرى ويعتقد أنها في الدنيا قبل الممات، ومنهم مَنْ يرى أنها تكون في الآخرة بعد الممات. وأما كثير من الناس فينكرون أمر الآخرة فلا يعرفونها ولا يقرون بها. وأما المقرون بها فمختلفون أيضًا فيها وفي ماهيتها وكيفيتها وأبنيتها على مذاهب شتى: فمنهم من يرى ويعتقد أن الآخرة ودار الجزاء إنما تكون بعد خراب السماء وفناء الخلق أجمعين، ثم إن الله يعيدهم مرة ثانية خلقًا جديدًا، فيثيبهم ويجازيهم ما كانوا يعملون في الدنيا من خير أو شر، أو عُرف أو نُكر. وهذا جيد للعامة ولمن لا يعرف من الأمور شيئًا، ويرضى الدين تقليدًا وإيمانًا، وأما الخاص ومن قد نظر في بعض العلوم الرياضية والطبيعية، فإن هذا الرأي لا يصلح لهم. وذلك أن كثيرًا من العقلاء الحكماء ينكرون خراب السماوات، ويأبون ذلك إباءً شديدًا، والجيد لهم إذن أن يعتقدوا أمر الآخرة أن لها وجودًا متأخرًا عن الكون في الدنيا، كما كان في الدنيا موجودًا متأخرًا عن الكون في الرحم» (٤٢: ٣، ٥٠٢–٥٠٤).
«فالدنيا: هي مدة بقاء النفس مع الجسد إلى وقت افتراقها الذي يُسمى الموت. والموت: هو ترك النفس استعمال البدن، ويقال أيضًا الموت: هو بقاء النفس بعد مفارقة الجسد. والآخرة: هي نشوء ثانٍ بعد الموت، وخلودها في عالمها. والجنة: هي عالم الأرواح. وجهنم: هي عالم الأجسام. والجنة أيضًا هي المرتبة العليا وجهنم هي المرتبة السفلى؛ فجنة النفس النباتية [هي] صورة الحيوانية، وجنة النفس الحيوانية صورة الإنسانية، وجنة النفس الإنسانية صورة الملائكة. والبعث: هو انتباه النفوس من نوم الغفلة ورقدة الجهالة … والقيامة: قيام النفس من قبرها وهو الجسد … والحشر: هو جمع النفوس الجزئية نحو النفس الكلية واتحاد بعضها ببعض» (٤١: ٣، ٣٩٧-٣٩٨).
فالآخرة والحالة هذه، وما يرافقها مع ثواب وعقاب، ليس شأنًا مؤجلًا إلى يوم القيامة الكبرى عندما تنسحب النفس الكلية من الطبيعة، بل هي شأن قائم هنا والآن، والنفوس التي فارقت أجسادها بالموت الذي هو القيامة الصغرى، هي الآن إما معذبة في عالم الكون والفساد لا تستطيع صعودًا إلى الأعالي، أو منعمة في فسحة الأفلاك:
«معنى القيامة مشتق من القيام، فإذا فارقت النفس قامت قيامتها. قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله: «من مات فقد قامت قيامته.» وإنما أراد قيام النفس لا الجسد؛ لأن الجسد لا يقوم عند الموت، بل يقع وقوعًا لا يقوم بعده، إلى أن ترد النفس إليه ثانية. فانتبه يا أخي من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، وتَزوَّد للرحلة، واستعد للقيامة قبل أن تقوم قيامتك بأن يؤخذ منك هذا الهيكل المبني، مملوءًا من آثار الحكمة، قهرًا وأنت كاره، فتبقى نفسك بلا سمع ولا بصر ولا شم ولا ذوق ولا لمس، فارغة خاوية تهوي في هاوية البرزخ إلى يوم القيامة [الكبرى] إلى يوم يبعثون. فبادر وشَمِّر واجتهد بأن تكتسب بتوسط هذا الهيكل الجسماني هيكلًا روحانيًّا، وبتوسط هذه الحواس الجسدانية حواس عقلية، ليكون بعد حين، فترجع نفسك من عالم الأجسام إلى عالم الأرواح بربح لا بخسران» (١٦: ٢، ٤٩-٥٠).
وأيضًا:
«… فأما النفوس الصافية غير المتجسدة فهي غير محتاجة إلى الكلام والأقاويل في إفهام بعضها بعضًا من العلوم والمعاني التي في الأفكار، وهي النفوس الفلكية؛ لأنها قد صفت من درن الشهوات الجسمانية، ونجت من بحر الهيولى وأسر الطبيعة، واستغنت عن الكون مع الأجساد المظلمة التي هي أسفل السافلين وعالم الكون والفساد، وارتفعت إلى أعلى أفق العالم العلوي، وسرت في الجواهر النيرة والشفافة التي هي الكواكب والأفلاك، وذلك كما توجبُ الحكمة الإلهية والعناية الربانية، إذا لم تُقرن بالأجسام الساترة ولم تحتجْ إلى كتمان أسرارها، ولا إلى إخفاء ما في ضمائرها؛ إذ كانت صافية من الخبث والدغَل، وبريئة من الإضمار للشر. فقُرِنت بالجواهر النيرة والأُكر الشفَّافة التي يتراءى الجزء منها في الكل، والكل يتراءى في الجزء، كما تتراءى وجوه المرايا المجلاة بعضها في بعض، وكما تتراءى وجوه الجماعة المتقابلين في عين الواحد منهم، ووجه الواحد في أعين الجميع. فهم غير محتاجين إلى الإخبار عن الإضمار، ولا السؤال عن كتمان الأسرار؛ لأنهم في الإشراق والأنوار التي هي معدن الأخبار والأبرار» (١٠: ١، ٤٠٢-٤٠٣).
وعلى الرغم من أن الإخوان لم يوردوا الكثير من التفاصيل الجزئية عن حال الأرواح بعد الموت، مكتفين بالعموميات، إلا أنهم أوردوا في جملة قصصهم المبعثرة التي قصدوا منها العبرة، قصة عن الرجل التائب، أنهوها بهذا المشهد الحي المؤثر:
في القيامة الكبرى
تدوم الجنة والنار ما دامت السماوات والأرض، على ما ورد في أكثر من آية في كتاب الله عز وجل. ولكن السماوات والأرض لا تدومان، والنفس الكلية التي فاضت قواها في الجسم الكلي زمن التكوين سوف تنسحب من هذا الجسم ويحدث بوار العالم، ويزول منه العجز والنقص، فيغدو الوجود خير كله، ويُعتق أهل النار وتبطل جهنم الدنيا، وتبعث الأنفس الجزئية الإنسانية كلها:
«واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنه إذا فاضت قوى النفس الكلية الفلكية في الجسم الكلي الذي هو جملة العالم الجسماني، ابتدأت من أعلى فلك المحيط متوجهة نحو مركز العالم، وسرت في الأفلاك والكواكب والأركان الأربعة والأوقات الزمانية أولًا فأولًا، حتى إذا بلغت إلى منتهى مركز العالم اجتمعت كلها هناك، ويكون ذلك سببًا لكون الأجسام الجزئية الكائنة الفاسدة التي دون فلك القمر، وهي الحيوانات والنباتات والمعادن؛ لأنها إذا علت إلى أقصى مدى غاياتها الذي هو الغرض الأقصى بطول الزمان، وعطفت عند ذلك راجعة، أعني تلك القوى، نحو المحيط، فيكون سبب بعث الأنفس الجزئية الإنسانية الكلية» (٢٩: ٣، ٣٧).
«ثم اعلم أن غرضنا من ذكر حركات العالم وحركات أجزائه الكليات والجزئيات وفنون تصاريفها، هو بيان بطلان قول مَن يقول بِقِدَم العالم، وذلك لأن الحركات المختلفة تدل على اختلافها، والمتحرك والمختلف الأحوال لا يكون قديمًا؛ لأن القديم هو الذي يكون على حالة واحدة لا يتغير ولا يستحيل ولا يحدث له حال، وذلك ليس يوجد موجود هذا شأنه إلا الله الواحد الأحد، ولا يمكن أن يوجد شيء سوى الله تعالى هذا شأنه.
ثم اعلم أن الذين قالوا بقدم العالم ظنوا بأنه ساكن، والساكن لا تختلف أحواله، وليس الأمر كما ظنوا وتوهموا من سكون العالم، كما بيَّنا فيما تقدم بكثرة حركات كلياته وجزئياته ما لا تنكره العقول السليمة؛ فمنها حركات الكواكب، ودوران الأفلاك، واستحالات الأركان، وتكوين المولَّدات، مما لا خفاء به …
اعلم أن كل حركة في متحرك فهي متحركة له، وهي سبب لشيء آخر، فمتى عدمت تلك الحركة بطل ذلك السبب. مثال ذلك حركة الرحى عن الدابة التي تديرها أو الماء، وهي سبب الطحن، فمتى وقفت الدابة وانقطع الماء، سكنت الرحى وعدم الطحن … وهكذا متى وقفت الكواكب السبعة السيارة في البروج عن دورانها، وقفت الأمور التي تحت [فلك القمر] عالم الكون والفساد من الحيوان والنبات عن حركاتها وتكوينها. يعرف حقيقة هذا من كان حاذقًا بصناعة النجوم وتكلم عليها. والمثال في ذلك كرواحة متى وقفت عن الدوران سقطت بعدما كانت قائمة منتصبة عند حركاتها. فهكذا حكم العالم، متى وقف المحيط عن الدوران وقفت الكواكب عن المسير والحركات؛ ووقفت عند ذلك مجاري الليل والنهار والشتاء والصيف، فيبطل عند ذلك الكون والفساد، ويبطل نظام العالم، وتذهب الخلائق، وتفارق النفس الكلية الجسم الكلي، وتقوم القيامة الكبرى. وذلك أن العالم هو إنسان كبير، فإذا فارقت نفس العالم الجسم الكلي فقد مات الإنسان الكبير، وقد قامت قيامته الكبرى» (٣٩: ٣، ٣٣٢-٣٣٣).
«اعلم يا أخي أن الغرض الأقصى في إدارة الأفلاك وتسيير الكواكب ومجيء الأنبياء والرسل والحكماء، ونزول الملائكة من السماء إلى الأنبياء بالوحي والأنباء، هو أن يصير العالم خيرًا كله ويزول منه العجز والنقص والشر، ويعود إلى ما بدأ منه فيصير لاحقًا به، فتتم الحكمة وتكمل الخلقة، ويرتفع عالم الكون والفساد، ويُعتق أهل النار، وتبطل جهنم الدنيا، ويصير العالم خيرًا كله وسعادة كله، وتقوم القيامة الكبرى، ويمحق الشر وأهله، وينقرض حزبه ويتلاشى. فهذا هو الغرض الأقصى والمعرفة العظمى. فاحفظ ما ألقيناه إليك من هذا العلم المصون والسر المخزون الذي لا يمسه إلا المطهرون. فإذا صح بالبرهان الصحيح أن إدارة الأفلاك، وجريان العالم على ما هو به، إنما الغرض فيه أن يكون العالم خيرًا كله ونورًا كله وسعادة كله، وأن أصل الإبداع جود الباري سبحانه وفيضه، فإنه عند بلوغ النفس إلى درجة العقل، فيكون سكونُها وبطلانُ الحركة والبلوغ إلى النهاية. وعند ذلك تكون الراحة الدائمة والطمأنينة الكاملة … كذلك النفس إذا بلغت درجة العقل سكنت عن الحركة الطبيعية واستعمال الطبيعة، وعادت إلى استعمال ذاتها الروحانية في عبادة باريها سبحانه، حتى تقوم بما يجب عليه من الشكر له، إذ أوصلها إلى درجة الكمال. فهذا يا أخي هو معرفة حقيقة الجنة، ومعرفة القيامة بالبرهان في هذا الوجه بغير رمز ولا إشارة» (جا: ٢٥-٢٦).