الكفاح في صحيفة الجريدة
لم يكن مفر من أن تكون صحفنا الأولى — حين كنا نكافح الاستعمار — شخصية؛ إذ لم نكن ننشد في الصحيفة أخبارًا أو فنونًا في الطبع والتصوير، أو دروسًا سياسية عن شئون العالم، أو شرحًا للآداب أو العلوم، وإنما كنا ننشد شيئًا واحدًا أصيلًا، هو تحرير بلادنا من المستعمر، وما عدا ذلك فقيمته ثانوية.
وكان يمكن بالطبع أن تشمل جرائدنا الأولى كل ما تحتويه الصحف الراقية، ولكن الاستعمار لم يترك لصحف الكفاح مجالًا للرقي، إذ كان يتعقبها بالقضايا والمعاكسات الاقتصادية والإدارية حتى تفلس، وقد أنشئ «قلم المطبوعات» لهذه الغاية المفردة.
كنا نقرأ اللواء لشخصية الزعيم الشاب مصطفى كامل، وكنا نقرأ المؤيد لشخصية علي يوسف، وكنا نقرأ الجريدة لشخصية أحمد لطفي السيد.
- الجبهة الأولى: هي مقاومة الاستعمار البريطاني.
- الجبهة الثانية: هي مكافحة الخديو عباس.
- الجبهة الثالثة: — وهنا أدت الجريدة رسالتها الأولى — هي مقاومة الرجعية الاجتماعية.
وكان لطفي السيد رجلًا قد صيغ عقله في القالب الفلسفي، يفكر في إحاطة، وينظر النظرة الاستيعابية لشئون مصر. وكثيرًا ما كانت كلماته تحريرًا للنفوس من ظلام القرون الماضية، وكان مع جراءته معتدلًا في لهجته؛ ولذلك وجد الاحترام أكثر مما وجد الغضب من خصومه.
والاحترام هو الكلمة اللائقة لإحساس الجمهور نحوه؛ فإنه لم يجد الحب الذي وجده مصطفى كامل حين كان يخاطب قلوبنا ويثير عواطفنا الحامية، ولكنه — أي لطفي السيد — وجد الاحترام لأنه كان يخاطب عقولنا الباردة.
وليس بين الصحفيين المصريين من جُمِعَتْ مقالاته بالعناية التي جُمِعَتْ وطُبِعَتْ بها مقالات لطفي السيد في الجريدة؛ وذلك لأنها كتِبت بلهجة الأديب وتفكير الفيلسوف ورزانة السياسي وحذر المصلح الاجتماعي.
ولولا عرابي لم يكن الدستور؛ فالدستور المصري من عمله ومن صنع يده ومن آثار جرأته، طلبه عرابي لا بوصف أنه عسكري ثائر، ولكن بوصف أنه وكيل وكَّلته الأمة في ذلك، فإن عريضة طلب الدستور كانت مُمْضَاةً من آلاف من وجهاء الأمة ومشايخها، فأما كون القوة العسكرية هي التي كانت الآلة لتنفيذ إرادة الأمة في ميدان عابدين، فذلك إن لم يكن مشروعًا قانونيًّا فإنه مشروع بتقاليد الأمم، لأنه هكذا جرى في كل بلد من البلاد، وكان القائد للحركة الدستورية في كل بلد يحمل على الأكتاف ويهتف باسمه في الشوارع والنوادي والمجالس، ويعتبر أكبر بطل من الأبطال، فعرابي حقَّق آمال الأمة بالدستور ولم يرتكب في ذلك جريمة، ولم يسفك دمًا؛ بل كانت الحركة في حقيقتها سلامًا لابسًا كسوة حربية.
ولا يجوز لنا أن نغمط حق الرجال في إنالتنا الدستور، بل يجب علينا أن نردِّد له شكر آبائنا يوم صدر قانون الانتخاب وقانون مجلس النواب، فإن كانوا بنا لم يستطيعوا حفظ مراكزهم، أو إذا كانت إنجلترا أغلقت المجلس وألغت قانونه يوم دخولها، فمِمَّا لا شك أن ذلك ليس من خطأ عرابي ولا من ذنبه، ومع ذلك إذا كان عرابي في أخريات الأمر أو في عهد الثورة لم يحترم استقلال المجلس وضغطه بقوة السيف، فذلك عمل آخر يحسب عليه بعد أن يحسب له الدستور.
تُخْطَبُ السيدة المصونة، والجوهرة المكنونة، على الطريقة التي نعرفها جميعًا لعبة في علبة، لا تشترط فيها إلا أن تروي عنها السيدات المكنونات أيضًا ما شئن من الجمال الذي لا يعرفن له معنى إلا السمن والبياض، والأدب الذي لا يعرفن له صورة إلا غض الطرف ووضع اليدين بانتظام على الركبتين كتماثيل سقارة، ثم تنقل هذه الشابة التي عُقِدَ عقدها إلى بيت زوجها كما تنقل البضاعة التي حصل اتفاق المتعاقدين عليها عقدًا عامًّا، ليس فيه شرط ولا خيار عيب ولا خيار رؤية، وكان الأزواج في هذه الحال عمي يحبون بالسماع، ويختارون بالسماع، ويعولون في سعادتهم الزوجية على السماع، قد تكون الصدفة سعيدة فيحصل كلا الزوجين على ما كان يحب، ولكن الصدفة أبعد جدًّا من أن تصلح نظامًا عمليًّا للروابط الاجتماعية، فإنها تسعد مرة، وتخبث مرارًا.
إن هذه السيدة كانت مكنونة في الحجب في دار أبيها، مكنونة في بيت زوجها، وجهها عورة يجب ستره، وصوتها عورة يجب كتمانه، وملكاتها عورة يجب خنقها تحت الحجاب، واسمها عورة، وكلها كذلك. ثم يطلب منها بعد ذلك أن تكون إنسانًا حرًّا تام الشخصية، عليه للاجتماع أثقل الواجبات، وهو واجب تربية البنين والبنات.
يبين لبعض الذين يأخذون بظواهر الأشياء أن السيدة المحجوبة هي موضوع الاحترام والإجلال، أو في نظر أبيها وزوجها أكثر احترامًا ورعاية من تلك الفلاحة التي لا حجاب عليها، ولكن ذلك خطأ محض؛ فان الفلاحة ملحوظ فيها أنها إنسان أمين على نفسه، أي إنسان تام الخلقة، له من الحرية ما وهب الله لكل مخلوق، أما السيدة أو الهانم فإنه ملحوظ فيها أنها ليست أمينة على نفسها، لا قوام لها بغير المراقبة الشديدة، أو لا وجود لها إلا بصفتها متعلقة بإنسان آخر، هو وليها أو زوجها.
ولقد نتج من ذلك أن علماءنا الذين لا يعرفون العربية الصحيحة قد تقطعت بهم أسباب التأليف بلغتنا، وعدم وسائل ترجمة العلوم المختلفة من اللغة الأجنبية التي تعلموا العلم بها.
ومن نوابغنا في العلم من كتب آراءه بالفرنساوية دون العربية، ومن محامينا الفصحاء من إذا جادلته في مسالة قانونية استسهل أن يُخرج لك كثيرا من المعاني لابسة صورتها الفرنساوية بألفاظها الفرنساوية، كأن المعنى قارٌّ في ذهنه كذلك.
لهذا الاعتبار دعتنا حاجة البيان إلى أن نفكر في غرض مزدوج هو الكلام في جعل اللغة العربية لغة العلم الحديث في القرن الحديث، وجعلها فوق ذلك حية متداولة على الألسن، مستعملة يوميًّا في الخطب والمرافعات وأحاديث السمر، بل في مساومة السلع في الأسواق.
إننا ندع إلى جانب ما يتهموننا به من حب القضاء على اللغة العربية، وما يدعون علينا من أننا نريد إحلال اللغة المريضة محل اللغة الصحيحة، ندع ذلك إلى جانب، ونرجو خصومنا أن يرجعوا النظر فيما كتبناه في جميع فصولنا الماضية في هذا الموضوع ونبين من جديد هذا الغرض المزدوج.
اللغة العربية لا تكون لغة العلم الا إذا كانت هي لغة التعليم واشتملت على موسوعات العلوم العصرية المختلفة، وقد كان الطريق العادي القريب لذلك هو الترجمة، كذلك بدأت نهضتنا العصرية، ولقد قابلت أحد الذين يشتغلون بالترجمة قبل أن أكتب أول مقالة (في اللغة) وسألته عن حاله، فأجابني: تلك حال لا تسر، وصعوبة تكاد لا تتخطى في ترجمة العلوم إلى اللغة العربية.
قلت: لا بأس عليك، إن في اللغة العربية كلمات كثيرة، فاستخدم منها ما شئت لما شئت من المسميات التي ليس لها في القاموس أسماء، استخدم بعلاقة النسب قال: فإن لم أجد؟ قلت له: انحت اسمًا من وظيفة المسمَّى. قال: فإن لم أستطع. قلت: ما عليك إلا أن تثبت الاسم الإفرنجي في العربية كما هو في اللاتينية أو اليونانية مع المحافظة على موازين اللغة بقدر المستطاع.
•••
أني أعزو كثيرًا من تربيتي الصحفية إلى لطفي السيد، فقد كنت أوالي قراءة مقالاته سواء وأنا في مصر أو في إنجلترا، وكانت لي بمثابة الكشف الذهني لمعاني السياسة الوطنية في مصر؛ ذلك أن المقطم كانت تؤيد سياسة الإنجليز تأييدًا تامًّا، وكانت الأهرام تؤيد سياسة فرنسا وتعارض السياسة البريطانية، وكانت اللواء والمؤيد كلتاهما تعارض الاستعمار ولكن مع الزعم بأن مصر جزء من الدولة «العلية» أي العثمانية.
وكنت أجد حرجًا في هذا الموقف السياسي، ولم أكن على نضج وفهم بحيث أفهم أن مصطفى كامل باعث الوطنية المصرية إنما كان يستند إلى الدولة العثمانية توسلًا وحيلة فقط لمكافحة الاستعمار البريطاني، كما اتضح ذلك في الشهرين الأخيرين قبل وفاته، حين حمله ضميره على أن يصارح الأمة، فكتب يقول وكرر القول بأن مصر نهب لبريطانيا وتركيا معًا، وعارضته المؤيد ووبَّخته بقولها: إنه يكتب كما لو كان عرابي.
وكان ظهور الجريدة بقيادة لطفي السيد انفصالًا صريحًا من هذه الخطة التي اتبعتها اللواء والمؤيد؛ فإنها — في صراحة لا تشوبها شبهة — قالت: إن مصر للمصريين وليست لتركيا أو بريطانيا.
ومع أن هذا المنطق واضح مقبول في أيامنا فإنه لم يكن كذلك فيما بين ١٩٠٦ و١٩١٦؛ ولذلك وجد لطفي السيد معارضة غير صغيرة، ليس من الصحف فقط، بل من الشعب أيضًا، ولكنه وجد تأييدًا تامًّا من الطبقة المثقفة، كما وجد مثل هذا التأييد من الأقباط الذين لم يكونوا يفهمون معنى لاستقلال ندعو إليه تكون فيه السلطة المشرفة على البلاد سلطة الأتراك.
وهنا فضل لا يُنسى إلى جنب أفضال كثيرة للطفي السيد على الصحافة المصرية؛ إذ ليس شك أنه المجدد الأول في الوطنية كما هو المجدد الأول في الصحافة المصرية.