الفن الكاريكاتوري
مما يذكر عن جريدة «نيويورك تيمس» الأمريكية أن مديرها وجد في انتشارها ركودًا أو تخلفًا عن سائر الجرائد التي تباريها في السوق، فشرع يتصفحها كي يهتدي إلى علة هذا الركود، وبعد دارسة للصفحات والأبواب قصد إلى رئيس التحرير واقترح عليه أن يبحث عن محرر قد اعتاد الشراب يكتب كل يوم حديثًا للقراء يتألف من خطرته «السكرانة».
فلما سأله رئيس التحرير عمَّا بعثه على هذا الاقتراح أجابه بأن علَّة الركود في بيع الجريدة هي أنها مسرفة في الجد ليس فيها كلمة مزاح أو نكتة مضحكة، وأن القراء يسأمون الجد ويحتاجون إلى شيء من الهزل من وقت لآخر.
وعلى هذا الأساس اتجهت الصحف الكبرى إلى أن تخصص جزءًا من أعمدتها للكتَّاب المرحين، ولا تكاد تخلو جريدة من مثل هؤلاء الكتاب الذين يرفهون عن القراء بأحاديثهم.
والصورة الكاريكاتورية هي ترفيه أنيق، يحتاج إلى إعمال الفكرة واستخلاص النكتة في صورة تنطق أحيانًا عن معناها، بحيث لا تحتاج إلى كتابة شيء يفسرها ويوضحها أو هي تحتاج إلى أقل الكلمات.
وقد ظهرت الصورة الكاريكاتورية عندنا منذ حوالي ١٩٢٠ واختصت بها مجلة الكشكول التي كان يصدرها المرحوم سليمان فوزي، وكان يهدف منها في كثير من الأحوال إلى غير ما خصصت له، فكان ينتقل بها من الترويح إلى التشهير بالوفديين، ولكنه مع ذلك فتح الباب وشق الطريق.
ثم جاء محمد التابعي فجعل منها دراسة في مجلاته التي كان يصدرها مثل روز اليوسف وآخر ساعة، وشاعت بعد ذلك في بعض مجلاتنا، ولكن جرائدنا اليومية لم تأخذ بها إلا منذ قريب، وهي مع ذلك لم تعم جرائدنا حتى الآن.
والصورة الكاريكاتورية خاصة وعامة، فهي خاصة حين تتناول إحدى الشخصيات فتبرز فيها سمتها أو موقفها في شأن عام، وهي عامة حين تجعل من معناها نكتة لها قيمتها الاجتماعية، وهي بهذين النوعين تعالج السياسة كما تعالج الاجتماع، وتوضح الأخبار والاتجاهات.
والغاية من الصورة الكاريكاتورية هي — كما قلت — التخفيف من جديَّة الجريدة، وهي تروح عن القارئ لأنها تضحكه، ولكن لماذا يضحك؟
إن للضحك تفسيرات عديدة ربما كان أقربها إلى فهمنا أنه يجعل من الشخص أو الأشخاص آلات قد غاب عنها التعقل، فهي تسلك سلوكًا آليًّا، وهذا هو تفسير «برجسون»، ومع أني أجد فيه شيئًا من الصدق فإني لا أجد فيه كل الصدق.
فليس شك أن نكات جُحَا تنطوي على أنه ينطق ويسلك كما لو كان عقله قد غاب عنه فترة ما، كما في قوله — مثلًا — عندما رأى جلبابه يطير من حبل الغسيل، بأنه يحمد الله على أنه لم يكن على جسده. والنكتة هنا ساذجة نضحك منها لأننا نحس خطأ جحا وحسبانه شخصه كما لو كان مثل الجلباب سيطير معه إذا دفعته الريح.
ولكن معظم النكات ينطوي على سخرية تعلو على السذاجة، مثال ذلك الصورة الكاريكاتورية التي نشرتها مجلة بنش الإنجليزية، ذلك أن الإنجليز يصفون الإسكوتلانديين بالبخل، وأيضًا ببطء الفهم.
ونحن نجد في الصورة رجلًا إسكوتلانديًّا يلعب التنس، وبعد أن انتهى من الدور أراد أن يعطي غلام الكرة الذي يجلبها له حين تنأى عن ميدان اللعب قروشًا، ولكنه لبخله أعطاه شيئًا ضئيلًا غاظ الغلام الذي أراد الانتقام، فاقترح على الإسكوتلاندي أن يرى بخته من كفه، ونظر الغلام إلى الكف وقال: «أنت إسكوتلاندي» والمعنى هنا أنه بخيل، ووافق الإسكوتلاندي على ذلك، ثم قال الغلام بعد نظرة ثانية إلى الكف: «وأنت أعزب»، ووافق الإسكوتلاندي على هذا القول أيضًا، ثم نظر الغلام النظرة الثالثة إلى الكف وقال: «وأبوك أيضًا كان أعزب».
والذي يضحكنا هنا جملة أشياء، منها أن الإسكوتلاندي يبدو في الرسم مديد القامة ناضج الرجولة في حين أن الغلام صبي لا يزيد على الثانية عشرة، وإحساسنا بأن الصبي قد غلب الرجل يثير الضحك، وهو يثيره أكثر حين نعرف أن الصبي أخذ من الرجل عوضًا عن حقه هذه السبة التي وجَّهها إليه، ثم نضحك أيضًا عندما نجد الإسكوتلاندي مرتبكًا بشأن الإجابة الأخيرة، فقد كان ينتظر كلمات حلوة منعشة فإذا به يجد لطمة.
وهنا لا يسعفنا برجسون بتفسيره الآلي للضحك.