الصحافة والرأي العام
حضارتنا القائمة هي حضارة الغرب أي حضارة رأس المال، ومعنى هذا أن كل إنسان حر في أن يقتني ويدخر ثم يشتري العقار ويستغله، ومعنى الاستغلال أن نكسب منه إمَّا بتأجيره كما نفعل في المسكن، وإما باستخدام عمال يعملون فيه بالأجر فنكسب في الحالتين، وكسبنا يعود إلى مال ادَّخرناه ثم استغللناه، ونعيش بذلك على عمل الآخرين.
وحضارة الغرب الاستغلالية هي التي أدت إلى الاستعمار بكل ما جلبه على السكان في المستعمرات من ظلم، ونهب، وتوحش، ومرض، وفقر، وجهل.
يفعل رأس المال هذا في المستعمرات حين يستغل السكان بما يشبه السخرة، بحيث لا يزيد أجر العامل على مليمات أو قروش حتى يكبر كسب صاحب أو أصحاب رأس المال، وهو يحاول أن يفعل أو يسلك هذا السلوك حتى في بلاده التي نشأ فيها، ولكن نظم العمال النقابية هناك تقاومه وتكفه عن الفتك بالعمال، ثم هناك قوانين عديدة تخفف من طغيانه، كما أن الرأي العام على تنبه دائم لمحاولاته في الاستغلال الإجرامي.
ووسيلة التنبيه للرأي العام هي الصحف؛ ذلك أن الصحافة حرفة ورسالة: هي حرفة من حيث إن أصحابها ومحرريها ومخبريها وسائر موظفيها وعمالها ينشدون منها الكسب أو الأجر كي يعيشوا مثلهم في ذلك مثل جميع من يعملون ويكسبون.
ولكنها أيضا رسالة، لها شرف الرسالة وواجب التضحية وشهامة الإنسانية والوطنية؛ ومن هنا مواقفها الخطرة التي ربما تؤدي إلى إفلاسها، ولم تفلس جرائدنا المكافحة إلا لمثل هذه المواقف التي اعتقد فيها الصحفيون أن الإنسانية والوطنية تطالبهم فيها بالكفاح.
وماتت صحفنا المكافحة وعاشت الصحف المتفرجة المحايدة.
•••
وفي تاريخ الصحافة المصرية كثير من هذه المواقف المشرفة؛ فإن جريدة السياسة مثلًا حاربت إسماعيل صدقي، بل حاربت الملك الأسبق فؤاد بشأن الدستور الذي ألغياه وسنَّا بدلًا منه دستورًا آخر، وكذلك حاربت السياسة الوزارة في إقدامها على اضطهاد علي عبد الرازق لأنه نشر كتابه «الإسلام وأصول الحكم» وكان اضطهاد المؤلف اضطهادًا لحرية الفكر في مصر.
•••
والاستعمار هو كارثة الإنسانية في القرن العشرين، وهو في كل زمان ومكان كارثة، ولكنه يعود أكرث وأنكب حين يقع في حرب؛ ذلك أن الدولة المستعمِرة تحس الخطر على ما انتهبته من أقاليم وثروات، وتحس — مع الخطر — أن حقها في هذا الانتهاب المغصوب لا يزيد على حق الدولة التي تحاربها إذا تغلبت عليها، إذ لن يكون لها أي حق في هذا الحال في أن تناشد العالم العدل أو الشرف أو الحق، إذ هي — بالاستعمار — قد داست جميع هذه القيم، ولا يمكن ن يكون هناك عدل أو شرف أو حق مع الاستعمار.
ولهذا السبب يطغى الاستعمار في أثناء الحروب على المستعمرات، ولا يبالي قتل الناس وخطف الأموال وتعطيل القوانين، بل لقد رأينا كيف كان الإنجليز يخطفون الناس ويبعثونهم إلى فلسطين بدعوى أنهم «متطوعون»، مع أن هذا التطوع كان يحتاج إلى ربطهم بالحبال حتى لا يفرُّوا وهو يُقادون إلى فلسطين مكتوفين.
ولا يمكن أن ننتظر من المستعمِر رأفة، بل الحق الذي نعترف به أنه مضطر إلى القسوة وممارسة الوحشية التي لعلَّه قد يستنكرها وقت السلم؛ ذلك أنه يرى أبناء بلاده يقتلون ويمزقون، وأن مصير وطنه في كفة القدر الذي ربما ينتهي ليس بالهزيمة فقط بل بالفناء أيضًا، فكيف وهو في هذه الحال نطالبه بالرأفة مع بلادنا وأبنائنا مدة الحرب؟
ولكننا، مع هذه التقديرات، يجب أن نكافح ولا نستسلم.
•••
والرجل المتمدن المثقف في عصرنا يقرأ جريدته للاستنارة عن شئون العالم، وقد ازداد وجداننا العالمي في السنين الأخيرة بالاشتباكات السياسية والاقتصادية، كما جعلت الطائرات والتلغرافات عالمنا هذه صغيرًا في أبعاده كبيرًا في نفوسنا، فأصبحنا نتهم بأخبار هونج كونج ونيويورك وموسكو ولندن ودمشق وبغداد كما نهتم بأخبار أسيوط والإسكندرية، بل ربما يزيد اهتمامنا بهذه المدن الخارجية أكثر من اهتمامنا بمدننا المصرية.
ولذلك فإن الجريدة أو المجلة التي تقصر اهتمامها على شئون وطنها فقط إنما تُعَدُّ قرويَّةً في عصرنا، تتحدث أحاديث القرية وتجهل الآراء العالمية بشأن العالم.
ثم إن تطور العلاقات المصرية بالدول العربية قد حمَّل الصحف مسئوليات جديدة بشأن التنوير والتعريف والتقريب.