كيف نرفع الصحافة إلى مقام الأدب
من الحوادث التي يجدر بكل أمريكي أن يفخر بها أن أحد الناقدين في الولايات المتحدة كتب ذات مرة يقول إن «كرستيان سينس مونيتور» وهي من كبريات الصحف اليومية الأمريكية قد انحط شأنها لأنها لم تعُد تبالي بالآداب والعلوم، وإنها كانت تُعنى قبلًا بتثقيف قرائها أكثر مما تُعنى الآن.
ولم ترد عليه هذه الجريدة بالإنكار، ولكنها عمدت إلى العدد الذي صدر في اليوم الذي فيه هذا النقد، فجمعت ما فيه من آداب وعلوم وفنون، وطبعت كل ذلك في كتاب مستقل يحوي أكثر من مئة صفحة، فكان كتابا رائعًا لا يزال يُباع إلى الآن، وهذا محصول يوم واحد من جريدة يومية.
والحق أني لا أعرف في العالم كله جريدة تعلو على هذه الجريدة، فإنها قد رفعت الصحافة إلى مقام الأدب، وهي تختار لكتابة أخبارها ومقالاتها أدباء وعلماء واجتماعيين وفنانين، والقارئ الذي يتناولها لا يجد الأسلوب الأدبي فحسب وإنما يجد الدلالة الاجتماعية في الخبر الساذج، ويجد الإرشاد والتوجيه الفلسفيين في المقال التحريري.
وما أجدرنا نحن الصحفيين المصريين بأن نلتفت إلى هذه المرتبة العالية التي بلغتها الصحف الأوروبية والأمريكية، أو بلغها بعض الممتاز على الأقل، وخاصة بعد أن تفشَّت بيننا صحف تثير الاشمئزاز والألم سواء بنشر الكاذب من الأخبار أو الزائف من الآراء أو الفاحش من الصور والكلمات.
إن الصحفي الممتاز هو الذي يكون قد وصل إلى الصحافة بعد أن انصهر في بوتقة الأدب والعلوم والفنون، بحيث يعالج حوادث اليوم بميزان الآداب ويكتب بالأسلوب الأدبي الذي يريد الفهم ويصقل الذهن، والصحفي الممتاز هو الذي يبصر بقيمة العلوم في التطور العالمي الحاضر، فيكون على معرفة وتقدير لتولستوي وجيته، وعلى دراية بالآمال والمخاوف بشأن الطاقة الذرية، والصحفي الممتاز هو الذي يفكر بعقل فولتير حين يتحدَّث عن قانون المطبوعات الحاضرة في مصر وعن سائر القيود التي تصاغ للحرية، والصحفي الممتاز هو الذي يدرس مشكلات مصر في ضوء المشكلات والتيارات العالمية، وأخيرًا الصحفي الممتاز هو الفيلسوف الأديب العالم الفنان.
وقد كان أعظم الصحفيين العالميين من هذا الطراز، ولا يزال هذا شأنهم في الجرائد الكبرى، بل إن بلادنا تستطيع أن تفخر بأن صحافتها جذبت إليها — في بعض الأحيان — الأذهان الحية التي ترشد وتوجه؛ فإن «أحمد لطفي السيد» فيلسوف، وقد كان من حظي أن أوالي في شبابي قراءة الجريدة، وهو يحررها، نحو ثماني سنوات، وكان «عبد القادر حمزة» أديبًا وكتابه عن «حضارة الفراعنة» يدل على الآفاق الواسعة المتراحبة التي كان يتطلع إليها من خلال المناقشات السياسية والحزبية في السنوات الماضية، وكان «أنطون الجميل» أديبًا، يتحدث عن بيت من الشعر باهتمام وعناية كما لو كان ينطوي على تغيير في الوزارة، ومن وقت لآخر نجد لطه حسين نزوات صحفية تتسم بطابع الأدب السامي.
وأحيانا أستسلم لخيال عابر وأسأل نفسي: كيف تكون حال هذه المجلة الأسبوعية أو هذه الجريدة اليومية لو أننا سلمنا رياسة التحرير فيها للطفي السيد؟ لطفي السيد مترجم أرسطوطاليس؟
أرسطو طاليس في الصحافة؟
أجل … ولم لا؟
لا. لا نستطيع أن نحتقر هذه الآراء إذا كنَّا عقلاء؛ ولذلك إني آسف أشد الأسف على أن مثل لطفي السيد لا يوجد الآن في صحافتنا.