الصحفي كما يجب أن يكون
ليس شك أن الصحيفة اليومية تحيا وتصدُر للخبر.
الخبر هو أول ما ننشد في أيَّة صحيفة يومية، وهناك من يستصغرون شأن الأخبار مع أن قيمتها التربوية بل الإنسانية للحياة كبيرة جدًّا؛ إذ هي الصلة الروحية بيننا وبين الوطن الذي ننتمي إليه كما هي كذلك بيننا وبين العالم؛ ذلك أننا حين نوالي قراءة الأخبار اليومية عن أحداث العالم نُحِسُّ قرابتنا لهذا العالم، ونشتبك في مشكلاته، ونهتم بشئونه في الإصلاح والتعمير، فنجد معنى لارتقاء الصين، ودلالة في مشروعات الري في مسيسبي بالولايات المتحدة، ونفرح للتقدم الصناعي في الهند، وفي كل ذلك نزداد إنسانية، وتتراحب آفاق جديدة متزايدة كل يوم لنمو الذهن ونضح النفس.
ولكن الخبر مع ذلك ليس كل شيء في الصحيفة اليومية، وخاصة بعد أن ظهرت الإذاعة والتلفزة، فإن الصحيفة تصدر مرة واحدة في اليوم فلا نعرف منها أحداث العالم إلا مرة واحدة في اليوم أيضًا، ولكن الإذاعة والتلفزة كلتاهما تستطيع أن توالينا بالأخبار طول النهار والليل، فهما من ناحية الخبر أقدر من الصحيفة على الوصول إلى المستمعين والرائين.
ولهذا نحن ننتظر التنوير والتعليق والتفهيم والتبصير في الصحيفة بأقلام الكتاب الممتازين، وهو ما لا نجده في المذياع أو التلفزيون، بل حتى حين نجد هؤلاء الكتاب الممتازين فيهما فإننا لا نلتفت إليهما بالعناية التي نلتفت بها إلى كتاب الصحيفة.
وهنا يجب أن نلاحظ أننا نفهم بالعين وبالقراءة أكثر مما نفهم بالأذن والاستماع، ثم تمتاز الصحيفة بعد ذلك بأنها قيد الطلب، نقرأها حين نريد بلا مواعيد معينة لا نستطيع تغييرها، نقرأها في الفراش، وفي المكتب، وفي القطار، وقت راحتنا وفراغنا دون أن نُقسر على ميعاد لا يتفق وأعمالنا اليومية.
وأحسن الصحفيين هو من عمل مخبرًا في بداية حياته الصحفية، وأحسن الكتاب المعلقين هو من اعتاد، لسبق خدمته في إيراد الخبر، أن يصل بين الأخبار والمقالات أو يكتب المقال الخبري أو الخبر المقالي، إذ هو عندئذٍ يُكسب تعليقاته حيوية الخبر، ويَبقى على الدوام متصلًا بالمجتمع والإنسانية والبيئة، ولا يشطح في أبحاث تنأى عن اهتمامات الجمهور. أجل، ولا يحتقر الجمهور كما هو الشأن في كثير من الكتاب الصحفيين الذين لم يتمرسوا بالخبر قبل كتابة المقال.
الأدب يجب أن يكون للشعب وللإنسانية وللمجتمع، ولا نقصد بكلمة الشعب تلك العامة من الغوغاء، فننزل إلى أفرادها بمغريات وضيعة ننشد منها رواج القصة أو الكتاب أيًّا كان موضوعه. وإنما نؤلف للشعب كله خاصته وعامته، وهذا ما يجب أيضًا أن تكون وجهة الصحيفة، بحيث تكتب للشعب لا للخاصة ولا للعامة.
بل إن الشعب الأمثل، الشعب المتمدن، يجب ألَّا يميز بين الخاصة والعامة؛ إذ يجب أن يؤدي نظامه الديمقراطي السوائي إلى تعميم الثقافة ورفع مستوى التعليم، بحيث لا يحتاج الصحفي، كما لا يحتاج الأديب، إلى الزعم بأنه يكتب للخاصة أو يتوسل بإغراءات وضيعة إلى النزول إلى ما يسميه مستوى العامة.
ولأن الصحيفة — مثل الأدب أيضًا — تخاطب الشعب كله بمختلف اتجاهاته الثقافية والفنية والاقتصادية، فإنها يجب أن تستوعب جميع ألوان النشاط الذهني السياسي والاجتماعي والفني والعلمي، وهي حين تفعل ذلك تربي قراءها كما أنها تقرب بين طوائف الشعب.
ولكن الذي يجب أن نؤكِّده هنا أن الصحيفة لا يمكن أن تحايد، أي إنها يجب أن يكون لها مذهب أو مذاهب في الوطنية والسياسة، فإن في الدنيا خيرًا كثيرًا وشرًّا كثيرًا، والصحفي الذي يقول إنه ينقل الخبر، وإنه لا شأن له بالعدل أو الاستبداد، وبالاستعمار أو الاستقلال، وبفساد الحكم أو صلاحه، إنما هو صحفي عاهر يفسق بذهنه، ولعله أيضا يساوم على ضميره.
فالصحفي، مثل الأديب، لا يمكن أن يكون متفرجًا، يروي الأحداث، ويقتصر على الرواية، غير مَعْنِي بما يصيب الأمة أو الإنسانية من خير أو شر.
لا. ليس هناك برج عاجي سواء في الأدب أو الصحافة، وليس هناك في المجتمع الحسن متفرجون في الصحافة.
والصحفي، كما يجب أن يكون، يحتاج لهذا السبب أن يدرس كثيرًا ويختبر كثيرًا، وهو إذا كان قد بدأ حياته الصحفية بالمرانة على كتابة الخبر، فإن اختباراته ستتكاثر طيلة حياته، لأن الخبر سيبقى بارزًا في ذهنه يحركه إلى التفكير الذي يبني ويعمر، وإلى التعليق الذي يرشد ويهدي.
أليست هذه الدنيا حوادث؟ ثم أليست الحوادث أخبارًا؟
إن كل إنسان متمدن يحيا في مجتمع متمدن، يجب أن يشتبك في شئون هذا المجتمع، والصحفي أولى الناس بهذا الاشتباك، وأنا هنا أنظر إلى أخلاقه قبل أن أنظر إلى حرفته؛ إذ هو قد ينجح النجاح المالي إذا بقي متفرجًا محايدًا لحوادث بلاده والعالم، ولكنه لن ينجح النجاح الإنساني، النجاح الشريف الذي يجب أن يهدف اليه كل صحفي، إلا إذا اشترك مع مجتمعه في كفاح للخير والشرف والإنسانية والعدل والاستقلال.
وبعد هذه الكلمات العامة عن الصحفي «كما يجب أن يكون» نحتاج إلى كلمات خاصة تمس الحرفة مسًّا خاصًّا.
ومع أنه يمكن أن يكون هناك تعليم خاص لتخريج الصحفي فإني لا أتمالك الإحساس بأن الصحافة هواية قبل كل شيء، وقد ترجع في جذورها المختبئة إلى ما يُسَمَّى في السيكولوجية «العرض» أو في التعبير المألوف «حب الظهور»، وقلَّ أن يخلو صبي أو شاب من ذلك؛ ولهذا كثيرًا ما نجد الإغراء قويًّا بين الشبان للكتابة في الصحف فيما بين سن العشرين وسن الثلاثين فيرسلون بمقالاتهم أو قصصهم إلى الصحف فإذا صادفوا نجاحًا احترفوا الصحافة، أو هم يكفون بعد أن يتحققوا أن كفاءتهم لا تعينهم على ذلك.
الصحافة — كالشعر والأدب والفن — هواية، ولكن الهاوي يحتاج إلى التربية والتعليم حتى يمهر ويحذق، ويحتاج إلى ظروف مؤاتية أيضًا في الجمهور أو البيئة، وإني لأجد — من اختباراتي الماضية التي تزيد على نصف قرن — أن خير ما يؤهل للصحافة الراقية في بلادنا وسائر الأقطار العربية إتقان لغة أجنبية على الأقل، ولغتين خير من لغة؛ وذلك أن الاتصال بلغتين أجنبيتين، مثل الفرنسية والإنجليزية، أو الألمانية والروسية، يصل بين الصحفي العربي وبين التمدن العصري، كما يتيح له الرحلة كل سنة أو سنتين إلى أقطار أجنبية ينتفع بزيارتها ودارسة مؤسساتها وتجديداتها، ومن الغرور الكاذب أن نزعم أننا — نحن الصحفيين المصريين مثلًا — في «اكتفاء ذاتي» لا نحتاج إلى اللغات والآداب الأوروبية أو الأمريكية؛ فإن حاجتنا إلى هذه اللغات لا تقل في الصحافة الراقية عن حاجتنا في الطعام للغذاء الصحي.
وكما نحتاج إلى اللغات الأجنبية ندرسها بإتقان، نحتاج أيضًا إلى زيارة الأمم الأجنبية وإلى الإقامة شهورًا أو سنوات في باريس وبرلين ولندن ونيويورك وموسكو؛ كي نتعمق البواعث والحوافز في السياسة والاجتماع والاقتصاد والارتقاء؛ ذلك لأن الاستعمار والاستبداد كلاهما قد أَخَّرَنَا عن اللحاق بموكب الحضارة العصرية، فنحن في حاجة لا تنقطع عن استملاء هذه الحضارة من الأمم المتمدِّنة المتقدمة، وأسوأ ما تعانيه الصحافة المصرية في وقتنا من حيث تفاهة موضوعاتها وأخبارها يعود في النهاية إلى أن المحرر أو المخبر لم يدرس لغة غربية.
وأعني أنه لم يدرسها دراسة الإتقان، ولا أعني أنه لم يعرفها، فإن المعرفة قد تكون رطانة لا تغني.
ثم يجب أن يكون للصحفي — كما للأديب والفنان والشاعر — كفاح، وبكلمة أخرى يجب ألَّا يكون متفرجًا متسليًا بالكتابة وبالدنيا، وقد رأينا في مصر في الخمسين سنة الماضية عشرات من الصحف والصحفيين المتفرجين المتسلين الذين كانوا ينشدون «النجاح» بالإحجام عن التورط في مشكلاتنا السياسية والاقتصادية، فلا ينتقدون وزيرًا ولا يبرزون فضيحة دارية، ولا يعارضون خطة استعمارية أو استبدادية، بل رأينا كتابًا مدحوا جميع الأحزاب، وأثنوا على السادة العظماء، من فاروق إلى الأذناب، بقصائد ومقالات.
يجب على الصحفي الشريف أن يشتبك، وألَّا يبالي أن يؤدي به هذا الاشتباك إلى التورط في الحبس، وأن يقع في الاضطهاد؛ إذ عليه أن يتحمل كل ذلك باعتباره جزءًا من حرفته، بل من شرف حرفته، وأن ينهض في وجه الظلم والفساد ولو أدَّى هذا إلى إفلاسه ودماره.
ذلك أن لكل حرفة مقتضياتها التي يقتضيها الشرف، شرف الحرفة. فإذا وفد وباء كالكوليرا أو الطاعون على مصر فإننا ننتظر من الأطباء أن يهرعوا إلى مكان العدوى ويكافحوا هذا الوباء، حتى مع يقيننا ويقينهم بأن الموت يمكن أن يكون جزاء خدمتهم وإسعافهم للمرضى، ولا يمكن أن نقر طبيبًا على الفرار من الكفاح أو الوقوف موقف المحايد المتفرج.
كذلك الشأن في الصحافة، فإذا واجه الصحفي ظلمًا أو فسادًا أو استعمارًا فإن عله أن يكافح، حتى ولو وثق بأن كفاحه قد ينتهي بدماره وسجنه وإفلاسه؛ لأن شرف الحرفة يقتضي ذلك.
والصحيفة المثلى هي — بعد كل شيء — معهد عام وليست مشروعًا خاصًّا؛ أي إنها تنصب نفسها وتنذر كتابها للخير والتربية والتطور والتجديد، توسع من صفحاته للكاتب الناضج، وتوسع من اختباراتها للكاتب البادئ، وتبقى أمام الشعب مصباحًا يهدي في الظلمات وعنوانًا لمعاني الشرف والخدمة.
ويجب ألَّا ننسى أن لهجة الكاتب وأسلوب تفكيره واتجاهه وهدفه، كل هذا ينتقل إلى القارئ، فيعين مزاجه بل يعين أخلاقه، فإذا كان الكاتب مكافحًا فإن القارئ سيكون أيضًا مكافحًا، وإذا كان متفرجًا محايدًا فإن القارئ سيكون أيضًا متفرجًا محايدًا.
وفي عصرنا هذا حيث تتعدد المذاهب والأفكار، وتتصارع الديمقراطية مع الأوتوقراطية، وتنتصب الحرية ضد الطغيان، وينهض الاستقلال ضد الاستعمار، ويجابه الفقر الفاحش الثراء الفاحش، في هذا العصر لا ينبغي أن يكون هناك إنسان محايد أو صحيفة محايدة.
وبعد كل هذا الذي ذكرنا، ممَّا يُوهِمُ أن الصحافة مهنة شاقة كثيرة المسئوليات، نحتاج إلى أن نقول إنها ليست مهنة فحسب وإنما هي حياة أيضًا؛ فالذي يختار الصحافة لا يختار مهنة للكسب فقط، بحيث يقصد إلى عمله في الصباح ثم يعود إلى بيته في المساء، وقد نسي مهنته، واشتغل بشئون عائلية أو اجتماعية أو ترويحية أخري.
لا ليست الصحافة كذلك؛ إذ هي مهنة وحياة معًا، وأقرب الأشياء إليها، من حيث اندغام المهنة في الحياة، هو مهنة الزراعة أو مهنة التأليف، فالزراع لا يحترف الزراعة فقط ويفصلها من حياته، وإنما هو يحيا حياة الزراعة التي لا يقتصر اهتمامه بها على اقتصادياتها وما يكسب منها له ولعياله، وإنما هو يجد فيها أسلوبًا للعيش وأهدافًا للسعادة لا يجد مثلها ساكن المدينة، فهو يحب رؤية الأرض المحروثة يسير عليها ويتشمَّم منها أرج الخصوبة، وهو يألف البقرة والحمار والخروف ويحس صداقة إنسانية نحوها، وهو يخرج في ظلام الفجر الأبيض كي يرى الدنيا وهي صامتة قبل طلوع النهار، وهو يقنع بما يزرع ويحيا في بطء بلا عجلة أو هرولة، وطعامه ساذج، ولباسه ساذج، إذ هو إلى حد بعيد لا يزال ابن الطبيعة. الزراعة حياة كما هي حرفة.
وكذلك الشأن في الصحافة؛ فإن الصحفي العظيم يجد أنه مكلف دراسة الدنيا، وتلغرافات الصباح التي يقرأها، والتي ترد إليه من أنحاء العالم، يكاد يحس أنها رسالات شخصية إليه، والأسماء الجغرافية عنده تكتسب ألوانًا إنسانية، وهو يدرس الدنيا والمجتمع والسياسة والجريمة والحرب والتاريخ والأدب والعلم، كما لو كانت جميعها ضرورية لحرفته أي لحياته، وهو لهذا السبب يحس ارتقاءً متواصلًا يقرأ، ويختبر، ويبحث عن الحادث الخطير، كي يتخلل أشخاصه ووقائعه ويعرف منه الأسرار في البواعث، وهو يزور الأقطار الأجنبية بنفس الإحساس الإنساني الذي يزور به المدن والقرى في وطنه، وهو — كما هي الحال عند محترفي التأليف للكتب — يقتني الكتب كي يقرأ ويستنير. أجل، ويؤلف.
وإذن يجب أن نقول إن أعظم ما يعوض الصحفي العظيم من مشاقِّه أنه يحس ارتقاءً متواصلًا عامًّا بعد آخر؛ أي يحس أنه ينمو، ويزداد نضجًا، بل إيناعًا، في الإنسانية.