لما كانت الصحافة محتقرة
أذكر أني في ١٩٢٣ احتجت إلى أن أستأجر مسكنًا بالقاهرة، وقصدت إليه وعاينته وارتضيته بأجرة شهرية قدرها سبعة جنيهات، وشرعنا في كتابة عقد الإيجار، وما هو أن فَهِمَتْ مالكة المسكن أني صحفي حتى انتفضت من مقعدها وهي تقول: «جرنالجي» ويدفع منين سبعة جنيهات في الشهر؟
ورفضت التوقيع على العقد، ولم تُجْدِ معها المناقشة والشرح، وخرجت وأنا أتعثر في ثوب الخيبة.
واستطعت، بعد أن تَشَفَّعْتُ بقريب لها، وبعد أن دفعت مقدمًا أجرة ثلاثة أو ستة شهور، أن أحصل على رضا المالكة وعلى المسكن.
وقد مضى على هذه الحادثة ٣٥ سنة، ولكني أذكرها كي أبين للقارئ المكانة المُحْتَقَرَةَ التي كان الصحفي يحتلها في المجتمع المصري، وكانت كلمة «غازيتجي» من الكلمات التركية التي تعني «صحفي»، وكانت مألوفة عند الطبقة الحاكمة في بداية هذا القرن، وكانت تحمل معنى التشرد والفقر والصعلكة.
ولما تزوج الشيخ علي يوسف صاحب «المؤيد» ابنة الشيخ السادات أقام الأب دعوى عليه يطلب إلغاء الزواج بدعوى أنه صحفي، وأن الصحافة محتقرة، ولا يليق بمن تُنْسَبُ إلى «الأشراف» مثل ابنته أن تصاهره، وحكمت المحكمة الشرعية بإلغاء الزواج على هذا الأساس؛ أي إن الصحافة مهنة غير شريفة، ومحترفها لا يليق لمصاهرة أسرة «شريفة».
وقبل نحو ثلاثين سنة كان صادق سلامة صحفيًّا في المنيا يراسل جرائد القاهرة، وكان يكتب في انتقاد المدير وسائر الموظفين المسئولين في المديرية، وغاظهم نقده، وذات صباح جاءه رجل البوليس يقوده إلى مأمور البندر، وهناك وُوجِهَ بتهمة التشرد، وتسلم «إنذار» التشرد، وكان هذا الإجراء بعض ما يلاقيه الصحفيون من رجال الإدارة والسياسة في مصر في تلك الأيام.
ولكن صادق سلامة كان رجلًا إلى نخاع عظامه، فقصد إلى القاهرة، وسعى حتى حصل على رخصة بإصدار صحيفة أسبوعية أسماها «الإنذار» تخليدًا للفضيحة التي ارتكبها رجال الإدارة معه في المنيا، وقد شرفني بالتحرير فيها فيما بين ١٩٤٨ و١٩٥٢.
والواقع أن الصحافة قبل نحو أربعين أو خمسين سنة كانت من المهن المحتقَرة، إذا اعتبرنا أن نوع النجاح الذي يعترف به المجتمع هو النجاح المالي، فإني أذكر أني اشتغلت في «اللواء» سنة ١٩٠٩ بأجر شهري قدره سبعة جنيهات، وخرجت لعجز الجريدة عن دفع أجري، بل خرجت ولي عندها متأخر شهرين أو ثلاثة شهور.
ونستطيع أن نعزو انحطاط الصحافة المصرية إلى جملة أسباب:
أولها أن الحكومة الاستعمارية الاستبدادية كانت تطاردها باعتبار أنها تحمل راية النقد لإدارة يجب أن تبقى مستترة عن أعين الجمهور، وكانت أيضًا تدعو إلى جلاء الإنجليز المحتلين لبلادنا.
ثم كان تأخر التعليم، وتحديد عدد المدارس الحكومية، يعمم الأمية أو يكاد بين طبقات الشعب، فكان جمهور القراء صغيرًا لا يغذو جريدة يومية أو أسبوعية كثيرة النفقات؛ فكانت أجور الصحفيين — تبعًا لذلك — منخفضة.
ولذلك كانت جرائدنا على الدوام في إفلاس، بين التعطيل والغرامة وحبس المحررين والمخبرين، ولم تكن في حالها هذه تتيح للصحفي أن يتربى التربية الصحفية، وقد مات اللواء، ومات بعده المؤيد، ثم الدستور، ثم الجريدة، وهذا غير عشرات المجلات، وأصبح الاعتقاد العام أن الصحافة مهنة خطرة تؤدي إلى الحبس، كما هي مهنة المفلسين أو الموشكين على الإفلاس؛ ولذلك لك يكن يُقبل عليها الْأَكْفَاءُ الذين يجدون عملًا آخر يتيح لهم الطمأنينة والكسب إلا أولئك الهواة المهووسين بالفن، وهؤلاء كانوا على الدوام قلة.
ولهذه الأسباب جميعها كثيرًا ما كنَّا نجد الشبان يلجئون إلى الصحافة كما لو كانت معبرًا يعبرون منه إلى وظيفة حكومية، وكثيرًا ما حدث هذا فإن المحرر أو المخبر باتصالاته بالموظفين كان يجد الفرصة لأن يثب من الصحافة إلى الوظيفة ويترك الصحافة في غير أسف.
وبقي إحساس الخطر من مهنة الصحافة قائمًا عند كثير من الصحفيين إلى وقت قريب، فإن الصحفي لم يكن لينتظر من مهنته أن تكون رسالة حياته أو على الأقل مورد رزقه طيلة حياته، فكان يجمع منها ما يستطيع من مال كي يشتري ضيعة أو يقتني منزلًا، وهو بهذا العمل كان يخرب صحيفته إذ يكف عن ترقيتها بالإنفاق عليها حتى تزداد خدمتها للجمهور؛ ولذلك كثيرًا ما ماتت الصحف لأن أصحابها لم يرعوها بالتحسين والتوسع.
وواضح أن هذا الإحساس بالخطر من مهنة الصحافة كان يعود في الأكثر إلى القوانين الغاشمة التي ذكرناها والتي كانت تحمل الصحفي على أن يبحث عن عمل آخر، أو يقتني ما يكفل له العيش من مُرْتَزَقٍ آخر، وخاصة إذا كانت صحيفته من تلك الصحف المكافحة، وليست من تلك الصحف المتفرجة؛ أي تلك الصحف التي وضعت نصب عينها مكافحة الاستعمار ومكافحة الاستبداد، فإن موقفها كثيرًا ما كان يقضي عليها بالإلغاء، أي الموت أو الحبس المؤذي المهين، أو الغرامة الفادحة.
ويمكن أن نعد الصحف المصرية التي ظهرت ثم ماتت لموقف الكفاح هذا بالمئات منذ عَرَفَتْ مصر الصحافة، وهي لم تمت إلا بعد أن بعَثت في قرائها روح الكفاح، وبعد أن نادت وأطلقت صرخاتها من أجل الحرية والاستقلال ونزاهة الحكم؛ ولذلك لن ننسى فضلها.
•••
كانت الصحافة مهنة محتقَرة، كما كانت أيضًا خطرة ولكنها كانت أيضًا فقيرة.
وكان مرجع فقرها إلى أنها كانت مهددة بالإفلاس في كل وقت، فلم تكن تؤدي من الأجور والمرتبات للذين يعملون فيها إلا أخس المبالغ، ثم كان موقف العداء الدائم الذي كانت تقفه منها الحكومات الاستبدادية يحرم المشتغلين فيها أي ضمان من الإقالة أو حرمان المكافأة.
وكان هناك من أصحاب الصحف استغلاليون، دخلوا في هذه الحرفة بنفس الروح التي يُقْدِمُ بها التاجر على تجارة ما، لا يبغي سوى الربح؛ ولذلك كانوا يرهقون عمالهم من المحررين إلى الطبَّاعين بالعمل الشاق الذي كثيرًا ما أودى بصحتهم.
وجميع الصحفيين يعرفون كيف أن إحدى الدور الصحفية القديمة في القاهرة كانت تُرهق محرريها بالعمل حتى كانوا يخرجون منها وهم في انهيار نفسي، لو أنه طالت مدته لكان قد حملهم على الانتحار أو قضى عليهم بالجنون، وكيف أن كثيرًا من عمال الجَمع والطَّبع أُصِيبُوا بالسُّلِّ لمشقة العمل، زد على هذا أنه لم تكن هناك مكافآت للصحفي عن سني عمله إذا استقال، وقد عملت أنا سبع سنوات في دار صحفية مشهورة، وخرجت دون أن أحصل على مليم واحد مكافأة.
وكانت خسة الأجور والمرتبات من دواعي الاحتقار عند الشعب للصحفي؛ فإننا نعيش في نظام ثرائي اقتنائي يُحسب فيه مقام الفرد بمقدار ثروته وما يقتني من عقار وما يحصل عليه من دخل.