الصحافة تلقى عنتًا وتعسفًا
بعض ما أكتب في هذا الفصل قد أشرت إليه في مواضع أخرى موجزًا عابرًا، ولكني أحتاج هنا إلى الإيضاح والتركيز.
فالصحف هي عين الشعب على الحاكمين، فإذا كان هؤلاء من المستعمرين والمستبدين فإنهم لا يطيقون هذه العين الناقدة البصيرة التي تعين الأخطاء وتفضح الخيانات وترتب المسئوليات، وقد كان كثير من الحاكمين في مصر منذ ١٨٨٢ إلى ١٩٥٢ خونة ولصوصًا، ترتشي ضمائرهم عن الحق والعدل، وترضى نفوسهم نهب البلاد، وقد رأيت كثيرًا في حياتي الصحفية من جرائم هؤلاء الحاكمين.
أذكر، قبل أكثر من عشرين سنة، أني كنت في دكان حلاق كنت أوثره على غيره لأنه كان يستخدم حلاقًا يُدْعَى «المصري» كانت له اتصالات بالصحافة، وكان يجيد الكتابة في شئون العمال، وبينما هو يشتغل بقص شعري إذا بشرطي يدخل ويلقي القبض عليه ويقيده، وكانت التهمة التي سيق بها إلى مركز البوليس هي «التشرد».
التشرد وفي يده المقص يقص شعر الزبون.
وقد كانت تهمة «الشرد» من التهم المحبوبة المأثورة عند البوليس أيام الحاكمين المدنسين، يتهمون بها الصحفي من وقت لآخر كلما عجزوا عن إثبات تهمة صحفية واضحة عنه.
فقد ألقي القبض في المنيا على صادق سلامة وسلم «إنذار»، وكان كل ما ارتكبه أنه كان يراسل صحف القاهرة وينتقد المدير والوكيل في المديرية، وأصدر بعد ذلك صحيفته الأسبوعية باسم «الإنذار» في ذكرى هذا الحادث على ما ذكرنا قبلًا وبقيت صحيفته بهذا الاسم إلى أن توفي في ١٩٥٥.
وأسوأ من هذا في باب الظلم، ما حدث لأحد أصحاب الصحف، فقد كان في أوروبا وكتب أحد محرري صحيفته كلمة استوجبت تحقيق النيابة، ولم يقرأ صاحب الصحيفة ما كتبه هذا المحرر، ولم يعرف موضوع التهمة، فلما وصل إلى ميناء الإسكندرية أُلْقِي القبض عليه وحوكم، وحبس بسبب ما نشره في هذا المحرر وهو غائب في أوروبا، وقد كان قانون الصحفيين في ذلك الوقت ينص على مسئولية صاحب الصحيفة لما يكُتب في جريدته حتى ولو كان غائبًا عنها، وكان هذا بعض العنت الذي اخترعته الأمخاخ السوداء في رءوس المستبدين والمستعمرين في مصر في وقت ما.
ومن هذا العنت أيضًا أن تختص محاكم الجنايات بمحاكمة الصحفيين في قضايا الجنح، وفي هذا الاحتيال العجيب لإيذاء الصحفيين إشارة واضحة إلى الفساد الذي كان هؤلاء الحاكمون الْفَسَدَةُ يحاولون التسلُّل به إلى إفساد نزاهة القضاة.
وكانت «المطبعة» التي تُطبع بها الصحيفة المعارضة موضوعًا آخر للمعاكسات؛ ذلك أنها تُعَدُّ «مصنعًا» ينطبق عليه تعريف الإنجليز بقانون ١٩٠٤ للمصانع المصرية، وهو أنه «محل مقلق للراحة أو مضر بالصحة أو خطر».
وأذكر أني كنت مع شريك قد أقمنا سنة ١٩٥٠ مطبعة في قسم الأزبكية لطبع صحيفة، فلم نحصل في مدى أربعة شهور على الترخيص بإدارتها، مع أننا كلفنا مهندسًا متمرنًا على شئون المباني كي يقوم بالرسم ويعين المواضع، وجاء طبيب قسم الأزبكية فوافق على الترتيبات جميعها، ولكنه عاد إلينا بعد ذلك يقول إن الوزارة تطلب نقل النافذة نافذة المرحاض من الجهة الشمالية إلى الجهة الشرقية، وإنه لا يعرف علَّة هذا الرأي، ويسألنا: هل نحن نعرفه؟
ولم نكن نعرف سوى العنت الذي كانت الوزارة تهدف منه إلى إقفال المطبعة، ونجحت في ذلك.
وفي تلك السنة بالذات فكَّر وزير الداخلية فؤاد سراج الدين في اتخاذ جملة خطوات مشئومة، ليست لتقييد حرية الصحف فقط بل أيضًا لإخفاء جرائم فاروق ورجال قصره الدنس حتى لا يقف الجمهور المصري على الحقائق السوداء التي تمس رجال الحكم في القصر، وذلك بأن أعد مشروعًا لمنع الصحف من نشر أخبار القصر، أي أخبار فاروق ونازلي وبولِّي وكريم ثابت، وأخبار الراقصات اللائي كُنَّ يرافقن فاروق في رحلاته إلى الإسكندرية أو الصحراء، وينزل معهن في الأوبرج بالفيوم أو غير هذا الفندق في الأماكن الأخرى.
وأذكر أنه جيء بي من بورسعيد محروسًا برجل البوليس إلى القاهرة؛ كي تحقق معي النيابة العامة بشأن جملة وردت في مقال لي بجريدة «الشعلة» هذه كلمتها بالنص: «الأوبرج وما أدارك ما الأوبرج»!
وكان المحقق الأستاذ إسماعيل عوض الذي استطاع أن ينقذني، ثم ينذرني. وكانت كلمة الأوبرج من الكلمات الحساسة عند فاروق لِمَا كانت قد شاع وقتئذٍ لأنه يسلك سلوكًا شائنًا في هذا الفندق.
ولما هاج الصحفيون في شجاعة وشهامة على مشروع هذا القانون، فكَّر فؤاد سراج الدين في مشروع آخر في ١٩٥٠ أيضًا هو «قانون الاشتباه السياسي» كي يصبح الصحفي مشتبهًا حين لا يمكن إثبات تهمة عليه، واستطاع الصحفيون أيضًا أن يَئِدُوا هذا المشروع.
وأذكر أن إحدى الشركات التي كانت تطبع الكتب الشهرية قد تعاقدت معي حوالي ١٩٤٨ بشأن كتاب قديم لي كانت دار الهلال قد نشرته سنة ١٩٢٦، فلما كان بالمطبعة يجري طبعه، أُوقِفَ الطبع بدعوى أن الكتاب واسمه «أشهر قصص الحب التاريخية» يحتوي فصلًا عن حب الملوك، وأن في هذا تعريضًا بفاروق.
وفي سنة ١٩٤٥ ألَّفت كتيبًا بعنوان «حرية العقل في مصر» دعوت فيه إلى منع مثل هذا العنت في معاملة الصحفيين والأحرار والمؤلفين.
وعلى القارئ لهذا الفصل أن يذكر أسماء الصحف المكافحة التي ماتت جميعها لأن المستبدِّين والمستعمرين لم يطيقوا صدورها، وقد ماتت بمثل هذه المعاكسات، في حين أن الصحف المتفرجة، التي لم تكن تبالي فحش فاروق، أو سرقات الوزراء، أو نهب الاستعمار لكنوز بلادنا، أو تأخر بلادنا في جميع الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية، هذه الصحف عاشت وأثرى أصحابها حتى أصبحوا يملكون من العقارات وغير العقارات ما تبلغ قيمته مئات الألوف من الجنيهات.