كيف أفسدت الحكومة الصحافة المصرية
كانت الحكومة المصرية أيام الاستعمار والاستبداد تمارس ألوانًا من الفساد أو الإفساد الصحفي يتجاوز الخيال، وهو فساد أو إفساد لم تعرفه أمة أخرى في هذا العالم كله.
فمن ذلك مثلًا المصروفات السرية التي كانت ترشو بها الوزارات المتعاقبة الصحفيين حتى ينكروا الحق وينشروا الباطل، والذي ابتدع هذه البدعة هو عدلي يكن الذي هدف منها إلى محاربة سعد زغلول بتضليل الرأي العام وشق الأمة عليه عن طريق الصحافة، ولم تُلْغَ هذه المصروفات السرية إلا بعد ثورة ١٩٥٢، وكان في إلغائها تطهير وتنظيف.
وكان الغرور والزهو يحملان بعض الوزراء على أن يسخوا سخاء الإغداق على أحد الصحفيين لأنه كان ينشر صورهم في جمال ساحر وإن يكن زائفًا، ويصف مآثرهم وإن لم تكن مآثر، ويروي القصة تلو القصة بشأن إصلاحاتهم التي لم يكن يعرفها الجمهور إلا في الصحف. واتضح من الكشف الذي أذاعته حكومة الثورة في ١٩٥٢ أن إحدى الصحف الأسبوعية التافهة حصلت على أكثر من ٢٦ ألف جنيه.
وكانت صفحاتها وقفًا على الثناء على وزراء الاستبداد، فلا مقال عن العلم أو الأدب أو الصناعة أو الزراعة أو السياسة، وإنما كل ما كان فيها كلمات رنانة وجمل مرصعة في الثناء على الذين يمنحونها هذه «المصروفات السرية».
ثم كانت هناك رشوة أخرى لإفساد الصحفيين هي الإعلانات الحكومية، فصاحب الجريدة المستقل المعارض الذي يهدف إلى الإصلاح ولا يفتأ ينادي بقمع الفساد، يُحرم الإعلانات أو لا يحصل منها إلا على التافه، في حين أن الصحفي الذي يمدح ويتغنى بعدل المستبدِّين ينال الألوف من الجنيهات، بل إن إحدى الصحف الأسبوعية التي لا يزال يذكرها الصحفيون نالت من إعلانات الحكومة في عدد واحد ما تزيد قيمته على نحو ثلاثمائة جنيه.
وهذا في الوقت الذي لم تنل فيه صحيفة يومية في أربعة شهور كاملة تصدر فيها كل يوم، وتُباع، وتُذاع، لم تنل سوى ما قيمته أربعون جنيهًا أي بمتوسط عشرة جنيهات في الشهر. ولم يكن لهذه الصحيفة من ذنب سوى أن محررها كان رجلًا حرًّا يأبى الثناء الرخيص الكاذب على وزير الداخلية المتصرف.
وكانت الإعلانات الحكومية — التي كان هدفها في الأصل خدمة الحكومة بتنبيه الجمهور أو المقاولين أو غيرهم — وسيلة لإفساد الجريدة أو المجلة، وأذكر أني حين أخرجت مجلة المصري في ١٩٣٠، وعارضت فيها إسماعيل صدقي في سياسته، عمد إلى التوسل إلى إفلاسي بحرماني هذه الإعلانات، ولم يحرم «المصري» فقط بل حرمت ١٢ مجلة أخرى أصدرتها بعد إلغائه.
وكنت في تلك الأيام عرضة لزيارات لا تنقطع، غايتها أن أخضع، مع عرض المكافأة السخية وهي الإعلانات، ولم أخضع؛ ولذلك أفلست جميع المجلات التي أصدرتُها.
ومثال آخر لرشوة وإفساد الصحفيين، هو اشتراك وزارة «المعارف» وغيرها من الوزارات في بعض المجلات والجرائد دون بعض، فقد كان المقياس هنا ليس منفعة الطلبة والتلاميذ أو الموظفين، ولكن موقفها إزاء السياسة التي تتبعها الوزارة، فإذا كانت الصحيفة معارضة وتنتقِد فإنها تقاطَع، وإذا كانت موالية تمدح فإن الوزارات تشترك فيها، وكثيرًا ما كانت المدارس «تختزن» المجلات التافهة بألوف النسخ التي لا تُفض غلافات البريد عنها لهذا السبب. وقد أثرى صحفيون تافهون كثيرون بهذه الوسيلة.
ووسيلة أخرى عرفتها الحكومة أيام الحرب الكبرى لإفساد الصحف، هي الورق، فإن مقدار المخزون منه في البلاد كان محدودًا، ومقدار ما كان يرد إلينا من الأقطار الأجنبية كان أيضًا محدودًا، وتعلَّلت الحكومات بهاتين العلتين وتدخلت لتوزيع الورق «بالعدل»، وكان من هذا العدل أن عومل الموالون الخاضعون بالسخاء وعومل المعارضون بالتقتير. ويعرف الصحفيون في أيامنا كيف اقتنى بعض الصحفيين مئات الألوف من الجنيهات حصلوا عليها ببيع الورق في السوق السوداء.
وشاع هذا البيع حتى صار فضيحة مكشوفة، وحتى صار كثيرون من الصحفيين تجارًا، يحصلون على ورق الصحف فيبيعونه لأصحاب المكتبات الذين كانوا يحتاجون إليه لطبع الكتب.
وألَّف المرحوم أمين عثمان الوزير الوفدي جمعية «للصداقة» الإنجليزية المصرية، كان شعارها أننا نحن المصريين قد تزوجنا الأمة الإنجليزية زاوجًا كاثوليكيًّا لا تُفْصَمُ عُرَاهُ، وكان كل من ينضم إلى هذه الجمعية من الصحفيين يجد أجود الورق بأرخص الأثمان، بشرط الإبقاء على الزواج الكاثوليكي.
ولا أكاد أتخيل صورة أفظع من هذه الصورة في إفساد الصحف المصرية، وقد فسدت أو فسد الكثير منها، كما يدل على ذلك هذا الحادث التالي:
ذات يوم دعاني أحد أصحاب الصحف، فلما قعدت إليه وأخذنا في الحديث فهمت أنه يرغب في أن أتولى رياسة التحرير، وشرع يثني علي كثيرًا، ولم يكن عندي ما يمنع من قبول هذا العرض، وجعلنا نتحدث قُرابة الساعة عن وجوه الإصلاح في الصحيفة، ونتناولها صفحة بعد أخرى بالنقد والاقتراح هنا وهناك، ونقترح أسماء لمحررين نحتاج إليهم، وانتهى اجتماعنا بأن أفهمني بأنه سيكالمني بالتليفون في اليوم التالي، وودعته وخرجت.
ومضت أيام لم يكلمني فيها ولم يعتذر، وصادف لقائي لأحد الوزراء وكانت له به علاقة متينة، فشكوت إليه هذه المعاملة التي بخسني بها، فكان جوابه السريع الصريح: «اسمع يا أستاذ، فلان هذا لا يوظف محررًا في صحيفته إلا بعد استئذان السراي، وأنت تعرف رأي السراي عنك؛ فلا بد أنه استشارهم فأشاروا عليه بألَّا يجعل لك صلة بصحيفته».
ولا أنسى أن أقول إن هذه الصحيفة كانت وقتئذٍ تُفهم الجمهور أنها معارضة للسراي.
وكان منصب «مدير المطبوعات» من المناصب العليا في الدولة، ولكن الحكومة الفاسدة كثيرًا ما كانت تعين أفسدت الناس وأجهلهم لهذا المنصب؛ لأنها كانت تخشى الرجل المستقل النزيه المثقف الذي قد يأنف مما يُطلب منه من اتِّباع خطط سافلة مؤذية للجمهور أو للصحفيين.
وأذكر أني قصدت ذات يوم إلى واحد من مديري هذه الإدارة لشأن صحفي، فلما هممت بالدخول إلى غرفته منعني سكرتيره وأفهمني أن هناك مسائل خطيرة جدًّا يشتغل بها مدير المطبوعات، وأني يمكن أن أنتظر حتى ينتهي منها.
وقعدت مع السكرتير، وطال انتظاري، فسئمت وأخذت استفسر منه عن هذه المسائل «الخطيرة» التي يشتغل بها مدير المطبوعات الذي كنت قد خبرته من قبل ووجدت فيه أتفه رجل عرفت.
ولكن السكرتير رفض أن يبوح، وعندئذٍ لم أبالِه، وهممت إلى الباب واقتحمته، فماذا وجدت؟
وجدت مدير المطبوعات هذا، الذي يشرف على الصحف، ويوجه الرأي العام، ويطلب إنذار صحيفة وإلغاء أخرى، ويقدم الصحفيين للنيابة العامة، ويعين مقدار الإعلانات والمصروفات السرية، وجدت هذا المدير قاعدًا وأمامه عراف مشهور في القاهرة بأنه يرى الحظ ويتكهن عن المستقبل عن طريق النجوم والودع، وكان الموضوع الذي حضر من أجله هو أن يخبر المدير عن التاريخ الذي ستُقال فيه الوزارة أو تستقيل حتى يتهيَّأ بخطط معينة للوزارة القادمة.
هذا بعض ممَّا لاقاه الصحفيون من فساد الحكم أيام الوزارات التي سبقت الثورة.