الإعلانات في الصحف
ليس شك في أن الإعلانات التجارية والصناعية والترويحية تنفع القراء وترشدهم، فإن ربة البيت تعرف منها ما يجدُّ من المخترعات التي تخفف الأعباء المنزلية، كما يجد جمهور القراء فيها دليلًا عن المسارح والدور السينمائية ونحوها، وهذا غير ما يجده كل منَّا بشأن لباسه وطعامه وسُكناه وسائر حاجاته.
والإعلانات، من زاوية أخرى، تخدم الروح وتزيد الاستهلاك، فلا تركد حركة الأسواق.
ثم هي بعد ذلك تصل بين الصحيفة وبين حركات الإنتاج في شتى السلع، فهي من هذه الزاوية تنطوي على عوامل تنويرية لمحرري الصحف أنفسهم لأنها تدلهم على الأحوال الاقتصادية المتغيرة المتطورة.
وفي نظام إنتاجي مثل نظامنا الحاضر يقوم على المباراة، تحتاج المتاجر إلى الإعلان، وأقرب الوسائل إلى ذلك هو الصحيفة؛ ولذلك أصبحت الإعلانات أعظم الموارد لحياة الصحيفة، حتى لقد عرَّف أحد المتهكمين الصحف، جرائد ومجلات، بأنها «أوراق» قد كُتِبَتْ عليها إعلانات وفي ظهر هذه الإعلانات أخبار.
وعندما نتصفح إحدى جرائدنا الكبرى، مثل الجمهورية أو الأخبار أو الأهرام أو الشعب، غير المجلات الأسبوعية العديدة، نجد أن مقدار الورق أحيانًا يزيد ثمنه على الثمن الذي تباع به الجريدة أو المجلة، وعلة ذلك هي الإعلانات؛ لأن قيمة الإعلان تعوض الدار الصحفية وتجعل الخسارة في ثمن الورق كسبًا في قيمة الإعلان.
ونحن القراء نضيق أحيانًا بكثرة الإعلانات، ولكن الجريدة التي تبلغ صفحاتها ١٦ أو ٢٠ صفحة لا يمكن أن تُباع بأثمانها الحاضرة لولا هذه الإعلانات العديدة التي تسد النقص في أبواب أخرى من نفقات الصحيفة.
وقد حاول أحد الصحفيين الأمريكيين أن يتحدى القواعد الصحفية في الولايات المتحدة فأصدر صحيفة في واشنطن كان يبلغ عدد صفحاتها ١٦ (في نصف قطع جرائدنا اليومية)؛ فلم يعتمد في عدد واحد على سطر من الإعلانات، ولكنه وقفها بعد أقل من سنتين لوفرة ما خسره في إصدارها من مال، وصحيح أن الجمهور عند صدورها أقبل عليها، ولكنه عزَف عنها بعد ذلك، لأنه وجد أن الجرائد التي تستعين بالإعلانات تتوسع في عدد صفحاتها وتزيد من أخبارها وسائر مرافقها وخدماتها الصحفية أكثر مما تستطيع جريدة بلا إعلانات.
وللإعلانات في نظامنا القائم قيمة تنويرية كبيرة لا تقل أحيانًا عمَّا تنشره الصحيفة من أخبار أو مقالات، فإن الشركة الجديدة — في تجارة أو صناعة — تحتاج إلى شرح أعمالها القادمة، وهي لا تنتظر الخدمة المجانية من الصحيفة في هذا الشرح؛ ولذلك تقوم هي بنشره إعلانًا أو إعلانات متكررة حتى تقف الجمهور على مشروعاتها ويقدم على شراء أسهمها، وكثيرًا ما تظهر هذه الإعلانات في صيغة مقالات، والجمهور يستنير بهذه الإعلانات والشركة تنتفع.
وقد يُقال هنا إن الشركة أو المؤسسة التجارية أو الصناعية التي تغزو إحدى الصحف بإعلاناتها تستطيع أن تؤثر في سياستها وتحددها بالحرمان إذا هي أقدمت على انتقادها بما يؤدي إلى إيذائها ماليًّا.
واعتقادنا أن هذا صحيح، وقد مرت بي اختبارات صحفية من هذا النوع؛ فإني أذكر أن إحدى البواخر ارتطمت، وكان عليها مسافرون مصريون، وتسلمت الخبر بالإنجليزية من إحدى شركات الأخبار وترجمته، ولكن بعد أقل من عشر دقائق جاءنا رسول من مكتب الشركة التي تملك هذه الباخرة وطلب أن نمتنع عن النشر، وكان التهديد المضمَر أننا إذا نشرنا الخبر أسأنا إلى سمعة الشركة، وعندئذٍ تقطع إعلاناتها عن الجريدة التي كنت أعمل فيها محررًا ومترجمًا، وامتنعت الجريدة عن النشر خاضعة ذليلة، بل حدث ما هو أفدح من هذا، فقد كانت هناك شركة تأمين في التصفية، فَرَشَتِ الصحف حتى لا تنشر خبر التصفية، واستطاعت أن تنتهي من التصفية قبل أن تؤدي التزاماتها للمؤمَّنين عندها، ونستطيع أن نزيد.
حدث هذا قبل نحو ثلاثين سنة.
وبالطبع هذا الامتناع من الصحيفة عن نشر الحقائق خشية أن تخسر الإعلانات يُعَدُّ إجرامًا صحفيًّا يترفع عنه ويأباه الصحفي الأمين المخلص، كما يجب أن تترفع عنه وتأباه الشركة التجارية أيضًا سواء أكانت شركة بواخر أم شركة تأمين.
ولكن في نظامنا الاجتماعي الحاضر مفاسد، تكاد تكون أصيلة فيه، وإن يكن هناك من الرجال الأشراف من يستطيعون من وقت لآخر أن يستعلوا وأن يأبوا الخضوع لهذه المفاسد.
اعتبر مثلًا جريدة المقطم، فإننا كلنا نعرف الضرر الفادح الذي أنزلته بالشعب المصري حين عاشت حياتها وهي تؤيد الاستعمار البريطاني، ولكن كانت لها فضيلة أخرى لا يعرفها الجيل الجديد الذي سمِع عنها ولم يرها؛ ذلك أنها طيلة سبعين سنة أو أكثر من عمرها رفضت نشر إعلان واحد عن المشروبات الكحولية، وخسرت بالطبع بهذا الرفض نحو مئة أو مئتي ألف جنيه، ولكنها ارتضت هذا الخسار التزامًا لمبدئها وهو جحد الخمور.
وشبيه بذلك أيضًا ما حدث في أيامنا، ففي ١٩٥٣ كتبت الصحف بشأن إحداث التدخين لسرطان الرئة، وكان الأطباء الذين يصدرون مجلة «بريتش مديكال جيرنال» قد بحثوا هذا الموضوع واقتنعوا بصحته؛ فأعلنوا في يناير من ١٩٥٤ أنهم يرفضون نشر الإعلانات عن السجاير، مع أن أقل ما كانت تحصل عليه هذه المجلة الطبية من هذه الإعلانات لم يكن لينقص عن خمسة أو عشرة آلاف جنيه في السنة.
ان لبعض الصحفيين أخلاقًا عالية.
وأعود فأكرر القول بأن نظامنا الاقتصادي الحاضر، نظام المباراة يحتاج إلى الإعلانات، وربما لا يستطيع البقاء بدونها، ولكن في نظام آخر مثل روسيا ليست هناك حاجة إلى إعلانات في الصحف؛ ولذلك تصدر جميع جرائدها ومجلاتها بلا إعلان واحد، ونظامها الاقتصادي لا يحتاج إلى ذلك، فإن أحد الأسس الذي تنهض عليه فكرة الإعلان هي أن «سلعتي أفضل وأرخص من السلع التي يبيعها غيري».
وليست هناك مباراة في البيع في روسيا؛ وإذن لا حاجة إلى الإعلانات. وقد ذكرت مثالين عن إساءة الاستعمال في الإعلانات، وهما مثال شركة التأمين ومثال شركة البواخر، ولكن في ظني بل يقيني أن أعظم من أساء الاستعمال للإعلانات في الصحف هو الحكومة المصرية في عهدها اللعين البائد أيام الوزارات الإقطاعية.
فقد كانت الإعلانات توزَّع على الصحف المصرية، لا للانتفاع بانتشارها حتى تصل إلى المحتاجين إليها فيعرف منها المقاول مثلًا أخبار المزايدة أو المناقصة أو نحو ذلك، وإنما كانت توزَّع بالمحاباة الصريحة بحيث تعود هدية أو رشوة من أحد الوزراء لأحد الصحفيين فحسب، أما خدمة الدولة في مصالحها المالية فلا شأن لها أي شأن في نظر الوزير. بل كانت هناك مجلات أسبوعية لا يتكلف إصدار العدد الواحد منها خمسين قرشًا يحمل من الإعلانات الحكومية ما كانت تبلغ قيمته عشرين جنيهًا أو أكثر.
وبعض الجرائد في بعض الأحيان يزيد ثمن الورق الذي تُطبع به على ثمنه وهو جريدة مطبوعة، بل يزيد أضعافًا في بعض الأحيان، وإنما يحصل أصحاب الجريدة على الربح من الأجور العالية للإعلانات.
بل يحدث أكثر من ذلك، فإن بعض المصانع والمتاجر والمؤسسات المالية تؤسس الجرائد وتغذوها بالمال حتى تنتشر، ويكون القصد خدمة هذه المصانع والمتاجر والمؤسسات، وإلى الآن لا أعرف مثل هذه الحالات — لحسن الحظ — في مصر، ولا ينتظر أن يحدث مثل ذلك في مصر إلى سنين عديدة قادمة، فإن رأس المال في أوروبا وأمريكا من القوة والحيلة والدراية، بحيث تمتد شباكه إلى الصحف فيستغلها، ولكنه لا يزال ضعيفًا في مصر.
وقد قلت إن الإعلان كثيرًا ما يؤدي إلى التنوير، خاصة إذا كان بشأن مشروع جديد يحتاج إلى الدعاية، ولكني أعتقد أن الإعلانات في مجموعها تنتهي إلى التغرير وليس إلى التنوير، وإن تكن مع ذلك ضرورية في نظام المباراة الذي نعيش فيه، ولو أن حكومة ما من حكومات رأس المال، حزمت رأيها ومنعت الإعلانات في الصحف لكانت شكوى القراء أكبر من شكوى أصحاب رأس المال، إذ ليس لنا طريق إلى الوقوف على السلعة التي نريد شراءها غير الجريدة والمجلة في الوقت الحاضر.
ولعلَّ من المفيد أن نقول إن تدريس فن الإعلان يَلقى في بعض الجامعات اهتمامًا أكبر من تدريس فن الصحافة، وهذا معقول؛ إذ هو يتفق ونظام مجتمعنا القائم على المباراة في التجارة والصناعة.