الأسلوب في الصحافة
حين أعود بذاكرتي إلى الستين سنة الماضية في حياتي، أي منذ شرعت أقرأ وألتفت إلى الصحف، أجد أن الأسلوب السهل المنير الذي وصلنا إليه في الكتابة بلغتنا العربية، لا يعود الفضل فيه إلى معلمي اللغة في المدارس، بل لا يعود الفضل فيه حتى إلى الكُتَّاب «الأدباء» القُدَامَى، وإنما الفضل في هذا الأسلوب يعود إلى الصحف.
ذلك أنها — لاضطرارها إلى السرعة في إيراد الخبر — احتاجت إلى أن تختار من الكلمات والعبارات ما تسهل كتابته وقراءته معًا؛ إذ لم يكن يتسع الوقت للخبر أو المحرِّر أن ينظر بكلمات السجع أو المجاز أو أن يتبختر بالعبارات الموسيقية المزيفة التي كان يعتقد أنها فنية.
وربا كان خير من ألَّف بأسلوب عربي سهل في غير الصحافة هو قاسم أمين، وإن كنت أنا أَعُدُّ مؤلفاته من الصحافة، إذ هي جميعها تعالج مشكلاتنا المصرية العصرية، يليه لطفي السيد في الأسلوب الدقيق المحكم.
وصحفنا تكتب هذه الأيام بلغة شعبية، ولو شئت أن أعين شخصًا كان له فضل هذا التوجيه لقلت إنه محمد التابعي؛ فإنه هو الذي اخترع لنا «الخبر المقالي» أو «المقالة الخبرية» فاحتاج إلى أن يجعل الكتابة أقرب ما تكون إلى الكلام، فأحدث أسلوبًا يغري بالقراءة، وزاد عدد القراء للصحف.
وليس معنى هذا أنها ابتذلت في أسلوبها وأخبارها حتى صارت عامية، وإنما هي جذبت بسهولة الأسلوب الكتابي الذي اتبعته وطريقة إيراد الخبر، والتنويع في وسائل الإمتاع الصحفي بالصورة الفوتوغرافية والصورة الكاريكاتورية، والعناية بالأخبار النائية، جذبت فريقًا من القراء لم يكونوا يعنون قبل صدورها بالسياسة العالمة والأخبار الصحفية؛ فكانت لهم بمثابة المدرسة التي شغلتهم بثقافة جديدة ترفعهم عن اللهو الرخيص الذي كانوا يمارسونه حين لم يكونوا يجدون ما يجذب من الصحف.
وليس هذا نزولًا إلى العامة وإنما هو رفع العاملة إلى مستوى الشعب. ونحن جميعا شعبيون، نطالب الحكومة بأن تكون شعبية، كما نطالب بتعليم الشعب كله، بل نطالب بأن يكون الشعب هو صاحب الكلمة العليا في تقرير السياسة الداخلية أو الخارجية.
ولذلك يجب علينا نحن الصحفيين أن نتحمل مسئولية تنوير الشعب، وأولى الوسائل لهذا التنوير أن نكتب بلغة يفهمها الشعب، لغة سهلة نبلغ بها المعنى العميق دون أن نحتاج إلى الغريب الحوشي من الكلمات التي تصد القارئ.
وقد كانت صحفنا — أيام اللواء والمؤيد — تكتب بلغة تعلو أحيانًا على فهم أفراد الشعب، ولكن السرعة التي تطبع الصحافة بطابعها جعلت الْكُتَّابَ كما قلنا يكتبون كما يتحدثون، فكان هناك اتجاه يقوى عامًا بعد عام نحو أسلوب شعبي انتقل بعد ذلك من الصحافة إلى الأدب.
والصحفي العظيم — كما أحب أن أكرر القول — هو ذلك الذي يرفع الصحافة إلى الأدب؛ إذ إن الصحافة يمكن في اعتبارات عديدة أن تُعَدَّ من الأدب، وهي واقعية شعبية بطبيعة أهدافها ووسائلها، ولا يكاد يوجد أديب في مصر لم يعمل في الاثنين: الأدب والصحافة.
ولكن كما أن عندنا أدباء غير شعبيين يحبون «الصعب» من الأسلوب، ويبحثون عن موضوع لدراستهم في مجتمعات نائية في التاريخ غير مجتمعنا، كذلك كان عندنا كُتَّابٌ صحفيون يحاولون أن يكتبوا بأسلوب «صعب» وكأنهم ينظرون إلى الصحيفة كما لو كانت مقصورة على الخاصة دون الشعب.
وقد استطاع محررو الصحف أن يهتدوا إلى أسلوب شعبي، لا هو عامي ولا خاص، يفهمه جمهور الشعب ويغريه بالقراءة اليومية.
وهذا التوخي للسهولة هو أيضا الذي بعث إلى إيجاد الألوان المبسطة للعلوم والأدب والشئون النسوية، بل إن الأطفال أيضًا قد وجدوا نصيبًا في هذا التبسيط.
وهناك قاعدة يجب ألَّا ننساها، هي أننا نكتب وفق ما نشأنا عليه من اتجاه أخلاقي، وأيضًا وفق الأحوال السيكلوجية التي نتكون بها ونسير في تياراتها، فإذا كُنَّا من الشعب، نكتب للشعب، فإنَّه لا مفر من أن نكتب بلغته، ولكن ليس معنى هذا أننا نكتب بالعامية؛ لأن الكاتب فنان قبل كل شيء والعامية تخلو من الفن.
والكاتب الذي يلتزم أسلوب الجاحظ أو ابن المقفع من الكتاب القدامى يحيا في مناخ قديم؛ ولذلك أيضًا تجد أن أهواءه وأغراضه تنأى عن الشعب، بل هو حين يؤلِّف كتابًا يتخذ موضوعًا من موضوعات القدماء التي لا تمت إلى الشعب، وهو ينعت هذه الموضوعات بأنها «ثقافة».
والثقافة عند هؤلاء الكتاب أن تهتم بثورة الخوارج على الخلفاء وتؤلف عنها، ولكن لا تهتم بثورة مصر، بل ثوراتها، ولا تبالي أن تكتب عنها شيئًا. وعندما تكتب عن الخوارج فإنك تتخذ الأسلوب الذي في هذا المناخ النائي عنَّا.
وقد كان هذا حال صحفنا قبل نحو ثلاثين سنة حين كنا نجد فيها أبحاثًا ودراسات عن مشاكل تاريخية قديمة، أما مشاكلنا نحن فلم يكن هؤلاء الكتاب يعنون بها أقل عناية، بل كانوا حين يكلفون كتابة مقال افتتاحي، يتجهون في عناية خاصة إلى اتخاذ أسلوب قديم يتميزون به، كأنهم يأنفون لغة الشعب واهتمامات الشعب.
•••
لقد قرأت اللواء والمؤيد وأنا طالب في المدارس الثانوية، وعرَفتُ المقالَ يُكْتَبُ مسهبًا بلغة عكاظية في نحو خمسة أو ستة أعمدة، والخبر ينشر بلا عنوان، وأحداث الدنيا تُنحى في زاوية تحت عنوان واحد وهو: تلغرافات خارجية. ولا تزيد على ربع عمود.
ثم جاءت ثورة ١٩١٩ فأكسبت الشباب أهدافًا، وارتفعت بهم إلى معانٍ جديدة من الفهم وبسطت أمامهم آفاقًا، وظهرت صحف تغذوهم وتحاول إشباعهم بالصورة والخبر والمقال.
ولكن الصحف المصرية التي تعد السياسة موضوعها الأول اصطدمت بالسياسة، فلم تكن ترفع برأسها وتشهر أقلامها لمكافحة الاستعمار أو الاستبداد حتى كان المستعمرون والمستبدون يسددون إليها سهامهم القاتلة، وقتلوا عشرات من الجرائد اليومية والمجلات الأسبوعية، وما هو أن كانت الحكومات الماضية تعرف في إحدى هذه الصحف نزعة قومية أو تطرفًا وطنيًّا حتى كانت تتعقبها هي ومحرريها إلى أن تقتلهم جميعًا.
فقتلت جرائد الحزب الوطني كلها، وقتلت «الأخبار» التي كان يحررها الرجل الأمين أمين الرافعي، ولا أنسى أنه عطلت لي في سنة واحدة هي سنة ١٩٣٠ اثنتا عشرة مجلة أسبوعية، وعطلت جرائد المرحوم عبد القادر حمزة جملة مرات، وأصدرت قوانين جعلت احتراف الصحافة يشبه احتراف الجريمة في نظر القضاء.
ومرت على مصر سنوات سود لم يكن يظهر فيها من الصحف سوى تلك التي كانت تنحني رءوس أصحابها ومحرريها، وكاد الصحفي المصري يُلغى من الوجود؛ إذ هو مُتَّهَمٌ على الدوام بتهمة الوطنية.
ولكن رويدًا رويدًا تغيرت الدنيا، دنيا الصحافة في مصر، ورويدًا رويدًا رأينا شبابًا جديدًا يأخذ بألوان من النشاط الصحفي لم نعرف مثله قبل ١٩٣٠ و١٩٤٠، وحرث الأستاذ التابعي حقلًا بالخبر المقالي أو المقال الخبري، وبالصورة الكاريكاتورية التي ليس لها عنوان، ولكنها تنطق بل تصرخ بالمعنى أو تطعن ضحيتها كما لو كانت سكينًا، ثم جاء بعده، ونقل عنه، من زرعوا هذه الأرض المحروثة.