رذيلة صحفية: تملق الجماهير
يقرأ أفراد الجمهور الصحف كي يستنيروا بالأخبار ويسترشدوا بالمقالات ويستمتعوا بالصور والطرف، فالصحيفة إرشاد وتربية إمتاع.
ولكن إذا كانت الصحيفة تعمد إلى التضليل بدلًا من الإرشاد فإن حقها في البقاء يسقط، ويجب أن تجد الصدود الذي يؤدي إلى سقوطها.
والصحافة في يد الكاتب الصحفي العظيم ترتفع إلى مقام الأدب، بحيث تهدف في أخبارها ومقالاتها وسائر وسائلها إلى الإنسانية، فلا تدعو إلى البغض، ولا تحرك حوافز الحرب، ولا تقول بتعصب عنصري أو ديني، ولا تغري القراء بمخاطبة غرائزهم السفلى.
ولكن هناك رذائل كثيرًا ما يقع فيها الصحفي أو بالأحرى ينزلق إليها؛ فإنه — لحرصه على أن يصل إلى أكبر عدد من القراء — يميل بسليقته الصحفية إلى أن يقول ما يرضيهم ويتجنب ما يكرهون من الأخبار، بل هو قد يسرف في هذا الاتجاه حتى ليتملق الجماهير، فيطبخ الأخبار الكاذبة وينشرها كما لو كانت حقائق، وهنا الضرر العظيم.
وبكلمة أخرى نقول إن هذا الصحفي، بدلًا من أن يربي الجماهير، ويرتفع بهم، ويصلح نفوسهم ويرشدهم، بدلًا من هذا يعمد إلى تملقهم ويكذب عليهم ويضللهم.
وقد رأينا كثيرًا من هذا التضليل في الصحف المصرية في السنوات القليلة الماضية، فإني ما زلت أذكر تلك الأضاليل التي كانت تُنشر على القراء في صحف يومية كبيرة بشأن الحرب بين إيطاليا وإثيوبيا قبل الحرب الكبرى الثانية؛ فإن بعض الصحفيين أحسوا بأن جمهورنا يستنكر العدوان الإيطالي — أيام موسوليني — على هذه الدولة الصغيرة، وكان بالطبع يحزن لكل خبر يصدم إحساسه وحبه لإثيوبيا؛ وعندئذٍ شرعت بعض الصحف تغذو هذا الإحساس بأكاذيب مخترعة تقول فيها إن الإثيوبيين قد هزموا الإيطاليين، وإن عدد القتلى من الإيطاليين يُعَدُّ بالمئات والألوف بينما عدد القتلى من الإثيوبيين لا يزيد على الآحاد والعشرات، وكان القراء المساكين يصدقون هذا القول وينخدعون.
وبالطبع كان هناك من القراء من يعرف أن دولة عصرية، بل فاشية حربية، مثل إيطاليا لها من الطائرات والدبابات ووسائل النقل والقنابل والجنود المنظمين، لا يمكن أن تنهزم أمام دولة بدائية لا تزال تفهم الشجاعة والانتصار على أنهما يقتضيان المهارة في الفروسية، كما كانت الحال في إثيوبيا حوالي ١٩٣٦، حتى ولو كانت إثيوبيا على حق وإيطاليا على باطل، ثم جاءت النهاية المحزنة بالهزيمة المنكرة التي أدهشت القراء الواهمين المخدوعين، وكان يجب على هذه الصحف التي تملقت الجماهير وخادعتها أن تصرح بالحقائق، وأن تنذر وتحذر وتوضح العبرة لنا من الهجوم الإيطالي على إثيوبيا، وأعظم العبر لنا في مصر من هذه الحرب أن الشجاعة والوطنية والفروسية والتضحية ليست لها قيمة كبيرة في الحروب العصرية، إزاء الاستعداد بالطائرات والدبابات والمدافع والأساطيل وإيجاد المصانع التي تصنع هذه الأسلحة والأعتدة، بحيث لا تحتاج الدولة المحارِبة إلى أن «تتسول» وتتضرع في أسواق العالم كي تشتري ما تحتاج إليه منها، وقد تتعرض للرفض.
وحدث بعد ذلك شيء قريب من هذا، ولكنه كان أكبر خطورة علينا، ذلك أننا في عام ١٩٤٨، عندما دَفَعَنَا فاروق المجرم إلى حرب فلسطين بلا أدنى استعداد، ودون أن يستشير حتى وزراء الدولة وقتئذٍ، ولا نذكر البرلمان، وعندما انهزمنا في هذه الحرب، بقيت الصحف توهِم الجمهور أننا منتصرون، واتفقت على أن تصف إسرائيل بأنها الدولة «المزعومة»؛ أي إنها بدلًا من أن تصارح الجمهور بالحقائق، وأن توضح لنا أننا انهزمنا لأننا كنا غير مستعدين للحرب، وأن فاروق وطغمته الفاسقة كانت تتجر بالأسلحة الفاسدة وتسلمها لأبنائنا فيُقْتَلُونَ، أصرت على أن توهم الجمهور بأننا انتصرنا.
أعلن فاروق الحرب على إسرائيل دون أن يستشير الوزراء أو البرلمان، وكان هذا الإجراء وحده يكفي لخلعه أو محاكمته والحكم عليه بالإعدام، فقد زج بنا هذا الوغد في حرب ونحن على غير استعداد، وإنما كنَّا على غير استعداد لأنه هو؛ أي فاروق وطغمته، كانوا يتجرون بشراء الأسلحة الفاسدة ويفسقون، وكانوا مطمئنين إلى هذا السلوك لأنهم لم يجدوا الصحفيين أو الكتاب الذين يجرءون على أن يقولوا لهم: قفوا. بل أكثر من ذلك، فإن فاروق وجد كُتَّابًا وأدباء يمدحونه ويرفعونه إلى السماء.
هذه الرذيلة، رذيلة الصحفي أو الكاتب حين يخدع الجمهور ويكذب عليه ويضلله، هي أسوأ الرذائل الصحفية والأدبية؛ لأن الصحافة تغدو عندئذٍ وسيلة لنشر الأوهام والجهالات بدلًا من نشر المعارف والأخبار.
وقد عادت الصحف المصرية — وأعني بعضها — إلى مثل هذه الأكاذيب في معركة القنال، حين شرعنا نضيق على الإنجليز المحتلين حتى نضطرهم إلى الجلاء عن بلادنا، ولم نكن في حاجة إلى أن نخترع الأكاذيب؛ فإن الشعب أبدى من الشجاعة ما يتجاوز الوصف، ولو أن الإنجليز كانوا يقتلون منا عشرة أو مئة إزاء جندي إنجليزي واحد نقتله نحن لكان لنا الفخر والمجد، ولأننا كنا عُزَّلًا أو نكاد نكون كذلك إزاء قوات قد أُعِدَّتْ ودُرِّبَتْ لسفك الدم في كل مكان في هذه الدنيا التي كابدت وما تزال تكابد كوارث الإنسانية في الإمبراطورية البريطانية.
فقد نشرت صحيفة يومية كبرى في ٢١ من نوفمبر من ١٩٥١، أن الفدائيين المصريين قتلوا ٨٢ بريطانيًّا، وكانت كاذبة مضللة لأن جميع من قتلناهم في معركة القنال في ثلاثة شهور لم يزد على ١١ جنديَّا.
وكتبت هذه الصحيفة نفسها في اليوم التالي، أي ٢٢ نوفمبر، تقول إن الفدائيين المصريين قد درَّبوا الأفاعي على الهجوم على الإنجليز؛ بل دربوا القطط.
وكان هذا قمة التهتك الذي تبلغه صحيفة في التضليل بالجمهور، وهو لا يقل عما سبق أن ذكرته الصحف بشأن الجمل الذي فر من مجزر مصر القديمة، ومازال يعدو حتى وصل قصر عابدين يستغيث بفاروق فأغاثه. وأنشأ أحد «الشعراء» من أعضاء مجمع اللغة العربية قصيدة يشيد فيها بعظمة فاروق، ويذكر هذا الحادث دليلًا ناصعًا على هذه العظمة.
أي تضليل أكبر من هذا للجمهور المصري مما كتبه هؤلاء الصحفيون والأدباء؟
وأعجب من هذا كله أنه في الوقت الذي كان بعض الصحف يشيد بما يقوم به الفدائيون المصريون من ألوان الشجاعة والتضحية في مكافحة الجنود الإنجليز في القنال، كان وزير الداخلية فؤاد سراج الدين يلقي القبض عليهم وينقلهم إلى القاهرة.
لقد كان التضليل عظيمًا، ودَفَعْنَا ثمنَه بعد ذلك غاليًا، بل غاليًا جدًّا، في يوم ٢٦ يناير من ١٩٥٢ عندما حُرِقَتْ مدينة القاهرة.