الكفاح في صحيفة اللواء
أكاد أقول إن كل صحيفة ليس لها كفاح معين تفقد حقها في البقاء، ولست أنكر أن للخبر — محض الخبز بلا توجيه — قيمة تربوية كبيرة، ولكن شرور الدنيا كثيرة، والجريدة التي تقنع بالوقوف منها موقف المحايدة المتفرج، والتي تقنع بإيراد الأخبار فحسب، هذه الجريدة توحي إلى قرائها حيادًا ذهنيًّا وفلسفيًّا يؤذيهم في حياتهم ويجعلها منفصلين من شئون الدنيا ومشكلاتها.
فما بالك إذن بصحافة تحايد وتتفرج على مصر وأحداثها في سني كوارثها، منذ شرع الإنجليز يفتكون بروحها وثروتها، ومنذ شرع رجال الخديو الخائن توفيق ينتقمون من الوطنيين الذين انضموا إلى زعيم الشعب أحمد عرابي!
وكيف يستطيع مصري أن يحايد في شأن الاستقلال، أو وثبة سنة ١٩٢٥، أو وثبة إسماعيل صدقي سنة ١٩٣٠، على الدستور؟ إن معنى الحياد هنا هو الرضا بالاستبداد.
والذي نراه في تاريخ الصحافة في مصر أن جميع الصحف التي كافحت المستبدين والمستعمرين ماتت لأنها لم تقوَ على الحياة إزاء الضغط والظلم والتشريد وسائر المظالم التي عومل بها أصحابها.
وأعظم مثال للصحيفة المكافحة في بلادنا هو اللواء الذي أسسه مصطفى كامل وأشرف على تحريره، وكان اللواء صحيفة ودعاية وكفاحًا، اندغمت حياة صاحبه فيه، وكانت حياة الكفاح لاستقلال الوطن، وكان كفاحًا مرًّا انتهي بموت مصطفى كامل وهو دون الثانية والثلاثين، وكان موته أقرب إلى القتل العنيف منه إلى الموت الهادئ، لفرط ما كابد من مرارة هذا الكفاح.
ظهر اللواء في ١٩٠٠ فكان منبرًا نقرأ فيه كل يوم خطبة بقلم مصطفى كامل بشأن الاستقلال، ولم يكن الشعب يقرأ هذه الخطبة اليومية، وإنما كان يتلقنها، ويتحفظ معانيها، ويتأمل مستقبله إزاء هذه المعاني، فكان منها بعث الوعي الوطني.
وعندي أن هذه الأدوار المختلفة والأدواء المتنوعة دالة كلها على شدة حاجة هذه البلاد إلى مجلس نيابي تكون له السلطة التشريعية الكبرى، فلا يُسَنُّ قانون بغير إرادته، ولا تحور مادة إلا بمشيئته، ولا يزعزع نظام بغير أمره، ولا تعلو كلمة على كلمته، وإلا فإن بقاء السلطة المطلقة في يد رجل واحد سواء كان مصريًّا أو أجنبيًّا يضر بالبلاد كثيرًا ويجر عليها الوبال.
لعل قراء اللواء وغيرهم من أفراد الأمة المصرية يذكرون ما قلناه من فوق المنابر وكتبناه في هذه الجريدة وغيرها عن وجوب إنشاء مجلس نيابي منذ عشر سنوات كاملات، ويسرهم كما سرنا أن هذا المطلب العزيز صار على ألسنة الكثيرين من أهل القطر، لأنه الأنشودة التي يجب أن يترنم بها المصريون بعد طلب الاستقلال، وسواء كان سابقًا أو لاحقًا لتخلص البلاد من رق الاحتلال؛ فإنه الضمانة الوحيدة والكفالة الصحيحة لسلامة القوانين والحرية الخاصة والعامة.
ليس للاحتلال مصلحة في إيجاد مجلس نيابي لهذه البلاد، ولكن صوت الأمة يعلو على صوته إذا تمسكت به ودعت إليه وطالبت وجاهدت بقوة الرأي والفكر والثبات التي هي أكبر القوى الفعالة في حياة الأمم، فلتفعل؛ فإنما هي تخطو بالوصول إليه أكبر خطوة في طريق الاستقلال.
وكانت الدعوة إلى الحكم النيابي — مع احتلال الانجليز لبلادنا — لا تنقص في قيمتها عن الدعوة إلى الاستقلال؛ ولذلك وُجِدَتِ المقاومة من المستعمرين الإنجليز ومن المستبدين المصريين بقيادة الخديو.
انظر إلى الشعوب التي أصابها ما أصاب شعبك، تجد البولوني وقد مُزِّقَ وطنه وعلت فيه كلمة دولٍ ثلاث، يجد ويعمل مفكرًا كل يوم بل كل لحظة «بولونيا» يذكر تاريخها ويبكي أيامها الخالية، ويربي ابنه على حبها والتمسك بحقوقها، والفنلندي وقد لبس هو وبقية أفراد أمته ثياب الحداد يوم قررت روسيا ضم جيش فنلندا لجيشها، وهو محو بقية استقلال هذه الأمة، والأيرلندي وقد عارض إنجلترا في ضغطها على بلاده وسلبها لحقوقه، واستمر يعارض ويجاهد حتى حملها على تجريد اللوردات عن أملاكهم بثمن بخسٍ ورَدِّ الأراضي الأيرلندية إلى أصحابها الأصليين.
وانظر إلى غيرهم وغيرهم، لتعلم أن الأمم، كبيرة كانت أو صغيرة، حاكمة أو محكومة، لا تسمو فيها الأخلاق والصفات، ولا ينشأ بينها رجال الفكر العالي والعمل الكبير إلا بالشعور الوطني؛ فكل عامل على إطفاء نوره محارب لأمته وقومه وذويه، وكل داعٍ إليه مُجِدٌّ في سبيل الحياة القومية الصحيحة والرقي الخالد.
مما لا يرتاب فيه إنسان أن الأمة المصرية أدركت في الزمان حقيقة المركز الذي يجب أن يكون لها بين الأمم، وأبلغ الأدلة على ذلك نهضتها في مسألة التعليم، وقيام عظمائها وكبرائها وأغنيائها بفتح المدارس وتأسيس دور للعلم بأموالهم ومجهوداتهم، ولكن قد آن لهم أن يفكروا في الوقت الحاضر في عمل جديد، الأمة في أشد الحاجة إليه، ألا وهو إنشاء جامعة للأمة بأموال الأمة.
وجاءت حادثة دنشواي ١٩٠٦ فهبَّت صحيفة اللواء تناشد الشعب أن يتنبَّه لهذه المأساة، ولم يكتفِ عندئذ مصطفى كامل الصحفي المكافح الأول في مصر بجريدة اللواء، بل سافر إلى أوروبا وجعل يخطب وينبِّه الإنجليز والفرنسيين إلى فضائح الحكم البريطاني في مصر، وينشر عليهم التفاصيل المسهبة عن التوحش الذي عومل به سكان دنشواي.
وكان من أثر هذه الحملات الصحفية والخطابية لمصطفى كامل أن تنبه الشعب إلى وعي وطني قوي لم يجد الإنجليز إزاءه إلا أن يقيلوا كرومر المعتمد البريطاني في القاهرة، فأقيل في صورة استقالة.
إن حياة جريدة اللواء هي حياة الشرف والتضحية لخدمة الشعب المصري، بل هي أعظم مثال للصحيفة الهادفة المكافحة.