الاستجابة البيولوجية
يتناول هذا الفصل ظواهر الضوء الأبيض والضوء الملوَّن وتأثيرها على الكائنات الحية. يقول ريتشارد جيه وورتمان: «يبدو واضحًا أن الضوء هو أهم عامل بيئي، بعد الغذاء، في التحكم في وظائف الجسم.» دعوني أتطرق إلى التأثيرات البيولوجية للضوء من خلال التعليق أولًا على الأشكال الأخرى للطاقة الكهرومغناطيسية. إذا بدت الفقرات القليلة التالية أكاديمية بالنسبة للقارئ المثقف، فسامحوني من فضلكم.
المدى الكامل للطاقة الكهرومغناطيسية، وفيها الضوء المرئي والضوء الملون، مدًى هائل. تسافر كل هذه الطاقة بسرعة تقدر بحوالي ١٨٦ ألف ميل في الثانية، وفقًا لقياس ألبرت ميكلسون لها منذ عقود عدة مضت. وعلى الرغم من ثبات السرعة، فإن أطوال موجات الطاقة تختلف باختلاف قياسها من قشرة إلى أخرى، وعلى الرغم من أن قياسات تلك الموجات تتراوح ما بين عدة آلاف قدم عند أحد طرفي الطيف الكهرومغناطيسي وأجزاء متناهية الصغر من البوصة عند الطرف الآخر، فإن المجتمع العلمي راضٍ إلى حدٍّ كبير عن دقة الأرقام.
(١) تحت الضوء المرئي
تستخدم الموجات الطويلة في الاتصال اللاسلكي، بعد أن اخترعه جولييلمو ماركوني في مطلع القرن العشرين، وتستخدم تلك الموجات في الاتصالات الطويلة المسافة. وقد نقل ماركوني الإشارات لأول مرة عبر المحيط الأطلنطي في عام ١٩٠١. ومثَّل ذلك بداية عالم هائل من الاتصالات «اللاسلكية» التي تخدم اليوم أغراضًا ضرورية في الحياة العصرية. وحصل ماركوني على جائزة نوبل في عام ١٩٠٩. وثاني أطول الموجات الكهرومغناطيسية هي موجات الحث الحرارية التي تُستخدم في رفع درجات الحرارة من أجل تصليد المعادن.
تحتل موجات البث التجاري (إيه إم: تضمين السعة) المرتبة الثالثة، وتتمتع هذه الموجات بالقدرة على الانعكاس من طبقة الأيونوسفير؛ ومن ثَمَّ السفرِ حول الأرض. وتستخدم نطاقات الموجات القصيرة في البث العام، وفي سيارات الشرطة، وسيارات الأجرة، وفي الاتصالات اللاسلكية في النطاق المدني التي ظهرت في سبعينيات القرن العشرين. أما الموجات المستخدمة في الإنفاذ الحراري؛ وهي الموجات القادرة على توليد الحرارة عبر أقطاب كهربائية مثبتة بجسم الإنسان لتخفيف التهاب المفاصل وألم الأعصاب؛ فهي الأقصر بين هذه الموجات.
ويُنقل بث راديو إف إم (تضمين التردد) والتليفزيون والرادار عندما تصبح الموجات أقصر. ولأن هذه الطاقة تخترق طبقة الأيونوسفير، فإنها لا تنعكس إلى الأرض. ورغم ذلك، فمن خلال إطلاق أقمار صناعية فوق الأرض، يمكن استخدام تلك المحطات الموجودة في السماء كمرايا كي تعكس هذه الموجات مرة أخرى. وتستخدم أبراج الموجات الدقيقة (الميكروويف) التي نراها في كل أنحاء المعمورة لنقل الرسائل من نقطة إلى أخرى في خطوط مستقيمة.
وتخترق الأشعة تحت الحمراء الغلاف الجوي الثقيل. وبالاستعانة بكاميرات حساسة لهذه الطاقة سوف تُلتقط صور للكون، لكنها غير مرئية للعين البشرية. ويمكن تسليط هذه الأشعة مثل البندقية لالتقاط أي شيء يشع حرارة، مثل أجسام جنود العدو (أو بقر الريف). أما الحرارة الإشعاعية المنبعثة من المشعات ومصابيح الأشعة تحت الحمراء فلها موجات تحت الضوء المرئي بكثير.
(٢) فوق الضوء المرئي
يتراوح نطاق المنطقة المرئية من طيف الموجات الكهرومغناطيسية ما بين الأحمر والبرتقالي والأصفر والأخضر والأزرق والبنفسجي، وتتلاشى عند الأشعة فوق البنفسجية الطويلة الموجة. وقد ركز العلماء الأشعة ذات الضوء المرئي الموحد (غالبًا الحمراء) في شعاع الليزر واستخدموها في تسليطها على القمر، وإنشاء قنوات اتصال، وقطع المعادن، وعمل ثقوب في قطع الماس، وإصلاح انفصال الشبكية في العين البشرية، بالإضافة إلى قائمة من الأمور المذهلة الأخرى التي تتزايد باستمرار. وأصبحت أشعة الليزر أيضًا جزءًا من التقنية الحديثة المسماة بالتصوير التجسيمي، الذي يخلق صورًا ثلاثية الأبعاد دون استخدام طرق التصوير الفوتوغرافي التقليدية.
تنتج موجات الأشعة فوق البنفسجية الطويلة الفلورة في كثير من المواد، وتستخدم في مصباح الفلورسنت الحديث. والموجات فوق البنفسجية ذات الطول الموجي المتوسط تسفع الجلد (ويمكن أن تؤدي زيادة التعرُّض لها إلى الإصابة بالسرطان)، وتساعد في إفراز فيتامين د، وعلاوة على ذلك فإن إشعاع الأشعة فوق البنفسجية الأقصر طولًا يقتل الجراثيم، ويعقم المواد الصلبة والماء والهواء.
تُستخدم الأشعة الحدية أو الأشعة السينية «اللينة» في علاج بعض الأمراض الجلدية، وتُستخدم الأشعة السينية ذات الطول الموجي القصير في أغراض التشخيص، في حين أن الأشعة السينية «الصلبة» تُستخدم لعلاج الأورام والسرطانات العميقة داخل جسم الإنسان. وتُستخدم أشعة جاما، التي اكتشفها بيير وماري كوري في عام ١٨٩٨، في علاج الكثير من أنواع السرطان المُميتة. أما انبعاثات الانشطار النووي المرتبط بالقنبلة الذرية، وقصف نواة الذرة، والمفاعل النووي، فما زالت أقصر من نظائرها، وأما الأشعة الأقصر طولًا موجيًّا بين كل الموجات، فهي الأشعة الكونية المنتشرة في الكون، وهي بمنزلة اللغز.
(٣) مخاطر الطاقة الكهرومغناطيسية
لو كانت كل موجات الطاقة الكهرومغناطيسية مرئية للعين البشرية، لبدت وكأنها عاصفة ثلجية مسببة للعمى مُتَّجهة صوب الإنسان من كل الاتجاهات. إذن ما المخاطر التي تنطوي عليها تلك الطاقة؟ إن الإنسان مدرك للغاية لأخطار التعرض الزائد للطاقة النووية، ولإشعاع الراديوم والأشعة السينية، والأشعة فوق البنفسجية الزائدة عن الحد. كما أن المفاعلات النووية معرضة باستمرار للهجوم العام. ووقوع حوادث في تلك الأماكن من الممكن أن يؤدي بالفعل إلى نتائج كارثية، لكن ماذا عن الطاقة التي يُفترض أنها غير ضارة؟ إن أجهزة التليفزيون الملوَّن تبعث إشعاعًا غير مرغوب فيه، واليوم أصبح مطلوبًا من الناحية القانونية أن تزود تلك الأجهزة بدروع حماية على نحو مناسب. ويمكنك الشعور بهذه الطاقة عند وضع يدك بالقرب من شاشة التليفزيون. كما خضعت أفران الميكروويف أيضًا للرقابة، ولا بد أن تزوَّد بدرع حماية. وكما قال أحد مهندسي الإلكترونيات المتشككين بلهجة تحذيرية: «إن أفضل طريق لإعداد الطعام هو وضعه في الفرن، وغلق باب الفرن وتشغيله، والخروج مسرعًا من المطبخ!»
يتعرض الناس عادةً للإشعاع من أجهزة التليفزيون، ومن وسائل البث اللاسلكي باستخدام نظام تضمين السعة ونظام تضمين التردد، ومن أبراج الإرسال التليفوني، ومن أنظمة الاتصالات اللاسلكية والرادار المستخدمة في الشرطة وإذاعات النشرة الجوية وإذاعات المطارات، والإذاعات ذات النطاق المدني، والمحركات الكهربائية، والمولدات الكهربائية، وخطوط نقل البيانات العالية القوة، ولا داعي لذكر المخاطر المعروفة جيدًا. كتب جون أوط في كتابه «الصحة والضوء» فقال: «وردتنا تقارير أيضًا من مقاطعة مانيتوبا في كندا تفيد بأن قطعان الأبقار الحلوب الموجودة على مسافة ميلين من أبراج الإرسال التليفوني المعتمدة على موجات الميكروويف؛ قد انخفض إنتاجها من الحليب انخفاضًا كبيرًا، بالإضافة إلى الدواجن التي أصبحت تنتج جزءًا قليلًا من إنتاجها المعتاد من البيض، فضلًا عن إصابة أسراب من الدجاج بحالة هياج هستيري مفاجئ لم يُستدل على سببه.»
تطل علينا الأخبار اليوم بمقالات تتحدث عن المخاطر المتعلقة باستنزاف الأكسجين في طبقة الأوزون الموجودة في الغلاف الجوي للأرض؛ تلك الطبقة التي تمتص بكفاءة إشعاع الأشعة فوق البنفسجية المميت. وتقول تلك المقالات إن الطائرات التي تتجاوز سرعتها سرعة الصوت، والغاز المنبعث من رشاشات الأيروسول، وكذلك تجارب القنابل الذرية تستنزف الأكسجين. وإذا زادت نسبة وصول الأشعة فوق البنفسجية إلى الأرض، فسوف تتدمر الكثير من أشكال الحياة النباتية والحيوانية، وسوف يحتاج الإنسان إلى حماية مناسبة من تلك الأشعة. أما الآثار البيولوجية لمصادر الإضاءة الصناعية (سوف نتحدث عنها بمزيد من الاستفاضة في الفصل القادم)، فتُمثِّل مصدر قلق أقل تهديدًا من غيره. وقد كثر الحديث عن «التلوث الضوئي»، ويقصد به غياب الضوء المتوازن أو ضوء الطيف الكامل. وتوجد أسباب وجيهة تجعل الإنسان ينظر بعين الريبة لوسائل الإضاءة التي لا ترقى للمصادر الطبيعية، المتمثلة في ضوء الشمس، أو ضوء السماء المتمثل في النجوم والقمر. وسوف أشدد على هذه النقطة في الصفحات القادمة. سوف أناقش أهمية الألوان للنباتات والحشرات والأسماك والطيور والحيوانات والبشر.
(٤) النباتات
أُجري عددٌ كبيرٌ من الأبحاث حول تأثيرات الألوان على الحياة النباتية. وكان من ضمن الباحثين البارزين في هذا المجال إتش إيه بورثويك؛ من وزارة الزراعة الأمريكية، وستيوارت دون؛ من جامعة نيو هامبشاير، وآر فان دير فين وجيه مايور؛ من معامل أبحاث فيليبس في هولندا. لاحظ بورثويك وجود عداء بين الضوء الأحمر المرئي والأشعة تحت الحمراء غير المرئية؛ فالضوء الأحمر يؤدي إلى تبرعم بذرة الخس على سبيل المثال، في حين أن الأشعة تحت الحمراء تؤدي إلى موت البراعم. وبالمثل، يثبط الضوء الأحمر إزهار نباتات النهار القصير، ويدعم إزهار نباتات النهار الطويل. وقال فان دير فين ومايور إن النباتات تمتص الضوء الأحمر امتصاصًا فائقًا؛ ومِن ثَمَّ يَحدُث نموٌ للنباتات على النحو الأكمل. وكان للضوء الأزرق تأثيرات مشابهة، لكن نشاط النباتات ظل حياديًّا أو انخفض مع الضوء الأصفر والضوء الأخضر، ودمرت الأشعة فوق البنفسجية النبات.
الغريب في الأمر أن النباتات سجَّلت أعلى استجابة للضوء الأحمر والضوء الأزرق، وكانت غير نشطة مع الضوء الأصفر والضوء الأخضر المصفر. أما العين البشرية، فتجد أعلى حساسية (قدرة على الرؤية) مع الضوء الأصفر والضوء الأخضر المصفر. وفي صوبة زجاجية ذات ضوء صناعي ضعيف، تكون الإضاءة الخضراء «آمنة» للنباتات؛ لأن استجابة النبات لها إن وُجدت فإنها ستكون قليلة. ويقول فان دير فين ومايو إن تأثير هذا الضوء على عالم فسيولوجيا النبات «يشبه تأثير الضوء الأحمر الياقوتي على مصور فوتوغرافي.»
وفي رسالة إلى المؤلف، ناقش ستيوارت دون؛ الباحث في مختبرات فسيولوجيا النباتات بجامعة نيو هامبشاير، نمو شتلات الطماطم فقال: «كان الإنتاج الصادر عن ضوء المصابيح البيضاء الدافئة هو الأعلى بين كل مصابيح الفلورسنت المتاحة في الأسواق. واحتل المرتبة التالية إنتاج المصابيح الزرقاء والوردية. وكانت إنتاجية المصابيح الخضراء والحمراء منخفضة. حققت المصابيح الحمراء التجريبية «العالية الشدة الضوئية» أعلى إنتاج بين كل المصابيح. أما نمو الساق (الاستطالة)، فيزيد زيادة كبيرة في وجود الجزء الأصفر من الطيف الضوئي …» لكن «العصارة تزيد عن طريق الموجات الضوئية الطويلة (الأحمر)، وتقل عن طريق الضوء الأزرق.»
ويمكن التعجيل بتفتح زهور الأقحوان من خلال تغطية النباتات بقطعة قماش لجزء من النهار لتقليل طول تعرضها للضوء، ويمكن التحكم في الأوراق الملونة لزهرة بنت القنصل (البوينسيتيا) على نحوٍ مشابهٍ من خلال زيادة ساعات إضافية من التعرُّض للضوء في أوقات معينة. واقتباسًا من مقالة لفيكتور إيه جرولياك: «تتضمن الأنواع الشائعة من نباتات النهار القصير كلًّا من الأزهار النجمية، وعشبة الخنازير، وزهور الداليا، والقسموس، وزهرة بنت القنصل، والأقحوان، والسرو المتسلق، والكبوسين أبو خنجر، وفول الصويا، والتبغ، وكل أزهار بداية فصل الربيع؛ مثل البنفسج وزهور الدموية (جذر الدم). ومعظم خضراوات الحدائق ومحاصيل المزارع تنتمي لنباتات النهار الطويل. وينمو القمح على نحو سريع عند زيادة ساعات النهار. وباستخدام الضوء الكهربائي لزيادة طول النهار، نمتْ ثلاثة أجيال من القمح في سنة واحدة. إن ساعات النهار الطويلة للغاية في صيف ولاية ألاسكا مسئولة إلى حد كبير عن زيادة محاصيل القش والقمح والبطاطس والخضراوات التي تنمو في ألاسكا. وفي المقام الأول، تتسبب زيادة طول ساعات النهار في الجزء الشمالي من وادي سنترال فالي في ولاية كاليفورنيا في نضج البرتقال في تلك المنطقة؛ ليصبح جاهزًا لغزو الأسواق قبل أسابيع عدة من محصول البرتقال الذي ينمو على بعد أربعمائة ميل في النصف الآخر من الوادي في أقصى الجنوب.
نعتقد عادةً أن النباتات الدائمة الإزهار أو النباتات الدائمة الإثمار هي أنواع خاصة بأصناف مثل الورد أو الفراولة، لكن كثيرًا من النباتات يمكن أن تصبح دائمة الإزهار عندما نجعل طول ساعات النهار ضمن نطاق الإزهار الطبيعي. وهذا النطاق ضيق نسبيًّا بالنسبة لمعظم النباتات؛ ولذلك تقل النباتات الدائمة الإزهار في المناطق معتدلة المناخ التي تتغير فيها باستمرار مدة النهار. أما في المناطق الاستوائية التي تصل فيها ساعات النهار إلى اثنتي عشرة ساعة، أو ما يقرب من ذلك طوال السنة، فنجد أن النباتات دائمة الإزهار هي القاعدة وليست الاستثناء، تمامًا كما قد تتوقع.»
إذا كانت الدورات الطبيعية لتعاقب الليل والنهار ليست مضبوطة وفقًا لاحتياجات النبات، فقد تحدث المشاكل، وقد قال جون أوط عن نبات بنت القنصل (البوينسيتيا): «سمعت قصة من هونولولو تفيد بأن غرفة التجارة هناك وقعت في صعوبة عندما حاولت تشغيل مصابيح الضوء الغامر على بعض زهور البوينسيتيا في إحدى الحدائق. ومن المعروف أيضًا أن وجود ضوء الشارع على مقربة شديدة من إحدى صوب البوينسيتيا سوف يسبب كافة أنواع مشاكل الإزهار للنبات.»
من المعروف أن مصابيح إنارة الشوارع تسبب الموت المبكر للشجر، وقد يكون سبب ذلك أنها تحث الشجرة على البدء في نمو غير طبيعي. وأضاف أوط بعض القصص العجيبة عن النباتات والضوء فقال: «ومن المثير أن تضع نبات الشمعية الذي يتفتح ليلًا ونبات الصبار الذي يتفتح نهارًا جنبًا إلى جنب داخل خزانة مظلمة تمامًا، وتلاحظ أن النبات الليلي يتفتح في وقت الليل ثم يغلق خلال وقت النهار، بينما النبات النهاري يستجيب على نحو معاكس، بغض النظر عما إذا كان المصباح المتوهج العادي موقدًا أم مُطفأً. ومن الأمثلة الجيدة الأخرى: الطريقة التي يبسط فيها نبات المستحيَّة أوراقه ويخفض فروعه ليلًا، ثم يستعيد وضعيته النهارية عند شروق الشمس في الصباح التالي. وإذا وضعت نبتة المستحية في خزانة مظلمة خلال فترة النهار، فإن أوراقها تظل متفتحة في وضعية وقت النهار حتى تغرب الشمس خارج الخزانة. وسوف تستأنف النبتة وضعيتها النهارية عندما تشرق الشمس حتى لو ظلت داخل الخزانة المظلمة.» وهذا يجعل المرء يتساءل عن السحر الكامن وراء تلك الظواهر!
وفي فرنسا، أدى تعريض البطاطس للضوء الأحمر إلى تحفيز الإنبات، وحققت غلات المحاصيل نِسَبًا مُرْضية. وعلى نحو سريع، أصبحت زراعة النباتات الزهرية في ظل إضاءة صناعية كاملةٍ هوايةً قومية في الولايات المتحدة؛ ما جعل لغز وسحر الألوان أكثر إثارة للرجل العادي.
(٥) الحشرات
كثير من الحشرات إحساسها بالألوان ضعيف؛ فهي غير حساسة للون الأحمر، لكنها حساسة للون الأصفر والأخضر والأزرق والبنفسجي، وكذلك اللون فوق البنفسجي غير المرئي للإنسان. واختبرت مجموعة من الباحثين هم: إتش بي وايس، وإف إيه سوروسي، وإي إي ماكوي الابن، ما يقرب من ٤٥٠٠ حشرة، معظمها من الخنافس، ووجدوا أن ٧٢ بالمائة من الحشرات استجابت بإيجابية لبعض الأطوال الموجية، بينما استجابت نسبة ٣٣ بالمائة للأخضر المصفر، واستجابت نسبة ١٤ بالمائة للأزرق البنفسجي، واستجابت نسبة ١١ بالمائة للأزرق، واستجابت نسبة ١١ بالمائة للون فوق البنفسجي. وأظهر عدد قليل من الحشرات بعض الانجذاب إلى الألوان الدافئة؛ «ولذلك يبدو عمومًا أن الأطوال الموجية الأقصر للضوء أكثر تحفيزًا وجاذبية، في حين أن الأطوال الموجية الأطول أقل تحفيزًا إلى قدرٍ كبير، وربما منفرة بطبيعتها لأشكال الحياة من رتبة غمديات الأجنحة [الخنافس].»
تستطيع الحشرات أيضًا رؤية الأشعة فوق البنفسجية ورؤية ترددات تقترب من الأشعة السينية. ووجد فون فريش أن النحل يستطيع رؤية الفرق بين الأزرق والرمادي إذا كانا على نفس الدرجة من السطوع، لكنه تشوش عند إجراء الاختبار نفسه مع اللون الأحمر. وليست الحشرات وحدها التي لديها نطاق رؤية للألوان مختلف عن نطاق الطيور أو الإنسان، بل الزهور أيضًا قد يختلف مظهرها بالنسبة لها؛ فبعض الأزهار (مثل البقلة الحمراء) تعكس الأشعة فوق البنفسجية، بينما الزهور الأخرى (مثل الزينية الحمراء) لا تعكسها. علاوة على ذلك، فالأشكال الموجودة على أجنحة بعض الفراشات والعثث سيكون تكوينها مختلفًا تحت ضوء النهار الطبيعي عنه تحت الأشعة فوق البنفسجية.
إن المصابيح الكهربائية الصفراء التي تروج دعائيًّا على أنها طاردة للحشرات هي في الحقيقة مجرد مصابيح لا تحتوي على عامل جذب الحشرات، بينما تعد الأشعة فوق البنفسجية مصدر إغراء حاسمًا. ويبدو أن البعوض ينفر من الألوان الفاتحة وينجذب إلى الألوان القاتمة. وعند تبطين بعض العلب بقماش رقيق باللون الأزرق الكحلي والوردي والأصفر، تجمَّع قدرٌ أكبر من الحشرات على العلب الزرقاء أكثر من العلب الوردية أو الصفراء.
(٦) الأسماك
قال جوردون لين وولز في كتاب «عيون الفقاريات»: «لا يعرف عن أي سمكة عدم امتلاكها القدرة على رؤية الألوان.» واستنتج أيضًا أن: «الأسماك عمومًا تبدو إما كارهة للون الأحمر وإما مفضلة له على نحو حاسم.» في الماء يُمتص الإشعاع الأحمر سريعًا، بينما الأشعة الزرقاء وفوق البنفسجية لا يتم امتصاصها.
درس جون أوط؛ الباحث في معهد أبحاث الصحة البيئية والضوء، أنواعًا أعلى من الأحياء البحرية، ولاحظ تأثيرات الأطوال الموجية المختلفة وشدة الضوء على الأسماك الاستوائية؛ فالأسماك الصغيرة التي أنتجت في ظل إضاءة فلورسنت وردية بلغت نسبة الإناث فيها ٨٠ بالمائة، وبلغت نسبة الذكور فيها ٢٠ بالمائة، ولم تنتج أي صغار في ظل الضوء الفلورسنت الأزرق، بل إن كميات الضوء الضعيفة للغاية تؤثر على التطور الطبيعي للسمك. ويناقش أوط معدل الوفاة في بيض السلمون المرقط في مفرخة ولاية نيويورك، الذي ارتفع فجأةً إلى ٩٠ بالمائة بعد أن كان أقل من ١٠ بالمائة، قائلًا: «أرجع الدكتور ألفريد بيرلموتر — من جامعة نيويورك — السبب إلى تركيب مصابيح فلورسنت ٤٠ واط في السقف، ووجد باحثٌ آخر يدرس سمك تراوت قوس قزح أن المكون البنفسجي والمكون الأزرق للضوء الأبيض أو المرئي لهما تأثير مميت أكثر من تأثير الألوان الخضراء والصفراء والبرتقالية.»
(٧) الطيور
تتميز الطيور برؤية فائقة للألوان لا سيما اللون الأحمر، ويقال إن هجرة الطيور تتأثر بطول مدة النهار. عندما تصبح أيام الصيف أقصر، يستحث الطائرَ شيءٌ داخلَه (ربما من خلال الغدة النخامية) كي يسافر لمناطق أفضل من الناحية المناخية. وقد يحدث هذا حتى عندما تصبح محاصيل الخريف ناضجة، وتكون البذور والحشرات وافرة.
يعرِّض الفلاحون الهولنديون واليابانيون الطيور المغردة لقدر أعلى من الإضاءة لتحفيزها على الغناء. ووجد أحد العلماء الإنجليز أن الزرازير التي تعيش في سيرك بيكاديلي في لندن وما حوله تتزاوج في وقت لا تتزاوج فيه طيور الزرازير الأخرى الموجودة في أكسفورد. وافترض هذا العالم أن السبب وراء ذلك هو ضوء مسارح برودواي. ولزيادة إنتاج بيض الدجاج والبط، يُستخدَم غالبًا مزيدٌ من الإضاءة لإكمال مدة ضوء النهار.
هل يوجد لون منفر للطيور؟ لقد نُثرت حبوب مسمومة في أحد الحقول لقتل الفئران (التي لا ترى الألوان)، وتناولت الطيور تلك الحبوب دون تمييز. ولو كانت الحبوب المسمومة قد صبغت باللون الأخضر ما كان هذا سيشكل أي فارق بالنسبة للفئران، لكن الطيور كانت ستعتبر تلك الحبوب غير ناضجة وتبتعد عنها. وقد فكر البريطانيون في استخدام ملون أرجواني على مدارج الطائرات لتنفير الطيور، وربما لإبعادها.
(٨) الحيوانات
إن طول مدة النهار له تأثيرات مشابهة على الحيوانات، ويقول فريدريك إيلينجر إن مدة ضوء النهار تبدو السمة الأهم من كل السمات في تحفيز أو تثبيط النشاط الجنسي. وفيما يلي ما قاله إيلينجر في كتابه «الأساسيات البيولوجية للعلاج الإشعاعي»، إذ قال إن الخيول والحمير تتزاوج خلال الفصول التي يكون فيها ضوء النهار طويلًا، ويقل نشاطها الجنسي من أكتوبر إلى يناير. وعند تعريض الفرسات إلى إضاءة إضافية خلال شهور الشتاء قد يتأثر نشاط التبويض. وتقل الخصوبة في الماشية والأغنام والخنازير خلال شهور الصيف. وفي هذه الأنواع من الحيوانات السالفة الذكر يقتصر النشاط الجنسي عادةً على فصلي الخريف والشتاء.
ويروي إيلينجر المزيد عن باحث من ألاسكا يدعى دبليو جيه سويتمان: «حصل على تحسن في خصوبة الحيوانات خلال فصل الشتاء من خلال توفير الإضاءة للحيوانات [الأبقار] لمدة ١٤ ساعة يوميًّا، في حين أن ضوء النهار في ذلك الوقت من السنة يستمر فقط لمدة تتراوح ما بين ست وثماني ساعات.» ووجد عالم آخر يدعى إتش جيه فون شومان «أن عدد ساعات ضوء الشمس هو العامل الأهم في تكوين القرون» عند الأيائل. وافترض أن الحيوان يمتص ضوء الشمس من خلال جلده؛ مما يؤدي إلى تكوين فيتامين «د» وتعزيز نمو القرن. وتمكن عالم حيوان يدعى تي إتش بيسونت من تحويل لون حيوانات بنات عِرْس إلى الأبيض في الصيف بدلًا من الشتاء؛ من خلال تنظيم تعرضها لضوء النهار. ونجح أيضًا في جعل الماعز تدر لبنًا في أوقات من العام لا تدر فيها اللبن؛ وذلك من خلال التحكم في تعرضها للضوء.
وفيما يتعلق ﺑ «لون» الضوء، وفقًا لما قاله أوط، فإن الأشخاص الذين يربون الشنشيلات سوف يحصلون على نسبة عالية نسبيًّا من الذكور إذا ظلت الحيوانات معرَّضة لضوء مصباح متوهج (دافئ) عادي، وبالمثل سوف يحصلون على نسبة عالية من الإناث إذا ظلت الحيوانات معرضة لضوء مصباح متوهج (أزرق) يشبه ضوء النهار. إن استخدام مصابيح ضوء النهار الزرقاء أصبح الآن ممارسة تجارية. وربما قد تجد المشكلة الأزلية؛ المتمثلة في تفضيل الأجناس في المواليد من بني البشر، حلًّا بواسطة الضوء الملون!
ويصف أوط دراسة حالة تمثلت في حبس حيوانات المنك خلف نوافذ بلاستيكية مختلفة الألوان. حيوانات المنك عادةً تكون شرسة خلال فترة التزاوج. أصبحت الحيوانات المحبوسة وراء النوافذ ذات اللون الوردي أكثر عدوانية، بينما الحيوانات المحبوسة وراء النوافذ البلاستيكية الزرقاء أصبحت أكثر وداعة، ومن الممكن التعامل معها مثل الحيوانات الأليفة التي تربَّى في المنزل. وأصبحت كل الإناث حوامل بعد التزاوج. أما الاستنتاج التجريبي من هذه الدراسة، فهو أن الإنسان مثل حيوان المنك يبدو أنه يُستثار بالإشعاع الأحمر، ويهدأ تحت تأثير الإشعاع الأزرق.
(٩) البشر
كتب الدكتور توماس آر سي سيسون يقول: «إن الضوء لا يقدم الإنارة فحسب للوجود البشري، لكنه يؤثر تأثيرًا بدنيًّا قويًّا يشمل مكونات كثيرة داخل جسم الإنسان، وبعض العمليات الاستقلابية، وحياة وتوليد الخلايا، وحتى إيقاعات الحياة. إن الضوء موجود في كل مكان، ويمكن استغلاله، وهو ليس حميدًا بالكامل.» وما يدهش كثيرًا من الناس هو أن قدر اختراق الضوء «المرئي» لعضلات وأنسجة الحيوانات والبشر أكبر مما كان يتخيل البشر في السابق. وفي حين أن الأشعة تحت الحمراء تخترق العضلات والأنسجة أيضًا، فإن الأشعة فوق البنفسجية لا تخترق، لكنها تؤثر فقط على الجلد تأثير سطحيًّا (لكنه مميت). ويختتم سيسون كلامه قائلًا: «سوف تنفذ كميات هائلة [من الضوء المرئي] عبر الجلد، ونسيج تحت الجلد، وحتى الأعضاء المركزية، إذا كانت شدة الضوء قوية بما يكفي.» وجعل إي إي وشركاه الضوء يخترق جماجم الأغنام والكلاب والأرانب فوجدوا «أن الضوء يصل إلى الفصوص الصدغية والوطاء في مجموعة أنواع من الثدييات.» والوطاء هو جزء في الدماغ — في قاع الدماغ — يُعتقد أنه يحتوي على مراكز عصبية ذاتية وألياف عصبية ذاتية حيوية تتحكم في وظائف مثل التنفس وحركة القلب والهضم. وعند تأثر الحيوان بالضوء، فإنه يستجيب طبيعيًّا إما بطرق مفضلة، وإما بطرق إيجابية أو سلبية؛ اعتمادًا على احتياجاته. وفي مقال لدورية إندروكرينولوجي (٧٢: ٩٦٢، ١٩٦٣) توصل دبليو إف جانونج وآخرون إلى استنتاج يقول إن: «الضوء البيئي يمكنه اختراق جمجمة الثدييات بقدر يكفي لتحفيز الخلايا الكهروضوئية الموجودة في نسيج الدماغ.» وهذا يعني أن الضوء ضروري لحياة صحية وعادية، وأن الطبيعة طوَّرت طرقًا تؤثر بها على الجسم من خلال أنسجة الجلد والعيون، وحتى الجمجمة نفسها.
(٩-١) تعاقب فترات الضوء والظلام
من المؤكد أن الضوء ضروري للوجود البشري، وكذلك تعاقب الضوء والظلام. وحيث إن الضوء والظلام يسببان تأثيرات فسيولوجية مختلفة في الجسم؛ فدرجة حرارة الجسم، على سبيل المثال، سوف تتغير. وتأثير الضوء قد يحفز إفراز الهرمونات في مجرى الدم، وقد يشعر الأشخاص الذين يسافرون من الغرب إلى الشرق بفترات نعاس، ومتاعب بدنية، واضطراب ذهني. وقد يتطلب السفر إلى الفضاء تعاقب فترات الضوء والظلام في الإضاءة الصناعية للحفاظ على سلامة الجسم البشري. ولا يقتصر الأمر على الضوء فحسب، بل يلزم تنظيم فترات التعرض للضوء.
إذا اضطربت فترات تعاقب النهار والليل، أو طالت على نحو غير معتاد، فقد يتبع ذلك نتائج غريبة. إليكم مثالين على ذلك: قد يتوقف الحيض لدى نساء الإسكيمو خلال ليل القطب الشمالي الطويل، وقد تسكن الشهوة الجنسية عند رجال الإسكيمو أيضًا. هذا الأمر ليس على الإطلاق سمة عرقية ينفرد بها شعب الإسكيمو؛ فهذه التأثيرات نفسها يبدو أنها تحدث لأي شخص يتعرض لتناوب فترات طويلة من ضوء الشمس والظلام. مع بداية الشتاء الطويل في القطب الشمالي تقل الرغبة الجنسية لدى البشر، وتنتعش الرغبة مرة أخرى مع بداية الربيع. وقد تتزوج الفتيات في قبائل جرينلاند الشمالية في سن الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة، لكن قد لا يحدث الطمث إلا بعد بلوغهن سن التاسعة عشرة أو العشرين. وعادةً يولد أطفال الإسكيمو بعد تسعة أشهر من قدوم الربيع وعودة شمس القطب الشمالي.
في مقالة كتبها فرانسيس ويديش بعنوان: «العقل الرنان»، أشار إلى قرية في أمريكا الجنوبية انخفض فيها معدل المواليد بعد تركيب المصابيح الكهربية في القرية. وفي حين أن القرويين ربما وجدوا استخدامات أخرى لساعات الإضاءة الإضافية بخلاف التناسل، فقد كتب الدكتور إدمون ديوان مقالة مثيرة بعنوان: «عن إمكانية تطوير وسيلة تحديد نسل مثالية تعتمد على تناوب فترات التحفيز الضوئي». فمع تشغيل الإضاءة الصناعية الإضافية خلال أيام معينة من الشهر، من المحتمل أن تقل فرصة الإخصاب. ولو كانت المصابيح زرقاء وليست حمراء (حيث يقال إن اللون الأحمر مثير جنسيًّا)، فقد يزيد التحكم في تحديد النسل.
(٩-٢) الحرمان من الضوء
إن انعدام الضوء يؤدي أيضًا إلى نتائج غريبة. المكفوفون، بطبيعة الحال، يستجيبون للضوء من خلال الجلد مثل أي شخص. وقد يعاني عمال المناجم الذين يعملون لفترات طويلة في الظلام أو في بيئة شبه مظلمة من مشاكل في العين، مثل دوران مقلة العين على نحو لا يمكن السيطرة عليه.
وتتحدث مهنة الطب عن حالات التشنج الإيمائي في الأطفال الرضَّع، وتعني هذه الحالة العجز عن النمو. وفي سلسلة من الحالات التي أوردها الدكتور ويليام بي روثني، يتضح أن الضوء، أي ضوء في المطلق، يعد مهمًّا للغاية حتى بالنسبة لحديثي الولادة. وقد دخل المستشفيات عددٌ كبير من الرضع بسبب عدم استجابتهم للرعاية المقدمة في المنزل. وعلى الرغم من أنه في كل الحالات كانت هناك «أدلة على إهمال الوالدين … فإنه عند فحص منازلهم تبين أن كل رضيع من هؤلاء الصغار يقضي معظم وقته، إن لم يكن كل وقته، في بيئة مظلمة»؛ إذ من المحتمل أن تكون الأم منشغلة بمشاهدة التليفزيون أو تفضل الانعزال عن الحياة أو العالم. وفي أي من الحالات، فعند تعريض الصغار للضوء ومنحهم الحب والعطف، استأنفوا الصحة والنمو على نحو طبيعي.
(٩-٣) التعرض للضوء لفترات طويلة
على النقيض مما سبق، فإن التعرض للضوء باستمرار وعلى نحو غير منقطع قد يؤدي أيضًا إلى مشاكل. وقد أجرى البروفيسور تي آر سي سيسون؛ أستاذ طب الأطفال ورئيس معمل أبحاث حديثي الولادة بكلية طب جامعة تمبل في فيلادلفيا، عدة تجارب حول «آثار التعرض المستمر للضوء على التواتر البيولوجي لهرمون النمو البشري في البلازما». ونظرًا لأن الاستجابة المستمرة للضوء يصعب تحملها، حتى بين البالغين وأعينهم مغمضة، فإن مثل هذا التعرض يجعل تكيُّف الأطفال معه أمرًا مستحيلًا. وتمثلت التجربة في تعريض حديثي الولادة لفترات متفاوتة من حيث مدة وشدة الإضاءة. الأطفال، بطبيعة الحال، يكتسبون نظمًا «فوق يومي» عند التعرض للضوء والظلام. واستنتج سيسون أن الإضاءة المستمرة في حضانة المستشفى (تلك الإضاءة الملائمة للممرضات) «إما أنها تمنع أو تدمر النظم اليومي لهرمون النمو البشري في بلازما الدم، الذي يظهر وجوده في الأطفال الحديثي الولادة عند تعرضهم لفترات متعاقبة من الظلام والضوء، كما أنها ترجِّح خطأ الإضاءة المستمرة في الحضانات.»
(٩-٤) تأثيرات الألوان
إن تأثيرات الألوان البيولوجية والبصرية والنفسية يناقشها هذا الكتاب في فصول أخرى. أما سيسون فقد كتب قائلًا: «أوضحتْ دراسات بارعة تدور حول تأثيرات البقاء المستمر في بيئة مظلمة أو بيئة مضيئة، وتأثيرات الضوء ذي توزيعات الطاقة الطيفية المختلفة؛ وجود تأثيرات على حجم العضو، وأنماط النمو والنضج الجنسي في بعض أنواع الحيوانات التي من الممكن أن يكون الإنسان من ضمنها.»
كيف يمكن قياس تأثيرات «الألوان» على نحو دقيق؟ لقد ركزت معظم أعمالي التي تناولت الألوان والبشر (وقد كانت تلك الأعمال مستفيضة إلى حدٍّ كبير) على الاستجابات النفسية والعاطفية أكثر من تركيزها على الاستجابات البيولوجية. وكما هو مذكور على نحو مختصر في الفصل السادس، فإن جهاز البوليجراف (جهاز كشف الكذب) يمكن استخدامه في قياس التنفس، والنبض، وتوصيل راحة اليد للكهرباء (استجابة الجلد)، وغيرها من الأفعال الفسيولوجية الأخرى، بينما جهاز تخطيط كهربية الدماغ (جهاز رسم المخ) يمكن استخدامه لقياس موجات الدماغ. لقد تم التحقق من التأثيرات المختلفة للألوان مرارًا وتكرارًا، وأي شخص يشكك في هذه التأثيرات فإن لزامًا عليه إما الاعتراف بتحيزه، وإما بانعزاله عن مكتشفات مختبرات العلم الحديثة.
إذا عدنا إلى التاريخ القريب، فسنجد أن سيدني إل بريسي كتب مقالة عن «تأثيرات الألوان على الكفاءة العقلية والحركية». في ذلك الوقت؛ أي منذ ما يزيد عن ٥٠ سنة، كانت شهادة المعالجين بالألوان، أمثال إدوين دي بابيت، ما زالت تحظى بالمصداقية رغم تكذيبات الطب المعترف به. وتدريجيًّا حطم بريسي تأكيدات الآخرين الذين سبقوه، يقول: «سيبدو من المعقول استنتاج أنه إذا كان للَّون «حقًّا» أي كفاءة ذهنية وحركية جوهرية، فلا بد أن تكون العلاقة ذات طبيعة عامة وأولية للغاية؛ كأن يؤدي السطوع إلى التحفيز، أو أن يسبب اللون الأحمر الضيق والتشتت، لكن لا يمكن توقع تأثيرات أكثر تحديدًا.» وأعلن باحث آخر؛ يدعى هيرمان فولمر، في مقال بعنوان «دراسات عن التأثير البيولوجي للضوء الملون» أنه «لا يمكننا على الإطلاق إيجاد قاسم بيولوجي مشترك بين البيانات التجريبية المختلفة.» فعلى سبيل المثال، عارض فولمر نتائج معينة تقول إن معدل نمو الفئران كان أكبر في ظل تعرضها للضوء الأحمر، وأدى ذلك إلى مزحة كلاسيكية ساذجة نوعًا ما تقول: «إن زيادة الوزن في الحيوانات الحمراء في نهاية التجربة كان تفسيرها يعود جزئيًّا إلى حمل أحد هذه الحيوانات.»
ومن الأخطاء الشائعة التي حقًّا لا تغتفر في معظم أبحاث الألوان، أن كثيرًا من القائمين على هذه الأبحاث قد لا يدركون أن تأثيرات الألوان تكون دائمًا مؤقتة؛ فالتعرض للون لا يسبب استجابات تستمر لفترة طويلة؛ فعند تعرض أحد الأشخاص لنطاقات قوية من أي لون (أو إذا تعرض لضوء ساطع)، فستوجد استجابة فورية يمكن قياسها بسهولة من خلال الأجهزة. إن الاستجابة للألوان لا تختلف عن الاستجابة للكحول والتبغ والقهوة، فهي تستمر لفترة قصيرة ثم تخبو. وفي واقع الأمر، إذا كان اللون الأحمر مثيرًا (وهو كذلك بالفعل)، فبعد فترة من الوقت قد تنخفض الاستجابات الجسمانية لمستوًى «أقل» من المستوى الطبيعي. وإجابةً عن سؤال هل كان الأحمر لونًا مثيرًا أم لا، فالجواب هو: «نعم، ربما، لا» اعتمادًا على عنصر الوقت. إن الاستخدام «الوظيفي» للألوان في هذا الشتاء في كثير من التطبيقات، مثل المصحات العقلية (انظر الفصل الثامن)، يهدف إلى استخدام «مجموعة متنوعة» من الألوان كي تظل الاستجابات البشرية نشطة باستمرار، وتجنبًا للتكيف البصري أو الرتابة العاطفية.
(١٠) بعض الاستنتاجات
في العموم، تتباين الاستجابات البيولوجية لطرفي طيف الألوان المتمثلين في الأحمر والأخضر أو الأزرق. هذا مُلاحظ بالفعل في النباتات، وفي الأنواع الدنيا والعليا من الحياة الحيوانية. وفي بني البشر، يميل الأحمر إلى رفع ضغط الدم، ومعدل النبض، وزيادة معدل التنفس، واستجابة الجلد (التعرق)، وإثارة الموجات الدماغية. ويمكن ملاحظة وجود استجابة عضلية (توتر) وزيادة في معدل طرفات العين. ويميل اللون الأزرق إلى إحداث تأثيرات معاكسة لتأثيرات اللون الأحمر؛ إذ يخفض ضغط الدم ومعدل النبض، كما تقل استجابة الجلد، وتميل الموجات الدماغية إلى الانخفاض. أما المنطقة الخضراء في الطيف اللوني، فهي محايدة إلى حد ما. أما الاستجابات للَّونين البرتقالي والأصفر، فهي مشابهة للاستجابات للَّون الأحمر، لكنها أقل وضوحًا. وسأتناول الاستجابات النفسية والروحانية للألوان في الفصلين الرابع والسادس.
في نظر مؤلف هذا الكتاب، فإن التأثيرات النفسية للألوان أكثر إثارةً من التأثيرات الفسيولوجية. لقد بدأ استخدام الألوان المناسبة في البيئات الصناعية يحظى بأهمية كبرى، فكثير من أمراض الجسم أصبح ممكنًا تخفيف شدتها وشفاؤها من خلال الممارسة الطبية الحديثة، والجراحة، والأدوية الكيميائية، والمضادات الحيوية، لكن «أمراض» الذهن من الصعب جدًّا علاجها، وأصبح انتشارها متزايدًا في الحياة المعاصرة. وكما لاحظ كارل يونج بحكمة في كتابه «تكامل الشخصية»: «إن الكوارث الهائلة التي تهددنا ليست حوادث فيزيائية أو بيولوجية ناتجة عن فعل عناصر الطبيعة، لكنها حوادث روحانية … فالإنسان بدلًا من تعرضه للوحوش البرية، وسقوط الصخور، وفيضان المياه، أصبح معرَّضًا اليوم لقوى عناصر نفسه الإنسانية.»
أما فيما يتعلق بالمستقبل، فإن الأهمية الحيوية للضوء — واللون — بالنسبة لبقاء الإنسان واضحة على نحو كافٍ. وبلا شك فإن الناس في الأجيال القادمة سوف يسافرون إلى الفضاء ويقضون بعض الوقت هناك، وسوف يعيشون تحت البحر وداخل مدنٍ ذات قباب. ستكون الحياة معقدة للغاية ومصطنعة. وستكون بيئة الإنسان أبعد ما تكون عن الطبيعة، وسيكون لزامًا عليه التحكم فيها وإلا قُضي عليه. وحتى في وقتنا المعاصر، يقضي الناس صغارًا وكبارًا فترات مطولة من أوقاتهم في المدارس والمكاتب والمستشفيات والمؤسسات مع تناقص معدل تعرضهم لضوء النهار الطبيعي.
إن الإنسان يلوث بيئته الطبيعية ويدمرها؛ فالمواد الكيميائية التي يستخدمها الإنسان تُخل بكثير من أشكال التوازن الموجودة في الطبيعة، كما أن جبالًا من القمامة تتراكم في كل مكان، وتُلقى في البحر أو تدفن في الكهوف، بل لقد بدأ الإنسان يملأ السموات بالأقمار الصناعية المستهلكة، فحوَّل فضاء ما وراء السحب إلى ما يشبه ساحة السيارات المستعملة. لن يكون الإنسان مضطرًّا لتدمير نفسه في لحظة باستخدام قنبلة هيدروجينية، بل سيخنق نفسه ببطء حتى الموت.
بيد أن ذلك الحلم العتيق المتمثل في التناغم بين الإنسان والطبيعة ينتهي دائمًا بالتصادم بينهما. ويجب على الإنسان أن يكفِّر عن خطاياه في حق الطبيعة، لكن من أجل بقائه يجب أن يستقل عن العالم الطبيعي. وقد زعم أحد العلماء أن الإنسان إذا استمر في سلب الأرض من الحياة الخضراء، فإنه سوف يحرم الغلاف الجوي من الأكسجين، وسوف يختنق كل البشر. ورغم ذلك، فالإنسان يستطيع صناعة أكسجين لنفسه. بالإضافة إلى ذلك، يستطيع الإنسان صناعة طعامه في ظل ضوء صناعي، وباستخدام أسمدة من تصنيعه.
يبدو أن النشاط البشري كله تقريبًا يتجه صوب البيئة المحكومة، ولا يمكن تصور إمكانية تغيير أو إيقاف هذا التوجه؛ فالإنسان ترك الطبيعة في الريف لأنه ظن أن هذا هو مكانها الطبيعي في الأساس. ولم تعد الجبال وشواطئ البحار أماكن سكنى للإنسان، بل مجرد أماكن يزورها في العطلات الأسبوعية والإجازات؛ فالإنسان يعتقد أنه مشغول لدرجة لا تسمح للطبيعة بإزعاجه؛ فهو لديه أمور يريد إنجازها في عجلة، ولا يمكنه الاستسلام لأي شيء متقلب، سواء كان طبيعيًّا أم غير ذلك. ومن الممكن تمامًا خلال عقود معدودة أن يخرج الإنسان من مسكنه المصطنع إلى آفاق الطبيعة الرحبة، ويشير من وراء الغطاء البلاستيكي الشفاف للمركبة التي يقطنها ويقول لأطفاله: «قد يكون من الصعب تصديق ذلك، لكن أسلافكم اعتادوا العيش في الخارج!»