الاستجابة البصرية
يوجد قدر كبير من الصوفية والرمزية مرتبط بالعين البشرية. الشمس، على سبيل المثال، كانت عين الإله؛ فالإله رع في مصر القديمة، عندما أجبره الأشرار على ترك الأرض، التجأ إلى هيئة الشمس، وبعد ذلك أخذ يراقب عادات البشر وهفواتهم. وأصبحت عين حورس الشهيرة — حيث كان حورس ابن إيزيس وأوزوريس — رمزًا في تميمة ما زال الناس يرتدونها كقطعة مجوهرات نفيسة. وكانت تُرسم العيون على مقدمات السفن والطائرات. وواجه الناس لعنة العين الشريرة بالأحجار النفيسة ورَسْم نقطة حمراء على الجبين.
أما إذا تناولنا العين من الناحية الفسيولوجية بدلًا من الناحية الصوفية، فسنجد أن العين باعتبارها عضوًا حسيًّا لها تاريخ مثير؛ فالنظرية الفيثاغورثية الإغريقية القديمة (في القرن السادس قبل الميلاد) كانت تقول إن الأشعة المرئية تصدر عن العين وتصطدم بالشيء ثم تنعكس إلى العين مرة أخرى. كانوا يفترضون أن «النار» توجد داخل العين، ويمكن ملاحظة ذلك عند الضغط على العين؛ لأن هذا الضغط يجعل النار تومض أمام العين، وهذه النار، مثل نار المشعل أو الفنار أو المصباح، كانت قوة الرؤية النشطة. ولم تغفل تلك النظرية حقيقة أن ضوء الشمس ينير الأرض خلال النهار، بينما يغطيها الليل في الظلام. وكانوا يرون أن نار العين تكمل ببساطة الضوء الطبيعي وتلقي أشعة معينة حيثما كانت الرؤية مركزة.
لم يكن أفلاطون متأكدًا تمامًا من هذه النظرية وتحدَّث عن ظاهرة مزدوجة فقال: «دعونا نطبق المبدأ القائل … أن لا شيء ذاتي الوجود، وسنرى أن كل لون، أبيض وأسود وكل الألوان الأخرى، ينشأ نتيجة مقابلة العين للحركة الملائمة، وأن ما نطلق عليه جوهرَ كلِّ لون ليس عنصرًا فعالًا ولا هو خامل، وإنما شيء بينهما، ويكون خاصًّا بكل متبصر.»
ونفى أرسطو فكرة احتواء العين على النار، ورغم ذلك بدا أن خليفته ثاوفرسطس (القرن الرابع قبل الميلاد) يشير إلى أفكار أفلاطون وفيثاغورس، لكن مع بعض التحفظات؛ فقال إنه من المحتمل وجود انبعاثات صادرة عن العين. وعند الحديث عن الدوار قال ثاوفرسطس إن الشخص قد يرتعش ويرتجف عند النظر لأسفل أثناء وجوده على مرتفعات شاهقة. وما حدث في هذا المثال هو أن الرؤية وضعت في وضعية مزعجة، وتلك الوضعية بدورها أزعجت أعضاء الجسم الداخلية، إلا أنه عند النظر إلى السماء فإن هذا التعب لا يحدث؛ لأن المسافة الخالية امتصت ببساطة الأشعة الصادرة من العين؛ «فالضوء القوي يطفئ الضوء الأضعف.»
وبعد عدة قرون (القرن السادس عشر الميلادي) اكتشفت الفسيولوجية الأدق للرؤية، وتأسس علم طب العيون كما هو معروف اليوم. أما عن طريقة حدوث رؤية الألوان على وجه التحديد، فما زال هذا الأمر يمثل لغزًا، وما زلنا في حاجة إلى أن يقدم العلم نظرية أو تفسيرًا مقبولًا على نحو كامل.
(١) الرؤية بلا عيون
قبل استقصاء الجوانب الأكثر عقلانية المتعلقة بالرؤية ورؤية الألوان، وقبل مناقشة وجهات النظر الحديثة، دعوني أخبركم عن بعض الأمور الغريبة بل المُلْغِزة.
في عام ١٩٢٤، نشر المؤلف الفرنسي جول رومان كتابًا يحمل عنوانًا فرعيًّا هو «الرؤية بلا عيون». وعلى الرغم من أنه لم يسعَ مطلقًا للحصول على مساعدة الأكاديمية الفرنسية للعلوم، فإن نجاح تجاربه أكده الكثير من الخبراء التقنيين والأكاديميين المشهورين الذين كان من بينهم أناتول فرانس، الذي دافع بحزم عن نظريات رومان. وفقًا لهذا الرجل الفرنسي، فإن جلد الإنسان حساس للضوء (وهذه حقيقة بالتأكيد تنطبق على كافة أشكال الحياة تقريبًا وفيها الإنسان). وأطلق على ذلك مصطلح الإدراك المجاور للشبكية. وباستخدام واقيات مُصمَّمة خِصيصَى لوصول الضوء إلى مختلف أجزاء الجسم — لكن ليس إلى العينين — حفَّز حدوث الإدراك المجاور للشبكية. واقتباسًا من كتاب رومان: «على سبيل المثال، إذا كانت اليدان عاريتين، وكانت الأكمام مرفوعة إلى المرفقين، وكانت الجبهة عارية، وكان الصدر غير مغطًّى، فبإمكان الشخص أن يقرأ بسهولة بالسرعة العادية صفحة من رواية أو مقالة من جريدة مكتوبة بالحجم المعتاد في الطباعة.»
وأعلن رومان أن اليدين هما الأكثر حساسيةً للضوء، ثم الرقبة، ثم الحلق، ثم الخدين، ثم الجبهة، ثم الصدر وظَهْر العنق والذراعين والفخذين؛ فالصور الأساسية المكونة في أعصاب اللمس «ترى» اللون وكذلك الشكل. وفسَّر قائلًا: «إن تجاربنا تثبت بما لا يدع مجالًا للشك أنه يوجد لدى الإنسان «وظيفة مجاورة للشبكية»؛ أي وظيفة الإدراك البصري للأشياء الخارجية (اللون والشكل)، دون تدخل الآلية العادية للرؤية من خلال العينين.» وزعم أن أي شخص ذكي من المحتمل أن يكون قادرًا على قراءة عناوين الصحف وهو معصوب العينين، وقال إنه «في ظل الإضاءة العادية يكون الإدراك النوعي للألوان ممتازًا.» بل من الممكن أن يكون المرء قادرًا على «شم» الألوان من خلال أنفه؛ وعن هذا يقول: «إن إدراك الألوان من خلال المخاط الأنفي لا ينتمي للنظام الشَّمِّي؛ فهو لا يعتمد على إدراك «روائح» تنتمي للمواد الملوَّنة. إنه إدراك بصري على وجه التحديد.»
لم يُحرَز الكثير من التقدم على مدار السنوات التي أعقبت رومان؛ لأن العالم الذي عاش فيه كان عالمًا مشككًا يتطلب حقائق أكثر واقعية عن تلك التي قدَّمها. وبعد حوالي ٤٠ سنة، وُجدت امرأة مذهلة تستطيع قراءة وتمييز الألوان بأنامل أصابعها (وبعدها وُجد آخرون). أحيا هذا الانبهار تلك الظاهرة واكتسبتْ شهرة دولية.
ومن القصص الممتازة المعاصرة التي تتناول الرؤية بلا عيون تلك التي يرويها كتاب «الاكتشافات الروحانية خلف الستار الحديدي» للمؤلفتين شيلا أوستراندر ولين شرودر. وتتمثل تلك القصة في فتاة روسية تُدعى روزا كوليشوفا تستطيع الرؤية بأصابعها! وشاهد الأطباء المشكِّكون قدرتها على قراءة وكتابة وتسمية الألوان «كما لو كان قد نما لها زوج ثانٍ من العيون في أناملها.» أُرسلت روزا إلى موسكو حيث استمرت في تقديم أدائها المذهل تحت مراقبة شديدة، واستمرت قادرة على «رؤية» الأحمر والأخضر والأزرق عند تغطية الأوراق الملونة بورق شفاف أو ورق سُلُوفان أو بالزجاج. ووقف المعهد الروسي الكبير للفيزياء الحيوية في حيرة من أمره، لكنه كان مضطرًّا إلى الاعتراف بقدرة روزا على «الإبصار عبر الجلد». وأرسلت مجلة «لايف» في ذلك الوقت أحد المراسلين إلى موسكو، ونشرتْ فيما بعدُ قصة مصورة بارزة عنها.
ظهر أشخاص آخرون يتمتعون بالقدرة المدهشة نفسها، وكان من بينهم امرأة من فلينت بولاية ميشيجان تدعى السيدة باتريشيا ستانلي. بدا لهذه السيدة أن بعض الألوان دبقة، وبعضها ناعم، وبعضها خشن. وكما قالت باتريشيا في مجلة «لايف» (١٢ يونيو، ١٩٦٤): «الأزرق الفاتح هو الأنعم. وتشعر أن الأصفر دبق للغاية، لكنه ليس بنعومة الأزرق الفاتح. الأحمر والأخضر والأزرق الداكن ألوان دبقة. وتشعر أن الأخضر أكثر لزوجة من الأحمر، لكنه ليس خشنًا. والأزرق الكحلي يتصدرهم في اللزوجة، ويسبب إحساسًا بالكبح والإبطاء. ويعطي البنفسجي إحساسًا بالكبح أكثر قوة؛ يبدو أنه يبطئ اليد، ويبدو ملمسه أكثر خشونة.»
توجد علاقة هنا بالصور التخيلية (نتعرض لمناقشتها في الصفحات المقبلة)؛ حيث تبدو الرؤية بلا عيون هبة من الطبيعة، وأكثر ما نلاحظها في الأطفال الذين تتراوح أعمارهم ما بين سبعٍ واثنتي عشرة سنة. هل من الممكن تدريب الأعمى على رؤية الألوان وتمييزها باستخدام الأصابع أو المرفق أو اللسان أو الأنف؟ منذ حالة روزا كوليشوفا، أمعن الروس في استقصاء الرؤية من خلال الجلد، وعقدوا الآمال على أن يستطيعوا منح الأعمى على الأقل جزءًا من الإدراك «البصري»، ولو كان ضعيفًا. دربوا بعض المكفوفين على ذلك. وما دام عضو الإدراك الحقيقي موجودًا في الدماغ وليس العين، فمن الممكن أن يستخدم الأعمى أدلة من الجسم والجلد «لرؤية» العالم وألوانه الطيفية. وكما قالت أوستراندر وشرودر: «إذا كانت أشياء ضرورية معينة مثل مقابض الأبواب والصنابير والهواتف، ومقابض الآنية، والأطباق، والأشياء المتحركة على وجه الخصوص ملونة، مثلًا، باللون الأصفر في غرفة مضاءة بالمصابيح الصفراء إضاءة ساطعة؛ فقد يتمكَّن الأعمى فعليًّا من رؤية تلك الأشياء من خلال جلده بسهولة تضاهي تقريبًا تلك السهولة التي نجد بها إبريق القهوة بأعيننا.»
(٢) عن «تصوير الأفكار»
يشير إدوارد دبليو راسل في كتابه «تصميم المصير» إلى البروفيسور تي فوكوراي؛ من جامعة كوياسان، الذي «اكتشف أن بعض الأشخاص يستطيعون التركيز على التصميم أو الصورة، ثم من خلال الفكر وحده ينسخون صورة واضحة من التصميم أو الصورة إلى لوح فوتوغرافي مغطًّى بمادة عازلة دون الاستعانة بالضوء أو العدسات.» مستحيل؟ توجد حالة مشابهة جيدة التوثيق عن رجل من شيكاجو يدعي تيد سيريوس. كان تيد سيريوس رجلًا جاوز الأربعين من عمره، ولم يتلقَّ إلا قدرًا قليلًا من التعليم، ويعمل خادم فندقٍ في شيكاجو. كان تيد عصبي المزاج، وربما كان معتلًّا نفسيًّا بعض الشيء، وكان يعاني من مشكلة معاقرة الخمر.
رغم ذلك، كان تيد سيريوس يستطيع التحديق في كاميرا البولارويد فيخرج من الكاميرا، أحيانًا، صورًا غامضة، وكانت الصور الصادرة عن أفكاره التي تُظهِر الناس قليلةً مقارنةً بالصور التي تُظهِر الأماكن والمباني مثل: برج إيفل، وتاج محل، والبيت الأبيض. وأخذ الدكتور جول أيزنبود؛ الطبيب النفسي وزميل الرابطة الأمريكية للطب النفسي، ذلك الرجل تيد سيريوس تحت جناحه، ونقله إلى دنفر، وعلى مدار عامين أخضعه لسلسلة من التجارب كان يشهدها في حينها الكثير من الأصدقاء والعلماء والمصورين والسحرة. كانت النتيجة أن ألَّف الدكتور جول أيزنبود كتابًا مصورًا من ٣٦٨ صفحة (انظر قائمة المراجع). يمكن للشخص المتشكك أن يحضر كاميرا بولارويد خاصة به، وفيلمًا خاصًّا به، ويمسك الآلة بنفسه، بل ويفتح مصراع الكاميرا، وستخرج (ليس دائمًا لسوء الحظ) صور شبحية لطواحين هواء، وسفن، وسيارات، وفندق هيلتون في دنفر، وبرج قلعة وستمنستر أو الحافلة الإنجليزية ذات الطابقين.
لم يستطع تيد سيريوس أن يفسر موهبته، ولم يكن لديه أدنى اهتمام بمحاولة تفسيرها، وقال إن هذه الهبة سوف تزول. وقد زالت مع مرور الوقت. ويعلق جول أيزنبود في كتابه المثير قائلًا: «اعترف الدكتور هانز برجر؛ مكتشف الأمواج الدماغية، بالحقيقة المحتملة المتمثلة في التواصل عبر التخاطر، لكنه لم يصدق أن أي نوع من «إشعاعات» الأمواج الدماغية التي قاسها جهاز تخطيط الدماغ يمكن أن يكون مصدر تلك الموجات.»
(٣) الصور التخيلية
استكمالًا لخصائص الرؤية البالغة الغموض، سأتناول الآن ظاهرة الصور التخيلية. في السنوات الأخيرة، أدَّت دراسة الرؤية والصور التخيلية إلى اكتشاف ظواهر متعددة ومدهشة. ومن بين هذه الظواهر سحر الألوان الذي يصاحب عادة عقَّار الهلوسة إل إس دي (ثنائي إيثيل أميد حمض الليسرجيك). لكن في البداية دعوني أستعرض دليل الصور التخيلية المعروف على نحو أفضل لدى بعض الأفراد الموهوبين.
وفقًا للكاتب إي آر ينش في كتابه «الصور التخيلية»، فإن الصور التي يراها البشر تنقسم إلى ثلاثة أنواع هي: صور الذاكرة، والصور التَّلَوِيَّة، والصور التخيلية. النوع الأول من هذه الصور هو نتاج العقل والتخيل، ويأتي على هيئة فكرة أو خاطرة. أما الصور التلوية فتعني معناها الحرفي إلى حد كبير، الذي يعني مشاهدة الصور بعد مشاهدتها في الحقيقة؛ فهي تلك الصور التي شاهدناها بالفعل، وربما يكون لها شكل وتصميم وبُعدٌ ولون محدد، وقد يختلف حجمها باختلاف قرب أو بعد الأسطح التي تحدِّق العين فيها. ويكون مثل هذا النوع من الصورة مكملًا عادةً؛ فنرى الأبيض في منطقة كانت سوداء في الأصل، والأحمر يأتي محله الأخضر، وهكذا. أما النوع الثالث، الصور التخيلية، فهو النوع الأكثر تميزًا. وكتب ينش عن هذا النوع فقال: «الصور التخيلية هي ظواهر تحتل موقعًا وسيطًا بين الأحاسيس والصور — وعلى غرار الصور الفسيولوجية المعروفة باسم الصور التلوية، فإنها «تُرى» دائمًا بالمعنى الحرفي — وتتسم بأنها ضرورية تحت أي ظرف، وتشترك في هذه السمة مع الأحاسيس.»
الصور التخيلية هي هبة الطفولة والشباب، وهبة المجنون، وهبة متلقي الإلهام الصوفي. وعلى الرغم من أنها تبدو مشابهة للظواهر الخارقة للطبيعة، فإنها حقيقة حسية؛ فالطفل الذي يلعب بألعابه قد يتمكن من عرض صور حية لتلك الألعاب في عقله. وقد لا تكون تلك الصور مجرد نتاج التخيُّل؛ فربما تكون ملموسة إلى حد كبير، وذات تكوين له أبعاد ولون وحركة. إنها بمنزلة «شرائح فانوس العرض» بالنسبة للعين والدماغ، وتعرض في مكان محلي محدد. إنها صور حقيقية تمامًا مثل شرائح الفانوس المعروضة، وسوف تتبع حركات العين تفاصيلها. وقد يجد الأشخاص المصابون بحالة هيستيرية نتيجةً لتناول المخدرات أو بسبب الاضطرابات العقلية أنهم يُهاجَمون من قِبل أعداء مخيفين. وقد عُرف أن بعض هؤلاء الأشخاص قد هربوا لينجوا بحياتهم، بل وقفزوا من النوافذ. وقد رأى الأشخاص الواقعون تحت تأثير الهذيان الارتعاشي أن الفئران تزحف من الحوائط، والأسلاك بارزة من أنامل الأصابع.
إلى حد كبير، لم تحظَ تلك الظاهرة إلا بقدر قليل من الاهتمام حتى السنوات الأخيرة. ونظرًا لأن هذه الظاهرة تختفي مع العمر، فمن المحتمل أن تختفي عند البلوغ؛ فعقل الشخص البالغ على الرغم من قدرته على التعامل مع هذه الظاهرة، فإنه يحيلها إلى فترة الطفولة التي تتسم بالحماس الشديد. ورغم ذلك فالشخص يرى الصور؛ فالصور تقف أمام العينين، وتميز العينان التفاصيل التي يمكن إحصاؤها وتمييزها على أساس اللون.
وحسب كلام ينش، فالصور التخيلية تخضع للقوانين نفسها التي تحكم الأحاسيس والإدراكات، وهي «في حقيقة الأمر، أوضح علامة على نظام الشخصية المعتادة في مرحلة الشباب.» ومن خلال تلك الصور، يمكن للعلم أن يجد تفسيرات معقولة لقصص تحكي عن خروج القديسين من صورهم وسَيْرهم، وعن مخلوقات غريبة، وعن الغيلان، وعن الشياطين التي تُرى بالعين المجردة. ولأن الصور التخيلية أحاسيس حقيقية، فمن الممكن أيضًا أن تكون الغيلان والشياطين حقيقية، وبدلًا من تلاوة التعاويذ ووصف إجراء اختبارات عقلية، يمكن التعامل مع الشخص الذي اعترف برؤية هذه الأمور على أنه شخص عاقل لديه حدة بصرية تتجاوز الحدة المعتادة؛ فالأشباح قد تسكن العقول بدلًا من المنازل أو القلاع القديمة.
معظم الأشخاص يعترفون بوجود فجوة بين الإحساس والخيال، لكن كما يزعم ينش فإن بعض الأشخاص لديهم «خبرات وسيطة» غريبة بين الأحاسيس والصور. هؤلاء الأشخاص يستحضرون الصور رأي العين حقيقةً، واستجاباتهم صريحة وعفوية إلى حدٍّ كبير. وبالنسبة لهم، قد يتلازم الإحساس والخيال معًا، ويرتبطان ارتباطًا وثيقًا في بعض التجارب المرئية الواقعية واضحة التفاصيل.
إن ظاهرة الصور التخيلية تزخر بالكثير من الطرافة والسحر. ورغم ذلك، فعند تناولها من ناحية عمليةٍ على نحو أكبر، نرى أنها قد تخدم أغراضًا مفيدة. وعن هذا كتب ينش يقول: «لقد أظهر بالفعل الباحثون في مجال الصور التخيلية أن أكثر ما يشبه عقل الطفل ليس التركيبة الذهنية لعالم المنطق، بل التركيبة الذهنية للفنان.» وفي أثناء العملية التعليمية قد يؤدي فرض وجهة نظر وعقلية وأسلوب الشخص البالغ على الطفل إلى كبت الشخصية التخيلية؛ ومن ثم قد يحول هذا بينه وبين التعبير الإبداعي والطبيعي؛ «فعلى سبيل المثال، يمكن للطفل المتخيِّل، دون بذل مجهود كبير، أن يستحضر في ذهنه رموزًا من الأبجدية الفينيقية أو من الكلمات العبرية … إلخ، أو يمكن لشخص يتمتع بقدرة قوية على استحضار الصور في خياله أن ينظر إلى عدد من الكلمات المطبوعة للحظة، ثم يذهب إلى غرفة مظلمة ويسترجع النص مصورًا في خياله. ومن الممكن تصوير حركات العين التي تحدث أثناء قراءة النص بالخيال المصور.»
(٤) عقاقير الهلوسة
خلال ستينيات القرن العشرين، تأسست ثقافة مخدرات واسعة الانتشار على أساس بسيط هو قطرة من عقار ثنائي إيثيل أميد حمض الليسرجيك (إل إس دي) على قطعة من السكر. وفي كل أنحاء البلاد، بدأ على نحو مفاجئ عدد لا يحصى من الأشخاص، معظمهم من الشباب، في ابتلاع قطع السكر والتحليق في رحلات سماوية. وكان من أبرز سمات تلك الرحلات تفجر لون ساطع ومتدفق ووامض لم يُشاهَد مثله على الأرض قط. ونتيجة لذلك، توصلوا لاكتشاف مذهل يتمثل في وجود عالم رائع من الألوان يوجد داخل النفس البشرية، وهذا العالم يوجد مدفونًا كما لو كان داخل برميل ذهبي تفتحه قطرة من عقار إل إس دي فيندفع السِّحر خارجًا منه. لقد أصبحت عملية الرؤية معكوسة؛ لقد أصبحت تأتي من الداخل إلى الخارج، وليس من الخارج إلى الداخل.
كيف فسر العلم ذلك؟ بينما استلقى آلاف من الشباب على الأرض الجرداء أو المفروشة بالبسط وحلقوا في رحلات العقَّار — رحلات سيئة أو رحلات ممتازة — سعى العاملون في مجال الطب سعيًا حثيثًا إلى التوصل لتطبيقات لهذا العقَّار العجيب؛ فقد كان من الممكن استخدامه في علاج بعض الأمراض العقلية، وكان من الممكن استخدامه لخلق حالات نشوة لدى المرضى على فراش الموت؛ فهذا العقار بإمكانه أن يزيح عنهم الخوف من الموت. لقد كان يسبب الهلوسة في واقع الأمر. لقد كان عقَّارًا رخيصًا وقويًّا على نحو مدهش؛ فزجاجة قطَّارة مليئة بعقار إل إس دي كانت كافية للتحليق في ٥ آلاف رحلة.
لطالما كان معروفًا منذ قرون أن عقاقير الهلوسة توجد في الحشيش والأفيون وصبار البيوت وصبار المسكال. كان الهنود الحمر يتعاطون البيوت المُستخلَص من الصبار كجزء من الطقوس الدينية. وكانت مجموعة ثقافة عقار إل إس دي التي انتشرت في أمريكا خلال الستينيات تستخدم كثيرًا أيضًا هذا العقار لأغراض دينية؛ لتحقيق التناغم بين كل ما هو مطلق. كيف يمكن وصف آثار عقار إل إس دي؟ كتب ألدوس هكسلي يقول: «يرفع عقَّار المسكالين الألوان إلى قوة أعلى، ويجعل المتلقي واعيًا بدرجات ألوان مختلفة لا تعد ولا تحصى، يكون أعمى عنها تمامًا في الأوقات العادية.» وقال هنريك كلوفر: «من المستحيل إيجاد كلمات تصف ألوان المسكال.» وفي الغالب، كانت الرؤى تتخذ السمة الشرقية، كما لو كان السجاد الشرقي قد انبعثت فيه الحياة، لكن بألوان شديدة على نحو خيالي لا يُصدق.
ومن أبرز الشخصيات التي تعد مرجعًا في عقار إل إس دي ستانيسلافُ جروف. كان ستانيسلاف جروف رئيس البحث النفسي في مركز الأبحاث النفسية في ميريلاند في بالتيمور، وأستاذًا مساعدًا في علم النفس في جامعة جونز هوبكنز. أجرى الدكتور جروف تجارب على عقار إل إس دي على مدار سنوات تزيد عن ١٥ سنة، وأجرى ما يزيد عن ألفي جلسة هلوسة. وفي كتابه «علم النفس والصوفية» (الذي حرره ستانلي آر دين) فصل مميز عن كثير من ملاحظاته. ومن بين هذه الملاحظات أن الرحلات التي يشهدها متعاطو عقار إل إس دي يمكن أن تكون إلى العالم السفلي مثلما يمكن أن تكون إلى العالم العلوي؛ فمن الممكن أن يشهد المرء أحاسيس الوحدة الكونية والقداسة والسلامة والنعمة من ناحية، ومن الممكن أن يشهد رعبًا شديدًا من ناحية أخرى.
يقدم جروف الكثير من الإشارات المدهشة عن تجارب أشخاص مختلفين؛ فمن الممكن أن يشهد أحدهم بأن الكون يبتلعه، أو يشعر بأحاسيس شريرة، أو يشعر بالاضطهاد، ويرى تنانين وثعابين وأخطبوطات: «إنها دوامة كونية تسحب الشخص وعالمه بلا رحمة نحو مركزها.» وقد يراود الشخص مفاهيم مثل: الجحيم، والعذاب الذي لا يُحتمل، والحرب، والوباء، والكوارث، وقد يشعر الشخص بالموت والميلاد من جديد، وإطلاق قدر هائل من الطاقة، ويرى انفجارات وبراكين وقنابل ذرية. ويمكن أن يشعر بعدمية شاملة وموت الأنا، وقد يشعر أيضًا بإحساس غامر بالحب، فنجد أن الشخص «يدرك الكون على أنه جميل على نحو لا يمكن وصفه.» وقد تراود الشخص «رؤًى لمصادر تشع ضوءًا يعتبره إلهيًّا، لونه أزرق سماوي، أو بلون طيف قوس قزح، أو بلون ريش الطاوس.»
وتأكيدًا لنظرية يونج القائلة بالعقل الباطن الجمعي، فبعض متعاطي عقار إل إس دي قد يشهدون ميلادهم وولادتهم من رحم أمهاتهم، وقد يشهدون أصداء الميثولوجيا الإغريقية، وقصص الكتاب المقدس، واحتفالات الطقوس الوثنية. وقد يعود المتعاطي إلى أسلافه فيعيش من جديد تجارب أسلافه الأولين. وقد يشهد المتعاطي مقابلات وجهًا لوجه مع الآلهة القديمة إيزيس ومازدا وأبولو ويهوه والمسيح، ويعلق جروف قائلًا: «إن مقابلة هذه الآلهة تصحبها عادةً مشاعر قوية للغاية تتراوح ما بين الرعب الخارق للطبيعة وفرط السعادة بسبب النشوة.»
واهتمام جروف بعقار إل إس دي يكمن في استخدام ذلك العقَّار في علاج مختلف الاضطرابات العاطفية، والفصام، والانحراف الجنسي، وإدمان الكحول، وإدمان المخدرات، ورغم ذلك فقد كان يحضر جلساته أيضًا العلماء والفلاسفة والفنانون والمعلمون. لقد أدى تعاطي عقَّار إل إس دي إلى أشكال جديدة من الفن، فبالإضافة إلى الألوان الزاهية، كانت الرؤى تظهر — في أغلب الأحيان — خطوطًا مموجة، وفسيفساء، وزهورًا، وحيوانات، وأنماطًا هندسية، وجواهر، وأُطرًا شبكية، وشبكات بلورية، وأقراص عسل النحل، وزخارف كلها تميل إلى الحركة. وقد حاول الفنانون رسم هذه الرؤى على لوحات من قماش الكانفاه.
ومن ثقافة عقَّار إل إس دي جاءت حانات الديسكوتيك في أواخر ستينيات وأوائل سبعينيات القرن العشرين. وفي عكس لإجراء التعاطي الكيميائي النفسي، حاولت حانات الديسكوتيك المسببة للهلوسة، وبنجاح معقول باستخدام الأضواء الومضية، والألوان المتدفقة، والتصميمات والأنماط الانسيابية، والأصوات الصاخبة، إخفاء العالم الحقيقي لأحد التخيلات الروحانية والكابوسية دون تعاطي المخدرات. لكن وُجد أن الأضواء الومضية تسبب نوبات صرع، بينما قد تسبب المصابيح النابضة الوامضة التنويم المغناطيسي، وتؤدي إلى الصداع والنعاس وأنواع بسيطة من الانهيار العصبي.
(٥) والآن لنعد إلى الأرض
لن أحاول وصف العين البشرية أو عملية الرؤية، لكنني سأركز على موضوع هذا الفصل، وهو الاستجابة البصرية. كتب جيمس بي سي ساوثول يقول: «الإبصار الجيد، الذي يعتمد عليه، هو ملَكة تُكتسب فقط من خلال عملية طويلة من التدريب والممارسة والتجربة. إن رؤية الشخص البالغ هي نتيجة لتراكم ملاحظات وارتباطات أفكار من كل الأنواع؛ ولذلك فهي مختلفة كثيرًا عن رؤية الرضيع غير المدرب الذي لم يتعلم بعدُ أن يركِّز عينيه ويعدلها ويفسِّر ما يراه على نحو صحيح. معظم حياتنا ونحن صغار نقضيها دون وعي منا في اكتساب وتنسيق كمية هائلة من البيانات المتعلقة ببيئتنا، وكلٌّ منا يحتاج إلى تعلُّم استخدام عينيه للرؤية مثلما يحتاج إلى تعلُّم استخدام رجليه للسير ولسانه للتحدُّث.»
في الفصل الثاني الذي يتناول الاستجابة البيولوجية، أشرنا إلى دور الضوء — والرؤية — في ضمان رفاهة الكائنات الحية، ومنها الإنسان، وقيامها بوظائفها على النحو الملائم. والضوء بطبيعة الحال ضروري للرؤية، لكن أهميته تمتد لتشمل ما هو أكثر من ذلك. على مدار سنوات، ركزت صناعة الإضاءة في المقام الأول على الرؤية. أيُّ مصادر الإضاءة هي الأكثر توفيرًا؟ أيها تعطي أكبر قدر من الإضاءة؟ وخلال تاريخ تطور الإنسان كانت المصادر التي استمد منها الإنسان الضوء منذ القدم هي الشمس والسماء، وبعد ذلك استخدم ضوء النار، والمصباح الزيتي، والشموع المصنوعة من الشحم، ومصباح الكيروسين، ومصباح فتيلة الكربون الذي اخترعه توماس إديسون، والزئبق، وبخار الصوديوم، والانبعاثات الفلورية، وغيرها من المصادر. وتضمنت الوثائق الخاصة بصناعة المصابيح إشارات إلى القدم شمعة (وحدة قياس شدة الإضاءة) للطاقة الضوئية — أي طاقة ضوئية — لتمكين الإنسان من الرؤية بوضوح خلال المهام الموكلة إليه. ونتيجة لذلك صنعوا مصادر للضوء تضم بخار الصوديوم أو بخار الزئبق والفلور وغيرها من المواد، واستخدمت على نطاق واسع كما لو كانت المهمة الوحيدة للإضاءة هي تمكين الإنسان من الرؤية. هذا ليس نقدًا، وما دام الإنسان قادرًا على السير في الهواء الطلق، ولعب كرة السوفتبول، والسباحة والجلوس على الشاطئ نصف عارٍ، فسوف تكون كل الأمور على ما يرام؛ لأنه يستطيع امتصاص أشعة الشمس الصحية والاحتفاظ بصحة جيدة، لكن إذا ظل الإنسان في مكان مغلق محدود المساحة لساعات طويلة، بعيدًا عن الطبيعة وبعيدًا عن الشمس، فسوف يحتاج إلى ضوء متوازن يشع الطيف الكامل أو شبه الكامل، بما في ذلك الأشعة فوق البنفسجية. وتوجد أدلة كثيرة على أن طول التعرض لبخار الصوديوم أو بخار الزئبق أو لضوء الفلورسنت التقليدي سوف يؤدي إلى اختلال توازن الحالة الصحية للإنسان.
قد يدفعنا التوهم إلى زعم أنه إذا حصل الإنسان على الغذاء الكافي، فإنه يستطيع «العيش» في ظلام دامس. إن عالم الإنسان الأعمى مظلم، لكن من الناحية البصرية فقط؛ حيث إن جسمه ما زال يمتص الطاقة الإشعاعية. وإذا كان الإنسان لا يستطيع العيش بالخبز وحده، فإنه لا يستطيع أيضًا العيش جيدًا في ظل إضاءة سيئة أو من دون إضاءة على الإطلاق. إن تعريض حيوانات مثل الفئران لنطاقات محدودة من الطيف لفترة طويلة أدى إلى ظهور آثار عدوانية في سلوكها. وبعيدًا عن التأثيرات البيولوجية للضوء، فالإنسان مخلوق روحاني بالإضافة إلى كونه مخلوقًا ماديًّا؛ فالحرمان الحسي — وسوف نناقش هذا الموضوع في الفصل الثامن — يمكن أن يقود الإنسان إلى الجنون، أو على الأقل يحرمه من القدرة على التفكير السليم، وأي شخص يعاني من صدمة ذهنية أو عاطفية مزمنة، سيعاني في النهاية من أمراض بدنية، وسوف يقصر عمره.
(٦) الاستجابات للضوء الملون
معظم البيئات الصناعية في الوقت الحاضر تعرض الناس لمصادر ضوء غير متوازن؛ فالمصباح المتوهج يفتقد على نحو كامل تقريبًا الأطوال الموجية فوق البنفسجية، إذ تمتص الأنابيب الزجاجية المستعملة في معظم مصابيح الإضاءة الفلورسنت الأشعة فوق البنفسجية وتشعها. وبعض مصابيح الزئبق الغنية بالأشعة فوق البنفسجية تفتقر إلى ترددات الأشعة الحمراء والأشعة تحت الحمراء. ويكره الناس مصابيح الزئبق الشفافة لأنها تشوه الألوان الموجودة في المكان، وتجعل بشرة الإنسان تبدو بمظهر قبيح.
وبعيدًا عن السمات البيولوجية للضوء، ماذا عن الاستجابات البصرية للبشر تجاه الضوء الملون؟ منذ سنوات أشار إم لاكيش إلى أن اللون الأصفر هو أكثر منطقة تحظى بالانتقائية، وهو الجزء الأكثر سطوعًا في الطيف اللوني؛ فهذا اللون ليس له زيغ لوني (وهذا يعني أن العين تراه عادةً بوضوح كامل)، كما أنه مريح نفسيًّا. وأوضح لاكيش أيضًا من خلال التجربة أنه من خلال ترشيح الإشعاع الأزرق والإشعاع البنفسجي في مصباح الزئبق (وأيضًا في مصباح التنجستن) ظلت حدة البصر ثابتة من الناحية العملية، على الرغم من تقليل كمية الضوء التي امتصَّها المرشح. وهذا يعني أن اللون الأصفر يتمتع بمزايا قاطعة بالنسبة لحدة البصر؛ فعلى سبيل المثال، يتميز مصباح الصوديوم بالكفاءة العالية على الرغم من أن تسبُّبه في الزيغ اللوني يجعل من المستحيل استخدامه في كثير من الظروف.
ويضع سي إي فيري وجيرترود راند الإضاءة الصفراء على رأس قائمة الإضاءة المفضلة، يليه الأصفر البرتقالي والأخضر المصفر والأخضر. وكانت الألوان القاتمة المتمثلة في الأحمر والأزرق والبنفسجي هي الأقل حظًّا في قائمة الإضاءة المفضلة. وفي واقع الأمر، من الصعب للغاية على العين الإبصار بوضوح في ظل إضاءة زرقاء، كما أن اللون الأزرق سيجعل الأشياء تبدو ضبابية ومحاطة بهالة. ورغم ذلك، فعند تكيف العين مع الظلام الشديد يبدو أن العين تتمتع بأفضل حدة إبصار في ظل الإضاءة الحمراء. وقد استخدمت الإضاءة الحمراء على نطاق واسع في لوحات التحكم في الطائرات، وفي غرف التحكم في السفن والغواصات؛ فتأثير الضوء الأحمر قليل على العين المتكيفة مع الظلام، كما أنه لا يُرى في واقع الأمر على الحواف الخارجية للشبكية التي لا يوجد بها خلايا مخروطية؛ ولذلك فهو مناسب لاستخدامه كمصباح تعتيم، وسوف يفشل في إثارة الرؤية في العين إلا عند تسليط أشعته بالقرب من النقرة المركزية للشبكية.
(٧) الإضاءة من أجل المظهر الجيد
من الافتراضات الساذجة التي يفترضها كثير من المهتمين بمصادر الإضاءة الصناعية اعتقاد أن تلك المصابيح لا بد أن تكون شبيهة قدر الإمكان بضوء النهار الطبيعي. فإذا كانت الغرفة أو المنطقة تتطلب التمييز الدقيق بين الألوان، فقد تكون محاكاة ضوء النهار الطبيعي ضرورية، لكن لا بد أن ندرك على نحو تام أن مثل هذا النوع من مصادر الإضاءة لا يجعل بشرة الإنسان تبدو جميلة بأي حال من الأحوال؛ إذ سوف تتحول البشرة للون الشاحب والرمادي تحت تأثير هذه الإضاءة. في واقع الأمر، إن الاستخدام المتعارف عليه لمستحضرات التجميل (قبل قدوم ظل العين الأخضر والأزرق وأحمر الشفاه الأبيض) كان وَضْعَ ذرور الوجه الوردي على البشرة، ووضع أحمر الشفاه الأحمر على الخدين والشفتين؛ لإبراز ما اعتبرته معظم النساء مقصد الطبيعة. ووجد الباحثون أيضًا أن فكرة ذاكرة البشر عن اللون الحقيقي للبشرة تتمحور حول اللون الوردي إلى حد كبير.
ما هو الضوء الطبيعي في نهاية المطاف؟ يتراوح ضوء النهار من الصباح إلى الظهيرة إلى المساء ما بين اللون الوردي والبرتقالي والأصفر والأبيض والأزرق، ثم يعود مرة أخرى إلى ألوان الغروب الدافئة. كل هذه الألوان هي الضوء «الطبيعي». وقد لاحظ الهولندي إيه إيه كراتوف منذ سنوات مضت حقيقة أنه في مستويات الإضاءة «المنخفضة»، يبدو العالم «عاديًّا» إذا كان لون الضوء دافئًا (إن الإضاءة الباردة في المستويات المنخفضة تجعل الأشياء تبدو مخيفة وغير طبيعية). ومع ازدياد شدة الإضاءة، يكون لزامًا استخدام ضوء أكثر برودة لضمان المظهر الطبيعي للأشياء.
ومن أجل الحصول على مظهر جيد، لا بد من استخدام الضوء الدافئ في مستويات الإضاءة المنخفضة، واستخدام ضوء أكثر برودة أو أكثر بياضًا في المستويات العالية، وبعض مُصنِّعي المصابيح مدركون لهذا الأمر. ومن الملاحظ أن المصابيح المتوهجة والأنابيب الفلورسنت البيضاء الدافئة «مفضلة على نحو أكبر في المستويات المنخفضة»، بينما مصابيح الزئبق الباردة البيضاء وضوء النهار ومصححة الألوان تحظى ﺒ «قدر كبير من التفضيل في المستويات العالية». ويشتهر ضوء الشموع، الحقيقي أو المصطنع، بجو الدفء والألفة والحميمية الذي يشعه. ويوصى باستخدام ضوء النهار البارد في مستويات إضاءة عالية من أجل إنجاز مهام العمل وبيع المنتجات. ستبدو حانة الشراب كما لو كانت تعج بالغيلان والأشباح الموتى إذا كانت الإضاءة فيها زرقاء أو بنفسجية خافتة، بينما الفصل المدرسي أو المكتب في ظل إضاءة حمراء أو وردية فاقعة سيكون مستهجنًا بصريًّا ونفسيًّا، كما توجد اعتراضات على مصباح بخار الصوديوم (الأصفر اللون) أو مصباح الزئبق (الأخضر اللون) عند استخدام أيٍّ منهما في زمان ومكان يلزم فيه الحكم على بشرة ومظهر الأشخاص.
(٨) لون البيئات
لنتحول الآن من الضوء والإضاءة إلى الألوان والسطوع عند استخدامها في المناطق والأسطح في البيئات التي صنعها الإنسان. كتب إم لاكيش: «المهمة البصرية لا تنفصل عن البيئة الموجودة فيها … إن الرؤية العالية، وسهولة الرؤية، وظروف الرؤية الجيدة كلها ناتجة إلى حد كبير عن جودة هندسة السطوع.» ويقصد بهندسة السطوع التحكم في اللون كما ستراه العين البشرية على الجدران والأسقف والأرضيات والمفروشات؛ ففي هذا الصدد تتأثر الاستجابات البشرية تأثرًا جذريًّا.
للانطلاق من الفئران إلى الإنسان، في دراسة أجرتها المفوضية الأمريكية للطاقة الذرية في عام ١٩٦٨، بحث جيه إف سبالدينج واثنان آخران من الباحثين تأثير الألوان المرئية على النشاط الإرادي في فئران بيضاء من سلالة آر إف. وضعت القوارض في حجيرات لفترات بلغت ١٨ ساعة، بعدها تتلقى الفئران استراحة، ثم توضع لمدة ١٨ ساعة أخرى في حجيرة أخرى إلى أن اختبرت كل البيئات. استعانوا بالدورات التي تدورها الفئران على عجلات النشاط الشبيهة بتلك العجلات التي نراها في أقفاص السناجب في تحديد مقياس نشاطها. الفئران حيوانات ليلية، ولذلك تكون في أقصى حالات نشاطها في الظلام، كما أظهرت نتائج الاختبار. وثاني أكبر فترات نشاطها كان في ظل الإضاءة الحمراء. إن فئران سلالة آر إف ترى اللون الأحمر على أنه ظلمة. «كان النشاط في الضوء الأصفر أكبر إلى حد كبير من نشاطها في ضوء النهار وفي الضوء الأزرق، وكان أقل إلى حد كبير من نشاطها في الظلام وفي الإضاءة الحمراء.» علاوة على ذلك، أظهرت الفئران العمياء اختلافًا قليلًا في مستوى نشاطها بغضِّ النظر عن لون الإضاءة؛ مما أكد الزعم القائل بأن النتائج التي كشفت عنها الدراسة كانت «نتيجة للمستقبلات البصرية».
سنتناول الاستجابات البشرية تجاه الألوان في المحيط البيئي بقدر أكبر من التفصيل في الفصل القادم الذي يتحدث عن الاستجابة العاطفية. وفي الغالب، لطالما افترض العباقرة التقنيون في مجال الرؤية أن البشر يرون على نحو أفضل، وبمستوى راحة أكبر، في البيئة التي تكون كل المناطق الواقعة في مجال الرؤية فيها متَّسمة بالسطوع الثابت. وللأسف، فإن هذا الافتراض ليس أبعد ما يكون عن الحقيقة فحسب، بل يعد أيضًا قلبًا للحقيقة. وكما سنعيد في جزء آخر من هذا الكتاب، لا سيما في الفصل الثامن الذي يتناول الحرمان الحسي بصريًّا (وعاطفيًّا)، فإن الراحة تتطلب التغيير والتنوع المستمر. ووفقًا لما قاله إتش إل لوجان، فإن الكائن البشري في حالة تدفق مستمر. كل وظائف الإنسان تتمدد وتنحسر باستمرار. الأفكار البسيطة سوف تؤثر على التنفس ومعدل النبض. إن ميل التجارب الفسيولوجية والنفسية إلى التذبذب واضح جدًّا لدرجة أنه سوف يحدث حتى إذا ظل العالم الخارجي ثابتًا. إن مناطق السطوع الثابت ستبدو أنها تظهر ببطء وتختفي ببطء، وسوف تغلق فتحة بؤبؤ العين في واقع الأمر وتتسع نسبيًّا، والأصوات الثابتة لن تُسمع على نحو ثابت، وسوف يختلف الإحساس بالذوق والحرارة والبرودة والضغط، وسيكون هذا مستقلًّا على نحو مفاجئ عن المثيرات الثابتة للمراحل الأولى من التعرُّض. وإذا استمرت هذه الرتابة لفترة طويلة، فسوف تتدهور القدرة على الاستجابة للمثير.
يحتاج البشر إلى مثيرات دورية متغيرة ليظلوا حساسين ومنتبهين لبيئاتهم. إن الراحة والانسجام يرتبطان عادة بالتغيير المعتدل، إن لم يكن التغيير الجذري. وهذا التغير يتعلق بالسطوع، بالإضافة إلى العناصر الأخرى الموجودة في البيئة. وإذا كان التنبيه المفرط قد يسبب الضيق، فقد ينتج الضيق عن الرتابة الشديدة أيضًا.
(٩) مخاطر شدة السطوع
الوهج ليس عدو الرؤية الواضحة فحسب، بل عدو الراحة البدنية والعقلية والعاطفية أيضًا. مثال بسيط على ذلك: لا شك أن القارئ قد لاحظ أن الضيق قد يصحب التعرض البصري لملعب مغطًّى بالجليد «حتى في ظل يوم غائم». يقول تي آر سي سيسون: «لطالما كان معروفًا أن إصابة الشبكية تحدث للبشر الذين يعانون من «عمى الجليد»، الذي يعد نتيجة لانعكاس ضوء الشمس.»
يشيع استخدام اللونين الأبيض والعاجي في دهان الحوائط في المنازل. وليس لدي أي اعتراض على ذلك سوى القول إن اللون الأبيض جاذبيته العاطفية ضعيفة؛ فهو حيادي وعقيم، ومن المحتمل أن يكون رتيبًا إن لم يكن مملًّا. إن المساحات الواسعة البيضاء تكون مناسبة من الناحية الجمالية لاستخدام ألوان مميزة في المفروشات. وقد يكون هذا جذابًا، لكن المبالغة في استخدام الأبيض على الجدران (وربما في الأسقف والأرضيات والمفروشات) في أماكن مثل المكاتب والمدارس والمستشفيات؛ سوف تؤدي إلى مخاطر مؤكدة «إذا تضمنت هذه البيئة البيضاء مستويات عالية من الإضاءة أيضًا.»
من الأعمال الكلاسيكية ذلك الكتاب الذي ألفه سي إي فيري وجيرترود راند منذ عدة سنوات بناء على طلب الجمعية الطبية الأمريكية. كتبا في ذلك الوقت أن: «العين تطورت تحت ضوء النهار. وفي ظل هذا الظرف حدثت ثلاثة تكيفات فقط، والعين لا تحتاج حقًّا إلا لثلاثة تكيُّفات فقط، هي: استجابة البؤبؤ لتنظيم كمية الضوء الداخلة إلى العين؛ لمساعدة العدسة في رؤية الضوء المنبعث من الأشياء على مسافات مختلفة، والتكيف والتقارب لوضع الشيء في المحور الأساسي للعدسة، ووضع الصورة في النقرة المركزية.» هذه التكيفات تميل إلى العمل بتناسق، وعند الفصل بينها قد تحدث مشكلة. إن زيادة السطوع في مجال الرؤية، إذا فُصل عن المهمة، قد يتسبب في إعاقة الرؤية. ونتيجة لذلك ستكافح العين من أجل تصحيح الأمور. «إن السعي إلى تنقية الرؤية من خلال سوء التكيف غير الفعال هو سبب ما يطلق عليه عمومًا إجهاد العين.» وكتحذير إضافي، قال فيري وراند في الختام: «إن وجود زيادة في السطوع في مجال الرؤية يسبب استثارة قوية للعين كي تنظر إلى ذلك التوهج وتتكيف معه. وهذه الاستثارة لا بد من السيطرة عليها من خلال جهد إرادي. ونتيجة معارضة التحكم الإرادي للاستثارة الانعكاسية تتعب العين سريعًا، وتفقد القدرة على دعم دقة التكيف اللازم لرؤية العمل بوضوح.»
ويتفق أطباء العيون مع هذا الرأي؛ فالوهج الأبيض، الذي يعد نوعًا من أنواع عمى الجليد الصناعي، يمكن أن يسبب احتقانًا في العين والتهابًا وعتمة، ويمكن أن يفاقم من اختلال عضلات العين، ومشاكل انكسار العين وقصر النظر والاستجماتيزم (اللابؤرية). قد لا يحدث ذلك في يوم ولا في أسبوع، لكن على مدار فترة طويلة. وعند أداء مهام صعبة باستخدام العين، فإن شدة السطوع في مجال الرؤية العام تجعل كفاءة الرؤية معكوسة. وهذا يعني أن العين «سريعة» في التكيف مع السطوع، و«بطيئة» في التكيف مع الظلام. فإذا كانت البيئة المحيطة ساطعة والمهمة مظلمة، فإن القدرة على العمل بكفاءة سوف تصبح متعذرة بشدة.
(١٠) تطبيقات عملية
توجد دروس مستفادة من الملاحظات السالفة الذكر. كثير من قراء هذا الكتاب قد يكونون معماريين، أو مصممين داخليين، أو نقاشين مزخرفين، أو غيرهم من المهتمين بالاستخدام «الوظيفي» للألوان في البيئات البشرية (باستثناء المنازل التي لا بد أن يغلب فيها على الأرجح الذوق الشخصي). وفيما يتعلق بموضوع «السطوع»، فمن الممكن توجيه السلوك والانتباه بسهولة من خلال المبادئ الموصوفة في هذا الكتاب.
لتوجيه الانتباه «خارجيًّا» على أفضل وجه نحو إحدى البيئات، لا سيما البيئات الداخلية التي قد يقوم فيها الإنسان بأعمال «عضلية»، وقد توجد بها مخاطر، يوصى ببيئة ساطعة اللون (أصفر، مرجاني، برتقالي). إذا وجدت العين البشرية الكثير من الإضاءة، فإنها سوف تنظر إلى البيئة المحيطة بها وتتأقلم معها. وقد تتوافر السلامة أيضًا. وإذا كانت البيئة الداخلية تهدف إلى إنجاز مهام أثناء الجلوس، بالاستخدام الشديد للعين أو الذهن، فسيكون من الأفضل تقليل السطوع في البيئة بوصفه مصدر من مصادر التشتيت. ومع حوائط وأرضيات ومعدات ذات درجات ألوان متوسطة (أخضر، أخضر مزرق، رملي، طيني محروق) ووحدات إضاءة إضافية فوق المهام — إذا كان ذلك ضروريًّا — سوف يستطيع الأشخاص التركيز على نحو أفضل. وسيلاحظ أنه خلال أداء المهام الذهنية الصعبة، سيغمض الكثير من الأشخاص أعينهم لحجب البيئة تمامًا. ومن مزايا هذين المبدأين أنهما يسمحان باستخدام مجموعة متنوعة كبيرة من الخيارات اللونية؛ فالسطوع يتصدر الأهمية، ويأتي العامل الجمالي للون كعامل اختياري.
(١١) الرؤية الملونة
حوالي ثمانية بالمائة من الرجال يعانون من بعض العجز في رؤية الألوان، بينما نسبة النساء تقل عن نصف بالمائة. ويتمثل هذا العجز عادةً في عدم القدرة على رؤية الأحمر أو الأخضر أو كليهما؛ فاللون البني والأخضر الزيتوني، على سبيل المثال، قد يبدو أنهما متماثلان.
وتوجد أمثلة قد يكون عمى الألوان فيها ناشئًا عن الاستثارة، أو قد يعقب ظروفًا مرضية معينة. في مرض الصفراء، قد يبدو العالم أصفر على نحو أساسي، وقد تأتي الرؤية الحمراء بعد نزيف الشبكية أو عمى الجليد، وقد تعقب الرؤية الصفراء التسمم بنبات القمعية أو بمادة الكينين، وقد يكون سبب الرؤية الخضراء جروح القرنيَّة. وقد وجدت الرؤية الزرقاء في حالات إدمان الكحول. وفي عتمة التبغ، قد تكون الرؤية حمراء أو خضراء. وفي حالة التسمم بالسانتونين، قد يبدو العالم أزرق في البداية، وقد توجد مرحلة ثانية يستمر فيها المريض في رؤية الأصفر لفترة طويلة، وكذلك مرحلة الرؤية البنفسجية قبل التعافي الكامل. وبعد استخراج المياه البيضاء، قد يصاب المريض بالرؤية الحمراء، وقد يتبعها في بعض الأحيان رؤية زرقاء. ونادرًا ما تحدث الرؤية الخضراء أو الصفراء في تلك الحالة.
خضعت الرؤية وعضو البصر لأبحاث طبية شاملة. وقد بُذلت محاولات في مجال العلاج بالألوان من أجل تخفيف بعض حالات الحزن لدى البشر، من خلال تسليط ضوء ملون على العين في محاولة لاستثارة أعصاب العين أو إراحتها؛ ومن ثم التأثير على الجسم نفسه، ربما من خلال سلسلة من التفاعلات الداخلية. وقد قيل إن تسليط الضوء الأزرق والبنفسجي على العين يعد مبشرًا في حالات الصداع، ويقال إن الضوء الأحمر يزيد من ضغط الدم، ويتعامل مع بعض أنواع من الدوار، ويقال إن الضوء الأصفر أو الأخضر أو الأزرق يخفف آلام الهضم، والضوء الأصفر مفيد في حالات معينة من الاضطرابات الذهنية.
يتناول الفصل الثامن هذه الاستجابات بمزيد من التفصيل. وإذا كان الإنسان حساسًا للألوان، فإن جسمه يصبح أيضًا لوحة للألوان. ويقدم آرثر أبوت في كتابه «ألوان الحياة» وصفًا ممتازًا للمظاهر المتغيرة التي يتخذها جسم الإنسان؛ حيث قال: «تعزى حمرة الدم إلى الأكسجين وثاني أكسيد الكربون. أما الخدود الوردية التي تميز الشباب فتشير إلى الحالة الصحية للدم، مع البشرة الرقيقة التي تتمتع بالصحة. يمكن للرجل الأبيض أن يظهر كل الألوان تحت ظروف معينة؛ ولذلك من الممكن على نحو أكثر ملاءمة أن يسمى «ملونًا»، في حين أن الزنجي — الذي نطلق عليه لفظ «ملون» — هو أسود، وهذا يعني غياب الألوان. إن الرجل الأبيض يمكن أن يبدو أبيض تمامًا بسبب الخوف، أو فقدان الدم … إلخ، ويمكن أن يبدو رماديًّا من الألم، وأحمر من الإجهاد، الغضب … إلخ، وأخضر بسبب الصفراء والسموم المحقونة، وأصفر بسبب اليرقان، وأزرق بسبب البرد وضعف الدورة الدموية، وقلة الأكسجين، وبنيًّا بسبب سفعة الشمس، وأرجوانيًّا بسبب الاختناق، وأسود بسبب التحلل.»
(١٢) الرؤية ليست نعمة دائمًا
أختتم هذا الفصل بملاحظة محبطة: لطالما كتب الشعراء عن نِعم الرؤية، وروى الكتاب المقدس قصصًا عن استعادة العميان للبصر، وتوجد سيناريوهات ومسرحيات كثيرة تحكي عن عالم رائع من الألوان يكتشفه الشخص الذي كان أعمى في السابق. ومن المؤكد أن الرؤية من أعظم نعم الحياة، لكن قصص الكتاب المقدس والأساطير والحكايات الدرامية التي تتحدث عن استعادة البصر لا تقود دائمًا إلى سعادة لا حدود لها للأشخاص الذين عادت لهم الرؤية مرة أخرى، سواء عن طريق معجزة أو بطريقة أخرى؛ يقول آر إل جريجوري في كتابه «العين والعقل»: «يبدو أن الإصابة بالاكتئاب لدى الأشخاص الذين استعادوا بصرهم بعد سنوات طويلة من العمى يعدُّ سمة شائعة في كل الحالات.» ويروي قصة عن رجُلٍ عُمره اثنتان وخمسون سنة كان يجد صعوبة في التأقلم على الرؤية بعد عملية زرع قرنية ناجحة؛ فقد وجد أن ما تعلمه من خلال حاسة اللمس كان متعارضًا على نحو واضح مع الواقع عندما استعاد بصره: «لقد وجد العالم شاحبًا. وكان حزينًا لرؤية تقشُّر وعيوب الدهان على الأشياء. كان يحب الألوان الفاقعة، لكنه كان يشعر بالإحباط عندما يبهت الضوء، وأصبحت خيبات أمله واضحة وشاملة، وكفَّ تدريجيًّا عن الانخراط في الحياة، ومات بعد ثلاث سنوات.» ودعوني أبهج القارئ؛ حيث توجد استجابات أسعد للألوان موصوفة في الفصل القادم!