السفر من حلب
وإنه ما كادت تشرق علينا شمس يوم الأربعاء ٤ ربيع الثاني سنة ١٣٢٨ حتى كنا تأهبنا للسفر، وكان قد حضر لدينا جمٌّ غفير من أهل المدينة، فركبنا العربات من باب الفندق إلى المحطة، وهناك كان في انتظارنا زحام شديد من المودِّعين الكرام، يتقدَّمهم جميعًا عطوفة الوالي وأركان الولاية وأصحاب الحيثيات الكبيرة، وبعد أن تبادلنا السلام والشكر وودِّعنا من حضراتهم جميعًا بما لا يتسع المقام لشرحه من التجلَّة والتفخيم، نزلنا في الصالون الخاص، وكانت المحطة لا تزال تموج بالناس موجًا.
وما هي إلا لحظة وتحرك القطار في طريق حمص، وإذ ذاك لا أستطيع أن أعبِّر عن سروري وابتهاجي بأولئك الحلبيين الأفاضل الذين لم يتركوا في سبيل راحتنا وانبساطنا شيئًا إلا فعلوه، وقد نزل معنا في القطار الوفد الذي كان قد عُيِّن لاستقبالنا في طرف الولاية عندما حضرنا، وما فتئ ابن البخار يتابع السير على عجل إلى أن وقف على محطة حماة، التي كان ينتظرنا على إفريزها صاحبا الوجاهة والفضل؛ زعيم أسرة الكيلانية الشهيرة ورئيس أسرة الأزهري، مظهَرين لنا مزيد الأسف لما فاتهما أولًا وآخرًا من نزولنا في بلدهم.
وقد كانا يودان كثيرًا أن ننزل ضيوفًا عليهما ولو زمنًا يسيرًا، فشكرتهما واعتذرت إليهما بضيق الوقت، وفي تلك الأثناء عُرِضت عليَّ جملة خيل من التي اشتُهرت عندهم بالقوة والجَلَد والصبر على احتمال المتاعب والمشاقِّ، فما وجدت فيها ما يروِّجها من المحاسن والمميزات التي تُعشق بها الخيل وتُقتنى من أجلها الجياد، وهنا ودَّعنا حضرات أصحاب السعادة والفضل مرعي باشا وقومندان الچندرمة وبقية الوفد، وكرَّرنا لهم شكرنا، وعدنا بأجمل الثناء على عطوفة الوالي الذي بذل كل عنايته في إدخال السرور علينا من كل طريق.
ثم تحرك القطار متجهًا إلى حمص التي وصلنا إليها دون أن نشعر من هذا السفر بتعب أو قلق، بل كان ارتياحنا إلى تلك المدينة لا يقل عن ارتياح الإنسان إلى مسكنه ووطنه؛ لما كنا نجده دائمًا من لطف سعادة عبد الحميد باشا الدروبي وكرمه، خصوصًا بعدما تردَّدنا على هذا البلد وأوينا إليه مرة بعد أخرى.
وحينما وصلنا إلى المنزل الذي وصفنا جماله في الدفعة الأخرى حضر إلينا زائران؛ أحدهما شيخ كبير من المعروفين في ضواحي حمص بالصلاح والتقوى، والثاني أمير من أمراء الغرب، وهو نجل الأمير محمد المنبهي، الذي كان ناظر الحربية في مملكة مراكش، فاستقبلناهما بما يليق بمقامهما من الاحترام.
حديث الأمير المغربي
وما كاد يستقر بالأمير مجلسه حتى أخبرنا عن قصته في أيامه الأخيرة، فقال إنه كان قائدًا من قواد الروجي الذي كثيرًا ما ألحَّ في حرب سلطان المغرب واشتدَّ عليه، وإنه كان من أجل ذلك يحارب في الجملة والده؛ ضرورةَ أنَّه كان إذ ذاك وزير الحربية وفي جند السلطان وعسكره، إلى أن قال إن الروجي كان أرسله إلى السلطان عبد الحميد في مهمة تخصُّه، وبينما كان في إسلامبول لأداء تلك المأمورية إذ فجع بخبر قتل الروجي في واقعة، فما زال بعد ذلك مقيمًا هناك متحير الفكر، لا يدري ماذا يُصنع به وقد عدم وليَّه ونصيره.
ثم قال: ومن سوء حظي أيضًا أنه كان معي في تلك الرحلة ولداي الصغيران وامرأتي، ولما أن ضاقت في وجوهنا أبواب المعاش وأسباب الرزق اضطررنا إلى الهجرة من إسلامبول إلى مدينة حمص، وما فتئنا مقيمين بها إلى هذا اليوم في أحد المنازل الصغيرة.
هذا طرف من حديثه معنا، وكان أخبرني سعادة عبد الحميد باشا الدروبي أن هذا الأمير رفيع النفس، وقد حاول بعض المحسنين أن يصله ببعض المال فأبى، وما علمنا أنه نزلت به نفسه وقتًا ما إلى قبول صدقة الناس ولا إحسانهم، وأنه من وقت أن جاء هذا البلد وعرفناه إلى الآن وهو إنما يعتاش من فضل مكسبه الذي يستحصله من كدِّه وعمل يده.
فاستغربت قصة هذا الأمير من حديث الباشا، وقلت في نفسي: لله هذه العفة النادرة من رجل غريب في تلك البلاد البعيدة، وإن مثله لو مد يده لأهل المروءة واليسار لنال من مالهم ما يجعله في غنًى عن الكدِّ والكدح طول حياته؛ لأن الناس مدفوعون بطبيعتهم إلى معاونة أمثاله.
وفي المجلس ناولني ذلك الأمير عريضة يرجوني فيها أن أتكلَّم مع والده في طلب العفو عنه، أما أنا فما كدت أقرأ هذا الطلب في عريضته حتى ارتبكت وتحيرت في مسألته؛ إذ لم يكن يرضيني أن يعيش هذا الأمير وهو لا يزال غضَّ الشباب تلك العيشة المرَّة، ويقضي حياته الطويلة بعيدًا عن بلده وأهله وأصحابه، متجشِّمًا مصاعب العيشة، معانيًا متاعب الحياة أشدَّ مما يعانيه الفقراء البائسون، وإني لأرأف الناس به وأشفقهم عليه من حين بلغني تاريخه، ومن ذا الذي يكون في قلبه مثقال ذرة من الشفقة ولا يتألم لهذا الأمير، أو لا يريد أن يكرمه وقد أصبح بعد العزِّ ذليلًا، وبعد الغنى فقيرًا، وصار يعدُّ من أفراد الناس وعامتهم بعد أن كان لا يحسب إلا في أمرائهم وسادتهم وعظمائهم وقادتهم!
ولكن ماذا عساني أن أصنع في مسألته إذا كان لا يقبل منَّة أحد عليه؛ صغيرًا أو كبيرًا، كما أنه ليس من المستطاع بوجه من الوجوه أن أخاطب والده في طلب العفو عنه بعد أن جرى بينهما ما كان جرى من المحاربة والمخاصمة، وما بدر بيننا؛ لعل في المسألة سرًّا أبعد من كل ذلك؛ فإن والدًا يقسو على فلذة كبده إلى حدِّ أن لا يفرض له وجودًا طول هذه المدة ليس ما ينبني على أسباب بسيطة، أو يترتب على حوادث هينة؛ ولهذا لم أجد لي جوابًا سوى السكوت، وقد كنا بحسن المصادفة مطلوبين لتناول الطعام.