السفر من حمص
وحين بزغت شمس اليوم الثاني، جُهِّز لأجلنا أربع مركبات، كان من ضمنها مركبة سعادة عبد الحميد باشا الدروبي الخاصة، وثلاث من مركبات الإيجار، فركبت العربة الأولى ومعي سعادة الباشا المذكور، وركب حضرة عزيزنا أحمد بك العريس ومعه محمود خيري أفندي عربة بعدنا، أما العربتان الباقيتان فقد ركبهما اثنان من توابعنا، ومع كل واحد منهما بعض المتاع الخاص بنا، وقصدنا إلى طرابلس؛ حيث إنه لم يُمدَّ إلى الآن خطٌّ حديدي يربط بين حمص وبين طرابلس، ولا يزال المسافرون من هذه إلى تلك يركبون إما العربات أو الدواب.
وعلى كل حال، فإن السفر في هذا الطريق سهل، بل هو في المعنى أشبه بالفسحة الرياضية؛ لِمَا يصادف المسافر فيه من الأغراس اليانعة والأحراش الجميلة، ثم إننا قبل أن نتحرك ودَّعنا سعادة متصرف المدينة وحضرات الحكام وأكابر القوم، الذين كانوا قد حضروا إلى دار سعادة الباشا لهذا الغرض، وشكرناهم وذكرنا لهم معروفهم في غير مرة بغير عبارة، وبعد ذلك ابتدأنا السير، وكان أمام عربتنا أربعة من عساكر الچندرمة، وأربعة آخرون مثلهم من خلفها، وما برحنا نواصل السير في ذلك الطريق حتى وصلنا إلى سرادق جميل كان قد أعدَّه لأجلنا بالخصوص حضرة المفضال محمود بك، أحد زعماء مشايخ الدنادشة، وكانت مسافة مسيرنا منذ خرجنا من حمص حتى وصلنا إلى هذه النقطة لا تبلغ أكثر من نصف الساعة.
في الطريق
وهناك كان ينتظرنا حضرة البك المذكور مع لفيف من أسرته الكريمة، بينما كان نحو مائة وخمسين فارسًا مصطفِّين على خيلهم أمام تلك الخيمة بغاية النظام، وقد كان بين ظهرانيهم فتاتان من بنات العرب، مثقلتين بالحلي على لبوسهما العربي اللطيف، وفي إحدى يدَيْ كل واحدة منهما سيفٌ، وفي الأخرى منديلٌ، ثم هما كانتا تغنِّيان بين هؤلاء الفرسان لأجل تشجيعهم وتهييج عاطفة الفروسية فيهم.
وقد نزلنا من العربات ودخلنا ذلك الصيوان، وبعد أن أخذنا منه مجالسنا قدمت لنا القهوة ثم الشراب، ولم نلبث بعد أن شربناهما إلا مسافة عشر دقائق، ثم قمنا فمررنا أمام أولئك الفرسان الذين كان يركب أغلبهم أفراسًا تتبعها أولادها المِهارة؛ وإذ ذاك أخذ العرب الخيَّالة يتبارون في اللعب ويتغالبون على الخيل، وفي أيديهم بنادقهم على نحو ما يُرى في الملاعب والميادين، مما يسمَّى في عرف العامة بالبرجاس، وقد خِفتُ حينئذٍ أن ينفلت رصاصهم على غير عمد فيصيب أحدًا؛ لأن بنادقهم كانت من الطراز الحديث، وهي من النوع الذي لا بدَّ لإطلاق عبوته الهوائية من وجود الظروف الرصاص فيها أولًا؛ ولذلك طلبت إليهم أن يكفُّوا عن الضرب في ذلك الملعب.
وفي تلك الأثناء كانت البنتان تدوران حول الخيَّالة من هنا ومن هناك، وتترنَّمان بأناشيد الحرب ونغمات الطعن والضرب، فكانتا تنبِّهان بذلك الغناء المؤثِّر عواطفَ الفوارس، وتحركان فيهم غريزة الحمية والشجاعة، حتى أخذت الحماسة من نفوسهم مأخذًا عظيمًا.
وما زالوا كذلك حتى ركبنا العربات، وركب حضرة محمود بك فرسًا وسار بجانب عربتنا، وتبعه جميع الخيَّالة من خلفنا وأمامنا وعلى جانبينا أيضًا، وهم بين أن يعدُوا سراعًا ويعودوا بطاءً ويتنوَّعوا في ألاعيبهم الحماسية جريًا ووقوفًا ودفاعًا وهجومًا، إلى غير ذلك مما لا يدرك وصفه إلا بالرؤية والمعاينة، وقد كنت حين ذاك أعجب بشجاعة أولئك القوم ومهارتهم فوق ما كنت أعجب، وأعجب أيضًا من أبناء الأفراس الصغار التي كان عمرها في الغالب لا يزيد عن أسبوعين، ومع ذلك كنت أشاهدها تتبع أمهاتها في تلك المسافات البعيدة على هذا السير الحثيث وتتحمل مشقة السفر والجري، وقد أخذتني بها من أجل ذلك رأفة شديدة، فطلبت من أولئك الراكضين أن يخفِّفوا السير ويتئدوا؛ لكيلا يشقُّوا على تلك المهرات المساكين وهي في ذلك السن الصغير.
ثم ما فتئوا يركضون على طول المسير، ويلعبون بأعظم مهارة وأكبر حذق، وكان فيهم فارس كبير السن يلبس ملابس دندشية قديمة يسمَّى عثمان أغا، وهو يمتاز عن إخوانه بحب الظهور عليهم في الفروسية، وخفة الحركة. وحقيقةً كان هذا الفارس العجيب يبدي أمامنا من ضروب المهارة، في الغدوِّ والرواح والصعود والهبوط على الصخور الجبلية، ما كنا نعجب منه غاية العجب، وكذلك كان له حذق غريب في عبور النهر وهو فوق حصانه الذي كان يعدو تارة في الأرض وأخرى في الماء أسرع من الطير وأخف من الهواء، حتى استغربنا أي استغراب من جسارة هذا الرجل الفارس وجراءته المدهشة على ركوب الخيل بتلك الكيفية التي كانت فوق التصور.
وما زلنا كذلك حتى دخل بنا الطريق في مضايق بين جبلين، فكنا بين أن نصعد مسافة إلى فوق ونهبط أخرى إلى تحت، وكان لا يزال على جانب عربتنا حضرة محمود بك، وهو ممتلئ رجولية وشهامة، لا سيما وأنه طويل القامة عظيم الشارب كبير الأهداب، تتجلَّى فيه الفروسية بأخص أوصافها وأجلى معانيها، وهو مع ذلك مهيب وقور.
حادثة في الطريق
وقد حدث في أثناء السير أن فرسًا من أفراس الركب — لا أدري لمن — كان ضَرَبَ فرسَ ذلك البك في ذراعه الأيمن فجرحه جرحًا بليغًا ما زال يشخب دمًا، حتى صبغ ساق ذلك الفرس المجروح بالدم، فأحمرَّ بعد أن كان أزرق اللون، وقد خِفتُ على هذا الفرس المصاب أن يهلك تحت راكبه؛ لأن الجرح كان خطرًا؛ حيث كان النزيف مسترسلًا بقوة، ومن ثمَّ طلبت إلى محمود بك أن ينزل عنه؛ إشفاقًا عليه ورحمة به، أما هو فما كان ليهمه أصلًا أن يموت الفرس أو يعيش، ما دام في صحبتنا وضمن رفاقنا، حتى قال — حفظه الله — ما معناه: إني لأجعل فداءك نفسي، وما فرسي بأعز عليَّ منها.
ثم تأخر عنا نحو دقيقة، وقد كنا حسبنا أنه نزل عن الفرس، ولكنه ما لبث أن جاء إلى جانبنا كما كان، ورأينا أن ليس على فرسه أثر الجرح، ولا ذلك الدم الذي رأيناه وقت الحادثة وكان ينزف نزيفًا، ففهمنا أنه كان في تلك المسافة الصغيرة يعالج الفرس، ولكن لست أدري بماذا عالجه، وأي دواء يصل مفعوله من السرعة إلى هذا الحدِّ!
وقد عرفت أن بعض الفرسان المهاجمين كانوا من أبناء البكوات الدنادشة، وهم أحداث تتراوح أعمارهم بين السابعة والعاشرة، ومع ذلك فإنهم كانوا يحسنون الركبة مثل ما يحسنها آباؤهم وكبارهم، كما كانوا يتقنون اللعب ويتفنَّنون فيه كأنهم مارسوه من زمان كبير، ولا بدع أن يكونوا كذلك؛ إذ قد تربوا على الشجاعة منذ نشأتهم، واعتادوا على الفروسية وركوب الخيل بكثرة التدرب والتمرين.
ثم دخلنا في ميدان فسيح، وكان لم يمضِ على سيرنا أكثر من ثلاثة أرباع الساعة، وهناك كان ينتظرنا عدد كبير من الخيالة ومعهم البكوات الباقون من عشائر الدنادشة، فاجتمع الفريقان وصاروا ركبًا واحدًا ونحن لا نفتأ نتابع السير، حتى وصلنا إلى تل كلخ، وهو واقع في الحدود الفاصلة بين ولايتي بيروت ودمشق، وفي آخر حدود الدنادشة، وإذ ذاك كنا قد دخلنا في وقت الظهر، وحان ميعاد الغداء، فذهبنا إلى بيت حضرة محمد بك محمد، وهو زعيم مشايخ عربان الدنادشة، ونزلنا عليه ضيوفًا بعد أن طلب إلينا ذلك بإلحاح الكرماء.
وكان ينتظرنا هناك بعض مستخدمي الحكومة، وقد قُدِّم إلينا الطعام على مائدة كبيرة تَسَعُ عشرين نفسًا، وكانت على النمط الأوروبي، وفيها ألوان عديدة وأصناف كثيرة متنوعة، فأكلنا متلذِّذين من حسن الطعام وإجادته، أما الركب الذي كان معنا — وقد عرفتَ كثرتهم — فقد كانوا يأكلون جميعًا موزَّعين على عدة موائد، وطعامهم كان قاصرًا على الأرز واللحم، ولم يكن ذلك ليدهشني؛ لأني لا أستغرب أن يجتمع على موائد هؤلاء العرب عدد كبير كالذي رأيناه أو أكثر، وأنا أعلم أن العرب قوم جُبِلوا على الكرم، وطُبِعوا على البذل والسخاء، وإنما الذي كنت أعجب منه عجبًا شديدًا هو تجهيز مائدة على الطراز الغربي الصرف، وأن القوم عربٌ شرقيون من سكان الجبال.
ثم بعد أن تهيأنا للسير شكرنا لحضرة محمد بك محمد تلك العناية العظمى، وأثنينا كذلك على عشائره الكرام لما بذلوه من الهمة والمعروف، وقد اجتذبني إلى هؤلاء العرب جمال هندامهم وحسن بزَّتهم، وكان بودِّي لو أن تطول عشرتي بينهم؛ لأتمتع كثيرًا برؤية منظرهم الجميل، لولا أن الوقت قصير محدود، على أني لم أبارحهم حتى عمدت إلى أخذ صورتهم بواسطة الفوتوغراف؛ لأحتفظ بها تذكارًا لهم على طول الزمان.
وبعد ذلك أخذنا نسير بين الفرسان على الهيئة التي بيَّنَّاها أولًا، وإني على قدر ما كنت فرحًا مسرورًا بهذه المظاهرات الجليلة كنت آسفًا من أني راكب عربة ولم أكن فارسًا ضمن أولئك الفوارس الشجعان، فأركض فرسي ليعدو سريعًا في ذلك الميدان، وكان يكثر نزوعي إلى مباراتهم كلما كنت أنظر إليهم فأشاهد خفَّتهم على الأفراس وهم يذهبون بها هنا وهناك؛ تارةً يهجمون وأخرى يدافعون، وآونة يسرعون وأخرى يبطئون.
استطراد في السياحة
يسافر الإنسان إلى أقاصي البلدان، ويرحل عن وطنه أحيانًا لباعثٍ مخصوصٍ وقصدٍ معلومٍ، ثم يتَّفق أن يعترضه في طريق رحلته شيء أو أشياء كثيرة لم تكن لتدور من قبل في خلده، أو تخطر له ببال، ثم كثيرًا ما يصادف أن يكون بعض الشيء من ذلك هامًّا خطيرًا إلى درجة أن ينسى معه الإنسان غرضه الذاتي، وربما لم ينسَه، ولكن يهمله إهمالًا ويُعنى بذلك الشيء العارض، ويحصر كل عمله فيه، وهكذا تتفاوت الأمور وتتباعد مراتبها.
وكل أمرٍ يأخذ من عناية الإنسان واجتهاده بقدر أهميته في نفسه، أو مركزه من الفائدة والمنفعة في اعتقاد صاحب العمل، وقد قيل احترام كل شيء إنما يكون بقدر الحاجة إليه.
عرف القارئ من مجمل ما تقدم بالضرورة أن سياحتنا في بلاد سورية كان القصد منها أولًا يدور حول ثلاثة أغراض، لا يخلو منها جملة مسافر في الغالب؛ الأول: تبديل الهواء؛ طلبًا للصحة والعافية. الثاني: مشاهدة معالم المدن الشهيرة في سهول الشام وعلى جبال لبنان. الثالث: الاطلاع على كرائم الخيل العربية والشامية التي تمتاز بها هذه البلاد منذ العصور القديمة.
وقد كان هذا المقصد الأخير من أهم بواعث السفر وأعظم أسبابه، ولقد بحثنا جُهدَنا ونقَّبنا آخر ما كان يمكننا عن تلك الخيل لعلنا نصل منها إلى غايتنا، فلم يتفق أن نرى في نتيجة هذا البحث سوى الخيل العادية التي لم تطابق رغبتنا، ولم تكن لتمتاز في نظرنا بوجه من الوجوه.
ذلك كان على الرغم من أن الصدفة خدمتنا كثيرًا في هذا الموضوع، وساقت إلينا فيما ساقته من ذلك النوع أكثر مما سعينا إليه وتعرفناه بأنفسنا في غير مرة وغير مكان.
هذه كانت مقاصدنا الذاتية، وأغراضنا الجوهرية الأولى، ولكننا صادفنا في غضون السياحة من أخطر الأمور وأجلِّ الأعمال ما اتفق أن نجده في طريقنا عَرَضًا، مما لا نرى في استطاعتنا بيانه على وجهه بأكثر من أن نخيِّل القارئ عليه في هذه الرحلة، فيرجع إليه رجوعًا خاصًا، ويدركه — حينئذ — واضحًا مفصلًا في مواضعه بالأسباب والمناسبات، وما كنا لنورده اقتضابًا، وإن الحديث يتفرق بالإنسان شعبه ووجهه، ويتشبث بعضه ببعض، وأراني — بحمد الله — قد استفدت من تلك الأمور على ما فيها فوائد جمَّة ما كان أشدَّ حاجةَ مثلي إليها.
وإنه ما كان يتيسَّر لي بحال أن أستفيدها جملة وأنتفع أو أنفع بها أبدًا إلا من هذا الطريق؛ طريق الصدفة العجيبة، التي كثيرًا ما كانت تفاجئنا على غير حساب سابق وموعد متقدِّم، ورُبَّ صدفة خير من ميعاد، ولولا أن وقتي الذي حتَّمته المقادير لهذه السياحة كان شهرًا واحدًا، وهو وقت قصير بالقياس إلى ما كان يلزم للتجوُّل في مناكب الشام الواسعة وجوانبها الشاسعة، لكنت استفدت أكثر من ذلك كثيرًا، ولكانت تكون رحتلي هذه كتابًا ضخمًا يحوي في طوايا صحائفه مجموعة صحيحة صريحة من أنواع متفرقة وفنون متنوعة.
أمَّا ما كنت شرحته من حياة القوم الاجتماعية وأخلاقهم وآدابهم وشجاعتهم وسياستهم، فإنه لم يكن بالشيء القليل ولا بالأمر الغامض، بل لعل فيما ذكرته من هذا القبيل كفاية لمن أراد أن يعرف على وجه الإجمال ماذا كان تكوين ذلك الشعب الشامي الجليل، وما هي أحواله العمومية، أو أراد أن يفهم كيف كان شأني فيما بينهم من أول السفر إلى آخر خطوة خطوتها في أرض تلك البلاد.
نعم، إن الظروف التي وُجدتُ فيها كانت تأبى عليَّ في غالب الأحيان أن أجتمع إلا بكبار القوم وخاصتهم، ولهؤلاء صفات وشمائل لا توجد في مطلق الناس، وعلى الرغم من أني كنت أتحيَّن الفرص من وقت إلى آخر لكيما أختلط بالعامة وأمارسهم، شأن من يهمه الوقوف على المبادئ والعادات، لم يصادف أن يجتمع لي وقت كافٍ، أو تتيسَّر لي معهم ممارسة طويلة، إنما كنت أختلس بعض الزمن، وأجد منهم ذلك غرارًا مثل حسو الطير ماء الثماد، وإنه ليصعب مع هذا جدًّا أن يحيط الإنسان بتفصيل موضوع أخلاقي في مجموعة كبيرة تختلف من وجوه كثيرة، وأن يلمَّ من ذلك بما لو أراد أن يعطيه للمستفيد موضوعًا وافيًا ودرسًا كافيًا تحت عنوان أخلاق الشعب وعوائده، لجاء فيه على الكفاية من كل شعبه وأطرافه، لا سيما وأنه موضوع دقيق يحوج إلى نظر ورويَّة ريثما يدعو إلى عشرة طويلة واحتكاك عظيم، ولعل الحاكم بعد ذلك على أخلاق القوم وعوائدهم يغلِّب الحكم عليهم تغليبًا، أو يبني رأيه على القياس، وهو على كلا الحالين لا يتجاوز موقف الظن، ولا يتعدَّى وجه الشك في كل الذي يدَّعيه إيجابًا أو سلبًا.
غير أن ذلك لم يكن ليحول بيني وبين ما أردته من تعرُّف عامة الشعب الشامي، ودرس أخلاقهم على وجه الإجمال بالقدر المستطاع، مما عساه أن يعود ببعض الفائدة، وما لا يُدرك كلُّه لا يُترك جلُّه، وذلك بالطبع كافٍ لمن كانت مدة سفره ذهابًا وإيابًا شهرًا واحدًا، بل هذا ما لا يطمع في أكثر منه إلا من كان ينقطع للشيء، لا يفرغ منه حتى يتغلغل فيه ويحيط بجميع أطرافه وحدوده.
وعلى ذلك، إذا نحن ادَّعينا الآن ما ادَّعيناه أولًا من أن الشاميين في مجموعهم قوم حميدو الخصال رقيقو الشمائل، فيهم وداعة ولطف وسماحة، لا نكون قد أكبرنا الدعوى أو أعظمنا الحكم، ثم نحكم ونحن مطمئنون بأن أخلاق الخاصة منهم وأحوالهم غاية في الرقي والكمال، ونخصُّ بالذكر من بين هؤلاء جميعًا ذلك المفضال الأكرم، والسري الكبير الأفخم، سعادة عبد الحميد باشا الدروبي، الذي كان قد انتهى دوره معنا في تل كلخ بعد أن طلبنا إليه أن يعود — مع سلامة الله — إلى بلده حمص، وما كان يريد إلا أن يرافقنا إلى طرابلس؛ مجاملة منه ولطفًا فوق لطفه السابق ومعروفه الكبير.
ولكني أبيت عليه إلا أن يرجع لمباشرة مصالحه التي غاب عنها منذ استقبلنا حتى صرنا في تل كلخ، وهو في تلك المسافة كلها كان يلازمنا ملازمة الظل للشاخص، فما كان يبارحنا ولا طرفة عين إلا إذا اقتضته إلى ذلك ضرورة من نومٍ وخلافه، وقد كان مع هذا رجلًا كبير السن، يشقُّ عليه السفر وتتعبه كثرة الحركة والركوب؛ لذلك على الخصوص أشفقت عليه وما زلت به حتى ودَّعنا وعاد — بالصحة والسلامة — تاركًا في قلوبنا أعظم حب ووداد.
السفر من تل كلخ
وبعدئذٍ قدِّمت لنا عربة سعادة عمر باشا الخاصة التي كانت تتنظرنا في التل، فركبناها وركب معنا حضرة عزيزنا أحمد بك العريس، وكان أمام عربتنا ومن ورائها ثلة من عسكر الچندرمة على الترتيب الذي أسلفناه، وكان خلف ركابنا مباشرة عربة حضرتَيْ الفاضلَيْن عَلَم الدين بك وشقيقه، اللذين جمعَنا بهما حسن الحظ في ذلك الموضع، وهما يقيمان الآن في مدينة طرابلس في جهة الميناء، وقد كانا قبل ذلك في مصر، ولهما نسبة خاصة بالبيت الخديوي منذ حياة المغفور له ساكن الجنان وَالِدِنا؛ ولذلك كان لعلم الدين هذا أمل وطيد في أن نكون ضيوفه مدة إقامتنا في بلدهم؛ حتى إنه ألح كثيرًا في دعوتنا إلى ذلك، ولكننا كنا أجبنا سعادة عمر باشا العكاري، الذي كان قد سبقه بالدعوة، وهو الرأس الأكبر في قبائل العكاكرة، والزعيم الوحيد الذي إليه الرجع في شئونهم وأمورهم، فلم يبقَ في الوسع إذ ذاك سوى الاعتذار إلى علم الدين بك العذر المقبول، غير أنه أبى مع هذا أيضًا إلا أن نتناول لديه طعام الغداء قبل مبارحة طرابلس.
وقد أجبناه حيث لم يكن ثمة مانع، وشكرنا له معروفه، ثم كان وراء عربتهما عرباتٌ أخرى يركبها أتباعنا مع المتاع، فسرنا تكلؤنا رعاية الله وتحوطنا عنايته، بينما كان الفرسان المتسابقون يحيطون بركابنا من جميع الجهات، وما برحنا بين هؤلاء الجموع ننحدر على طريق التل، والمناظر الطبيعية البديعة كانت حولنا في طول ذلك الطريق المنحدر وما بعده من أبهج ما نظرته العيون وانتعشت به الأرواح، إلى أن بدت لنا معالم طرابلس قائمة على شاطئ البحر.
وكنا ونحن سائرون نستنشق في نسمات الشمال روائح ذكية تفوح علينا من أزاهير اللارنج والبرتقال على مسافة ساعة من البلد تقريبًا، وعندما كنا والمسافة بيننا وبين المدينة تقرب من نصف الساعة وجدنا في استقبالنا جمهورًا عظيمًا من فرسان العكاكرة؛ حيث كانوا ينتظروننا في تلك الجهة، وعلى مقدِّمتهم ذلك البطل الباسل سعادة عمر باشا العكاري، ممتطيًا جوادًا أزرق اللون محكم الخلقة، فجاء إلى جانبنا وتبعه قومه، فالتقى الجمعان على هيئة الجيشين يلتقيان في ساحة الوغى وميدان النزال، ومن ذلك الحين أخذ الاحتفال صورة جديدة ومظهرًا رهيبًا مهيبًا.
وقد استمر بنا السير على تلك الحال حتى ترجَّلنا عن مركباتنا عند بيت خارج المدينة، وهو منها على مسيرة بضع دقائق؛ إذ كان قد خرج عن البلد لاستقبالنا في ذلك البيت سعادة عاكف بك متصرف مدينة طرابلس في مقدِّمة عدد كبير من رجال الحكومة وأعيان المدينة وعلمائها ووجهائها، وهناك مكثنا بعد أن تصافحنا وتبادلنا السلام والتحية ريثما تناولنا القهوة والمرطِّبات اللذيذة، وفي تلك الأثناء تقدَّمت إلينا كريمة سعادة المتصرف وأهدتنا باقة ورد جميلة كانت تحملها بيدها اليمنى لذلك الغرض، فتقبَّلناها منها بقبول حسن، وشكرنا لها هديتها، كما شكرنا لوالدها وجميع الحاضرين إذ ذاك عنايتهم وكرمهم، ثم عمدنا إلى عرباتنا وانتظم الموكب كما كان أو أحسن.
وأخذنا نسير من ذلك المكان بين صفوف الألوف من أهل المدينة والضواحي الذين كانوا يختلفون بين رجال ونساء وكبار وصغار، وكلهم كانوا يتزاحمون على رؤيتنا ويتسابقون إليها على نحو ما يُشاهَد في الاحتفالات الكبيرة التي تشهدها الناس ويجتمعون لها من قريب وبعيد، حتى كان يخيَّل إلينا وقتئذٍ أننا نمر في حفلة المحمل المصري.
وكذلك كان سيرنا طول المسافة حتى وصلنا إلى بيت صاحب السعادة عمر باشا، الذي كان قد سبقنا إليه ليستقبلنا عنده هو وشقيقه وبقية أسرته الكريمة التي كانت كلها من ذوات الرتب السامية والألقاب العالية، وقد وجدنا عند مدخل البيت من حفاوتهم وترحيبهم ما أنطق ألسنتنا بالثناء الجميل على أفراد هذه الأسرة الفخيمة من رأسها إلى ذَنَبها.
بيت عمر باشا
أما البيت فكان من أبدع البيوتات منظرًا، وأجملها موقعًا، وأحسنها ترتيبًا ونظامًا، وقد زاده بهاءً وحسنًا ما كان عليه من الزخرف والزينة، وهو قائم في ناحية من المباني عن وسط ميدان واسع، يُرى من ورائه هيكل البلد في أحد قسميه قائمًا على تلٍّ مرتفع، وإنه ما كانت تمر لحظة وتأتي بعدها لحظة أخرى حتى كنا نحس من أنفسنا بفرح مزيد وسرور جديد وارتياح ونشاط؛ سبب هذا ما كنا نشاهده آنًا بعد آنٍ من حسن وفادة القوم وإخلاصهم الذي كان يتجلَّى مثل فلق الصبح في أقوالهم وأفعالهم.
نعم، إني لا أزال أذكر معروف هؤلاء الأفاضل زعماء العكاكرة وسادة قضائهم، فأشكرهم عليه دائمًا أبدًا، ثم ما كدنا نجلس في ردهة الاستقبال وتستقر بنا مواضعنا حتى توافد علينا جميع الأعيان والحكام والعلماء والرؤساء الروحيين، فسلَّمنا عليهم وشكرنا لهم تكرر المقابلة، وتبادلنا بعض الأحاديث جريًا على العادة، ثم صعدنا إلى غرفتنا التي خُصِصنا بها في هذا البيت، وحيئنذ أشرفنا من النافذة لنرى ما كان يحيط بنا من الزحام الهائل، وإذا بذلك الميدان الفسيح، الذي يبلغ بأقل تقدير ثلاثة أضعاف ساحة عابدين في مصر، كان مكتظًا بالناس إلى حدِّ أن أحدهم كان لا يجد في الأرض أكثر من موضع قدميه، ولا في الفضاء ما كان يسعه يحرك رأسه، بل لم أبالغ إذا أنا قلت كما تقول العامة في أمثالهم المشهورة: «ترش عليهم الملح ما ينزلشي!»
وبعد أن تناولنا الطعام الشهي على مائدة سعادة الباشا، واسترحنا قليلًا، قصدنا إلى الحديقة العمومية في هذا البلد؛ حيث كان دعانا سعادة المتصرف لتناول الشاي فيها، ولقد رأيناها مزدانة مزخرفة، وكانت الطرق التي سلكناها إلى تلك الحديقة غاصَّة بالأهالي إلى درجة لم تُعهد إلا في الاحتفالات العظيمة، وما كان منهم من أحدٍ إلا وكنت أشاهد السرور يتألَّق على وجهه.
وقد لبثنا هناك نتحدث نحن وأصحابنا في شئون عامة، إلى أن شربنا الشاي وتناولنا ما لذَّ لنا وطاب مما كان أُعِدَّ على تلك المائدة الشائقة، وأُطلقت أمامنا الألعاب النارية الجميلة، وعزفت الموسيقى بالسلام، وتمَّت الحفلة فوق ما يرام، ثم عدنا إلى بيت سعادة الباشا، وأقمنا فيه ليلتنا مستأنسين بحديثه وسمره، مسرورين مبتهجين بما رأيناه من سامي عناية القوم ولطفهم.
وحين ظهرت شمس اليوم التالي، وكان يوم جمعة، نمى إلينا ونحن في البيت أن خيلًا كثيرة وجِمالًا عدة آتية لأجلنا من ناحية الجبال، عليها فوارس عكار بمزاميرهم وجمهور من بنات العرب غفير، وما لبثنا أن رأيناهم جاءوا في الميدان، وكان يلتفُّ بهم عدد كبير من أبناء البلاد، ثم شرعوا يزمرون ويلعبون أمام البيت في ذلك الميدان الرحيب الذي غص بهم، حتى لم يبقَ فيه متسع لغيرهم، بينما كان معظم أهل لمدينة فوق التلِّ يشرفون منه ومن البيوت على ألاعيب أولئك العرب الخيالة ونسائهم، وينظرون مهارتهم المدهشة في المغالبة والمضاربة بالجريد والرماح هجومًا ودفاعًا وكرًّا وفرًّا.
وحقيقةً، كان هؤلاء الفوارس مهرة حذاقًا، يحسنون اللعب على متون الصافنات الجياد بمختلف أنواعه وأشكاله، وقد كان بين أظهرهم ثلاثة فرسان ظهروا على الكل وامتازوا بالخفة والبراعة، فكان لهم فوق ما كان للجميع من العجب والاستحسان، واستمر الحال كما وصفنا حتى قربت صلاة الجمعة، وحينئذٍ تأهبنا لها وذهبنا ومعنا سعادة المتصرف وبقية أصحابنا إلى الجامع الأكبر المسمَّى بجامع طيلان.
مسجد طيلان
هذا الجامع واقع في الجنوب الغربي من المدينة، فأدَّينا الفريضة فيه، وكنا نلاحظ أن المسجد على اتساعه العظيم كان غاصًّا بالناس، بل رأينا أن كثيرًا منهم كانوا يصلُّون خارجه؛ لضيقه عليهم، ثم عمدنا إلى زيادة المخلفات المحمدية — على صاحبها أفضل الصلاة والسلام — فقبَّلناها مرارًا متبرِّكين بها لنسبتها الشريفة، بينما كان رجال من أهل الطريق يقرءون الأدعية والأوراد بصوت جهوري.
ومن هناك خرجنا مشاة في أول السبيل، والناس مصطفُّون على حافتي الطريق كأنهم بنيان مرصوص، وأقدرُهُم إذ ذاك الذي كان يظفر برؤيتنا ويظهر عليهم فيها، ثم جيء إلينا بالعربات تشقُّ غمار المحتشدين، وتأخذ طريقها من بيهم غصبًا، فركبناها وقصدنا بيت حضرة الفاضل علم الدين بك لتناول طعام الغداء عنده؛ إجابة لدعوته السابقة.
وهذا البيت كان في الميناء الذي يوجد فيه جزء عظيم من المباني؛ لأن المدينة التي يطلق عليها اسم طرابلس تتألَّف من الأبنية الواقعة على شاطئ البحر، ومن تلك الأبنية التي ذكرنا أنها على الهضبة بالقرب من بيت عمر باشا العكاري وبين التلِّ والميناء مسافة ربع الساعة تقريبًا بمسير العربات، ويربط بينهما خط الترام العريض في طريق جميل، يجد فيه المسافر على اليمين واليسار بساتين كثيرة وحدائق غنَّاء، غرسُها في الغالب من شجر اللارنج والبرتقال الذي كان يملأ الجو بعبير زهره الفياح.
وقد عرَّجنا في هذا الطريق على بيت جناب القومندان، فزرناه وشكرنا له همَّته وجميله، وبعدما أكلنا هنيئًا وشربنا مريئًا لدى حضرة علم الدين بك، قصدنا إلى مياه الميناء، ومنها نزلنا في زورق حتى وصلنا إلى إحدى بواخر الشركة الخديوية، وقبل ذلك كنا ودَّعنا أصحاب السعادة المتصرف وعمر باشا وأخاه وغيرهم ممن كانوا يرافقوننا في تلك المرة، وشكرنا لهم جميعًا معروفهم ومجاملتهم مدة إقامتنا عندهم.
وحينما وصلنا إلى الباخرة وجدنا فيها خدمنا مع المتاع؛ حيث كانوا قد سبقونا إليها، وبعد بضع دقائق من نزولنا أقلعت — على بركة الله — وكانت الساعة وقتئذٍ اثنين ونصفًا بعد الظهر، وممن كان نزل معنا حضرة علم الدين بك وشقيقه؛ لمناسبة أن الأول كان مندوبًا من قِبَل الشركة من جهة، ولكي يجد من مرافقتنا في طريق البحر إلى بيروت عوضًا له مما فاته من تلك الضيافة التي كان ألحَّ علينا فيها إلحاحًا، وهو يتمناها من صميم فؤاده.
وبعدما تحركت الباخرة ذهبت مني التفاتة إلى الشاطئ، فوجدت على بُعدٍ بعيدٍ سعادتي الفاضلين عمر باشا العكاري وأخاه آتيين إلى مرسى السفينة بسرعة، يُظن منها أنهما كانا يقصدان مرافقتنا في هذا السفر، ولكنا كنا قطعنا مسافة طويلة، وبهذا السبب لم يدركا غرضهما، وعلى كل حال فإني شاكر لهما هذه الهمة القعساء والمروءة الشمَّاء.
أَمَا وقد وصلنا إلى هنا فلا بدَّ لنا من كلمة على مدينة طرابلس؛ حيث هي من المدن الكبيرة والمراكز الشهيرة.