إلى بيروت
ومن هناك ركبنا السيارة حيث كانت الساعة اثنتين بعد الظهر، عائدين مدينة بيروت التي لم نلبث أن نقيم فيها إلا قليلًا، ثم قصدنا إلى زيارة مدرسة المارونيين، وهي تلك المدرسة التي كنا استبدلنا بها زيارة غبطة البطريك.
(١) المدرسة المارونية
وصلنا إليها، وعند ذلك وجدنا في انتظارنا على بابها جناب وكيل البطريك وعددًا كبيرًا من حضرات القسس، فسلمنا عليهم ورأينا من استقبالهم لنا وترحيبهم بنا ما أنطق لساننا بشكرهم، ثم دخلنا إلى المدرسة بينما كانت الموسيقى المدرسية تصدح بالسلام الخديوي، وكان التلاميذ جميعًا مصفوفين صفوفًا منتظمة، وكلهم يترنَّمون بالأناشيد والأدوار التي كانت تتضمَّن الدعاء للحضرة الفخيمة الخديوية.
فمررنا على صفوفهم يحيُّوننا ونحيِّيهم إلى أن دخلوا بنا في قاعة واسعة جميلة كانوا أعدُّوها لاستقبالنا وزخرفوها ووضعوا فيها كراسي متعددة، وجعلوا في صدرها كرسيًّا خاصًّا ممتازًا، فأجلسوني عليه، وجلس على يميني حضرات وكيل البطريك وكبار القسيسين والرهبان، ولمَّا أن استقرَّ بنا المجلس قام قسيس من هؤلاء وألقى خطبة باللغة العربية، ضمَّنها أولًا مدح مصر وذكر فضائلها، ومدح الأسرة الحاكمة الخديوية، ثم تكلَّم على مناقب المغفور له محمد علي باشا ومحاسنه في الشرق، وقد أفاض في هذا الموضوع تمهيدًا منه للرد على بعض شبان الأتراك الذي كان كتب مقالة ضافية في إحدى الجرائد جعل لُحْمتها وسُدَاها الانتقاد على أسرة محمد علي باشا، واختصَّنا منها بجانب عظيم لا ندري ماذا كان سببه.
فقال الخطيب ما ملخصه إنه لا ينكر أحدٌ من الشرقيين والغربيين ما كان للأمير الكبير المرحوم محمد علي باشا من الأعمال الجليلة والفضائل الكثيرة، التي نهضت بالشرق إلى ما جعله مع الغرب في مستوى واحد، ولولاها لما كان يقوم الشرق من وهدته، ويستيقظ من رقدته، وهي التي لا تزال تمرُّ عليها الأزمان ويراها الناس آنًا بعد آنٍ، وتترسل بها الأنباء بين الآباء والأبناء. إلى أن قال ما مفاده: وإني لا أعجب من شيء في الدنيا عجبي من واحد تكون الحقيقة واضحة أمامه يراها بعينه ويلمسها بيده، ومع ذلك ينكرها وهو يحسب أن إنكاره هذا يؤثر في تلك الحقيقة، ويجعلها في نظر الناس مثل ما هي في نظره.
الشيء الثابت لا يضره فرضُ عدمِه مطلقًا، ولكن الذي استطاع أن يخدع نفسه ويفرض عدم الموجود أو وجود المعدوم ليعيش في عالم الفروض والتقادير، هو ذا حقيقةً المسكين، الذي ما استفاد من عمله سوى أنه شوَّش دماغه وملأه خيالًا باطلًا؛ كالأروي الذي غرته قوته فحسب أنه إذا نطح الصخرة أوهنها ونفذ بقرنه في أحشائها، فلما فعل ونظر إلى الحجر ليعلم هل نال منه وأثَّر فيه نطحُه، لم يجد إلا أن مجاهدته عادت عليه بكسر قرنه بعد خفوق سعيد وخيبة ظنه.
بينما الناس جذلون مسرورون بوجود سمو الأمير الجليل محمد علي باشا في بلادهم، وإذا بشاب من أبناء الترك قام في هذه الأيام وكتب في إحدى الجرائد مقالةً ذمَّ فيها رجل الشرق الوحيد، مؤسس العائلة العلوية وأكبر فخر للمصريين، وهذا عمل لا يوافقه عليه أحد من العقلاء، وإنه إذا كان أبناء الترك لا يريدون أن يعترفوا بجميل محمد علي باشا وفضله، فإن أبناء الشام لا ينسون ما كان لهذا الأمير الكبير من الإصلاحات الهامة والمنافع العامة التي عادت على الأمة في كل ما تستدعيه ضرورياتها وحاجياتها بالفوائد الكثيرة والثمرات الكبيرة.
أجل، إن تاريخ مصر منذ عهده ينطق عليه بالفضل، ويشهد له بالمهارة والنبل، ويؤيد ما اتفق عليه المصريون والشاميون، بل الشرقيون جميعًا من أن هذا المصلح العظيم هو الذي طيَّر المدنية إلى مصر، وهناك وضعها حيث عرف كيف يستفرخها وينتفع منها بما لا تزال تتدرَّج به البلاد في طريق رقيِّها وسعادتها من يوم إلى يوم، حتى كانت قد بلغت في إبَّان عهده من الحضارة والعمران إلى ما صارت به وردة زاهية في يد الشرق، يتيه بها ويُعجب، حتى إن الغرب نفسه كان يحسد الشرق عليها، وينظر إليها من بعيد وهو لا يستطيع أن يشمَّ لها ريحًا.
هذا كان خلاصة ما قاله الخطيب على مسمع منا ومن إخوانه، أما أنا فلست أقدِّر أسفي من أني أرى واحدًا من أبناء المسلمين يهجو ويذم محمد علي باشا وينكر فضله، بينما المسيحيون لا يزالون يقدِّرونه حق قدره، ويعترفون له بالجميل، ثم يقومون في المحافل ويدافعون عنه، وكان مثل هذا التركي المسلم أولى وأحق بالمدح والدفاع هذا!
وقد كان في ضمن ما تفوَّه به حضرات المحتفلين ذكر المارونيين المستخدمين في مصر والمقيمين بها، وبيان عناية الحكومة المصرية بهم، خصوصًا الجناب الخديوي، وبعدما شكرناهم وأبدينا لهم سرورنا ذهبنا متجهين إلى الفندق، وهناك تجهَّزنا للسفر، ثم خرجنا فأدَّينا ما كان علينا من الزيارات؛ حيث زرنا دولة الوالي، ودولة متصرف لبنان، وحضرة القومندان.
وقبل قيامنا من بيروت بلغتنا حادثة أزعجتنا وكدَّرت صفونا، وهي خبر وفاة المأسوف عليه الخواجة سرسق؛ فقد كان لهذا الخبر أشد تأثير في أنفسنا بعدما أنه كان دعانا لتناول الطعام في منزله وكنا أجبناه إلى ذلك، ولكننا منذ بلَغَنا نعيُه عدلنا عن الذهاب لهذا الخصوص، على الرغم من أن أسرته كانوا قد أستعدوا بالفعل.
وقد ذهبنا لتعزيتهم وشكرهم على همتهم الكبيرة التي لم يكن ليمنع منها هذا الحادث، وهو أشد ما يكون على نفوسهم، ثم توجَّهنا إلى الباخرة الفرنساوية بعد الظهر مودَّعين من حكام المدينة وأعيانها ومظاهرها بما كان لا يقل في الرسميات عن الاستقبال.