في الفندق
دخلنا الفندق وكان ينتظرنا عند مدخله صاحبه ومديره ومندوب من قِبَل شركة كوك، وهؤلاء أرشدونا أولًا إلى الحجرات التي خصصت لأجلنا هناك؛ حيث كنا أرسلنا قبل قيامنا من مصر إشارة برقية إلى صاحب هذا الفندق بإعداد الغرف اللازمة لنا فيه، وبعد ذلك دخلنا البهو ومعنا دولة الوالي الذي كان لا يزال مرافقًا لنا، فجلسنا نتبادل من الحديث ما كان لا يتجاوز الترحيب منه بنا، والشكر منا له. وما لبثنا إلا ريثما تناولنا القهوة مع دولته، حتى وَفَدَ إلينا ثانية جميع الذين كانوا قد خرجوا لمقابلتنا في الباخرة وعلى رصيف الميناء، فاستقبلناهم بغاية الحفاوة شاكرين لهم تكرر الزيارة، معترفين لأصغرهم قبل أكبرهم بذلك الجميل العظيم والمعروف الكبير.
ثم مكثنا طويلًا نتحدث، وقد تناول حديثنا أطرافًا عامة، كان منها أن سألونا عن المدة التي قدَّرناها لزيارة مدينتهم، وما كدت أن أخبرهم بأني سأبارحهم ثاني يوم قاصدًا إلى مدينة دمشق، حتى نهضوا جميعًا مستغربين ذلك الخبر، وأخذوا يلتمسون منا بإلحاح شديد أن نطيل إقامتنا بينهم، وأن أقلَّ ما يرجونه من المكث في ضيافتهم هو أربعة أيام. وإذ وجدت أن هذه المدة كبيرة لا تتفق هي وما كنت رسمته في خطتي من قبل، أسفت كثيرًا؛ لأني لم أستطع إجابتهم على وفق غرضهم؛ حيث كان الوقت ضيقًا، وكان السفر أمامنا طويلًا، على أني وعدتهم بالإقامة في بلدهم يومين عند العودة إن شاء الله؛ إجابة لملتمَسهم، ومكافأة لهم على صدق محبتهم لنا وحسن شعورهم وأميالهم نحونا، ثم استأذننا دولة الوالي في الانصراف، فرافقناه إلى أن ركب العربة شاكرين له ما أبداه لنا من العناية والاهتمام، وقد انصرف على أثره حضرات الزائرين أيضًا، مودَّعين منا بمزيد من الشكر والثناء.
كل هذا والخدم لم يزالوا متأخرين، وما ندري وقتئذٍ إذا كانوا في الطريق أم ما برحوا موجودين في الباخرة، وكان يهمنا حضورهم سريعًا بالمتاع.
وفيما نحن ننتظرهم بفروغ الصبر، إذ رأيناهم يصعدون على سلم الفندق وبينهم عبد أسود كان يحمل وحده صندوقنا الكبير، فعَجِبنا من قوة ذلك العبد؛ لأن الصندوق كان قد وصل من الثقل إلى حيث لم يُتصور أن يحمله واحد فقط؛ ولذلك أُعجبنا بهذا الأسود القوي إعجابًا عظيمًا، وحينئذ مالت نفسنا أن نخاطبه ببعض كليمات ترتاح إليها نفسه، ويأنس بها طبعه، على عادتنا مع كل شجاع نشيط؛ حيث إن لنا ميلًا خاصًّا إلى الشجعان الأقوياء، فخاطبناه بما دلَّ على أميالنا نحوه، على أننا كافأناه وأجزناه فوق أجره بما شرح صدره وسر خاطره.
(١) رد الزيارة
وقد كنا طوينا العزم على ردِّ بعض الزيارات في هذا اليوم لمن كانوا قد خفُّوا لاستقبالنا وزيارتنا مرة بعد أخرى، ورأينا أن نبادر بذلك؛ حتى لا يفوتنا أداء ما استحقَّه علينا أولئك القوم تلقاء ما لاقيناه من حفاوتهم وكرمهم، وحتى نتفرغ لمشاهدة ما يهمنا أن نطَّلع عليه في تلك المدينة؛ إذ ليست مدة إقامتنا فيها إلا ساعات؛ لذلك أوعزنا إلى الفندق أن يُشعِر بعزمنا هذا دولةَ الوالي الذي استحسنَّا أن نردَّ زيارته في دار الحكومة، ودولةَ متصرف جبل لبنان الذي كان في هذا الحين مقيمًا في مدينة بيروت، وجنابَ قومندان العسكر الشاهانية.
وقد رأينا أيضًا أن نزور هذا الأخير في مقر سلطته، وإنما أشعرناهم بذلك لكي يستعدوا لمقابلتنا في المواضع التي تخيرنا زيارتهم فيها، ثم إني طلبت إلى بعض خدمي إحضار الملابس المعتادة في الزيارات الرسمية، فلبستها وكنت قد استوفيت استعدادي كله لهذا الغرض في مسافة لا تزيد عن ربع الساعة.
نزلنا من الفندق وكنا نحسب أننا سنذهب على تلك المركبات العامة التي يستأجرها النزل لمعامليه في ضمن ما يلزمهم، ولكنا وجدنا جملة عربات خاصة قد أرسل بها إلينا بعض أعيان المدينة الكرام، فركبت إحداها، وكان معي حضرة الفاضل أحمد بك العريس، وركب عربة ثانية البكباشي خيري أفندي، وذلك الضابط الذي أسلفنا أنه مندوب الحكومة لخدمتنا.
وكانت لنا الكفاية من هاتين العربتين. ولعل السبب في إرسال تلك العربات، أنهم لم يجدوا من مركبات الإيجار ما كان يوافق ركابنا في حفلة حافلة تشخص إليها أبصار المحتشدين على طول الطريق وعرضه، أما الموكب فكان رسميًّا منتظمًا؛ حيث كان يسير خلفنا وأمامنا بعض الجند السواري على الهيئة التي وصفناها حال حضورنا من الميناء حتى الفندق. وكان طريق مرورنا، من وسط شوارع المدينة التي كانت غاصَّة من الجانبين بالأهالي على اختلاف أعمارهم وتفاوت أقدارهم. وكان سروري يتجدَّد كلما كنت أرى أولئك الناس متشبثين بالعوائد الشرقية، ومتمسكين بالملابس القديمة والأزياء الفطرية، ثم كنت أشاهد كثيرًا من العامة يتَّخذون مجالسهم من المحال العمومية؛ كالقهاوي والحوانيت التجارية، ويتعاطون من المكيِّفات المباحة ما جرت به عوائد معظم الناس في جميع الجهات تقريبًا؛ فمنهم من كان يدخن بالأنابيب، التي تُصنع عادة من أغصان الياسمين، وتتحلى مباسمها غالبًا بالكارم الأصفر الجميل، وهي عين ما كان يستعمله المصريون للتدخين من عهد غير بعيد، ويسمى في متعارف أصحاب الكيوف بالشبك.
ومنهم من كان يدخِّن بالنارجيل، على نحو ما يشاهد في القهاوي في مصر، غير أن استعمال هذا النوع في بلاد الشام أكثر منه في البلاد المصرية، وبعضهم كان يتعاطى القهوة، وآخر يشرب الشاي، إلى غير ذلك مما يشبه أن يكون نسخة طبق الأصل من عوائد المصريين في بلادهم.
ولهذه المناسبة نذكر هنا كلمة عن الأخلاق ممَّا تعرَّفناه في تلك الرحلة؛ لعل القارئ يدرك منها نسبة ما بين العناصر الشرقية بعضها إلى بعض، على ما بينها من تباعد المواطن، وشتات الأماكن، وتباين الأسباب والعلل، واختلاف الملل والنحل، ثم نعود فنذهب في طريقنا إن شاء الله.
استطراد في الطريق إلى بحث أخلاقي
إن ما صادفناه من عوائد أولئك الشاميين في محافلهم ومجالسهم، ليس في الغالب ما يختص بالشاميين دون سواهم، بل هو يكاد يكون عامًّا يشاهده الإنسان في جهات كثيرة، ويعرفه في عوائدِ أكثر الآدميين الشهيرة، غير أن الناقد الذي يتبيَّن فاضل الأشياء من مفضولها، ويميز أجناسها من فصولها، ويرجع بفروعها إلى أصولها، عندما يُعنى بالتنسيب، ويقايس بين أخلاق أهل الشام وبين أخلاق أهل مصر؛ لا يجد من مسافة الفرق بينهما بُعد ما يجده من غيرهما. ولا نستغرب أن نجد أن مجموعة العوائد والأخلاق في الشام تشبه من معظم الوجوه مجموعتها في مصر؛ إذ كان الشرق أبا القبيلين ومُربيَهما معًا. على أن علة اكتساب الأخلاق والصفات، لا بد أن ترجع إلى اختلاط الناس وامتزاجهم بعضهم ببعض، مهما اختلفت مطالع الشموس، وتباينت منازع النفوس. وإنه كما قد تتقوَّى العلائق، وتتوثَّق الروابط بين الناس، وتتضائل وتضعف على نسبة ما يكون من المعاشرة ويقع من الاختلاط، قوةً وضعفًا وكثرةً وقلةً؛ كذلك يكون الحال في تشابه أخلاق الناس وعاداتهم؛ سواءٌ في ذلك ما كان من التشابه بين الآحاد والأفراد، وما كان منه بين الأمم والجماعات.
ومن أجل هذا نشاهد أن كثيرًا من الغربيين قد أكسبهم طول العشرة لأهل الشرق خُلُقًا غير خُلُقهم، وعادةً خلاف عادتهم، حتى تراهم فلا تكاد تفرِّق بينهم وبين الشرقيين إلا في قليل مما قويت فيه ملكاتهم وفُطِرت عليه غرائزهم. كما أنَّا نرى مثل ذلك في كثير من أبناء الشرق، وما كان يكون هذا أصلًا لولا شدة الاختلاط وطول المعاشرة، وإن كنا لا ننسى أيضًا أن من المراجع القوية والأسباب المهمة في ذلك عشقَ العادة، والميل إلى تقليدها في الغير، كما يُشاهَد في كثير من المقلِّدين الذين بالغوا في تقليد الأجنبي، إلى حدِّ أنهم عادَوْا عوائدهم وكرهوا تقاليدهم.
على أنه كثيرًا ما ينطبع في بعض الناس خُلُقُ غيره، ويقوى فيه إلى درجة أن يصير منه بمنزلة طبعه وسجيته. وعَدْوى الطبائع معروفة كعدوى الأدواء، سريعة الانتقال صعبة الزوال، ومن ثَمَّ كان ينبغي أن يحتاط الإنسان ما أمكنه من مجالسة ذوي النفوس الخبيثة والأخلاق الرديئة، وأن يتخيَّر أصحابه وذوي مجلسه دائمًا من الحكماء والأدباء وأرباب النظر البعيد والرأي السديد؛ فإنه ما أخلق صاحب هؤلاء أن يستفيد دون أن يخسر! وأجدر جليس الجهال والسفهاء أن يخسر دون أن يستفيد! وفي هذا المعنى يقول الشاعر العربي:
ويقول آخر:
وبالجملة فإن الإنسان، من حيث هو إنسان، له من أصل فطرته استعداد تام لقبول كل ما يدخل عليه من خير أو شر، فمثله كمثل المرآة تنطبع فيها صورة ما يعرض عليها من حَسن أو قبيح؛ لذلك هو يستطيع أن يتحوَّل كيف شاء متي شاء؛ فالشرقي الذي نبت في صميم الشرق وتربَّى على مبادئه، يمكنه أن يكون وقتًا ما مضاهيًا لأبناء الغرب، حتى كأنه رضع مع ابن الغربية من ثدي واحد، وما كنا لنسغترب أن نرى أبناء الشام يشبهون أبناء مصر في تقاليدهم وعوائدهم، ونحن ندرك ما بين الشعبين من كثرة الاجتماع وشدة الاختلاط لأسباب ووجوه متعددة؛ منها تبادل التجارات الشرقية، واتحاد اللغة، وقرب الجِوَار، ذلك فضلًا عن كونهما من الحكومة العثمانية بمثابة عضوين من جسم واحد.
عود إلى بدء
هذا وقد كنت أرى قطرات من الخيل تمرُّ في طرق المدينة مثقلةً بالأحمال كما تسير قطرات الإبل في بلاد العرب، فأستأنس بهذا المنظر الشرقي، وأرتاح له ارتياح الظمآن عند رؤية الماء، حتى إذا نحن وصلنا إلى سراي الولاية التي كانت واقعة في وسط المدينة — وقد ألفيناها من الخارج كبيرة الحجم ضخمة البناء، إلا أنها كانت بسيطة المنظر، لا يُرى عليها من الوشي والزخرف، ولا من جمال الزينة، ما تتحلى به عادة قصور الحكَّام وبيوت الأمراء — أشرنا إلى من كان معنا من الجند بانتظارنا لدى الباب الذي دخلنا منه، حيث هناك كان القراه قول يؤدي لنا مراسم التحية والإجلال.
وما أوشكنا أن نصعد على سُلَّم السراي، حتى كان قد استشعر دولة الوالي بقدومنا، فخرج لاستقبالنا في الحال، وسار بنا إلى البهو الكبير، حيث جلسنا هناك وقتًا نتحدَّث بعد أن قدَّم لنا دولة الباشا الوالي جملة من كبار الموظفين في دائرة الحكومة، وقد تناول حديثنا مع دولته عدة مواضع، أذكر أني سألته في خلالها عمَّا إذا كان يَحسُن بمثلي أن يطوف على بعض جهات المدينة ليرى آثارها وعجائبها، وأن يختلط في هذه البلاد ببعض القوم، إذا هو أراد أن يجاملهم برد زيارة أو إجابة دعوة، أو ما يشبه ذلك مما قد يحصل عادة بين الضيف والمحلي، على أني ما قصدت من رحلتي إلى بلاد سوريا سوى تبديل الهواء والتنزه؛ طلبًا للصحة والوقوف على آثار الشام وغرائبها؛ لكي أضمَّ ما أعرفه منها إلى ما سبق لي أن عرفته من البلاد الأخرى، وإني أخشى إذا أنا فعلت شيئًا مما ذكرته أن تتشوَّش الحكومة العثمانية منه، أو أن ينالنا من قِبَلها شيء.
وقد بادرني دولته بأني أكون مطلق السبيل في سياحتي، وأن ليس عليَّ حرج أن أزور من الناس من أحب، وأن أتجوَّل من جهات المدينة وضواحيها فيما أريد، وحينئذٍ تبادلنا عبارات الشكر والثناء.
أما دولة ناظم باشا، فقد رأينا منه في ذلك المجلس الصغير رجلًا رشيدَ السياسة، سديد الرأي، غاية في الذكاء والفطنة، وديع النفس، ليِّن العريكة، لا يشك محدِّثه في أنه تربى في حجر الفضيلة تربية صحيحة، واستفاد من احتكاكه بسياسة الشعوب وتقلُّبه الكثير في أرقى مناصب الحكومة خبرةً واسعة وعلمًا غزيرًا؛ وبالجملة، فإنه من أعظم رجال الحكومة العثمانية كفاءة واستعدادًا لإدارة شئون البلاد وسياسة الرعية.
ثم إننا وجدنا في تلك السراي من كثرة المستخدمين والزائرين ما كان يدلُّ على شدة الحركة وتواصل العمل.
زيارة متصرف جبل لبنان
بعدما انقضت زيارتنا لدولة الوالي توجَّهنا مودَّعين من دولته بكل حفاوة إلى دار صاحب الدولة يوسف باشا متصرف لبنان، وهي مكان جميل المنظر، قائم على مرتفع من الأرض في بقعة من بيروت تُعرف بالروميلي، وهناك توجد أيضًا مساكن قناصل الدول وثراة المسيحيين وأعيانهم، فاستُقبِلنا عند مدخل السراي بفرقة من العساكر ومعها موسيقاها، وقد أُعجبتُ كثيرًا بارتداء هؤلاء الجند السلط والسراويل، وبأنهم رجال ضخام الأجسام طوال القامة، تبدو عليهم علائم القوة والشجاعة، حتى لا يرتاب رائيهم في أنهم من نخبة الشجعان وصفوة الفرسان.
وكان أول من استقبلنا عند الدخول دولة المتصرف وكاتب أسراره، حيث دخلا بنا في ردهة الاستقبال، وإذ ذاك عرَّف إلينا قرينته على عادة الغربيين في التعارف، أما هذه السيدة المصونة فكانت ذات جمال نادر، وذكاء باهر، وبين جنبيها نفس مهذبة وأخلاق كريمة، وأما دولة الباشا فقد كان يزيد على اللطف والوداعة محبة وإخلاصًا لنا ولعائلتنا؛ مما استوجب شكري لهما وامتناني منهما.
وكان دولته يودُّ كثيرًا أن تطول إقامتنا في جبل لبنان؛ ليُكرِم وِفادتنا ويُحسِن ضيافتنا هناك، فسُررت منه جدًّا، خصوصًا عندما عرفت منه رجلًا فاضلًا محنَّكًا، قد اكتسب بالتجارب الكثيرة والتقلُّب في خِدمات الحكومة خبرةً تامةً وسياسةً رشيدةً، كما أنه قد استفاد من التربية الصحيحة والتعليم العالي لطفًا وأدبًا، غير أن الظروف كانت لا تسمح لي بأكثر من إجابته إلى تناول طعام الغداء عند دولته في ظهر اليوم الثاني، ثم بارحنا دارهم حيث كانت تحيِّينا الجنود في الوداع بمثل ما كانت حيَّتنا به عند الاستقبال، مودَّعين من لدن دولة المتصرف وجميع من كان معه بغاية الحفاوة والاحترام.
زيارة القومندان
ومن هناك ذهبنا إلى القشلاق، حيث فيه مركز جناب قومندان الموقع العسكري في حكومة بيروت، وهو بناء فخم جميل واقع على ربوة، وحينما وصلنا إلى هذه الثُّكنة حيَّتنا الجنود عند مدخلها، وأدَّت لنا مراسم التعظيم كالعادة، وقد أخذنا مجالسنا في البهو الكبير منها، وهناك رأينا ساعة كبيرة تدق للساعات العربية والإفرنكية، ووجدنا أيضًا صورة إمبراطور الألمانيين ملونة بالزيت على جرمها الطبيعي، يحيط بها إطار يقرب طوله من ثلاثة أمتار، وعرضه من مترتين ونصف، فاستغربت جدًّا أن أرى في هذا المكان صورة إمبراطور ألمانيا ولا أرى صورة ملك البلاد وسلطانها، وليس موضع الغرابة من هذا إلا أن القوم مسلمون من حكومةٍ سلطانُها مسلم، وهم مع ذلك يحتفلون بصورة غير سلطانهم، ويعلِّقونها على جدار ذلك القشلاق! فلم يسعني حينئذٍ غير أن أسأل جناب القومندان لماذا وجدت هنا هذه الصورة دون صورة السلطان.
فقال: إن جلالة الإمبراطور حينما ساح سياحته في البلاد الشامية وجاء إلى بيروت، تخيَّر منزله في تلك الثُّكنة، حيث أُعِدَّ له مكان خاص أقام فيه مدة وجوده في هذه المدينة، وقد منح جلالته المكان هذه الصورة لتكون تذكارًا له في ذلك القشلاق.
هذا وأقول لعل جلالة الإمبراطور قد راق لعينيه ضخامة المحل وفخامة شأنه، فلم يشأ أن يبارحه بذاته ويفارقه بجسمه حتى يحل فيه بصورته ورسمه.
ثم بارحنا جناب القومندان بعد أن وُدِّعنا منه ومن رجاله بمثل ما قوبلنا به، حيث قصدنا إلى الفندق، وقد كان جاء ميعاد الغداء الذي ما كدنا نستريح بعده حتى وَفَدَ إلينا جمهور كبير من المسافرين بقصد زيارتنا.
(٢) حديث مع بعض التلاميذ
وكان بين أولئك الوافدين بعض طلبة المصريين في كلية الأمريكان ومدرسة اليسوعيين، فاستقبلناهم بما يليق بهم من الحفاوة والإكرام، وقد مكثوا في مجلسنا زمنًا غير قليل، كان حديثنا في أثنائه يدور غالبًا على نظام التدريس والتعليم في المدارس والكليات النظامية، وكنت أشجِّعهم على طلب العلم، وأحثُّهم على المثابرة والجد في تحصيل الواجبات المدرسية، على شريطة أن يقرنوا خُطاهم في سبيل تلك الغاية الشريفة بالنية الصحيحة والفكرة الصالحة، وهنا قلت لهم إن طلب العلم، وإن كان في حدِّ ذاته هو أسنى مطالب الإنسان وأسمى رغائبه في تلك الحياة، بل العلم هو وحده الأساس الذي لا اعتماد للسعادة إلا عليه، والأصل الذي لا استناد للفضيلة إلا إليه، غير أنه لما كانت منافعه متعددة وفوائده متفاوته، كانت نوايا الناس إليه مختلفة ومقاصدهم نحوه متباينة؛ فمن فريق يطمح إلى تحصيل الأعراض الزائلة والأغراض السافلة، ومن فريق آخر يطمع في تكميل عقله وتثقيف فكرة، إلى غير ذلك من المطالب الكثيرة؛ فمَثَلُ العلم كمَثَلِ الشجرة العظيمة، إذ يقصد إليها جماعة من الناس، وكلٌّ له منها مقصد معين؛ فواحد يريد ظلها، وآخر يبتغي أغصانها، وآخر يطلب ثمرها، ولقد يَصدُق على الجميع أنهم يطلبون الشجرة، ولكن شتان ما بين طالب الظل منها وبين طالب الثمرة.
فأنا أنصح لكم معشر التلاميذ النجباء أن تصرفوا كل همتكم الآن في تحصيل المعارف والعلوم التي حبستم عليها شبابكم، والتي من أجلها هجرتم أوطانكم وتركتم أهلكم وإخوانكم، وأن لا يبرح عن فكركم أبدًا أن لأمتكم عليكم حقوقًا، يجب أن تجعلوها دائمًا نصب أعينكم، وأن تجتهدوا ما استطعتم لأدائها عندما تطلب منكم، وأن لا تجعلوا لزخارف الدنيا وأعراضها سلطانًا على أنفسكم، فتملككم وتغلبكم على أمركم، وأن تشتغلوا بالعلم قصدًا إليه نفسه، وحبًّا له لِذاتِه، لا لأن يكون وسيلة إلى غاية منحطة، ولا مقدمة إلى نتيجة فاسدة؛ فإنكم أفطن من أن ألفتكم إلى أن العلم ليس مفيدًا حيثما كان، بل قد يكون مضرًّا في بعض الأحيان، وكثيرا ما يتجاوز ضرره صاحبه إلى غيره.
وأنتم أيضًا فوق أن تُنبَّهوا إلى ما كان من علماء الغرب الذين ظهرت فوائد علمهم الغزيرة، وثمراته الكثيرة في الاقتراحات العديدة والاختراعات المفيدة، التي نحن الآن متمتعون بها في كثير من أمور حياتنا الفردية والاجتماعية؛ مما جعل هؤلاء العلماء تفتخر بهم بلادهم وتشتهر بأسمائهم جهاتهم، حتى استحقوا أن يُحمدوا ويُشكروا من كل من عرف قيمة الحياة وأدرك سر الاستعمار.
ثم قلت لهم إنه يسوءني كثيرًا أن أرى أناسًا يضيِّعون زهرة شبابهم في التعليم على قصد أن يكونوا يومًا ما مستخدمين في الحكومة، أو من أهل الثروة واليسار في البلاد، أو ممَّن يطمعون في الامتيازات العرضية؛ كالرتب والنياشين والألقاب؛ نعم يسوءني ذلك؛ لأني أجد القسم الأول لم يستعمل فكرة ومواهبه إلا فيما تقتضيه منه شئون الحكومة، فتتضاءل مداركه وتتعطل مواهبه، ثم لا يلبث أن تنحصر معلوماته الواسعة في دائرة أضيق من صدر الأحمق.
وأما القسم الثاني والثالث فقد أرادوا غايةً دون ما كان ينبغي أن يُطلب بالعلم ويُذهب إليه من طريقه؛ إذ إن الرتبة — مثلًا — إذا لم تكن عنوان ما في نفس صاحبها، وشعارًا للتربية النافعة والتعليم الصحيح؛ فلا قيمة لها حتى ولا بين قومه وعشيرته، أمَّا الذي يضمن للمرء عزَّه في كل مكان، ويستوجب احترامه من كل إنسان، ويجعله دائمًا في الصف الأول، ومن العز في المحل الأرفع والمكان الذي لا يتحول؛ فإنما هو العلم الصحيح؛ أقول الصحيح لأن كثيرًا من العلماء لم ينفعهم علمهم في تحصيل ما قد أرادوه من سبيله، فاتخذوا منه مطيَّةً إلى الشقاء، وسبيلًا إلى الضلال، ومن أمثال هؤلاء تُستنبط الحيل وتُدبَّر المكائد، التي بها تفشو المضار وتكثر المفاسد.
وإنه لا غرابة أن يكون العلم سببًا من أسباب الشقاء وهو بعينه أصل السعادة وطريقها ما دامت تختلف عليه نوايا العاملين، وتتفاوت في طلبه مقاصد العالمين، وإني لا أحدثكم بألذَّ من عيش العالم العاشق للعلم؛ فلقد تمرُّ عليه الحوادث والعاديات، فيطلع عليها وهي لا تنال منه إلا ريثما تنال الصورة المتحركة والخيالات العادية عن الحقائق، فمثل هذا يعيش ما قُدِّر له أن يعيشه في هذه الدنيا مرتاح القلب مطمئن النفس، لا يفرح بشيء يأتيه، كما لا يأسف على شيء يفوته؛ لأن ثروته كلها في العلم، فهو به في غناء عن كل ما عداه.
وهكذا كنت أبثُّ نصائحي للتلاميذ كلما دخلت مدرسة من مدارس الشام، وقد كنت أُلْفِتُهُمْ إلى ما كان للشرق في التاريخ الأول من المجد والعز، وسعة نطاق المعارف، وكثرة الصنائع والحرف، مبينًا لهم أن بناء الشرق الشامخ وشرفه الباذخ لم يكن قائمًا إلا على أساطين الحكمة وعماد الفضيلة، فإذا كنا نحس الآن بنقص عظيم في علومنا الحيوية وحاجاتنا الضرورية، فإنما ذلك لأن الشرق ما زال لم يعوِّض ما كان فقده من علمائه وحكمائه، الذين أخلصوا في خدمته وتفانوا في العمل على سعادته، إلى أن قلت لهم: إذن يجب عليكم — بوصف أنكم رجال المستقبل — أن تستصحبوا دائمًا في عملكم نية أن تكونوا أول العاملين على رقي البلاد وإعلاء شأنها، وأن تسدُّوا منها هذا الفراغ العظيم، وتكملوا فيها ذلك النقص الكبير، وما ذلك على همتكم ونشاطكم بعزيز.
هذا خلاصة ما دار بيننا وبين الطلبة من الحديث، وقد سرَّني منهم كثيرًا أني كنت أجدهم مصغين غاية الإصغاء لما أقول، وأن نصائحي نالت من نفوسهم غاية الاستحسان والقبول، وقد زادني إعجابًا بهذه النشأة الطيبة ما أظهروه لنا من المبالغة في حب عزيزهم أمير البلاد، وتعلُّقهم الشديد بعرشه السامي، وإخلاصهم الكبير لذاته الكريمة، كما هو الواجب على كل شعب لأميره وحاكمه؛ نعم، وكما هو الواجب الذي ينبغي أن تتربَّى عليه النفوس من صغرها حتى ينتقش فيها ذلك، فلا تحتُّه الدسائس ولا تنحته الوساوس.
ثم إنهم عندما هموا بالانصراف، قدَّموا إلينا قانون جمعيتهم مُعنونًا بقانون جمعية التلاميذ المصريين في كلية الأمريكان، ومُصدَّرًا بصورة سمو الجناب العالي الخديوي، وسنذكر — إن شاء الله — هذا القانون بنصه في خاتمة الرحلة؛ ليعرف منه حضرات القرَّاء أسماء أعضاء الجمعية وما اشتمل عليه من المواد.
وقد قابلت منهم ذلك الإهداء الجميل بالثناء العاطر والشكر الجزيل، ودعوت لهم الله أن يكلِّل مشروعهم بالنجاح، ويتوِّج عملهم بالفلاح، وبعد ذلك خرجوا من عندنا جَذِلين مسرورين، على أن سرورنا إذ رأينا أدبهم ونشاطهم كان في وزن فرحهم أو هو يزيد، كيف لا وإنَّ أقل ما كان يقتضيني أن أسرَّ حينئذٍ أني قابلت شبيبة بلادي تجاهد في سبيل العلم مجاهدة الأبطال، وإنها لقد تركت وراءها من أجل استحصاله كل مرتخص وغالٍ! ورجوت أن يكون ما تظاهر به أولئك الطلبة النبهاء من محبة مولاهم ومحبتنا غير مشوبة بشائبة النفاق والرياء، وأن يكون ليس من نوع المحبة العارضة بسبب البعد والاغتراب، ولا من قبيل ذلك النسب الذي انتحله امرؤ القيس في قوله وقد أناخ بعسيب:
(٣) زيارة المدرسة الحربية
توجَّهنا في شباب يوم الأحد ٢٣ ربيع الأول سنة ١٣٢٨ إلى زيارة المدرسة العسكرية الابتدائية، وكان موقعها من المدينة في قسم الباشورة، وهي تحتوي على سبعين تلميذًا تقريبًا، تبلغ سنُّ الواحد منهم من سبع سنين إلى أربع عشرة سنة، وقد طفت على كل فصول هذه المدرسة ودوائرها، وكان المعلِّمون يختبرون التلاميذ أمامنا فيما يتدارسونه من العلوم الجغرافية والهندسية والتاريخية وغيرها، جريًا على العادة، فسُررنا من نجابة التلاميذ واستحضارهم، ثم تعهَّدنا غرف النوم ومواضع الأكل والطبخ أيضًا، فسرَّنا اختيارها ونظافتها سرورًا بليغًا؛ ولذلك أثنيت حميد الثناء على القائمين بشئون هذه المدرسة عمومًا، خصوصًا الأساتذة الذين ظهر لي حسن عنايتهم بتربية الطلبة وتعليمهم، ممَّا كنت أراه من إجابتهم السارَّة على أسئلة أولئك المعلمين.
غير أني لاحظت شيئًا واحدًا هناك، وهو عدم تمرين التلاميذ على حمل السلاح، وتعويدهم عليه في صغرهم وشباب عمرهم، مع أن المدرسة حربية، وكان يجب أن يوجد ذلك فيها، بل أن يكون من أول دروسها وأهم حصصها! وقد سألتهم عن سبب هذا النقص المحسوس، فأجابوني بما كان لا يلاقي اعتراضي عليهم؛ قالوا إن المدرسة ابتدائية، وإن التلاميذ أحداث صغار.
وقلت: إن المدرسة الحربية الإعدادية في الجهات الأخرى تعطي أبناءها السلاح في ضمن ما يتعاطونه وهم صغار؛ لينشئوا على حبه، ويتمرَّنوا على حمله، ولكي تتربَّى فيهم من حال الصغر ملكة الشجاعة، وتغرز في سجاياهم القوة والجراءة، ومن ذلك يستشعر التلميذ من نفسه بالشهامة والإقدام. نعم، لا ننكر أن الجيش العثماني من أقوى الجيوش وأشجعهم قلبًا وأشدهم بأسًا، اشتهر ذلك عن هذا الجيش، حتى إنه لا يوجد على ظهر المسكونة أحد يجهله أو يرتاب فيه، غير أن الواجب إنما هو البلوغ بالإنسان في الحدِّ الأكمل من كل فضيلة، وبدل ما أن يقال الجندي العثماني شجاع، والجندي الفلاني أشجع منه، يقال على العكس من ذلك، وما العمل لتحصيل هذا بالأمر المستحيل، ولا هو بالصعب أيضًا.
(٤) المدرسة الملكية
ومن هناك ذهبنا إلى المدرسة الملكية، حيث كانت الساعة ١١ إفرنجية، فاستقبلنا على مدخلها جنابُ ناظر المدرسة وأساتذتها وبعض متخرِّجيها وفريق من عليه القوم، وإذ ذاك صدحت الموسيقى المدرسية بالسلام والنشيد الوطني، أما نحن فدخلنا ردهة الاستقبال، بينما كانت التلاميذ يحيُّوننا ويهتفون لنا بالدعاء، وما كدنا نستقر في مجالسنا حتى قام أحد التلاميذ ورحَّب بنا بخطاب تركي، ثم نهض بعده الأستاذ يوسف أفندي حرفوش، فتكلم بالنيابة عن الأساتذة والمعلمين بما لم يخرج عن تهنئتنا بالسلامة عقب السفر، والترحيب بزيارتنا لتلك المدرسة، غير أن خطابه كان باللغة الفرنسية، ثم أعقبه على الفور جناب بشير أفندي قصار وألقى مقالة بليغة، استهلها بقصيدة غرَّاء قال في مطلعها:
ومنها:
ومنها، وهو ختامها:
وقد تكلم في خطابه عن المدرسة ومسيرها مدة ستة عشر عامًا، منذ افتتاحها، وهي متبعة سنَّة النمو والارتقاء التدريجي، وما أوشك أن ينتهي من ذلك حتى نهض أحد التلاميذ بالنيابة عن الجمعية العلمية فأهَّل بنا ورحَّب، وذكر خطة الجمعية، وبيَّن غاية ما تسعى إليه، ثم قدَّم لنا رسمها تذكارًا لزيارتنا لها، وحينئذٍ قمنا فصافحنا حضرات الخطباء، وشكرنا لجناب الدكتور صاحب القصيدة معروفه وأدبه وحسن خطابه، وقلت له: لست أشكرك لمدحك إياي، ولكن لذلك الفكر الصائب الذي أبديته من وجوب تنشيط المعاهد العلمية.
ثم أخذنا ندور على دوائر المدرسة ونتعهد فصولها، وقد زرنا القسم الاستعدادي، واختبرنا بعض صغار التلاميذ فيه، فسُررنا جدًّا من نجابتهم واستعدادهم، ثم عدنا ثانية إلى قاعة الاستقبال، حيث كانوا ينتظروننا بالمرطِّبات، وهنالك أثنينا على رقي هذا المعهد العلمي، وقلنا لرئيس المدرسة الأستاذ الشيخ أحمد أفندي عباس: إن الواجب الأول في التعليم هو الاعتناء بتربية الأخلاق الكريمة في نفوس التلاميذ، وحضهم دائمًا على الاشتغال بالعلم للعلم نفسه؛ حتى لا يتجهوا في طريق التعليم إلى غاية أخرى.
وقد أجابنا حضرته بما معناه أن هذه الرغبة الحميدة هي عين الغاية التي تسعى إليها المدرسة منذ نشأتها، ثم بارحناهم شاكرين لهم ما لاقيناه من عنايتهم ومعروفهم.
(٥) نزهة في الضواحي
ذهبنا ومعنا عزيزنا الفاضل أحمد بك العريس لنقضي وقت العصر في التنزه ببعض الجهات التي كنا لم نشاهدها، فمررنا بعربتنا في ضواحي المدينة، وكنا أثناء السير نرى من مناظر الطبيعة ما لا نقدِّر حسنه، خصوصًا عند الرجوع؛ فإن سبيلنا إذ ذاك كان من الطريق القديم الموصِّل ما بين بيروت ودمشق، وقد صادفنا ونحن سائرون غابة كبيرة من شجر الصنوبر، كان قد أَمَر بغرسها جدُّنا المرحوم إبراهيم باشا الأكبر، وسبب ذلك — على ما علمناه من حديث القوم هنالك — أنه قبل أن توجد هذه الغابة كان مرض الحمَّى متفشيًا في المدينة، يفتك بأهلها فتكًا ذريعًا، فتوجَّهت همة المرحوم إبراهيم باشا إلى مطاردة هذا الداء الخبيث بذلك الغرس الجميل، الذي من خواصه تطهير الهواء وامتصاص المواد العفنة التي كان يتسبَّب عنها هذا الداء، وقد تم له بسبب ذلك ما أراد.
وقد وجدنا في طول هذه الغابة وعرضها طرقًا منتظمة جميلة المنظر، يقال إن الذي أنشأها هو المرحوم إسماعيل بك كمال — الذي اشتغل كثيرًا في مسألة استقلال الألبانيين — حينما كان واليًا في ولاية بيروت. وقد مررنا أيضًا بجملة حدائق بهيجة، كان أكثر غرسها من شجر البرتقال والليمون والتوت، وفي أثناء الطريق وجدنا مقابر عدَّة، بعضها لليهود وبعضها للمسيحيين، حتى إذا كان على مقربة من حديقة إفرنكو باشا، رأينا قبر المرحوم الشيخ أحمد فارس، ذلك العالم المشهور الذي يقال إنه اعتنق الدين الإسلامي أخيرًا ومات عليه، بعد أن اعتنق جملة أديان وتقلَّب على عدة مذاهب، وهو صاحب مجلة الجوانب المعروفة، وله غيرها كثير من التآليف النافعة، منها: الجاسوس على القاموس في فن اللغة، وكتاب الساق على الساق فيما هو الفارياق، وهو كتاب جميل ضخم في علم الأدب.
ثم قصدنا إلى الفندق من داخل البلد، حيث كنا في وقت الغروب، وعلى ذلك انقضت سحابة اليوم. وفي صبيحة اليوم الثاني جاء إلينا جماعة من أهل بيروت، ومعهم خيل اختاروها بقصد أن يطلعونا عليها؛ على أمل أن نبتاعها منهم؛ حيث كانوا قد سمعوا من قبل بمَيلي إلى اقتناء جياد الخيل، وقد كنت أود أن أجد منها ما يعجبني فأشتريه، ولكنها — مع مزيد الأسف — كانت عادية لا تمتاز عن غيرها بحال، فضلًا عن كونها مجهولة الأصل؛ ولذلك لم يرُقْ في نظري شيء منها على خلاف ما كنت أحسب.
وكان عليَّ بعض زيارات لعِلْية القوم في المدينة، فأرسلت أحد الحاشية، وأرسلت معه جملة من بطاقات الزيارة لينوب عني في ذلك؛ إذ كان لا يمكنني أن أؤدي هذا الواجب، وقد حضر لزيارتنا في الفندق حين ذاك عدد جمٌّ من أهل الشام، وكان من بينهم جملة من حضرات الرؤساء الروحيين، ثم حضر أيضًا أحد أصحابنا — البلوني المسكوفي كونت برانتيسبيسكي — أحد عظماء بلاد الروسيا وأغنيائها، وأشهر غواة الخيل العربية فيها، وكان قد جاء إلى الأقطار الشامية هذه المرة لغرضين؛ أحدهما: زيارة بيت المقدس، والثاني: البحث عن الخيل العربية الأصيلة. وقد أخبرني جنابه في ضمن حديثه أنه لم يجد من بين الخيل الشامية والعربية التي اطَّلع عليها في تلك السياحة ما كان يستوجب العناية أو يستحق الشراء؛ ولذلك عدل عن الغرض الأخير الذي وفَّقت الصدفة بيننا وبينه فيه.
وقد كنت مسرورًا من حديث هذا الشيخ الكبير ومجلسه، وليست هذه أول مرة اجتمعت فيها بجنابه؛ لأني كنت عرفته قبل هذه الزيارة في مصر، وآنست منه نفسًا عالية، وطبعًا رقيقًا، وكمالًا وأدبًا، وما أجدر الشيخ الهرم أن يكون متحليًا بالآداب، ومتجمِّلًا بالفضائل! وإن صاحبنا هذا كان قد طالع الثمانين وولاها ذنبًا، ثم إنه قضى معظم هذا العمر الطويل في سياحة الممالك والبلاد طولًا وعرضًا، فاستفاد معرفة كثير من الأمراء والعظماء، كما استفاد خبرة واسعة بمعرفة الأخلاق والعوائد القومية المختلفة، وكان قد زار مصر مع والده على عهد المرحوم محمد علي باشا الكبير، واصطادا تمساحًا من بركة الأزبكية قبل أن يصل إليها بالطبع هذا العمار الباهر، ثم هو لا يزال يتردَّد على القاهرة في كل شتاء، وإننا نشكر الصدفة الجميلة التي جمعتنا بهذا الشيخ الجليل في فندق من فنادق الشام على غير موعد.
(٦) غريبة في بيروت
وإنه بينما كنت أنقِّب عن الخيل الأصيلة، وأبحث عنها في المدينة وغيرها لأشتري ما يعجبني منها، إذ أُخبرتُ أن شابًّا إنجليزي التبعة يدَّعي أنه يعرف البلاد ويتعشق الخيل ويقتنيها، يريد أن يقابلني، فأذنت له، وكانت هيئته وحركاته في سلامه وكلامه تدلُّ على أنه رجل عاقل مهذب وظريف، ثم إني افتتحت حديثي معه بشأن الخيل التي توجد في جهات الضواحي، وسألته: أيُّ الجهات التي تعرف فيها وجود الخيل الكريمة، وأيُّ الناس أعظم شهرة باقتنائها من العرب وغيرهم؟
فقال: إن لي أصحابًا كثيرين من دروز حوران وعرب روله الذين يقطنون بالقرب من مدينة دمشق، وهؤلاء أَعْرَفُ الناس بالخيل، وأبعدهم صيتًا في حيازتها.
ثم دار بيني وبينه من الكلام والبحث ما عرفتُ منه أن هذا الشاب ملمٌّ حقيقةً بموضوعنا، وله معرفة تامة بحسن الخيل وقبيحها، وجيِّدها ورديئها، فقلت في نفسي: الآن وقعتُ على خبير عارف، وسأبلغ — إن شاء الله — بواسطة هذا الشاب النشيط مأربي من خيل الشام. ثم عدنا إلى الحديث مستطردين إلى ذكر بعض أمور عامة تتناول الموضوع الذي جاءنا بصدده وغيره، فكان منها أنه غزا في وقائع كثيرة، وأنه مرَّةً كان يكون مع الدروز، وأخرى يكون في صف العرب، وأنه يجيد النطق باللغة العربية ويحسنها حتى كأنها لغته، إلى غير ذلك. ثم إني سألته عن غايته من مجيئه إلينا ومقابلتنا، وأنه لم يسبق لي به معرفة ولا كلام، فقال بكل رزانة وأدب: إنه لم يبعثني على التشرف بمقابلة دولتكم سوى أن أتشرَّف بخدمتكم فيما عسى أن ترغبوا شراءه من خيل تلك البلاد أو غيرها، وأن لدي خيلًا لبعض الناس أريد أن أطلع دولتكم عليها؛ لعلكم تجدون منها ما يطابق غرضكم ويوافق رغبتكم.
فقلت له: وأين توجد هذه الخيل؟ وإننا بحثنا كثيرًا فلم نجد ما كان يروق لنا شراؤه. فقال: إني أعرف من تلك الخيل حصانين في حوران. فقلت له: كان بودِّي أن أراهما، ولكن — مع الأسف — ليس عندي الآن من الوقت ما يسع أن أنتظر ريثما تجيء الخيل من جهة بعيدة عن بيروت أو ضواحيها؛ لأني عازم على زيارة دمشق، ولم يبقَ إلا ساعات قليلة. فقال: إذا كان لا بد من السفر، فإن أمامنا حصانين آخرين في بعض الجهات القريبة من دمشق، ومن السهل جدًّا أن أسافر وأستحضرهما لدولتكم عندما تشرِّفون هذه المدينة، وإن هذين الحصانين لا يقلَّان حُسنًا وشهرة عن الحصانين الأولين.
ولمَّا لم يكن ثمَّة مانع من ذلك، تفاوضنا معه فيما ندفعه أجرًا له على سعيه وتعبه، وانتهينا على أن يتقاضى منَّا جنيهًا واحدًا في كل يوم، حيث يكون منه أيضًا أكله وشربه ومصاريف سياحته سفرًا وإقامة، حتى تتمَّ مأموريته التي أنطناه بها، وقد كان عَلِمَ أن سفرنا من بيروت سيكون في صباح اليوم الثاني، فأراد أن يزجَّ بنفسه في حاشيتنا ويسافر معنا، ومن أجل ذلك سألَنا: هل ترون من اللازم أن أستبدل ملابسي بزيٍّ عربي أو لبوس عادي لكي أحظى بشرف السفر في معيَّة دولتكم في القطر الذي تسافرون فيه؟
فأجبته بأن سفرنا في هذه السياحة ربما لا يسمح لنا بمرافقة عدد أكثر ممن سيسافرون معنا، وربما لا تحب الحكومة العثمانية أن ترى في ضمن رفاقنا أحد رجال الإنجليز، على أننا لا نرى هناك من ضرورة لأن تكون في هذا السفر من جملة حاشيتنا، وأنت تعرف أن القطار غير خاص بنا، وأن في عرباته الكثيرة سعة لك ولغيرك من المسافرين، فانزل منه في أيِّ عربة تريد، ثم إذا جئت دمشق فانزل منها أيضًا في أيِّ فندق تحب وتختار.
وعلى ذلك انصرف الرجل ونحن لا نعرف من أمره سوى أنه عاقل نبيه ووادع مؤدب، وسنذكر بقية قصته في فندق دمشق إن شاء الله.
(٧) إلى متصرف لبنان
ما كادت تتوسَّط الغزالة حتى كنا أخذنا زينتنا، وأعددنا عدتنا للذهاب إلى سراي صاحب الدولة يوسف باشا فرانكو، متصرف لبنان السابع. فركبنا من باب الفندق ومعنا رفاقنا ما وسعنا من المركبات، حيث قصدنا توًّا إلى السراي، وكان في انتظارنا عند بابها من العسكر والموسيقى في هذه المرة ما كان لا يقل عنه عددًا ونظامًا في المرة الأولى، وكان أول من استقبلنا حال الدخول دولة المتصرف، فرادنا إلى ردهة الاستقبال التي دخلناها، وكانت وقتئذٍ حافلة بحضرات المدعوين من كبار القوم وثراة المسيحيين وأعيانهم، وقد وجدنا فيما بين أظهرهم بعض أسرة سرسق، وأسرة بسترس، وهاتان الأسرتان من أشهر الأسر في بلاد الشام، وهما من طائفة الروم الأرتدكس، وأصلهما غالبًا من لبنان، ويسكنان الآن في مدينة بيروت، ولهما هناك شهرة كبيرة وصيت ذائع؛ حيث يقال إنهما أعظم أهل بيروت ثراءً وأكثرهم مالًا.
ثم كان من المدعوين أيضًا حضرة الفاضل سليم بك ثابت، ولعل القارئ يلاحظ عليَّ أني أفردت هذا الشخص بالذكر، وعيَّنته بالاسم دونما سواه من المحتفلين، وما أدراه أن سليم بك ثابت هذا جدير أن يبلغ من أنفسنا تلك المكانة، وأن يُفسَح له في رحلتنا بقدر ما يسع ذكر مروءته وكرم أخلاقه وحسن تربيته، وما نريد من ذلك إلا أن يعرف القراء له ما عرفناه من الكرم والمعروف، أما هو فإنه سليل أسرة مسيحية محترمة في تلك البلاد، وما كان يلفتنا إليه ويجعله منا في تلك المنزلة أنه ثريٌّ وجيهٌ، ولا أنه عزيز في قومه، وإن الناس في هذا الباب كثيرون مزدحمون، وإنما رأيت في هذا الرجل همَّة عالية، ونشاطًا كبيرًا، وبديهة حاضرة، لا يُملُّ مجلسه، ولا تُسأم معاشرته؛ لأنه جميل المحاضرة، ظريف المسامرة، يهتم كثيرًا براحة المسافرين في بلده، ويسعى إلى خدمتهم ما استطاع؛ كأن الشام بيته والمسافرين إليها ضيوفه؛ مما دلَّنا على أن فيه غيرة على بلده، وحرصًا غريبًا على أن لا يقع نظر السائح منه إلا على ما يحب ويستحسن.
وقد عجبنا جدًّا من أنه قادر على نفسه، غالب لها على إرادتها؛ إذ لم يمنعه تحيُّزه لدينه وتعصبه لمذهبه أن يقسط بين الناس في لطفه ومودته، يستوي عنده في ذلك المسيحي والمسلم واليهودي، وغيرهم من أي ملَّة أو نِحلة، ثم هو لا يألو جهدًا في مساعدة الإنسان متى قصده وطلب معونته، وإنه لجدير بمن تجتمع له هذه الخلال الطيبة والشمائل المحمودة أن ينال من قلوب الناس محبَّة تامة، ومن ألسنتهم ثناء جميلًا؛ ولذلك قلَّما ينعقد مجلس سرور، أو تتألَّف حفلة أنس، أو تتسق جمعية مفيدة؛ حتى يكون من أهم مروِّجيها وأصحاب المدح المعلَّى فيها.
وبعدما جلسنا برهة نتحدث مع هؤلاء المدعوين الكرام، دُعينا إلى غرفة الطعام، وهناك تعاطينا من المآكل الشهية اللذيذة ما حمدنا الله على إساغته، وقد كانت الموسيقى في هذه الأثناء تصدح بألحانها المُطربة، ثم عدنا إلى قاعة الاستقبال فشربنا القهوة، وبعد ذلك شكرنا لدولة المتصرف وجناب قرينته المصونة ومن كان معهما في هذه الحفلة الشائقة، ما أظهروه من العناية في إكرامنا، والاحتياط بجميع الوسائل لراحتنا، مما جعلنا لا ننسى لهم جميعًا هذا اللطف والمعروف أبدًا، وقد خرجنا من عندهم مودَّعين بغاية الحفاوة والاحترام.
(٨) زيارة المجلس البلدي
ومن هنالك ذهبنا — حيث كانت الساعة أربعة بعد الظهر — قاصدين إلى رأس النبا؛ إجابةً لدعوة رئيسي البلدية في مدينة بيروت، وقد كانا أعدَّا لنا مأدبة شاي جميلة في حديقة الحرية، وهي في باب سراي الحكومة، وكانت تسمَّى بالحديقة الحميدية منذ عشرين سنة، ثم هي حديقة عامة واقعة في وسط المدينة، وتشبه حديقة الأزبكية من حيث يقصد الناس إليها للتروُّض والفسحة، وقد زخرفها المجلس وزيَّنها من أجل الاحتفال بنا زينة بديعة، وأقام في وسطها كشكًا فسيحًا لجلوس المدعوين، وسرادقًا جميلًا جعل فيه خوانًا عليه من ألوان الطعام وأنواع الشراب ما لذَّ وطاب.
وحينما وصلنا إلى هذه الحديقة وجدنا جمًّا غفيرًا من أهالي البلد مجتمعين حول الروض من الخارج وفي طرقاته من الداخل، وما كاد يقع علينا نظرهم حتى طفقوا عن بكرة أبيهم يحيُّوننا تحية فائقة، ويصفِّقون لقدومنا تصفيقًا، وقد كان في أول المستقبلين لنا حضرتا رئيسي البلدية، وذهبا بنا توًّا إلى ذلك البهو بين تصدية المحتشدين وهتافهم الشديد، وقد وجدنا في انتظارنا هناك عددًا كبيرًا من رجال الحكومة وثراة المدينة وأعيانها، يتقدَّم الجميع صاحبا الدولة ناظم باشا الوالي ويوسف باشا المتصرف، فحيَّيناهم جميعًا، وما لبثنا نجلس إلا قليلًا، ثم قام جناب الرئيس الأول الحاج منيح أفندي رمضان، وارتجل في وسط هذا المجتمع الحافل خطابة، كانت على طولها غاية في الرِّقة والرشاقة، افتتحها بعبارات الشكر لنا والثناء علينا، ثم انتقل إلى شرح السرور البليغ الذي كان يخامر أفئدة أهل الشام عمومًا وأهل بيروت خصوصًا، من زيارتنا لبلادهم.
ثم أخذ يطيل ما شاء الله في وصف الإعجاب بوجود أمير من أمراء الشرق، ومن ذرية المرحوم محمد علي باشا الكبير في تلك البلاد، التي طالما عطشت إلى وجوده واشتاقت للتمتع بطلعته، بينما تكررت فيها زيارة الأجانب من الأمراء الغربيين وغيرهم، وشرع بعد ذلك يذكر مآثر المغفور له مؤسسة الأسرة الخديوية وأصل الدوحة العلوية، قائلًا إن التاريخ لم يسجِّل عليه محاربته للدولة العليَّة، حتى ملأ صفحاته البيضاء بذكر ما كان له — رحمة الله عليه — من الإصلاحات الكبيرة والخيرات الكثيرة في جميع البلاد التي تمتعت بعدله وسعدت بحكمه أعوامًا طوالًا.
وأشار في أثناء ذلك إلى تلك الغابة التي أسلفنا أنها غُرست بأمر المرحوم إبراهيم باشا الكبير، وهنا أطنب إطنابًا في بيان ما لهذه الغابة الصنوبرية من الفوائد الجمة والمزايا المهمة، مفيضًا في شرح منافعها المحسوسة من الوجهة الصحية، وكيف أنها كانت حجازًا مكينًا وحصنًا حصينًا بين سكان المدينة وبين ذلك الأسد المغتال والمرض القتَّال، الذي طالما كانت تكثر زيارته وتثقل ضيافته، فيعبث بالمهج العالية والأرواح الغالية، وهكذا حتى إذا انتهى ذلك الخطيب المصقع من خطابته البليغة، أخذ جميع الحاضرين يصفِّقون تصفيقًا حادًّا؛ إظهارًا لمكان الخطبة من نفوسهم، بينما كانت الموسيقى تعزف بألحانها الشجية ونغماتها المطربة، فكان لها مع تصفيق القوم وضوضائهم مجموعة رنَّات، اخترق تأثيرها الشديد أعماق القلوب.
ثم قام حضرة الفاضل الشيخ أحمد طبارة وألقى كذلك خطبة أخذت بمجامع القلوب، وكان قد ابتدأ الكلام فيا بإطراء الأسرة الخديوية، وبيان مآثرهم في البلاد المصرية والشامية، ثم أخذ يذكر روابط الوداد وعلائق الاتحاد بين الشعبين المصري والشامي، وأفاض في بيان الأسباب الكثيرة لاتفاقهما وتآخيهما التي ذكر منها أنهما متحدان في اللغة الأصلية، وأنهما متجاوران، وأن تجارة الشام في مصر من أكثر التجارات وأعظمها رواجًا، وأن كثيرًا من أبناء الشام هاجروا إلى مصر واستفادوا منها ماديًّا وأدبيًّا فوائد جمة؛ فمنهم من اشتغل بالتجارة، ومنهم من استُخدم في وظائف الحكومة ومصالحها، وغير الحكومة أيضًا، مما لا يسعنا معه سوى الاعتراف بفضل مصر على الشاميين؛ حيث رحَّبت بهم وفتحت أبوابها في وجوههم، فما زالوا يمرحون في بحبوحة كرمها ونعمتها، إلى غير ذلك مما كان صريحًا في إقرارهم بمعروف مصر وفضلها عليهم.
وعندما انتهى ذلك الخطيب الفاضل هممت بأن أقوم بينهم خطيبًا، وأن أبدأ خطبتي لهم بشكرهم على ما صادفته من سماحة نفوسهم وكرم أخلاقهم، ثم أبيِّن مقدار ما انطوت عليه قلوب المصريين الكرماء من محبة العرب والشاميين، غير أني لاحظت أن الظروف وقتئذٍ كانت لا تسمح لي أن أقوم فأقول شيئًا من هذا في حفلة كبيرة مجموع لها الناس؛ مخافة أن الحكومة العثمانية الجديدة ربما تتشوَّش من الخطبة، أو تتأوَّلها بما لعله يخالف غرض الخطيب ويبتعد عن قصده ومراميه.
وبعد ذلك قمنا متوجِّهين نحو السرادق لتناول ما كان أُعِدَّ لنا من الشاي وغيره، ثم قصدنا إلى الفندق، وكان طريق مرورنا من وسط الحديقة حتى الباب غاصًّا بالأهالي، وعند ذلك وُدِّعنا من حضرتي الرئيسين ومَن كان معهما بمثل ما استُقبلنا به من الإكرام والحفاوة، فشكرناهم وركبنا العربات حيث وصلنا إلى فندقنا قبل الغروب، وإذ ذاك حضر لزيارتنا بعض أعيان المدينة وكبارها، وكان من بينهم المفتِّش العثماني في شركة السكة الحديدية الفرنسية، فقابلناهم جميعًا شاكرين لهم حفاواتهم الكبيرة وزياراتهم الكثيرة، وقد بلغني في هذا المجلس أن الشركة أعدَّت لسفرنا صالونًا خاصًّا بقطر الصباح، حيث كنا اعتزمنا — مع مشيئة الله تعالى — على الرحلة في ذلك القطر إلى مدينة دمشق.
(٩) كلمة عن بيروت
وهنا رأيت أنه لا بد قبل مبارحتي لهذا البلد من ذكر كلمة مختصرة عنه، ملحقةٍ بما تقدَّم من كلامنا فيه، على الرغم من أن هذه المدينة من المراسي الشهيرة والمدن التجارية الكبيرة، التي قد عُني بشأنها قديمًا وحديثًا أرباب المحابر من الكتَّاب وعلماء التاريخ، فأفاضوا في الوصف وأطنبوا في بيان ما يتعلق بها من الجهات المهمة والأغراض المفيدة؛ لأني إنما أريد أن أذكر في رحلتي هذه جميع ما كنت أشاهده بعيني، وأقف عليه بنفسي. ولعلني إن أتيت في خلال ذلك من الآراء والملاحظات على حياة القوم الاجتماعية وبعض الأمور الداخلية، بما عساه أن يمرَّ على بعض الناس فيغمضوا فيه إغماضًا، أو يتركوه وراءهم ظهريًّا دون أن يُعِيروه ما يستحقُّه من الالتفات والعناية، أكون قد وافيت القرَّاء بما لعلهم يجهلونه في تلك البلاد، وأرشدتهم ثمة إلى ما ربما تقصر عنده ألسنة المحدِّثين، أو تجفُّ دونه أقلام الكاتبين، على أنه لا يذهب على عاقل أن تاريخ البلاد من جهة سياستها وعمارتها وحالة سكانها المعاشية والتجارية، مما لا يلازم بالضرورة حالة واحدة، أو يقف عند حدٍّ محدود ما دامت تتعاقب عليها حوادث الأيام والليالي، ويلحقها كسائر العالم وصف التغيير من حال إلى حال.
بيروت مدينة قديمة التاريخ، من أشهر وأهم مدن سوريا التجارية، واقعة على شاطئ بحر الروم، وهي أكبر ميناء في بلاد الشام، ومركزها الطبيعي غاية في الجمال، وعدد سكانها يبلغ الآن نحو ١٥٠ ألف نسمة، أغلبهم من الطوائف المسيحية، وعدد العسكر فيما يقرب من ١١٠٠ جندي؛ منهم ٨٠٠ من البيادة والطوبجية، ونحو ٣٠٠ من السواري، وأكثر مناظرها الطبيعية كانت في باب الجمال، مما قلَّ أن يتناوله النظر في غيرها من البلاد الأخرى.
(١٠) وصف منظر
نعم، وهل رأى الوافدون على بيروت — فيما كانوا شاهدوه — أحسنَ وأشهى وأخصب وأينع وأجمل وأبدع من منظرٍ هناك واقعٍ بين البحر المتوسط وجبل لبنان، قد امتلأ من كل الجهات بالزروع المزهرة والأشجار المثمرة! تراه وقد اتَّشح على طوله الطويل وعرضه الجميل بوشاح بهيٍّ ورداء سندسي، يملأ عين مبصره بهجة ورواء وحسنًا وبهاء، كما يملأ قلبه طربًا وحبورًا وفرحًا وسرورًا!
هذا — لَعَمْرُك — منظر السفح بينما تنظر إلى سكون الجبل وثباته واضطراب البحر ووثباته؛ كأنهما وقد حاصراه بينهما، عاشقان يتجاذبان حبه، ويتنازعان وصله وقربه، وما أبرَّه بعاشقيه! وأوفاه بعهد صاحبيه! فلقد كان في موقعه أحسن ما يكون مطلوب بين طالبين، ومعشوق أراد إرضاء العاشقين، غير أن الماء قد غلبتْهُ غيرتُهُ، وأخذتْهُ عزتُهُ، وملكتْهُ أثرتُهُ، فلم يزل متهيِّجًا لا يهدأ له بال، ومتحركًا لا يستقر على حال، وكأن الجبل وهو ساكن سكونه محبٌّ قد امتلأ ثقة بمحبوبه، أو غالبٌ ظَفِرَ من مغلوبه بمطلوبه.
هذا وقد كان أكثر ما رأيناه من الحدائق والبساتين في المدينة وضواحيها مغروسًا بشجر التوت والبرتقال، الذي كان يُرِسل مع عليل النسيم عبيرَ زهرةٍ فيشفي الجسم السقيم، وإنه لا يكاد الإنسان يصرف النظر عن هذا السهل وما فيه من الحدائق والجنان حتى يرفعه إلى جبال لبنان، فيرى جبلي صنين وكنيسة متلازمَيْن تلازم الفرقدَيْن، وظاهرَيْن من بين الجبال ظهور النيِّرين؛ ذلك لما امتازا به من زيادة العلو والطول، حتى كأنهما وقد شمخا بأنفهما إلى السِّمَاك، يطمعان أن يسكنا حيث تسكن الأفلاك، وحتى ترى السحاب على ارتفاعِ شأنه وبُعدِ مكانه لا يمرُّ عليهما إلا فَرِقًا مذعورًا وخائفًا مقهورًا، على أنهما لا يسمحان له بالمرور إلا إذا ترك على قمتيهما من ذلك الثلج الطبيعي ما يشبه العمامة البيضاء على رأس الشيخ الوقور.
أما هواء بيروت فإنه معتدل جدًّا في زمان الشتاء، وحر شديد في فصل الصيف، ولكن يقال إن اتصال البلد بالبحر يلطِّف كثيرًا من هوائها في مدة الحر، على أنه يقال إن معظم السكان من طبقة المتوسطين في هذه المدينة يصعدون إلى لبنان لقضاء فصل الصيف هناك؛ لما قد امتاز به هذا الجبل من جودة الهواء، وعذوبة الماء، وجمال المنظر.
وأما مياه المدينة فقد بلغني من بعض القوم أنها كانت في الزمن السابق غير صالحة للشرب؛ إذ كانت عفنة رديئة، وكان ينشأ عنها بهذا السبب أمراض كثيرة وأوبئة شتى، وقد عنيت الحكومة العثمانية بتلافي ذلك الخطر الخطير منذ خمس وثلاثين سنة، فجلبت إليها ماء الشرب من نهري الكلب وبيروت، اللذين ينبجسان من السفح الغربي من لبنان، حتى أصبح أهل المدينة وضواحيها يتمتعون بشرب الماء النقي الطاهر.
وأما مدارس المدينة فكثيرة؛ إذ تبلغ نحو مائة مدرسة؛ للمسيحيين منها سبعون مدرسة؛ أربعون للبنين وثلاثون للبنات. وللمسلمين ثلاثون مدرسة؛ خمس وعشرون للذكور وخمس فقط للإناث؛ ومن ثَمَّ كان التفاوت عظيمًا بين المتعلِّمين من أبناء الطائفتين ذكورًا وإناثًا، وقد نجد مثل هذا الفرق بين المعابد أيضًا؛ حيث إن للمسيحيين ما ربما يزيد عن الأربعين كنيسة، بينما مساجد المسلمين لا تربو على خمس وعشرين مسجدًا.
ذكرنا قبل هذا أن العدد الأكثر من سكان بيروت إنما هو من الطوائف المسيحية؛ حيث المسلمون هناك لا يزيد عددهم عن أربعين ألف نسمة، على حين أن المسيحيين يبلغ عددهم نحو مائة ألف، أو هم يزيدون، ولكنَّا رأينا مع ذلك أن الطائفة الإسلامية أظهرُ كلمةً وأقوى جانبًا، وربما كانت هي صاحبة السيادة والأبَّهة في البلد، وإن كان يُلاحظ مع هذا أن مسافة الفرق بين ثراء الأمَّتين عظيمة جدًّا، وقد يدرك الإنسان ذلك مما يراه من الفرق المحسوس بين مدارس المسيحيين ومدراس المسلمين؛ فإن الأولى مع كثرتها وكفايتها حسنة العمارة نضرة البقعة وافية بكل أغراض الطلبة، ومنها الكليات التي لا تقلُّ في نظاماتها عن الكليات المعروفة في البلاد الراقية.
وأما الثانية فإنها مع قلَّة عددها — كما عرفت — وعدم كفايتها بالطبع لأبناء هذه الطائفة، لا تزال تحتاج إلى الشيء الكثير من مال الأغنياء وآراء المفكرين؛ وعلى الجملة، فإن التعليم في مدينة بيروت ممَّا يسرُّ أنصار العلم وعشاق المعارف ومحبي التقدم والرقي؛ ولهذا كنت أرى معظم الأهالي يجيدون القراءة والكتابة، وقلَّما وجدت مدينة أهلها كذلك في كل بلاد الشام.
وأما مطابعها فإنها ليست أقل أهمية من مدارسها، وأقدمها مطبعة الأمريكان، ثم اليسوعيين، ثم مطبعة حديقة الأخبار، إلى غير ذلك من المطابع الكثيرة، وقد سمعت أن ما يُطبع في تلك المطابع من الكتب العلمية والفنية شيء فوق الحصر، كما أنه يُطبع فيها عدة جرائد يومية وأسبوعية وشهرية، سياسية وتجارية وطبية، ومما امتازت به هذه المدينة عن سائر مدن الشام أنها تصدِّر كثيرًا من مطبوعاتها إلى البلاد الشامية وغيرها من البلاد الأجنبية.
وأما لغة التخاطب العامة بين المسيحيين والأجانب فهي اللغة الفرنسية، ويقال إنه في الزمن السابق كان التخاطب جاريًا بينهما باللغة الطليانية بدلًا من اللغة المذكورة؛ وعلى كل حال فإن لغة البلاد الأصلية، والتي يتخاطبون بها فيما بينهم، هي اللغة العربية.
وأمَّا تجارتها فتدور في الغالب على مزروعاتها ومصنوعاتها التي أكثرها من الحرير وزيت الزيتون والصابون، وفي المدينة عدة معامل لحل الحرير الإفرنكي وللصابون والدباغة والفخار، ثم إن تجار الشام المسيحيين غاية في النشاط والمهارة، وإقبال الناس عليهم في محالهم عظيم جدًّا؛ ولذلك لم يكن للتاجر الأجنبي مطمع في وقت من الأوقات أن ينال من أهل البلد مثل ثقتهم بتاجرهم مهما حاول واحتال، وقد رأيت هناك حالة تستدعي الأسف.
معلوم أن جبل لبنان قطعة من الشام، وهو جملة بلاد واسعة يسكنها ما يقرب عدده من ٤٠٠ ألف نفس؛ منهم حوالي ٢٣٠ ألفًا من الموارنة، و٥٥ ألفًا من الروم الأرثدكس، و٤٥ ألفًا من الدروز، و٣٥ ألفًا من الروم الكاثوليك، و١٧ ألفًا من المناولة، و١٤ ألفًا من المسلمين، وثمانمائة من البروتستان، و١٥٠ من اللاتين، وقليل من الطوائف الأخرى.
وكانت هذه البلاد تابعة لولاية بيروت قبل حدوث التعديات التي وقعت سنة ١٨٦٠ في دمشق ووادي التيم ولبنان، ولكنها انسلخت عن بيروت وانفصلت عن حكومتها وقتما كان احتلها العساكر الفرنساويون مع معتمدي الدول لدفع هذه العاديات، وجُعلت من هذا الحين متصرفية مستقلة متعلقة بالباب العالي رأسًا؛ ولذلك كنت أجد تمام الانفصال بين الحكومتين، كما كنت أرى تخالف الأزياء العسكرية فيهما، وأن العلاقات بين حكومة الجبل وولاية بيروت صارت قاصرة على مجرد العلاقات التجارية والمودَّة الجوارية.
ولقد كنت أسفت أشدَّ الأسف على مرافق الدولة ومصالحها، كما يأسف كل غيور عندما يجد سكان هذا الجبل معتمدين على نفوذ الدول الأجنبية وحمايتها لهم، غير خاضعين بالمرة لقوانين الحكومة العثمانية ونظاماتها الشرعية، حتى كأنهم ليسوا من ضمن رعاياها، وحتى إن أثر هذا الاستقلال الممنوح لهم من جهة السلطة الخارجية واضح مثل فلق الصبح في الفرق العظيم والبون الشاسع بين أحد أهالي لبنان وبين غيره من سكان المدينة، أو أي بلد من بلاد الولاية؛ حيث الأول مترعرع ذو قوة وشَمَم، تعرف في وجهه نضرة النعيم والترف، بينما الآخر على العكس من ذلك لا يتعدَّي حدود السلطة، ولا يتجاوز مواقف النظام، مع أنهما موجودان تحت سماء واحدة، ويتنفسان معًا في جو واحد!
على أنه يقال إن عددًا عظيمًا من أهل لبنان، وبعضًا من السوريين، يهاجرون إلى الولايات المتحدة، وإلى جمهوريات أمريكا الجنوبية والوسطي، وأستراليا، وبعض الجزائر؛ بقصد التجارة وغيرها لتوسيع المال وتحصيل الثروة الطائلة، ويقدِّر بعضهم عدد المهاجرين إلى سنة ١٩٠٦ بنحو ٢٥٠ ألفًا متفرقين في الجهات المذكورة، واللبنانيون من هؤلاء يبلغون نحو ستين ألفًا، ما بين ذكور وإناث، وليس هذا شاهدنا مما أردنا إيراده في ذلك الموضوع، وإنما نريد أن ابن لبنان إذا ما انقضى أربه، وتمَّ له ما يريد من الهجرة إلى البلاد البعيدة، عاد ثانية إلى وطنه، ويفضِّل أن يأوي إلى بيت في الجبل دون أن يسكن بيتًا في مدن الولاية وبلادها، مع أن متممات رفاهته وأسباب ترفه وكماليات معيشته قد لا تتيسَّر له إلا في المدينة، لا سيما وأن بعض أرض الجبل صخري لا يصلح للاستنبات والزراعة، وعلى ذلك يُؤثِر اللبناني العاشق للزراعة أن يعيش في ذلك البلد ناقص الحاجة، أو أن يتجشَّم مشاقَّ كثيرة، ويتكبَّد متاعب جمَّة بجلب الطين من بيروت وغيرها لإصلاح الصخر وإعداده للزرع.
كل هذا لأنه يرى أن سكنى الجبل خير له من أن يسكن بلدًا من بلاد الولاية، ويعيش تحت سيطرة الحكام خاضعًا للنظامات والقوانين، ومعروف كيف كان يُجري تنفيذها أربابُ الشئون، ليت شعري كيف يملك الإنسان نفسه عندما يجد ذلك اللبناني قد ترك فضل ما بين المدينة المتحضرة وبين الجبل، مهما كانت حاله؛ لأنْ يعيش متمتعًا بسرور الأمن ولذة الراحة، مطمئن النفس على ماله وعياله، على حين أنه يرى غيره من أبناء الأمة في دائرة الولاية، وتحت سلطة الحكومة، كاسف البال منكود الحظ وضيع النفس!
هذا ما كان يستدعي أسفي الشديد، وما كنت عنده أرجو الله تعالى أن يوفِّق أصحاب الكلمة والشأن لإصلاح الحال؛ حتى يستوي اللبناني والبيروتي ويسود العدل ويعم الأمن والسلام.