دمشق
هي أكبر مدن سورية وفلسطين، وموقعها في أواسط سورية؛ حيث الطول الشرقي ٣٠–٣٦، والعرض الشمالي ٢٠–٣٣، وهي إلى الشرق بانحراف إلى الجنوب من مدينة بيروت، تبعد عنها ١٤٥ كيلومترًا، وتبعد عن جنوبي حمص ٤ مراحل، وتعلو عن سطح البحر ٢٤٠٠ قدم، ومحيطها ٩ أميال ونيف.
وهي قديمة التاريخ، مضى على بنائها نحو ٣١٤٥ سنة، وكانت تسمَّى بإرم ذات العماد؛ إذ يقال إن الذي كان بناها جبرون بن سعد بن عاد بن إرم بن سام بن نوح، وقد وصفها بعضهم بأنها جنة الدنيا؛ لأنها تشتمل على بساتين كثيرة ومياه تجري في قنواتها في كل مكان، وقد قيل في وصفها كثير من النثر والشعر؛ من ذلك قول بعضهم:
وغوطة دمشق مشهورة، وهي من أجمل المناظر والمنتزهات.
ولآخر:
ولنا بعد هذا كلام فيما يتعلَّق بهذه المدينة من الأمور والملاحظات التي لم نرَ بدًّا من تسطيرها في تلك الرحلة إن شاء الله تعالى.
وصلنا مع سلامة الله ورعايته إلى محطة دمشق، وعندئذ أخبرني قومساري القطار بأن والي الشام وناسًا معه واقفون ينتظرون قدومنا على إفريز المحطة، فما وسعني حين ذاك سوى أن أسرعت بالنزول من الصالون، وإذا بفتى حديث السن ممتلئ خفةً ونشاطًا كان هو أول من استقبلني من بين الحاضرين، فعرَّفني بنفسه ووظيفته، وأنه حضر لاستقبالنا من قِبَل الوالي قائلًا: إن دولة الوالي يعتذر عن عدم حضوره بذاته إلى المحطة لانتظار دولتكم واستقبالكم؛ بأن سفر دولتكم إلى الشام غير رسمي.
ثم طلب إلينا أن نركب عربة خاصة كان جاء بها لهذا الغرض، وقد عرفنا بعدُ أن هذه العربة مملوكة لأحد أصدقاء الوالي، كما عرفنا أن المرسَلين لانتظارنا من قِبَله أربعة أشخاص؛ أحدهم فخر الدين بك مدير الأمور الأجنبية، وهو ذلك الذي بلَّغنا اعتذار الوالي، والثاني روحي بك مدير البوليس، والثالث حسني بك قومندان الدَّرَك، والرابع أحمد أفندي الحسيبي وكيل رئيس البلدية، وهؤلاء هم جملة المستقبِلين. أما أنا فمُذْ سمعت ذلك العذر العجيب، صمَّمت على أن آخذ مركبي من غير تلك العربة المستعارة؛ لذلك لم أُجِبه إلى طلبه، وقلت له: إنه لَيجدر بمن لم يكن سفره رسميًّا أن لا يتعاطى شيئًا من الرسميات مطلقًا، ومن ثمَّ لا أخالف تلك الخطة وأركب عربة تجعل لي تلك الصفة في بلدكم.
وقد كنت وأنا أحدِّثه ألاحظ أن حركته ولهجته في الكلام أشبه بحركات ولهجات الغربيين منها بالشرقيين، وأنه لا يعلم إلا الله مقدار استغرابي وعجبي مما وجدته في استقبال ذلك الشاب عندما صافحني مصافحة النظائر والأنداد، وخاطبني وهو يهزُّ يدي بما كان لا يقلُّ عن خطاب كبير من الكبراء وأمير من الأمراء، إلى غير ذلك مما كان لا يجمل بالمعاملة، ولا يتفق هو والتقاليد التي تقتضيها حالة الشرق وتستدعيها عادة البلاد، وكيف لا أعجب عجبًا شديدًا ولم يسبق لي أن أرى مثل هذه المقابلة من أحد، حتى ولا من نفس الأمراء والعظماء في البلاد المتمدنة، التي يزعم الناس أنها بلاد الحرية والمساواة؟!
ولولا أن ذلك الناشئ بادرنا بشرح وظيفته وتعريف نفسه، ما كنا شككنا أن الذي كان يستقبلنا ويهزُّ يدَنا هزًّا هو حاكم الشام نفسه! على أن جميع الناس الذين قابلناهم قبل هذا فيما تركناه وراءنا من البلاد الشامية كانوا غاية في اللطف والأدب، عارفين وزن أنفسهم، ثم هم لا يزالون محتفظين بتقاليد الشرق وأخلاقه.
خرجنا من المحطة فركبنا من العربات ما كان لنا منه الكفاية، وقصدنا توًّا إلى فندق فيكتوريا الذي اخترناه لنزولنا مدة إقامتنا في دمشق؛ حيث هو أجمل فندق في تلك المدينة، ولم يكن ليصادفنا في الطريق الذي كنا نمرُّ منه ما كان يلفت نظر السائح نحوه، غير تكية للمولوية، وذلك النهر العظيم؛ نهر بردى الذي يمر في وسط المدينة أشبه بنهر السين في وسط باريس، وإنه لقد سرَّني كثيرًا منظره الجيمل وحسن موقعه بين المزارع والبساتين.
وكانت المسافة منذ ركبنا العربات حتى وصلنا إلى النُزُل لا تتجاوز الدقائق إلى الساعات، وهناك وجدنا عند مدخل الفندق صاحبه الذي كان ينتظرنا ليَهدينا إلى الحجرات التي خصِّصت لنا فيه، ولم يمضِ على جلوسنا هناك أكثر من ربع الساعة، حتى شرَّفنا الوالي بزيارته مرتديًا إذ ذاك لباسًا عسكريًّا، فاستقبلناه وجلسنا نتحدث، فأفهمنا في غضون حديثه أنه كان لا يُستطاع إعمال شيء فيما يتعلق باستقبالنا عند موقف القطار أكثر مما حصل؛ حيث لم يكن حضورنا إلى ذلك البلد مصبوغًا بصبغة رسمية.
أما نحن، فبعد أن شكرنا له هذه الزيارة التي تبرَّع بها من عنده، قلنا له: إننا حقيقةً لم نجئ إلى بلدكم بصبغة رسمية، وكذلك كان غير رسمي كل سفرنا في جميع البلاد التي قصدنا إليها في هذه الرحلة، على أنه ليس لنا أن نسافر إلى دمشق أو غيرها سفرًا رسميًّا، وأنه لا يجهل كلانا أن الأسفار الرسمية إنما تكون للأجانب، أو لمن كانت تُنْفذه الحكومة من قِبَلها لمباشرة أعمالها ومصالحها، كما أننا نعرف تمامًا أن كل الذي كان يُعمل من أجلنا في الاستقبالات من الاجتماعات والمظاهرات في الجهات الأخرى، إنما كان من محض تبرُّعات الحكام وأعيان البلاد، أما نحن فلم نأسف لأن استقبالنا منكم كان بسيطًا إلى الحدِّ الذي لا تجهله، وأنه إذا كان هناك شيء يستدعي أسفنا، فليس إلا أنه لم يُرسل لاستقبالنا على المحطة من كان يناسب حالنا ويلتئم مع تبعتنا، ولقد كان يرضينا ويسرُّنا أيضًا أن نجد في انتظارنا ولو أحد الضباط، بدلًا من ذلك الذي قابلنا وكانت وظيفته مدير الأمور الأجنبية؛ إذ إني لست أجنبيًّا من تلك البلاد؛ إذ هي بلاد الشرق، وأنا شرقي محض، وقد كنت أحسب أني عثماني تابع لدولة العثمانيين.
هذا كان خلاصة حديثنا مع الوالي، وقد شرب القهوة وقام. أما نحن، فما لبثنا بعده إلا قليلًا ريثما ارتدينا ملابسنا المعتادة في الزيارات، ثم ذهبنا لا نلوي على شيء حتى وصلنا إلى سراي الحكومة؛ حيث نردُّ للوالي زيارته وسلامه، وقد رأينا السراي جميلة المنظر جدًّا، وربما كانت أحسن مباني المدينة عمارةً وأنضرها بقعةً؛ لأنها واقعة بجوار نهر بردى، وكنا نظن أنه يوجد في تلك السراي مثل ما يوجد في سرايات الحكومات من الناس والمستخدمين، ولكننا مذ دخلنا فيها لم نقابل سوى ثلاثة عساكر، فسألناهم: هل هنا دولة الوالي؟ فقالوا: دولة الوالي ليس موجودًا هنا. فقلنا: أليس أحد من كبار المستخدمين أو السكرتارية هنا أيضًا؟ فأجابوا: ليس أحدٌ هنا من هؤلاء جميعًا. فبدا لنا أن نترك مع أحدهم بطاقة الزيارة ليعرف الوالي أننا رددنا تحيته.
وهناك ذهبت منَّا التفاتة إلى سلم السراي، فرأينا عليه إنسانًا عرفنا بعدُ أنه من أعيان البلد وأصحاب الجرائد فيها، وقد قرأنا في وجهه آية الأسف الشديد ممَّا كان رآه من حال الاستقبال والوداع في دار الحكومة عندما دخلناها وخرجنا منها، وحينما سألْنا العسكر سؤالنا وأجابونا جوابهم، ولهذا خفَّ الرجل إلينا خفة الطائر، وسألَنا عمَّا إذا كنا نستحسن أن نكتب في جريدته شكايتنا وانتقادنا تلك الحالة الغريبة التي استنكر حصولها هذا الرجل، فشكرنا له معروفه، وأجبناه بأنه ليس لنا شكاية من شيء، ولا نريد أيضًا أن ننتقد عمل الحكومة على كل حال: وحسْبُنا من كل ما نطلب منكم ما وجدناه من محبتكم لنا وشعوركم الجميل نحونا.
ثم بارحنا تلك السراي قافلين إلى الفندق، فلمَّا وصلنا إليه رأينا علمًا عثمانيًّا مرفوعًا في داخله على السلم الضيق، فسألت صاحبه — وهو الخواجة بيترو، وكان رجلًا كبيرَ السن يميل كثيرًا إلى مصر؛ حيث كان يتاجر فيها حينما كان شابًّا: لماذا رفع هنا هذا العلم العثماني؟ فأجابني بأن العادة المتَّبعة في جميع جهات الدنيا أنه عندما ينزل ضيف كريم في أي فندق من الفنادق، يُرفع له علم الحكومة التابع هو لها؛ إجلالًا واحتفالًا بقدومه. فقلت له: هذا العلم يرفع عادة على باب الفندق من الخارج، فلماذا كان مرفوعًا من الداخل؟ فقال: نعم، كان يجب رفع العلم خارج الفندق، غير أن أصحاب الأمر والنهي في البلد قد أبوا عليَّ ذلك ومنعوني منه، فما أمكن لي أن أؤدي ذلك الواجب إلا برفعه حيث ترون، وإني لشديد الأسف من تلك الظروف التي عاكستني حتى لم أتمكَّن من نصب العلم على باب الفندق؛ إشعارًا بوجود مثل دولتكم فيه.
لعل القارئ يأخذ عليَّ شيئًا من الملاحظات على بعض رجال الحكم والإدارة في حكومة الشام، ولست أنكر أن ذلك يكاد يكون بارزًا يُلمس باليد من خلال سطور بعض المقالات في رحلة دمشق، ولكنه ما جاء مقصودًا ولا مرادًا به أي شيء، وإنما جاء عفوًا فيما تستدعيه الرحلة من ذكر كل ما يرى الراحل ضرورةَ ذكره، وإذا كان من الضروري أن أبيِّن كيف كان استقبالي في كل مدينة أو بلد أنزل فيه أو أمرُّ به، لا جَرَمَ كان وصف استقبالي في أكبر مدن الشام وأعظم عواصمها منتظرًا في رحلتي قبل كل شيء، كما أنه ضروري على كل حال، خصوصًا بعدما تحدَّث به المتحدِّثون، وكتب فيه الكاتبون.
قد ذكرت في غضون هذه الرحلة ما كنت لاقيته من أولئك الكرام المساميح أهل بيروت وأهل الجبل؛ حكَّامًا وغير حكَّام، وما كان من لطفهم وأدبهم واعتنائهم بضيوفهم، ممَّا مرَّ على القارئ بيانه، من وقت أن كنا في ميناء بيروت إلى أن نزلنا في محطة دمشق، وإنه ما فاتنا — والحمد لله — أن نشكر لهم معاملتهم لنا وحسن صنيعهم بنا عدة مرات، كما أننا كتبنا كل ذلك مفصَّلًا في رحلتنا هذه، ليبقى معروفهم مسطرًا على صفحات الكتاب مثلما كان مطبوعًا من قبلُ في طويَّات الألباب، وقد كان بودِّي لو أنه يسطَّر بمدادٍ من نور على صفحات خدود الحور.
وإذا رأى القارئ فيما رأى أني لم أنسَ ذلك لأحد منهم، حتى ولا لأصغر القوم سنًّا وأقلِّهم شأنًا واحترامًا، عرف من مبدئي في الأمور الإعلان بالصدق، والصراحة في الحق، كائنًا ما كان وبالغًا ما بلغ.
(١) زيارة في الفندق
عدنا إلى الفندق، وبعد قليل من الزمن حضر إلينا صاحب الجريدة الذي كان قابلنا في دار الولاية، وقد ارتحت كثيرًا لمجلس هذا الرجل الظريف؛ لِمَا سبق لي من مروءته ومعروفه على غير معرفة سابقة، وكان حديثنا معه قاصرًا على وصف بلاد الشام، وذِكْر مواهب الله فيها؛ من خصوبة الأرض، وجودة الهواء، وعذوبة الماء، وصفاء الجو، إلى غير ذلك. وما كدنا نتمِّم حديثنا معه فيما كان يقتضي سرورنا من مناظر تلك البلاد وأشكالها الطبيعية الساحرة، حتى جاءنا عدة رجال من أعيان المدينة، مظهرين لنا شدة استيائهم من أننا لم نخبرهم بوقت حضورنا إلى دمشق؛ إذ كان ذلك سببًا في فوات أكبر فرصة كانوا ينتهزونها لتأدية الواجب نحونا من الاحتفاء بنا والاحتفال باستقبالنا لدى المحطة، فشكرنا لهم جميعًا هذا الشعور العالي والإحساس الجميل.
ثم جاء بعدئذٍ الأمير علي ابن الأمير عبد القادر الجزائري، فقابلناه بما يليق بمقامه الكريم من الحفاوة والتعظيم، أما حضرته فكان وقورًا بشوشًا سمحَ الوجه ظريفَ المحادثة، لا يشك من يراه أنه من بيوت المجد والإمارة، وقد أظهر لنا في فاتحة حديثه ما انطوت عليه نفسه الطاهرة من الميل والإخلاص للأسرة العلوية، ثم أخذنا نتبادل أطراف الحديث، وكان أكثر ما يدور عليه كلامه هو امتداح المغفور له جدِّنا الأكبر محمد علي باشا، وبيان مآثره النافعة في بلاد الشرق، وكان يسرُّني ما كنت أسمعه من ذلك الحديث الحسن الصحيح سرورًا جمًّا؛ ليس ذلك لأن الأمير كان يطري جدَّنا ويذكر من أعماله وآثاره ما كان يذكر؛ فإن الآثار والأعمال نفسها تعرب عن قدر صاحبها واستحقاقه شكرَ الناس له إعرابًا صحيحًا لا شك فيه ولا خلاف عليه، ولكن ذلك لأني رأيت مثل هذا الاعتراف الجميل يصدر عن إنسان لإنسان آخر على خلاف المألوف في طبائع أغلب الناس، خصوصًا في هذا الزمان؛ فإنه قلَّما يعترف واحد لغيره بفضل أو ميزة، اللهم إلا إذا كان نفاقًا أو رياءً، وقد يدفع الحقد ببعض الناس إلى أن يزيدوا على نكران المعروف ونسيان الجميل والمروءة أن يتلمَّسوا لصاحبهم مواضع العيب والنقص من أعماله وينشروها؛ ليشهِّروا به في المحافل والمجالس تشهيرًا.
وإن أعجب ما في الإنسان أن تراه شديد العداوة والبغضاء لأخيه، عظيم النفور منه، ومع ذلك فإنه شديد الحاجة إليه عظيم الرغبة فيه. فبينما تجده يكره منه أن يزاحمه على خير، أو يشاركه في فضل، أو يستأثر دونه بعلم أو عمل، ويمقته ويزدريه ويودُّ لو أنه يُستأصل من هذا الوجود فلا يبقى له أثر فيه، إذا هو لا يستطيع أن يعيش بدونه، ولا أن ينهض بغيره، لا يرى معونته إلا منه، ولا سلطانه إلا به، ولا عزَّه إلا في بقائه!
فقضية الإنسان في تلك الحياة متناقضة معكوسة، وقلَّ مع هذا أن يملك الواحد نفسه، وينصف صاحبه ويعطيه قسطه من المدح وحقه من الثناء والشكر، وحينئذ لا بدع إذا كان يسرُّني جدًّا أن أرى إنسانًا مثل هذا نظيفَ القلب مغسولَ الصدر من أدران الحقد والحسد.
وإني بعد أن شكرته جزيل الشكر وأثنيت عليه جميل الثناء، قلت له: إذا كان للمرحوم جدِّنا محمد علي باشا في الشرق من تلك الآثار الواضحة والأعمال الخطيرة النافعة ما يستوجب شكر الناس له، فإننا معشر الشرقيين لا ننسى أن لأبيكم في الغرب من الإصلاحات الكثيرة والمنافع الجمَّة الجليلة ما ليس يقلُّ عن ذلك شيئًا.
وعلى هذا انتهى حديثنا، وكان من ضمن الزائرين لنا في مساء هذا اليوم حضرة عبد الحميد بك غالب نجل المرحوم عثمان غالب باشا، وقد استغربت إذ ذاك وجوده في دمشق، فسألته: ماذا جاء بك إلى هنا؟ فقال: إن لي عمًّا في هذه المدينة، وقد كان المرحوم والدنا اشترى بيتًا كبيرًا حوله حديقة في ضواحي دمشق.
ثم إنه ما زال جالسًا معنا حتى جاء وقت الغروب، فاستأذننا مودَّعًا بالحفاوة مشكورًا على تلك الزيارة.
(٢) سياحة في المدينة
في صبح اليوم الثاني عوَّلنا على الخطة التي كنا رسمناها للسياحة في رياض ذلك اليوم، وكان منها زيارة بعض وجهاء المدينة وسادتها، الذين كانوا جاءوا لزيارتنا في فندق فيكتوريا، ومنها أيضًا مشاهدة ما كان لا بدَّ للسائح أن يطَّلع عليه في دمشق من المناظر والآثار.
الإنجليزي في دمشق
وفيما نحن نعدُّ أنفسنا للخروج جاءنا صاحبُ الفندق يخبرنا أن الشاب الإنجليزي — ومعروف للقارئ من هو — مصاب في عقله، وأنه كثيرًا ما تعتريه نوبات جنون شديدة، فيتشوَّش دماغه ويضطرب فكره، وعند ذلك يتهيَّج، وربما يتلوَّن في الملابس والأزياء، ويتداخل فيما لا يعنيه من شئون الناس، ولا يبالي أن يزجَّ بنفسه في أخطر الوقائع وأصعب الفظائع، وقد تعدَّدت جناياته وجرائمه في بلاد الشام حتى صار يعرفه كل الناس تقريبًا، وأن له أبًا رجلًا طيبًا من سكان لبنان ومن محترمي الإنجليز أيضًا، وقد تعب كثيرًا هذا الوالد المسكين يحاول إصلاح شأن ولده، ويعالجه بكل أنواع العلاج؛ رجاء أن يئوب إلى ثباته ويعود إلى رشده، ومع ذلك لم يفده الإصلاح إلا فسادًا، ولم يزده العلاج إلا جنونًا، ولمَّا أن يئس والده المسكين من جهته، ووجد أن نسبة ابنه إليه وارتباطه به على هذه الحال السيئة، ربما يلحق به أذًى وضررًا من جرَّاء الجنايات التي يقترفها ذلك الولد بخبله وجنونه؛ اضطر أن يعلن على الملأ انفصاله عنه وبراءته من كل ما يحصل منه.
أما أنا، فقد أدهشني جدًّا هذا الخبر الفجائي الغريب، ولكني كنت أسأت الظن بالمُخبِر حتى أتبيَّن صحة خبره، فسألت عن حقيقة ذلك الإنجليزي بعض من يعرفه من سكان دمشق، فأجابوني بما أكَّد عندي حكاية صاحب النُزُل، وحقَّقها تحقيقًا، وعندئذ لم يسعني غير أن أوعزت إلى حضرة الفاضل أحمد بك العريس أن يخليه من مأموريتنا، ويبعده عنا بدعوى أننا لا حاجة لنا برؤية الخيل ولا شرائها، وقد وصلناه بمكافأة مالية ترضيه، فانصرف بها إلى حال سبيله. أما نحن، فقد اعتبرنا ما ذكره لنا الخواجة بيترو نصيحة جميلة، وشكرناها له في نفسنا.
وبعد ذلك ركبنا عربة من باب الفندق، وذهبنا جاعلين وجهتنا في أول الأمر ردَّ الزيارات، فابتدأنا بزيارة سعادة محمد باشا العظم في داره التي كانت واقعة في داخل البلد الأصلي من ضمن العمائر القديمة، وهي من البيوت الأثرية النفيسة، شرقية الشكل، فيها ساحة من حولها الغرف، وفي الساحة أشجار وأغراس وبركة ماء، وقد تكون البرك في داخل الغرف أيضًا، والأرض كلها مبلَّطة بالرخام المرمر الجميل، وبعض السقوف والجدران مذهَّبة أو مزخرفة بفاخر الفسيسفاء.
وقد كان أكثر البيوت التي زرنا فيها أصحابها من هذا القبيل، وإن كانت تتفاوت بالطبع في سعة المساحة وضخامة البناء، وبالجملة فإن بيوت دمشق التاريخية تشبه كل الشبه البيوت القديمة في جميع بلاد الشرق، ومثل تلك البيوت في مصر بيوت الغز والسادات.
وحقيقة، كانت بيوت دمشق التي زرناها جميلة المنظر دقيقة الصنع، يطالع فيها المتأمِّل درسًا طويلًا من أهم دروس التاريخ الأثري، ومنها يعلم كيف كان غرام المتقدِّمين وولعهم بالفنون البديعة والصنائع الدقيقة، نعم، ويعرف أيضًا إلى أي درجة بلغت عنايتهم بزخرفة بيوتهم بالرسوم الفاخرة والأوضاع المحكمة. وقد كنت أدركت شيئًا من الفرق بين تلك الصناعة في بيوت الشام، وبينها في بيوت مصر؛ فهي في الأخيرة أدقُّ وأتقنُ منها في الأولى، وأظن أن هذا الفرق يمكن أن يدركه كلُّ مَن زاول هذه الصناعة واطَّلع عليها في المدينتين، ولكني — مع مزيد الأسف — أقول إن الصناعات القديمة والآثار التاريخية ليس لها مكان من قلوب المصريين، ولا نصيب من استحسانهم مثل ما لها من قلوب غيرهم؛ لأن معظم عنايتهم — أو كلها — منصرفة دائمًا إلى التقاليد الغربية والأنماط الإفرنكية؛ وبالأخصِّ في العمارات التي غيَّرت بالكلية هيئة البلد، وخرجت بها عن الشكل الشرقي بالمرة، وإنه إذا كان بقي من ذلك البناء القديم بقية إلى اليوم، فإن ذلك من النادر القليل!
وكم كنت جذلًا مسرورًا من أن أهل الشام لا يزالون إلى اليوم محافظين على آثار أسلافهم وتاريخ عمائرهم؛ إذ إن أكثرهم ما فتئ يسكن البيوت العتيقة، ولا سبب لهذا فيما نعلم إلا أن العوائد الأوروبية لم تتغلَّب عليهم، ولم تنل منهم ريثما نالت من سواهم؛ فهم شرقيون بارُّون بالشرق، محتفظون بمخلفات الأصول وآثار الجدود.
وبعد أن انتهينا من الزيارات ومشاهدة أفخر البيوتات، ذهبنا إلى أسواق المدينة.
أسواق المدينة
في هذه المدينة أسواق كثيرة تسمَّى بأسماء مختلفة، وفي الغالب يسمَّى كل سوق منها باسم ما يُصنع أو يباع فيه، على نحو ما يعرف في المدن الكبيرة، وهذه الأسواق على نوعين: مجموعة ومتفرقة؛ والمجموعة منها يطلق عليها اسم المدينة، وهي شرقية الشكل، أكثرها ضيِّق مسقوف. أما سوق الحميدية الجديدة وسوق الخوجة وسوق محمد علي، فهي من الأسواق الحديثة الجميلة، ويوجد في المدينة من الخانات عدد كبير، أقدمها خان أسعد باشا، وخان سليمان باشا.
وقد كان أول مرورنا من السوق الأكبر، ورأينا أن حركة البيع والشراء متبادلة هناك بين الشرقيين، وقلَّما وقعت العين على أوروبي يبيع أو يشتري أو يمر في هذا السوق، على أنه هو أكبر الأسواق في ذلك البلد، ثم إننا كنا نسير بين حوانيت من الجانبين؛ منها: حوانيت السروجية، والقصَّارين، وباعة الخبز واللحوم المشوية، والعطارين، وغيرهم من أصحاب التجارات وأرباب الصنائع الشرقية البحتة.
كما كنا نلاحظ أن مجموعة المتعاملين بالبيع والشراء كانوا يختلفون بين عرب وأكراد وأعجام وشراكسة، ويتميزون كلٌّ بلبوسه المعروف، ثم إن هناك بعض الأعاجم قد اتخذوا محالَّ لنقش الأختام، وجماعة كثيرة من الكتَّاب العموميين يجلسون متفرقين في طول السوق، ومسافة ما بين الواحد منهم والآخر تبلغ من عشرة أمتار تقريبًا إلى عشرين في الكثير، وحول هؤلاء الكتَّاب زحام من أهل البلد؛ إذ يستكتبونهم العروض والجوابات كما قد يُشاهَد في الشوارع القريبة من المحاكم الأهلية والأقسام في مصر.
وكنا نرى بعض أناس من حملة المباخر يروحون ويغدون في الطريق لطلب الصدقات من المارَّة وأصحاب الحوانيت، كما كنا نجد من الناس من يشتري الخبز ويلقمه الكلاب، ومن عادة التجار التي لاحظناها منهم في هذا البلد أنهم يشغلون أوقات فراغهم من حركة البيع والشراء بقراءة القرآن ومطالعة الكتب، أو بالتدخين في النارجيل.
فكاهة
ولنذكر هنا على سبيل الفكاهة ما كنا نسمعه من مناداة بعض السوقة في الطريق، ذلك أن بائع الليمونادة ينادي: «بيبرد الله قلبك اطف الحرارة»، ويصيح بائع الجلاب، وهو التمرهندي المعروف: «مواللال يا ولد»؛ يريد أنه صاف جدًّا، وبائع الخشاف البارد ينادي: «بالك سنونك»، ويقول بائع الورد: «صالح حماتك.»
هذا ما كنا وعيناه من ندائهم أثناء مرورنا، وبعد ذلك سرنا من جملة أسواق كان منها سوق الحميدية، نسبة — فيما يقال — إلى السلطان عبد الحميد، وفي هذا السوق يوجد أيضًا خليط من التجارات الشرقية، ثم سوق العصرونية وسوق باب البريد، وهكذا حتى وصلنا إلى جامع بني أمية.
جامع بني أميَّة
موقع هذا الجامع في آخر سوق الحميدية من الطرف الشرقي، ويقال إن موضعه في الأصل كان معبدًا وثنيًّا، ثم حُوِّل إلى كنيسة مسيحية في عهد الإمبراطور أركديوس، وكانت تسمَّى بكنيسة القديس يوحنا، ولعل سبب هذه التسمية وجود رأس يوحنا المعمدان في تلك الكنيسة، وهو النبي يحيى — عليه السلام — الذي لا يزال مدفونًا تحت إحدى قباب هذا المسجد، وكل أهل دمشق يقسمون برأسه.
وعند هذا المسجد تَقابَل خالد بن الوليد وأبو عبيدة بن الجراح — رضي الله عنهما — عند فتح دمشق، وزعموا أن الجهة الشرقية منه أُخذت غصبًا وعنوة، وأن الجهة الغربية تُركت للمسيحيين، وكان المسلمون والمسيحيون يدخلون أولًا من باب واحد إذا أرادوا الصلاة، وقد استمروا كذلك إلى عهد الوليد بن عبد الملك، وبعد ذلك صار المسجد كله للمسلمين؛ لأن الوليد أخذ من المسيحيين نصيبهم منه في نظير أنه ضمن لهم بقاء ملكيتهم لجملة كنائس أخرى متفرقة في دمشق وضواحيها، ثم إنه هدم جميع الكنيسة من الداخل، حتى لم يبقَ من بنائها الأصلي إلا السور الخارجي، وبنى مسجده الجميل الذي أحكم بنياته حتى صار آية من آيات الحسن والبهاء، وكان المهندسون فيه من اليونان.
ويقال إن الوليد عندما أراد الشروع في البناء استحضر ١٢٠٠ صانع من إسلامبول لهذا الغرض، ولبثوا يشتغلون فيه مدة تسع سنين، وقد جمع كل الأعمدة القديمة التي كانت متفرقة في مدن الشام الأثرية، ورصَّ أرض الجامع بنوع من الرخام الجميل النادر، وكذلك فعل بدوائر الجدران من أسفل. وأما القبة وحيطان المسجد من الأعلى، فقد كان نقشها وزخرفتها بحجارة ملوَّنة دقيقة، وكذلك كانت محاريب الصلاة مزدانة بأبدع النقوش من ألطف الألوان وأدق الحجارة، وكانت عقود هذه المحاريب مزيَّنة زينة باهرة بسلاسل وأغصان ذهبية. أما السقف، فكان كلُّه من الخشب المتين المطعَّم بالذهب، وكان في المسجد ٦٠٠ قنديل من ذهب خالص.
ويقال إن دفاتر الحسابات لهذه العمارة نُقلت إلى الوليد على ١٨ بغلًا، وحينما ولي الخلافة عمر بن عبد العزيز غيَّر بعض معالم المسجد؛ فأبدل هذه القناديل الذهبية بقناديل عادية من الزجاج. وفي سنة ٤٦٠ من الهجرة، وهي السنة التي استولى فيها تيمورلنك على دمشق، كان قد دُهِمَ هذا المسجد بحريق أتلف منه جزءًا، ومن ذلك الحين لم يعد المسجد إلى جماله الأول وشكله القديم، ثم إنه احترق مرة أخرى في ١٤ أكتوبر سنة ١٨٩٣، فتُلف فيه قسمٌ عظيمٌ، وكان ذلك على عهد السلطان عبد الحميد، وقد صدر أمره إذ ذاك بإعادة القسم المحترق وتجديده على مثل ما كان.
ويقال إنهم جمعوا ٨٠ ألف جنيه — أكثرها من تبرعات الناس — أعادوا بها البناء، وإن جميع الصناع والمهندسين كانوا من الدماشقة؛ إذ يقال إنهم اجتمعوا على أن لا تزاحمهم يد أجنبية، ثم إن الجامع الآن لم يبقَ فيه من المباني العتيقة التي كانت قبل الإسلام إلا قوس نصر، وهو قوس محكَم الوضع متقَن الصناعة جميل المنظر جدًّا، وكذلك بقيةٌ من باب واحد في الجهة الجنوبية.
وطول المسجد يبلغ ١٣١ مترًا، ويبلغ عرضه ٣٨ مترًا، فمساحته تبلغ — حينئذ — ٤٩٧٨ مترًا مربعًا. أما بناؤه فقائم على موضع الكنيسة، وفيه صفَّان من الأعمدة الشاهقة تقسم المسجد إلى ثلاثة أروقة، ويبلغ طول العمود من تلك العُمُد ٧ أمتار، ثم إن سُقُف هذه الأروقة الثلاثة متكئة على كتل خشبية ضخمة منقوشة بأبدع النقوش، وقد نُقِشَ على الحائط الغربي من داخل المسجد أسماء الخلفاء الأربعة بالخطِّ الكبير، كما كُتِبَ على الجدار الجنوبي وبقية الجدران بعض كلام الله — سورًا كاملةً وآيات من بعض السور — وهي منقوشة أيضًا بالثُلُث الجميل، وفوق القبلة والمنبر من الجهة الجنوبية ثلاث نوافذ كبيرة، تمتاز عمَّا عداها بجمال الزجاج وحسن رونقه فيها.
وفي الجامع محاريب؛ منها محراب خاصٌّ بالحنفية، وآخر خاصٌّ بالشافعية، وآخر يسمَّى بمحراب الصحابة، وقريبًا من ذلك المحراب يصلي الساداة الحنفية، وهم أكثر عددًا في المصلين من أهل المذاهب الأخرى؛ ولعل ذلك لأن معظم أهل المدينة من هذا المذهب. ويقال إن الذي بنى هذه المحاريب هو تنكز في سنة ٧٢٩.
وفي وسط المسجد قبة عالية جدًّا مثمَّنة الشكل، وفي كل جهة من جهاتها نافذتان على شكل نصف دائرة، ويقال إن هذه القبة مغطاة بالرصاص، ولا يوجد بناء من أبنية المدينة كلها أعلى منها إلا المآذن الثلاث؛ ولذلك هي تُنظر للمسافر من مسافة بعيدة، ويُرى على رأسها هلال شاهق، وتسمَّى قبة النسر، وربما سميت كذلك لأن الرواقَيْن في شِمالها ويمينها كجناحين لها.
وفي صحن الجامع أربعة أعمدة مغطَّاة بالرخام الملون، وهي قائمة على القبر الذي دُفنت فيه رأس يحيى — عليه السلام — أما رحبة المسجد فتحيط بها بواكٍ كثيرة، إلا أنها ليست نصف دائرة تمامًا، بل شكلها بيضاوي تقريبًا، ويقال إن عدة هذه البواكي تبلغ ٤٧ باكية، وتيجان العُمُد في تلك الرحبة بارزة مربعة الشكل، لا تختلف شيئًا عن تيجان الأعمدة المصرية. ويقال إن هذه الرحبة كانت في الزمن السابق مبلَّطة بالرخام المرمر النفيس، وفي الجهة الغربية من تلك الرحبة قبة أخرى تُعرف بقبة الخزنة، وفي وسطها قبة كذلك تسمَّى بقبة النوفرة، ويقال إنها واقعة في منتصف المسافة بين إسلامبول ومكة المكرمة، وفي الجهة الشرقية قبة الساعة، وهي واقعة أمام قبة الخزنة، وفيها ساعة، ثم إن وراء الأعمدة من الناحية المقابلة للمسجد عدة غرف خاصة بالعلماء والطلبة.
أما مآذن الجامع فثلاث؛ أولها: مئذنة عيسى، وهي واقعة في الجهة الشرقية من المسجد، مثمنة الشكل، ونقشها من الصناعة العربية الدقيقة، ولها ثلاثة أدوار يُصعد إليها بنحو ١٨٧ درجة، وتنتهي بِكُرة عليها هلال، ومن فوقها يرى الإنسان منظرًا بهيجًا إذا هو أشرف منها على أبنية المدينة، وقوس نصر جميل بين البساتين والمزارع، ويعجبني تشبيه بعضِ مَن شاهد ذلك المنظر بأنه قطعة من الصخر الرمادي في إطار من الزمرد الأخضر الشهي. ثم إن هذه المئذنة تزيد في الارتفاع عن قبة الجامع بنيف ومائة قدم، والسياح يصعدون إليها ليروا ذلك المنظر العجيب. ولولا أن الزمن قليل والسفر طويل، لكنت في عداد أولئك الصاعدين؛ حتى لا يفوتني أن أتمتع به مثلهم.
أما المئذنة الثانية: فهي في الجهة الجنوبية الشرقية، وتسمَّى بمئذنة الساعة، وسبب هذه التسمية — فيما يزعم الناس — أن سيدنا عيسى سينزل عليها عند قيام الساعة، وهاتان المئذنتان قديمتان جدًّا على ما يقال، حتى ذهب بعض المؤرخين إلى أنهما موجودتان منذ عهد الرومانيين واليونانيين.
أما الثالثة: فقائمة في الجهة الشمالية، وتسمَّى بمئذنة العروس، بناها الوليد على غاية ما يمكن من الإتقان والإبداع، وهي وإن كانت لا تبلغ في الطول مثل سابقتيها، إلا أنها تفوقهما حسنًا وجمالًا، وقد تغزَّل فيها بعض الأدباء الظرفاء فقال:
وأما أبوابه الخارجية فسبعة، أكبرها جيرون في جهة الشرق.
إهداء عالم
فرغنا من زيارة المسجد الأموي، وعندما كنت مسرعًا في الخروج منه تقدَّم نحوي شيخٌ يناولني كتابًا على غير معرفة، وقد حسبت أنه من فقراء المساجد جاء يتلمس منَّا صدقة، فأمرت له بجنيه وأخذت منه الكتاب وأنا لا أزال مسرعَ السير؛ حيث كان مقصدي زيارة قبر المرحوم صلاح الدين الأيوبي قبل أن ندخل في وقت الظهر، ولكني عرفت أخيرًا أن ذلك الشيخ الذي أهدي إليَّ كتابه هو شيخ الجامع الأموي نفسه، وعندئذ أسفت كثيرًا لأني لم أقابله بما كان يستحقه من الاحترام لشخصه، ويقتضيه من الشكر لهديته؛ لا سيما والكتاب مخطوط قديم التاريخ نبيل الموضوع؛ إذ فيه ذكر فضائل مصر وعجائبها من القرآن والحديث وآثار السلف، وفيه أيضًا مسائل كثيرة في جغرافيتها الاقتصادية. وإنما عرفت وظيفة هذا الأستاذ حينما تصفَّحت الكتاب، فرأيت عنوانه مكتوبًا بخط يده على أول صحيفة منه، تحت ما كتبه من عبارات الإهداء التي تدل على أدب ذلك الرجل وتواضعه، وإنه وإن فاتنا أن نشكر له ذلك في وجهه، فإنه لم يفتنا أن نسطِّره في رحلتنا، وذلك أبلغ في معنى الشكر والثناء.
صلاح الدين الأيوبي
من هو صلاح الدين الذي قصدنا إلى زيارة قبره؟
إني أعتقد قطعًا أنه ليس على وجه الأرض أحدٌ إلا وهو يفهم قدر هذا البطل الكبير والفاتح الشهير كما يفهم وجود نفسه، كيف لا وهو الذي طبَّق صيتُه الخافقَيْن، وبلغت شهرته إلى عنان السِّمَاكَيْن، وكانت له الفتوحات الكثيرة والحروبات المدهشة التي لم يسمع في غابر التاريخ ولا حاضره بمثلها لأحد من الملوك والسلاطين ولا غيرهم من العالمين، ولولا أني لا أحكم على الغيب ولا أتنبأ بالمستقبل، لقطعت بأن الزمان لم يعد يسمح بنظيره.
وليس لنا أن نفيض في وصفه، ولا أن نطيل بذكر تاريخه، بعد أن امتلأت بطون التواريخ بقصصه الطويلة، وشرْح أعماله الجليلة التي شهدت بها الناس جميعًا حتى أعداؤه ومبغضوه.
ولكن لا بأس أن نورد في رحلتنا نبذة من تاريخه العطري؛ تبرُّكًا بذكره الفخيم، وتيمُّنًا باسمه الكريم.
هو السلطان الملك الناصر صلاح الدين أبو المظفر يوسف بن نجم الدين أيوب، ولد — رحمه الله — في تكريت سنة ٥٣٢ من الهجرة، وقدِمَ به أبوه إلى دمشق وهو رضيع، فنشأ في حجره، وكان أبوه إذ ذاك مستعمَلًا على بعلبك، ولما ترعرع صلاح الدين أرسله المرحوم السلطان نور الدين الشهيد مع أمراء جيشه للحرب في مصر، فأبلى فيها بلاء حسنًا، وأظهر من الشجاعة والبراعة ما أكبره وسما بمقامه في أعين الناس، ثم عاد إلى دمشق وأقام بها إلى أن أغار الصليبيون على مصر وكادوا يستولون عليها، وكانت وقتئذ — بيد الفاطميين، فطلب نور الدين إليه أن يذهب إلى مصر مع عمه شيركوه، فأجاب عن ارتياح، ونكَّل بالفاطميين وقطع خطبتهم، وصار من هذا الحين نائبًا في مصر إلى أن مات السلطان نور الدين فاستقل هو بحكمها. ومن ذلك العهد أخذ يفتح البلاد فتوحاته الكثيرة، حتى مات في مدينة دمشق في يوم ٢٧ صفر سنة ٥٨٨، وكان عمره لا يتجاوز ٥٧ سنة، وكان — رحمه الله — غاية في الجود والكرم، حتى قيل إنه لم يترك بعد وفاته سوى ٤٧ درهمًا، وهي ثروة ربما ترك السائل لأولاده أضعاف أضعافها، ولكنه البذل والسخاء والحنان والشفقة على المساكين والفقراء تستنفد المال ولو كان مثل الجبال.
دخلنا قبة هذا الملك، وهي بجانب الجامع الأموي من جهة الشمال، ورأينا حال دخولنا حديقة لا تزيد عن خمسة أمتار طولًا في مثلها عرضًا، وهنا أخذتني هزَّة عندما رأيت صلاح الدين صاحب الحروب الصليبية، والذي أخضع الجبابرة وأسر القياصرة، والذي كان يضيق بهمته الشمَّاء فضاء ما بين الأرض والسماء، ينتهي أمره بسكنى هذا المكان الضيق، وتكون حديقته أمتارًا معدودة يوجد في مقابر البسطاء من الناس ما هو أكبر منها!
نعم، إن الميت في قبره لا ينتفع بسعة المكان، كما لا يهمه شيء من زخارف الحياة؛ وإنما أسفي كان من أن الشرقيين، وهم أعرف الناس بقدر هذا الفاتح المظفر، لم يحفلوا به كما يحفل الغربيون بعظماء رجالهم، مع أن الغربيين أنفسهم قد قدَّروا قدر هذا الرجل، وليس هناك أدلُّ على ذلك من إهداء إمبراطور ألمانيا إلى قبره إكليلا زهريًّا يسرُّ الإنسان أن يرى منه برهانًا على شعور جلالة الإمبراطور وأضرابه، بقدر ما يحزنه أن لا يرى شيئًا مطلقًا من جانب الشرقيين عمومًا، والمسلمين خصوصًا، على قبره.
الصالحية
هي إحدى القرى والأحياء التي تنقسم إليها مدينة دمشق، وقد كنا عوَّلنا على ارتيادها في هذا اليوم، فبعد أن فرغنا من مشاهدة الأسواق، وانتهى أربنا من زيارة الأعيان وبعض الجوامع، ومن كل ما كان يهمنا أن نطَّلع عليه بالقصد، أو كان يصادفنا أيضًا على غير نية وحساب عندما كنا نسير في الشوارع والطرقات، توجهنا تحوطنا رعاية الله إلى الصالحية، وكان الوقت عصرًا، فسرنا في طريق كان من أجمل الطرق وأحسن المنتزهات في تلك البقاع؛ حيث لا يلتفت فيه الإنسان عن ذات يمينه أو عن ذات يساره حتى يرى الأرض من الجانبين خضراء زاهية بالبساتين والمزارع، التي يميل إليها الطبع ويفرح منها القلب.
ولا يزال المسافر في ذلك الطريق يمرُّ بين مناظر طبيعية تختلف في الحسن وتتفاوت في الجمال، وينتقل من منظر شهي إلى أشهى، ومن شكل بهي إلى أبهى، ولا يودِّع فيه نهر الطرة حتى يستقبل بعده نهر البريد، وهكذا إلى أن يصير في الصالحية، وهي قائمة على هضبة جهة الغرب من المدينة، وعدد سكانها يبلغ نحو عشرة آلاف نسمة، ويمرُّ منها نهر البريد، وفيها من الأشياء المشهورة جامع الصوفي الشهير محيي الدين ابن العربي، وقبر عبد القادر الجزايري. وقد سرَّني جدًّا منظر هذه القرية، التي جمعت إلى طيب المناخ ونضارة البقعة واعتدال الجو، من ضرورب الحُسن والبهاء؛ ما لا يمكن الإعراب عن نعته بأكثر من أنه جنة عالية تجري من تحتها الأنهار، كما قال بعض الشعراء:
وهذا قليلٌ في وصف بلد مثل هذا، وإنك تكاد تطير فرحًا وسرورًا؛ عندما تشرف منها على دمشق، وما يتخللها من الماء والخضرة، ويحيط بها من البساتين النضرة، فترى من هذه المجموعة البديعة منظرًا يخدع النفسَ حُسنُه، ويسترقُّ الفؤادَ جمالُه!
مررنا هناك في جملة شوارع، ورأينا فيما كنا نراه بيوتا وأكواخا صغيرة تدل بظاهر هيئتها على أن سكانها من الفقراء البائسين، وقد كنت أحسب أنهم من العرب، ولكني عندما تأمَّلت شكلهم عرفت أنهم من أهل كريد المسلمين، توطَّنوا تلك الجهة واستعمروها، وقد رأينا في نفس البلد أيضًا بيوتًا كبيرة وقصورًا مشيدة، وهي من أملاك أكابر الدماشقة وأعيانهم، ثم صادفنا ونحن خارجون من تلك القرية مصطبة تُعرَف بمصطبة الإمبراطور، وقد استغربت هذه الإضافة، فسألت من بعض القوم عن سببها، فقالوا: إن إمبراطور ألمانيا لما زار تلك الجهة نُصبت له خيمة فيها، ووقف على تلك المصطبة ليرى منظر المدينة وما حولها، ومن هذا الحين نُسبت إليه ودُعيت باسمه.
ثم إنه لم يكن وراء الصالحية من الجهة الغربية إلا جبل قسيون، وأما من ناحية الشرق، فلست أجدني مبالغًا إذا قلت إن الطَّبيعة لم تتجلَّ للعيون فتملأها حسنًا، ولا للقلوب فتنبهها طربًا، إلا في تلك البقعة، عندما يشرف الإنسان منها على المدينة وما يحيط بها، فيرى من الحسن والإبداع وجمال التكوين والاختراع ما لم يعثر النظر على مثاله، ولم تنسج الطبيعة على منواله.
وكم كنت آسفًا من أني لست بالشاعر الخيالي ولا بالرسام الماهر؛ حتى كان يمكنني أن أصوِّر للقارئ كيف كان يفعل بالعقول ذلك المنظر الساحر، حينما كنت أُشرِف تارةً على ناحية الشرق فأرى السفح مفروشًا من النبات البهي بمثل البساط السندسي، وأُرسل النظر تارةً أخرى إلى شمال الجنوب فأشاهد مآذن دمشق الشاهقة بين مبانيها ومعالمها الفائقة، وقد أحاط بها سياج من الحدائق الفيحاء إحاطة النطاق بخصر المشبوبة الهيفاء، فما أدري وقتئذٍ إذا كنت أردد البصر بين نضارة المزارع وجمال المدينة، أم كنت أغازل عروسًا بديعة الحسن في ثياب البهاء وشعار الزينة.
ولكن ماذا كان يفيدني أن أكون أبلغ المتكلمين فأصف ما كوَّنتْه يد القدرة في هذا المقام الكريم بأفصح مقال وأوضح تبيين، أو أكون أحذق المصوِّرين فيتحرَّك قلمي في رسم ذلك المنظر الفخيم بأبدع نقش وأبهر تلوين. وإنه شتان بين ما يقع في القلب من روعة المشاهدة والعيان، وبين ما يصل إلى السمع من حديث التعريف والبيان.
وعلى ذلك تمت الرحلة إلى الصالحية.
ثم عدنا إلى الفندق وقد مررنا في أثناء الطريق بمدرسة الملك الظاهر بيبرس ومكتبة الحكومة التي جمعت عند قبره، واشتهرت في تلك الدائرة بادخار نفائس الأسفار العربية وغرائب الكتب الفنية. ويقولون إنه قبل أن تتكون هذه المكتبة كانت الكتب متفرقة في عدة أماكن متنائية، فكان يصعب على عشاق العلم أن يصلوا إلى غايتهم من البحث والمراجعة في تلك الكتب، على أن تباعُد مواضعها كان من أهم الأسباب لتدشينها ونقص بعضها، بل ضياع عدد كثير منها. ولولا أن أتاح الله لها مدحت باشا فعُني بجمعها وترتيبها، لكانت اليوم في حيِّز العدم، وكانت تكون دمشق كبيروت خاليةً من المكتبات العامة التي لا تقل فائدتها في المجتمع عن المدارس.
ثم إني كنت عجبت من أنه كيف تكون بيروت خالية من الكتبخانات العامة وهي البلد الوحيد الذي اختُصَّ من بين سائر بلاد الشام بكثرة المدارس وانتشار العلوم والمعارف. ولا شك أن تأسيس مثل هذه المكتبة الجميلة المشتملة على الكتب القديمة في مدينة كبيرة، يعدُّ نهضة شريفة تبقى لمدحت باشا في تاريخه إلى آخر الزمان.
وقد كان أمام هذه المكتبة جامع ابن بيبرس، وقد مَنَعَنَا أن نزوره ونزور غيره أيضًا من جوامع دمشق الكثيرة، التي منها أيضًا جامع السنانية، أننا كنا قريبين من وقت الظهر.
وبعد أن تناولنا طعام الغداء في الفندق أُخبِرنا بحضور جملة من الخيل، فاطَّلعنا عليها وكنا نحسب أن فيها ما يجتلب رغبتنا ويجتذب استحساننا، ولكنا — مع مزيد الأسف — وجدناها كسائر الخيل المعتادة، لا تمتاز حتى ولا بأنها من تلك الجياد الأصيلة؛ ولذلك صرفنا عنها نظرنا، وذهبنا في عربة إلى زيارة تكية المولوية؛ تلك التي ذكرنا أنها كانت في طريقنا من المحطة إلى الفندق.
دخلنا هذه التكية، وهي من البناء المزخرف الجميل، قائمة في وسط حديقة غنَّاء، وقد استقبلَنا عند مدخلها شيخُها، وهو رجل كامل ظريف، وبعد أن رحَّب بنا ناولنا من سعوطه، الذي أخبرنا أنه من عمله وصنعة يده، فشكرت له أدبه ومعروفه. ثم طفنا على قاعات التكية، ورأينا أن أهلها من أولهم إلى آخرهم ممتلئون جذلًا وسرورًا بسبب أن جلالة السلطان محمد الخامس مولويُّ الطريقة، فهم من أجل ذلك يطمعون في رعايته وعطفه بنوع خاص، ويؤمِّلون أملًا كبيرًا في أن يكون لجميع التكايا من وراء ذلك ما يرقِّيها ويوسِّع نطاقها، حقق الله آمالهم!
ثم قصدنا إلى زيارة شيخ النقشبندية، ومن هناك مررنا ثانيًا من داخل المدينة في عدة أسواق يتصل بعضها ببعض، وتتمايز بالأسماء، وكان منها سوق الأروام، وسوق باب البريد، وسوق الحرير، وسوق الخراطين، وإذ ذاك صادفنا دار أسعد باشا، وهي تعدُّ من ضمن الأمكنة يقصد إليها المسافرون ويرتادها السائحون، ولهذا الباشا خان من ضمن خانات المدينة، كما أن لمدحت باشا سوقًا طويلًا يُعرف باسمه هناك.
ومن الأسواق التي مررنا فيها من هذا الطريق سوق يُسمَّى سوق القطن؛ لأن القطن يباع فيه، ومنه مررنا بجامع السنانية، حيث قصدنا إلى الفندق، وكان سبيل سيرنا من ناحية المرج، وهو طريق طويل من المنتزهات البديعة المنسَّقة مارٌّ بجوار نهر بَرَدَى، وعليه من جهة اليمين واليسار مزارع وأغراس بهيجة، والمتفسِّحون من أهل دمشق يستحسنون هذا الطريق كثيرًا، وأكثرهم استحسانًا له وفسحةً فيه المغرمون بركوب الخيل؛ فإنهم يروحون ويغدون على خيولهم، يرتعون ويلعبون في هذا الطريق الجميل.
بذلك ختمنا رحلة هذا اليوم، وما كاد يجيء صبح اليوم الثاني حتى حضر إلينا في الفندق جمٌّ غفير من ذوات المدينة وأصحاب الحيثيات الكبيرة فيها، وقد كنا تهيَّأنا للسفر، فما زال هؤلاء الكرام معنا حتى ذهبنا إلى المحطة.
(٣) في محطة دمشق
جلسنا في غرفة الاستراحة بين الذين كانوا جاءوا إلى المحطة للاحتفال بوداعنا مسافة نتبادل الحديث، وفي تلك الأثناء جاء إلينا أحد موظفي الحكومة يحمل معه سلام دولة الوالي، واعتذاره إلينا عن عدم حضوره بذاته بأنه مريض لا يستطيع السير إلى المحطة، فشكرنا له هذه العناية الجليلة والأريحية الجميلة، وقلنا لذلك المندوب على مسمع من كل الحاضرين: إن شاء الله سيزول مرض الوالي ويحصل له تمام الشفاء والنشاط عندما نفارق هذا البلد ونسافر.
ولما آذن القطار بالرحيل، قمت فودَّعت جميع الذين كانوا قد حضروا لتوديعنا من عِلْية القوم، وحينئذ كنت أسمع منهم عبارات الأسف الشديد مما كان حصل من الوالي أولًا وآخرًا، أما أنا فأجبتهم بأني ما جئت إلى بلاد الشام لزيارة الحكومة ولا رجالها، وأنه عندي يستوي أن أرى عناية الحكومة واحتفالها وأن لا أرى شيئًا أصلًا؛ لأن الحكومة كل الناس يعرفون أنها كالأعراض، دائمًا متغيِّرة لا تثبت على حال واحدة، وأنها تتقلب على مبادئ مختلفة؛ تلتئم مع الظروف الحاضرة مثل السفينة التي تجري في البحر على حسب ما تقتضيه الرياح وتشتهيه الأهوية، وقد تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، وإنما جئت بلاد الشام لا أقصد إلا زيارة أهلها، واكتساب معرفتهم ومحبتهم، وحسبي أني — والحمد لله — اجتمعت في هذه الرحلة السعيدة بأمثال حضراتكم، فسأعود الآن من سفري هذا إلى بلادي بأكبر غنيمة وأربح صفقة.
قلت لهم وذلك وأنا لا أقدِّر ما كان يختلج في صدري من السرور، ولا أستطيع أن أعرب عن امتناني مما لاقيته من عناية أولئك القوم، التي كانت ألمع برهان على شدة تعلُّقهم بنا وإخلاصهم لنا ولأسرتنا، كيف وأنهم سادة البلاد وأصحاب الشأن والكلمة فيها!
على أني ختمت مقالتي لهم بأنه لا ينبغي للإنسان أن يمتعض من الحاكم ويغتاظ عليه لمثل هذا الأمر قبل أن يتبيَّن سببه؛ لعل له عذرًا وأنت تلوم، وما يدرينا إذا كان الوالي فعل ما فعله من تلقاء نفسه، أو كان مجبورًا ومرغمًا عليه من قِبَل أصحاب الحل والربط في البلاد، وأنا عند ذلك الأخير أقول: إذا كانت الحكومة تريد من وراء عملها هذا كسر شوكة الأسرة الخديوية والحطِّ من كرامتها في عيون الناس، فليس في وسعى حذاء ما تبتغي الحكومة سوى الصبر والسكوت، وهو أحسن ما يكون جوابًا في تلك الحال، وإلا فماذا ينفع القيل والقال وقد أصبحت البلاد كما تعرفون! لا أقول إنها بلاد فوضى أو خالية من العظماء والعقلاء والحكام والأمراء، ولكن كلنا لا نجهل أن الاختلاف على المبادئ والغايات كثيرًا ما يُوجِد الاشتباه والالتباس، ويُوجب تفرُّق الكلمة ويذهب بوحدتها بين الناس، خصوصًا إذا هم اختلفت شعوبهم واضطربت مضاربهم وآراؤهم، ومن ثمَّ لا تجدي الشكاية من امرئ يزعم أن أكبر المبررات لعمله اعتماده على جانب غيره واطمئنانه إلى قوَّته ونفوذ أمره؛ ولذلك أنا أفضِّل من الآن الرجوع إلى مصر دون أن ألوي في طريقي على مكان آخر، على أن أتمم رحلتي في بقية البلاد؛ فإني أحسب أن هذا أحفظ لكرامتي وخير لي مما عساني أصادفه في حكومات الشام.
وعندئذ قالوا جميعًا: خفِّض على نفسك؛ فالأمر أهون مما تظن، وسافرْ على بركة الله إلى ما شئت من البلاد، فإنك سترى — إن شاء الله — من الآن ما يسرُّك ويرضيك، حيث أقمت وحيث ارتحلت، فليس في طريقك من هنا إلى بعلبك وحمص وما بعدهما إلا قومنا وأبناؤنا الذين منهم المتصرفون والحكام، وإنك ستجد من عنايتهم واحتفائهم العظيم بمقامك الكريم ما أنت جدير به.
فشكرت لهم هذا المعروف الكبير والإخلاص المتناهي مرة بعد أخرى. ثم قام القطار، وهنا كان آخر رحلتي في مدينة دمشق وعاصمة الشام الكبيرة، وقد كان بودِّي لو أن تطول إقامتي فيها لأتجوَّل في جميع ضواحيها ونواحيها، وأطوف أيضًا على مدارسها النظامية ومعاهدها الدينية ومعاملها الصناعية ومكاتبها ومطابعها، وأوافي القراء في رحلتي بتفصيل ذلك كله، غير أن الوقت كان — مع الأسف — ضيِّقًا لا يسمح لي بأكثر ممَّا كان. على أني كنت ألاحظ في أثناء مروري في طرقات البلد من داخلها وخارجها أن أغلب السكان من الطوائف الإسلامية، وأن عدد المسيحيين بالنسبة إليهم قليل جدَّا، كعدد المسلمين بالنسبة إلى سكان لبنان، أو هو أقل من ذلك أيضًا.