السفر إلى حمص
نزلنا من القطر، وما هي إلا لمحة عين وقد تحرَّك متجهًا مع سلامة الله إلى حمص، وكان طريق سيره بالقرب من نهر هناك يُعرف بنهر العاصي، وكان على جانبي الطريق بساتين أنيقة وزروع بهيجة تنعش الروح وتستر الخاطر، وقد صادفنا أثناء سيرنا قرية تسمَّى الياعات.
الياعات
قرية واقعة في طريق حمص بين بعلبك وبلد يسمَّى برأس بعلبك، وعدد سكانها يبلغ نحو ألف نفس، وأهلها يستقون من بئر عذب جميل، وقد اشتُهرت هذه القرية بعمود أثري مركب من ١٦ حجرًا فوق قاعدة درجية مربعة، على قمته تاج قورنشي، وعلوُّ هذا العمود من قاعدته إلى تاجه يبلغ عشرين مترًا، هو منفرد في السهل وليس حوله شيء من الآثار، ويقال إن الذي بنى هذا العمود هو الملكة هيلانه أم قسطنيطين الكبير؛ إذ إنها كانت تشيِّد في كل مرحلة من طريقها إلى القدس أثرًا؛ ليوقَد على رأسه نار تُرى على مكان الأثر الآخر؛ افتخارًا وإعلانًا بكشف الصليب.
وما زلنا نواصل السير، والطريق في الوادي كان يضيق تدريجًا بين الجبلين اللذين كادا يتعانقان لولا كان يمنعهما الحياء، فمررنا على جملة بلاد صغيرة، ويقال إن في بعضها آثارًا تاريخية، حتى وصلنا إلى رأس بعلبك، وهي على مسيرة نحو ٧٢ كيلومترًا من مدينة بعلبك.
هذه البلدة ترتفع عن منسوب البحر بنحو ٨١٠ أمتار، ومعظم سكانها من طائفة الروم الكاثوليك، وعندئذ كانت المنطقة سهلًا مستويًا، فكانت تنكشف منها للمسافرين بحيرة حمص على مسافة طويلة، فما برحنا نتابع السير حتى إذا قربنا من تلك البحيرة مررنا بكفرٍ يسمَّى بالقاعة، وعند تلك الجهة كانت الأرض في أكثر المواضع غير مزروعة؛ وذلك لأنها فقدت خصوبتها بسبب مجاورتها للبحر، وقد يوجد في بعض الجهات زروع إلا أنها من الأعشاب والحشائش الطبيعية، وبعد ذلك وصلنا إلى بلد يسمَّى بالقصير.
ثم إن بحيرة حمص هذه كبيرة متسعة، حتى إنها لم تفارق أنظارنا في طول هذا السفر إلا بعد مسيرة ساعتين تقريبًا، وقد شاهدنا على مسافة بعيدة جبل عكار — الذي سنتكلم عليه في موضع آخر من تلك الرحلة، إن شاء الله.
وما فتئنا نتابع السير ونقطع الفيافي والبلاد حتى وصلنا إلى محطة الكتينة، ثم بارحناها، فما لبثنا بعدها إلا مسافة صغيرة حتى وصلنا — مع سلامة الله ورعايته — إلى محطة حمص، وهي على بعد ١١٠ من الكيلومترات من مدينة بعلبك.
ملحق بقلعة بعلبك
صرنا — والحمد لله — عند مدينة حمص، بلد صاحبنا الكريم عبد الحميد باشا الدروبي، فسرَّنا أن حقق الله رغبتنا في زيارته وأعاننا على إجابة دعوته، وقد تركنا وراءنا مدينة بعلبك العتيقة وقلعتها الغريبة التي حوت من الآثار ما يدهش الألباب ويحيِّر الأفكار، والتي ما رأينا في بلاد الدنيا أضخم من حجارتها وعُمُدها، ولا أبدع من نقوشها وصورها، ولا أحكَمَ من وضعها وبنائها!
لقد كنا إذ دخلناها وإذ خرجنا منها في حيرة الضب وأشدَّ، لا ندري كيف وصلت أفكار بني آدم إلى تشييد مثل هذا البناء وإحكام سافاته على سعة مساحته وبُعد مسافاته! وكيف أمكن لهم أن يقتلعوا تلك الأحجار الضخمة والأعمدة الفخمة ويجروها من مقالعها إلى مواضع البناء! وربما وُجد منها ما تبلغ مساحته ٣٠٠ متر مكعب أو ٤٠٠ متر؛ كحجر الحبلى الهائل الذي لا يزال إلى اليوم قائمًا بجانب الجبل كأنه يدلُّ السائح على مقلعه، ويرشده إلى موضعه ولسان حاله يقول:
نعم، ما كدنا نفرغ من زيارتها حتى كنا قد اقتنعنا بمهارة القدماء واقتدارهم في فنون العمارات والصناعات، خصوصًا في الرسم والتصوير؛ فقد رأينا لهم نقوشًا حفرية في الأحجار الصلبة والصخور الصلدة من صور متنوعة وأشكال متعددة، كان في ضمنها من صور الأشجار والأغصان المورقة البديعة ما يمثِّل في تعاريجه بأدق صنعة وجهَ الأسد، ورأينا كذلك رسومات من أكاليل الزهر والحيوانات أبدع ما خطَّته يد أبرع المصوِّرين وأحسن ما جرى به قلم أصنع الرسامين، إلى غير ذلك مما لا يزال واضحًا ثابتًا يكاد ينطق بما كان لهم من البراعة الفائقة في تلك الفنون الجميلة.
نبذة من أخلاق المتقدِّمين وعوائدهم
قد كنا أطلنا التأمل في هياكل القلعة وتماثيلها، فلم ندعها حتى تلقينا عنها درسًا طويلًا في أخلاق الحكام السابقين وعقائدهم، وشيء من تقاليدهم وعوائدهم، فعرفنا لهم من الخرافات الكثيرة والآراء الفاسدة ما ليس يتفق بحال من الأحوال هو وما كان يقتضيه علمهم الواسع واقتدارهم الكبير؛ حيث كانوا يقطعون من الجبال حجارة ويصوِّرونها بأيديهم هياكل وتماثيل ثم يقيمونها ويعبدونها ويتقرَّبون إليها ببذل أنفس ما لديهم من الأموال والأرواح.
ثم إنهم كانوا يسمون كل هيكل باسم مخصوص، وفي الغالب يكون هذا الاسم بما يرتبط بنفس ما له الهيكل من الموجودات على حسب زعمهم الغريب؛ فهم يسمون سيرس — مثلًا — بإلهة الزرع؛ لأنهم يعتقدون أن لها تأثيرًا فيه، كما أنهم يسمون الزهرة بإلهة العشق، وباكبس بإله الخمر، وهلم جرًّا؛ ولعل ذلك لأنهم كانوا لم يفكروا فيما وراء المادة، ولم يوقفوا إلى البحث فيما يهديهم إلى العقائد السليمة والأفكار القويمة، بل قصروا أنظارهم على ما كانت تتناوله حواسهم من الماديات والطبيعيات، فظلوا من أجل ذلك عاكفين على عبادة الأصنام التي شيدوها وأقاموا عليها المعابد، وتغالوا في بنائها وزخرفها إلى حدٍّ يدهش العقول.
ظلم الحكومات في الزمن القديم
خرجنا من القلعة ووقفنا نتزوَّد منها النظرة الأخيرة، وعندئذ ما كان أشدَّ حركتها في سكونها، وأعظم فصاحتها في سكوتها؛ إذ كان يخيَّل إلينا أن أصواتًا خافتة، كأنها لا تزال خائفة، تتصاعد من خلال الأبنية الفخيمة، ومن تحت قواعد الأعمدة الجسيمة والهياكل العظيمة، قائلة: انظروا إلى ما بقي من هذه المباني العالية، ثم إلى تلك الأطلال البالية، تعلموا كيف كان مقدار قسوة الحكام وظلمهم في العصور الخالية.
نعم، وهل كان يرتاب أحد في أن هؤلاء العمال كانوا يُساقون إلى جرِّ الأثقال من الجبال كما تساق الثيران والبغال؟! ولا بد أنهم فقدوا الصبر وعَيَت بهم الحيل بعد أن استنصروا فلم يجدوا ناصرًا، واستصرخوا فلم يجدوا مغيثًا.
أرأيت لو أن أصحاب الأمر جعلوا بدل ما أن يقيموا من الحجارة مثل هذا البناء الهائل، أن يقيموه من أجسام العشائر والقبائل التي ذهبت في سبيل الأغراض ضحية الأتربة والأنقاض، أليس كانوا يسدون منها الفضاء ويبلغون بها إلى عنان السماء؟
أرأيت إن نطقت هذه التماثيل النائمة والصور القائمة، أليس كانت تُخبر عن عدد الأرواح التي أُزهقت في نحتها وقطعها وحملها ووضعها، ولا ذنب يستوجب عقابها ولا جناية تستدعي عذابها سوى أنها خَلقٌ كريمٌ من الإنسان كان من حقِّه أن يشتغل بعقله ويستخدم مواهبه فيما خلقت لأجله؟!
ولكن ما كان أسوأ حظ هؤلاء المساكين في ذلك الوجود المظلم؛ إذ عاشوا ما قُدِّر لهم أن يعيشوا مسخَّرين لإرادة غيرهم، عاملين غير فاعلين إلا على مقتضى أمرهم ونهيهم.
هذه هي الأصوات التي كان يتخيَّلها الإنسان تنبعث من ذلك المعبد القديم، أو كان يسمعها من لسان حاله، وما كان أبلغه في نطقه وأصدقه في مقاله!