مدينة حمص
حمص مدينة يقال إنها قديمة جدًّا، وإن الذي بناها رجل يقال له حمص بن المهرب بن جان بن مكنف، وقيل حمص بن مكنف العمليقي، وقيل بناها اليونانيون.
وفيها آثار كثيرة ومشاهد ومزارات ومساجد شهيرة؛ منها مشهد علي بن أبي طالب — كرَّم الله وجهه — ودار الفاتح الكبير خالد بن الوليد، ويقال إن أهل حمص كانوا أشد الناس على علي بصفِّين، وأكثرهم جدًّا في حربه، ثم صاروا بعد ذلك من غلاة الشيعة.
أما المدينة فقائمة على مستوى من الأرض، وهي حصينة مقصودة من سائر الجهات، جميلة الهواء والتربة، كثيرة المياه والأشجار، وأهلها من ذلك في خصب ورغد من العيش. ويقال إنها في قديم الزمان كانت أكبر البلاد وأحسنها، وكانت بيد ملوك الروم إلى أن ملكها كسرى في أيام عطيانوش في جملة ما ملك من البلاد الرومية، ولما انهزم الروم بعد وقعة اليرموك كان هرقل بحمص، ففارقها وجعلها بينه وبين المسلمين، وأمَّر عليها أميرًا.
ولما حصر المسلمون دمشق كان بها عسكر من أهل حمص أتوا نجدة، ولما فُتحت دمشق سار أبو عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد قاصدين حمص بجيوش كافية، وذلك سنة ١٥ للهجرة، فنازلوها وجعلوا يقاتلونها صباحًا ومساءً، وكان البرد قد آذى المسلمين، وطال الحصار فصبروا، وكتب هرقل إلى أهل الجزيرة أن يأتوا مددًا إلى حمص، فاعترضهم المسلمون وفرَّقوهم، فلم يأتوها، فلما انصرم الشتاء كان قد ضاق الحال بأهل حمص، فخرجوا يطلبون الصلح، فصالحهم أبو عبيدة على صلح دمشق، ثم استخلف عليها عبادة بن الصامت، ورحل إلى حماة، وقد حصل فيها بعد الفتح جملة حوادث مهمة لا يتسع المقام لتفصيلها.
أما سكانها فيبلغون نحو ٨ آلاف نسمة؛ منهم ألفان من الروم الأرتدكس، وألف من اللاتين، والباقي من طوائف مختلفة.
نزلنا في محطة حمص، وكان يستقبلنا على إفريزها عدد كبير من رجال الحكومة وأعيان المدينة ووجهائها المحترمين، وفي مقدمتهم صاحب السعادة قائم مقام حمص، وكان سعادة عبد الحميد باشا الدروبي يعرِّفنا بالذوات والعظماء، ويقدِّمهم إلينا واحدًا واحدًا، وكنت أقابل الجميع بجزيل الشكر والامتنان، ثم ركبنا وركب معنا سعادة القائم مقام عربة الباشا الخاصة التي كانت قد حضر بها مع جملة عربات أنجال سعادته، وقصدنا توًّا إلى منزله.
وكان الطريق من المحطة حتى بيت سعادة الباشا مزدحمًا بالناس الذين كانوا يستقبلوننا والبِشْر يتلألأ على وجوههم، حتى لقد كنت إخال أني ضيف كل واحد منهم على حدته، وما كنت لأستغرب أن يخرج إلى المحطة وطرقات البلد سكان المدينة عن بكرة أبيهم، فألاقي من حفاوتهم واحتفالهم بنا ما لم يتفق أن نلاقيه في جميع بلاد الشام، وأنا أعرف أن سعادة عبد الحميد باشا الدروبي قد اشترى من جميع هؤلاء الناس أفئدتهم، ومَلَك نفوسهم بما يسديه إليهم من معروفه وماله، فهو في تلك المدينة بمثابة والد شفيق لكافة الناس.
أما البيت فكان واقعًا من البلد في أجمل منطقة وأحسن بقعة، تحيط به الحقول اليانعة والبساتين الواسعة من جميع جهاته، وليس منظره من الداخل بأقل حسنًا وبهجةً منه في الخارج.
زيارات
وقد جاء إلينا في ذلك البيت جميع الذين كانوا قد استقبلونا عند موقف القطار وغيرهم، فاستقبلناهم بما يليق بهم من الحفاوة والاحترام، وجلسنا معهم مجلسًا طويلًا نتحدث سويًّا، وكان من بينهم بعض مشايخ وبكوات من عشائر الدنادشة المعروفين في تلك البقاع بالمهارة في ركوب الخيل، والمشهورين باقتناء جيادها أيضًا، وقد كنت أعرف ذلك عنهم قبل مخالطتهم في هذا البلد، ومن ثمَّ قلت لهم في غضون حديثي: إني أرجو — إن شاء الله — أن أرى ما يسرُّني من كرائم خيلكم ومهرة فرسانكم. فقالوا: إن شاء الله سنتشرف بمقابلة دولتكم عندما تمرُّون في طريق سفركم السعيد من حمص إلى طرابلس، وإذ ذاك ترون من الخيل والخيَّالة ما لعله يوافق رغبتكم الشريفة.
قلعة حمص
وبعد ذلك ذهبنا إلى زيارة قلعة حمص، وكنا نحسب أنها من الأهمية بالمكان الذي يستدعي قصد السياح إليها، ولكنا وجدناها خربة قد دمرتها يد الخطوب والحوادث، وحطَّمها كرُّ الغداة ومرُّ العشي، حتى لم يبقَ من معالمها الأثرية إلا باب أو بابان، لا أذكر ذلك تمامًا، ويقال إن جدَّنا المرحوم إبراهيم باشا هدم من ذلك الحصن جزءًا كبيرًا عندما حارب الشام وخرج عليه أهل حمص وعصوا أوامره، وكنا نرى ونحن فوقها من أبنية المدينة، خصوصًا جوامعها وكنائسها وما يحيط بها ويتخلَّلها من الأشجار والأنهار، مثل تلك المناظر الجميلة التي كنا نطلُّ عليها تحت الجبال والحصون العالية في كثير من بلاد الشام.
كلمة عامة عن المدينة
نزلنا من القلعة قاصدين إلى زيارة ما كان يهمُّنا زيارته في هذا البلد، فقصدنا أولًا إلى زيارة جامع خالد بن الوليد — رضي الله عنه — فمررنا من سوق كبير مسقوف بالخشب كأسواق دمشق وبعض الأسواق في بلاد الشرق، ولاحظنا أثناء مرورنا أن أغلب الباعة في حوانيت هذا السوق كانوا من الحمصيين، أما المشترون فإنهم يختلفون بين هؤلاء وبين أعراب البادية والشراكسة والمهاجرين الذين يسكنون ضواحي حمص وما يجاورها من البلاد، كما لاحظنا من الأزقة والطرق وشكل البيوت في كل الجهات التي مررنا عليها أن مدينة حمص كسائر بلاد الشام، على معنى أنها لا تزال إلى اليوم حافظة لكيانها الشرقي وشكلها الأصلي.
جامع خالد بن الوليد
وبعدئذ ذهبنا من خارج البلد لنزور جامع خالد بن الوليد، ذلك الذي له الفضل الأكبر في فتوح الشام، وعندما أوشكنا أن نصل إليه — وقد كان على أقرب المسافات من المدينة — قال لنا سعادة عبد الحميد باشا الدروبي اقتضابًا: أَمَا وقد لمحتم دولتكم هذا المسجد العجيب الإتقان البديع البينان، فإنكم لا بد تذكرون في نفسكم ما يشبهه ويجانسه في مصر — وقد كنت خالي الذهن إذ ذاك من كل شيء إلا فيما كنت رأيته من المدينة وما حولها — فقلت لسعادته: إنه لم يدرْ في خلدي شيء فأحدِّث نفسي بمثله في مصر، اللهم إلا ما رأيته في طريقنا وذلك المسجد. فقال سعادته: ألم يكن شكل هذا الجامع ليلفت خاطر دولتكم إلى المسجد الكبير الذي أسسه في قلعة مصر جدُّكم الأكبر ساكن الجنان محمد علي باشا؟ فقلت له: بلى، لكأني به وهو جامع القلعة بعينه!
وحقيقةً كان هذا المسجد العظيم لا يختلف عن جامع القلعة شيئًا في رسمه ومنظره؛ سواء في ذلك شكله من الظاهر والباطن، وقال سعادة الباشا: إننا استصدرنا أمر جلالة مولانا السلطان بإصلاح هذا المسجد وتعميره، ورأينا — حينئذ — أن نشيَّده على طراز مسجد القلعة، وقد أعاننا الله تعالى على ما وُفِّقنا إليه من تشييده وإتقانه حتى صار كما ترون.
ثم دخلناه واطَّلعنا على ما كان فيه، وقد سررنا كثيرًا من زخرفه وزينته، واتجهنا بعد ذلك إلى زيارة ذلك البطل الكبير والفاتح الشهير خالد بن الوليد في ضريحه، وقرأنا على روحه الطاهرة ما تيسَّر لنا من القرآن الكريم.
إلى بيت الباشا
ومن هناك ذهبنا قاصدين إلى دار سعادة المتصرف لنرد له زيارته، وكان طريقنا إليه من داخل المدينة، وبعد أداء الزيارة عدنا إلى بيت سعادة صاحبنا عبد الحميد باشا، وقد أعدنا إليه النظر فأعجبنا جدًّا شكله وموضعه، الذي حاز مع جمال المنظر كمال الأبهة، حتى إذا رآه الواحد على بعد لم يشك أنه بيت مجدٍ وإمارة.
ومذ دخلناه رأينا فيه إشارة برقية أرسلها إلينا صاحب العطوفة فخري باشا والي حلب، فاستلمناها وقرأنا فيها سؤال عطوفته عن وقت قيامنا من حمص، وعن اليوم الذي نصل فيه إلى حلب، فأرسلنا إلى عطوفته إشارة من لدنَّا، أخبرناه فيها بما كنا صممنا عليه من العدول على زيارة هذه المدينة، معتذرين إليه بضيق الوقت، مظهرين كبير أسفنا من عدم سنوح الفرصة برؤية حلب الشهباء.
وإنه لقد كان في نفسي من أول الأمر أن أزور مدينة حلب، وأن أقيم فيها يومين عندما كنت مترددًا بينها وبين حماة، ولكني على الرغم من ذلك جاريت الظروف وقتئذٍ ونسخت ما كنت رسمته في خطتي الأولى من مشارفة هذا البلد، مستعيضًا منه مدينة حماة.
وعندما جاء وقت الظهر، وكان قد حضر حضرة القائم مقام، دُعينا إلى المائدة فتناولنا عليها طعام الغداء الشهي، وما لبثنا بعد ذلك إلا قليلًا، ثم قَدِمتْ إلينا إشارة برقية أخرى من لدن عطوفة فخري باشا، يذكر فيها أن جميع أعيان حلب ووجهائها قد كلَّفوا عطوفته أن يرجونا بالنيابة عنهم أن نجيب طلبهم إلى زيارة بلدهم، إلى أن قال: وإن لهم وطيد الأمل وكبير الرجاء في أن لا يحرموا من تلك الزيارة الجليلة، وإنهم منتظرون بفروغ الصبر إجابة تسرُّهم، وإلا فإنهم مستعدون جميعًا للحضور بأنفسهم إلى مدينة حمص؛ لكيما ينالوا رغبتهم ويحصلوا على غرضهم.
وإذ ذاك لم يسعني حيال هذا الكرم الكبير سوى أن أعدِّل خطتي مرة ثانية، وأسترد عزيمتي على زيارة مدينتهم، فأسلنا إلى عطوفة الباشا الوالي رسالة برقية نشعره فيها بما صار إليه عزمنا من قبول ملتمسه بالأصالة عن نفسه وبالنيابة عن حضرات من كلَّفوه ذلك، مع إبداء مزيد الشكر والامتنان لمعروفه ومعروف أبناء حكومته المخلصين.
مدرسة الإسرائيليين
يا دولة الأمير العظيم، أتشرَّف الآن بالوقوف أمام دولتكم بالنيابة عن مفوض المسيحيين الحمصيين، نزلاء الديار المصرية الذين طالما تمتعوا بالراحة والعدالة والحقوق التجارية تحت كنف العائلة الشريفة المحمدية العلوية، أتشرَّف بالنيابة عن أولئك العثمانيين لأحيِّي أميرًا عثمانيًّا مصريًّا، فأحيِّيكم مُرحِّبًا بسلامة قدومكم الميمون من ديار عربية عثمانية مصرية إلى ديار عربية عثمانية سورية، أحيِّيكم وأقدِّم لكم عواطف الامتنان والشكر بلسان أولئك الذين يستثمرون أموالهم وأتعابهم في تلك الديار السعيدة منذ خمسين عامًا وهم في بحبوحة من السعة ورغد العيش.
نعم، أحيِّيكم وأحيِّي بكم مصر وساكنيها بلسان بضعة آلاف من الأهالي الحمصيين، الذين ينتفعون ويشتغلون ويقدِّمون منسوجاتهم الوطنية إلى قطركم المصري، أجل. إقرارًا بالفضل ومعرفةً بالجميل نحيِّي باسمكم الكريم أيها البرنس الفخيم، ونحني الهام أمام تلك الروح الطاهرة الشريفة التي أحيَت العدل والمعارف في القطر المصري السعيد، روح أحد أبطال الشرق العظام جدِّ العائلة الخديوية الشريفة المرحوم محمد علي باشا الكبير.
فأهلًا وسهلًا بأمير أحيا لنا ذلك الاسم المحبوب، فنحيِّيكم باسم أولئك النزلاء الحمصيين في كافة القطر المصري عمومًا وفي طنطا خصوصًا، كأمير زائر شريف يقصد النزهة في بلاد ترحِّب بزيارته، أمير متنوِّر فاضل عرف أن البلاد السورية شقيقة البلاد المصرية فأحبَّ إلى زيارتها على الرحب والسعة، فأهلًا بالفضل ومرحبًا بالنبل، وأَكْرِمْ بهذا الضيف العظيم وبمضيفه الكريم من يفتخر به الوطن مولاي سعادة الهمام عبد الحميد باشا الدروبي.
وفي الختام تنازلوا يا دولة الأمير لقبول عواطفنا القلبية وسرورنا بتشريفهم مجاهرين بقولنا: ليعش جلالة مولانا السلطان محمد رشاد، وليعش سمو الخديوي عباس المعظَّم، وليحيَ دولة البرنس محمد علي باشا، والسلام.
ومما كان ذكر في هذه الحفلة أيضًا بعض أبيات، قدَّمها لنا مطبوعة لفيف من الحمصيين المسيحيين الذين يتَّجرون في القطر المصري، وهي:
وبعدما فرغوا من ذكر أشعارهم ومقالاتهم أخذنا نتحدث في موضوع التجارة المحلية، وسألتهم في ماذا يتجر أهل حمص، وأي الأشياء أكثر شهرة في متاجرهم، فذكروا لي أن تجارة الحمصيين قائمة في الغالب على ما لا يمكن الاستغناء عنه من محاصيلهم ومصنوعاتهم، التي أشهرها وأهمها المنسوجات الحريرية والقصبية، ثم إن حمص هي البلدة الوحيدة التي اشتهرت في جميع بلاد سورية بحل الحرير وإحسان صنعته ونسيجه.
ثم قمنا من ذلك المجلس الحافل مودَّعين من كل المحتفلين الكرام بغاية الإكرام والاحترام، وبعد أن شكرنا لهم هذا الأدب والمعروف عدنا إلى بيت سعادة الباشا الدروبي، وما برحنا هناك نستقبل ونودِّع حضرات الزائرين الذين كانوا يفدون علينا في هذا البيت الكبير زمرًا وأفواجًا، حتى احتجبت الغزالة في خدرها، وقد كان جيء إلينا في تلك الأثناء بحصانين قريعين، فلم نجدهما على وفق رغبتنا من كل الوجوه، على أنهما لم يكونا من الجياد الكريمة الأصل، ولا من هذه الخيل المطهمة.
السفر من حمص
وفي صبيحة اليوم الثاني كنا تأهبنا للسفر إلى حلب، فتوجَّهنا من منزل سعادة عبد الحميد باشا إلى المحطة في ركاب حافل من مظاهر القوم وأعيان المدينة الذين رافقونا حتى ودعناهم ونزلنا في القطار، وكان لا يزال معنا سعادة الباشا الدروبي، ذلك الرجل الأريحي الذي جمع بين حزم الشيوخ وعزم الشباب، وعرف كيف يستخلص له قلوب الناس، ويحلُّ من صدورهم محل الوالد البارِّ، نعم، إنَّا لا ننسى لهذا الشهم الواسع الخلق الرقيق العواطف ما رأيناه من فرط كرمه ومزيد عنايته بنا في كل حركة وسكون.
سار القطار — على بركة الله — متجهًا إلى حلب، وما انفك يواصل بنا السير والأرض على يميننا ويسارنا إلى مسافات واسعة كانت كلها خصبة جيدة مفروشة ببساط من المزارع الخضراء؛ حيث كان الزمن ربيعًا، وكنت أعجب كثيرًا بما أشاهده على تلك الزروع من ألوان الزهر المختلفة بين الحمراء والبيضاء والزرقاء، التي تشبه مجموعتها البديعة باقة الزهور المرصَّعة، وجلُّ هذه المزراع النضرة والأعشاب الجميلة إنما نبتت في تلك الأرض بواسطة الأمطار، وعندئذ لم أستغرب ولم أندهش مما كنت سمعته من أن قبائل العرب والرعاة يقصدون إلى هذه الجهات قبل فصل الصيف بخيلهم ومواشيهم لرعي تلك الحشائس، وما أحسنها من مرعى وأجملها من ربيع! خصوصًا وأن المياه في تلك البقعة غاية في الكفاية والصفاء، حتى بلغ إلى محطه حماة، وهي على مسافة ٥٥ كيلومترًا من حمص، وقد قطعها القطار في نحو ساعة و٤٥ دقيقة.