فرار عام ١٩٥٣
في ليلةٍ كانت شرايينها
فحمًا وكانت أرضها من لحود
يأكل من أقدامنا طينها،
تسعى إلى الماءِ،
إلى شراعٍ مزقته الرعود
فوق سفينٍ دون أضواءِ،
في الضفة الأخرى … يكاد العراق
يومئ؟ يا أهلًا بأبنائي.
لكننا، وا حسرتا، لن نعود.
أواه، لو سيكارةٌ في فمي،
لو غُنْوَةٌ، لو ضمَّةٌ، لو عناق.
لسَعْفَةٍ خضراءَ أو بُرعم
في أرضيَ السكرى برؤيا غدِ.
إنَّا مع الصبح على موعِدِ
رغم الدجى، يا عراق!
ريفٌ وراء الشطِّ بين النخيلْ
يغفو على حُلمٍ طويل طويل،
تثاءبتْ فيه ظلالٌ تسيل
كالماء بين الماء والعُشْبِ.
يا ليتَ لي فيهِ
قبرًا على إحدى روابيهِ،
يا لَيتني ما زلت في لعْبي
في ريف جيكورَ الذي لا يميل
عنه الربيعُ الأبيضُ الأخضرُ،
السَّهْل يندى والرُّبى تُزهرُ.
ويطفئ الأحلام في مقلتي
— كأنها منفضةٌ للرمادْ —
هَمسٌ كشَوكٍ مسَّ من جبهتي،
يُنذر بالسارين فوقَ الجياد
(سنابك الخيل مساميرُ نارْ
تدقُّ تابوت الدجى والنهار:
ناعورةٌ تحرس كَرْمَ الحدود)١
أثقلَ طين الخوف ما للفرار
من قدم تدمى … ومدَّ السُّدود.
أمن بلادي هاربٌ؟ أي عار!
وارتعشَ الماء وسار السَّفين،
وهبَّت الريحُ من الغَرْب
تحمل لي دَرْبي …
تحمل من قبَرها ذرَّ طينْ،
تحمل جيكورَ إلى قلبي.
يا ريحُ، يا ريحُ،
توهَّجت فيكِ مصابيحُ،
من ليل جيكور، أضاءت ظُلمة السَّفين؛
لأبصرَ الأعينَ كالشهب
تلتم حَوْلي، لأراها تلين!
وأنجم الشطِّ زهورٌ كبارْ
أوشكْتُ أن أُبصرَ سيقانها
تمتدُّ في الماء، تمسُّ القرار،
لَمْلَمَ فجرُ الصيف ألوانَها،
كأنَّها أوجه حورٍ تحار،
فيها تباريحُ الهوى والحياءْ …
كأنَّها زنبق نارٍ وماء.
البصرة، ٢١ / ٣ / ١٩٦٢
١
وضع الأبيات بين الأقواس لا يعني أنها مضمنة.