سهر
سهرتُ فكل شيء ساهرٌ: قدماي والمصباحْ
وأوراقي.
أنا الماضي الذي سدُّوا عليه البابَ، فالألواح
غدي والحاضر الباقي.
أنا الغد في ضمير الليل، مدَّ الليل ألفَ جناح
عليه، فطار، لما طار، بالظلماء والشهب.
أصختُ السَّمعَ والظلماءُ حولي بوقُ سيارةْ.
يبثُّ إلى البغيِّ رسالةَ الحبِّ
ويومئ للسكارى أن تعالوا، ألف خمارةْ.
تكشر، تفرج الساقين، تقطع نَومةَ الدرب
بوَهوَهةِ النيون.
أصختُ والظلماء صفارة
وخطوةُ حارس …
فذكرتُ نهر القرية المكسالْ
يسيل لكي يعيش، لكي يموت، يمصَّه الجزْرُ
فيعرى جرفه الطيني حتى يقبل الفجر
فيحمل في سناه المدَّ، يحمل زورقًا يختال،
بصيادٍ يُعد شباكه ويرود في الماءِ
مساربَ كلِّ ناعسة من الأسماكِ خضراءِ.
ذكرتُ مقابر الأطفال،
تلوذ بكلِّ سفحٍ، نام فيها دون أثداءِ
ولا قُمُطٍ، صغارٌ من حصاد الجوع والداءِ،
لقد رضعوا من الثدي الذي لم تُبله الأجيالْ،
وناموا في حمى الأمِّ التي لا يستوي الأطفال
ولا الأشياءُ إلا في حماها، في حمى تَرَبٍ وظلماءِ.
سهرت الليل في بيروت لا بين المواخيرِ
(كهوف العالم المتحضِّر المغسول بالنور)
هنا يتوكئون على العظام ليصعدوا أفقًا من
النشوةْ،
لينحدروا إلى فجوةْ.
تثاءبَ ظلُّها وأصيلها بين الدياجير
وبين منابع الأضواءْ،
تثاءب ظلُّها وأصيلُها بين العقارب والسنانير،
وبين المُسرج الظلماء
والممتد حتى الله في القدس وفي سيناء.
سهرت يرن صورُ الموت في أذنيَّ كالزلزالْ،
«تهدم حائط الأجيال،
وكاد يغور إذ لمسته كفي، ألف نوحٍ زالْ،
وألف زليخة صيَّرتُ كحل عيونها ظلمةْ.
أنا الباقي بقاء الله أكتب باسمه الآجال،
وما لسواه عند مطارق الآجال من حرمةْ.»
هنا في كل موت ألف موت: كان في الضمةْ
وفي القبلات، في الأقداح،
تدور الأسطوانةُ وهو فيها لمعة الضَّوْء
يوسوس في تهدُّج صوتِها فيُخادع الأرواح،
ويلمس جبهة الملاح في النَّوءِ.
سهرتُ لأنني أدري
بأني لن أقبِّل ذاتَ يوم وجنةَ الفجرِ،
سيقبل مطلقًا في كل عشٍّ نغمةً وجناح،
وسوف أكون في قبري.
بيروت، ١٥ / ٤ / ١٩٦٢