أم البروم
المقبرة التي أصبحت جزءًا من المدينة
رأيت قوافل الأحياء ترحل عن مغانيها،
تطاردها وراء الليل أشباح الفوانيسِ.
سمعت نشيج باكيها،
وصرخة طفلها وثغاء صاد من مواشيها.
وفي وهج الظهيرة صارخًا «يا حاديَ العيسِ.»
على ألمِ مغنِّيها.
ولكن لم أرَ الأموات يطردهنَّ حفَّارٌ
من الحفر العتاق وينزع الأكفان عنها أو يغطيها.
ولكن لم أرَ الأموات قبل ثراك يُجليها
مجونُ مدينةٍ وغناء راقصةٍ وخمَّارُ.
يقول رفيقي السكران: «دعها تأكل الموتى
مدينتنا لتكبر، تحضن الأحياء، تسقينا
شرابًا من حدائق برسفون،١ تعلنا حتى
تدور جماجمُ الأموات من سُكْرٍ مشى فينا!»
مدينتنا منازلها رحًى ودروبها نارُ.
لها من لحمنا المعروك خبزٌ فهو يكفيها …
علامَ تمدُّ للأموات أيديها، وتختارُ،
تلوك ضلوعَها وتقيئها للريح تسفيها؟
تسلل ظلها الناريُّ من سِجْن ومستشفى
ومن مبغى ومن خمارةٍ … من كلِّ ما فيها،
وسار على سلالم نومنا زحفًا،
ليهبط في سكينة روحنا ألمًا فيبكيها.
وكانت إذ يُطلُّ الفجر تأتيك العصافيرُ
تساقَطُ، كالثمار على القبور، تنقِّر الصمتا،
فتحلم أعين الموتى
بكركرة الضياء وبالتلال يرشها النورُ،
وتسمع ضجة الأطفال أمُّ ثلاثةٍ ضاعوا،
يتامى في رحاب الأرض: إن عطشوا وإن جاعوا،
فلا ساقٍ ولا من مُطعمٍ في الكوخ ظلوا واعتلى النعش
رءوسَ القوم والأكتاف … أفئدةٌ وأسماعُ،
ولا عينٌ ترى الأمَّ التي منها خلا العشُّ.
وفي الليلِ
إذا ما ذرذر الأنوارَ في أبدٍ من الظلمةْ،
ودبت طفلة الكفين، عارية الخطى نسمةْ،
تلم من المدينة، كالمحار وكالحصى من شاطئٍ رملِ،
نثار غنائها وبكائها لم تترك العتمةْ،
سوى زَبَدٍ من الأضواء منثور،
يذوب على القبور كأنه اللبنات في سورِ،
يباعد عالمَ الأموات عن دنيا من الذلِّ،
من الأغلال والبوقات والآهات والزحمةْ،
وأوقدت المدينة نارها في ظلَّة الموتِ،
تقلع أعين الأموات ثم تدس في الحفرِ
بذور شقائق النعمان، تزرع حبة الصمتِ؛
لتثمر بالرنين من النقود، وضجَّة السفر،
وقهقهة البغايا والسكارى في ملاهيها.
وعصَّرت الدفين من النهود بكلِّ أيديها،
تمزِّقهن بالعجلات والرقصات والزُّمُرِ،
وتركلهنَّ كالأكَر،
تفجرها الرياح على المدارج في حواشيها.
وحيث تلاشت الرعشات والأشواق والوجد،
وعاد الحب ملمس دودة وأنين إعصار،
تثاءبت المدينة عن هوًى كتوقد النارِ.
تموت بحرِّها ورمادها ودخانها الهاري،
ويا لغة على الأموات أخفى من دجى الغابةْ،
ترددها المقاهي: «ذلك الدلال جاء يريد أتعابه.»
إذا سمعوك رنَّ كأنه الجرس الجديد يرن في
السحَر.
صدًى من غمغمات الريف حول مواقد السَّمَر:
«إذا ما هزت الأنسام مهد السنبل الغافي،
وسال أنين مجدافِ
كأن الزورق الأسيان منه يسيلُ في حُلُم،
عصرتُ يديَّ من ألمِ.»
فأين زوارق العشاق من سيارة تعدو
ببنت هوًى؟ وأين موائدُ الخمار من سهل يمد موائد
القَمَر؟
على أمواتك المتناثرين بكلِّ مُنَحَدرِ
سلامٌ جال فيه الدمعُ والآهاتُ والوجدُ،
على المتبدِّلات لحُودِهِم والغادِياتِ قبورُهم طُرقا،
وطيبُ رقادهم أرَقا،
يحنُّ إلى النشور ويحسب العَجَلات في الدرب،
ويرقب مَوْعَد الربِّ.
٢١ / ٧ / ١٩٦١
١
ابنة آلهة الخصب اليونانية، اختطفها بلوتو سيد العالم السفلي، عالم
الموتى، فصارت تعيش معه هناك.