عثمان نور الدين باشا
وما إن قفل عثمان راجعًا إلى مصر حتى عُيِّن كاشفًا في حرس محمد علي باشا الحربي، ثمَّ عُهِدَ إليه تنظيم مكتبة قصر إبراهيم باشا ببولاق، إلى أن نيط به في خلال سنتَي ١٨٢٠ و١٨٢١ أمر تدريس علم الهندسة واللغة الفرنسية إلى بعض التلامذة المصريين، فكان هذا نواة مدرسة بولاق أولى المدارس النظامية التي أنُشئت في مصر في عهد محمد علي تنفيذًا لاقتراح عثمان نور الدين الذي تولى نظارتها والإشراف عليها.
وفي سنة ١٨٢٣ عُيِّنَ عثمان نور الدين سر عسكر الجيش المصري، وأُنعِم عليه برتبة البكوية.
وفي السنة نفسها قام بتأسيس مدرسة قصر العيني، فكان أول مدير لها، كما أشار على محمد علي باشا في غضون هذه المدة بإنشاء مدرسة أركان الحرب، فلقي هذا الاقتراح هوًى في نفس الوالي ولم يمضِ من الوقت إلا القليل حتى أُسست هذه المدرسة في قرية جهاد آباد، وتولى عثمان نور الدين إدارتها.
وفي سنة ١٨٢٥ استقدم محمد علي باشا الدكتور كلوت بك الفرنسي، وعهد إليه في إنشاء مدرسة الطب المصرية وكلف عثمان نور الدين الإشراف على إنشائها، وإليه رفع كلوت بك أول تقرير وضعه.
وفي التاسع من شهر أغسطس سنة ١٨٣٠ (٢٧ صفر سنة ١٢٤٦) أصدر السلطان محمود الثاني فرمانًا شاهانيًّا إلى محمد علي باشا بإحالة إدارة جزيرة كريت إلى عهدته مكافأة له على ما أدَّاه للباب العالي بجيشه وأسطوله من خدمات جليلة في سبيل قمع ثورة المورة وفتنة تلك الجزيرة بعد أن عجز السلطان عن إخمادهما منفردًا.
وفي أواخر شهر أكتوبر سنة ١٨٣١ بدأ سير الحملة المصرية لفتح سوريا، فتولى أمير البحار عثمان نور الدين قيادة القوة البحرية المؤلَّفة من ثلاث وعشرين سفينة حربية وسبع عشرة سفينة نقل، فاجتمعت تلك القوة البحرية بفيالق الجيش في ميناء حيفا التي اتخذها إبراهيم باشا قاعدة للحركات العسكرية، ثمَّ اشترك بعض قطع الأسطول في حصار عكا من جهة البحر في ديسمبر سنة ١٨٣١ وأمطر المدينة وابلًا من القنابل.
غير أن بعض هذه السفن أُصيب بعطب اضطر معه إلى العودة لإصلاحه في ترسانة الإسكندرية، ولم تُسلم قلعة عكا إلا في السابع عشر من مايو سنة ١٨٣٢ على إثر رجوع جميع الوحدات المصرية وضربها الحصار ثانية من البحر.
وكان للأسطول المصري جولات خلال الحرب السورية؛ إذ تألفت العمارة المصرية من سبع وعشرين سفينة حربية معقودًا لواؤها لأمير البحار عثمان نور الدين، فسارت تمخر العباب باحثةً عن الأسطول العثماني، حتى اجتمع الأسطولان بعد واقعة بيلان في مياه جزيرة قبرس، غير أن عثمان باشا لم يسعَ لمهاجمة السفن العثمانية نظرًا لتفوقها عددًا وعُددًا، وأخذ يترقَّب حركاتها وسكناتها إلى أن سارت الوحدات التركية في ميناء مرمريس من ثغور الأناضول، فتعقَّبتها العمارة المصرية وحاصرت الميناء، ولكن غوائل الطبيعة حالت دون استمرار الحصار، فاتجه عثمان باشا بأسطوله إلى خليج السودا بجزيرة كريت ثمَّ عاد به إلى الإسكندرية.
وفي صيف عام ١٨٣٣ انتوى محمد علي باشا القيام برحلة إلى جزيرة كريت، فاستقلَّ في يوم ٢٧ يوليو سنة ١٨٣٣ السفينة المصرية «المحلة الكبرى» التي أقلعت به من ثغر الإسكندرية تحفُّ بها وتتبعها أربع سفن وأربع فرقاطات وثلاث قراويت بقيادة عثمان باشا نور الدين.
ولقد صادفت «المحلة الكبرى» رياح عكسية اضطرَّت معها إلى الرسو على شواطئ الأناضول تجاه جزيرة رودس، ولكن الوالي أبى أن ينزل منها إلى البر على الرغم من أن محافظ الجزيرة قد خفَّ لاستقباله مقدِّمًا إليه سلالًا من الفاكهة وألوانًا من المرطبات.
وكان الباعث على هذه الرحلة — كما تبين فيما بعد — إنشاء دار للصناعة البحرية في السودا لبناء السفن وإعداد ميناء حربي لإيواء قطع الأسطول المصري الذي كان يحمي جيش إبراهيم باشا وفتوحاته في سوريا والأناضول.
وقد وُفِّقَ محمد علي باشا في اختيار هذه البقعة لقربها من غابات أطنه التي نزل لها عنها السلطان محمود الثاني كَرهًا؛ ولذلك لم يكن الباب العالي ينظر بعين الارتياح والرضاء إلى هذه الرحلة لما انطوت عليه من سر غامض وما حملت بين ثناياها من آثار ونتائج.
على أن شدة القيظ اللافح في أشهر الصيف في تلك السنة قصَّرت رحلة الوالي وعجَّلت عودته إلى مصر؛ فقد اضطر إلى مغادرة كريت في أول سبتمبر سنة ١٨٣٣ — بعد أن أقام بين ربوعها ثمانية عشر يومًا — وتولى بنفسه في الإياب قيادة السفن في أثناء العودة إلى مقر حكمه.
ولما عاد محمد علي باشا إلى مصر اعتزم تجنيد أهل جزيرة كريت. ولم يكد يُذاع في أرجاء الجزيرة هذا النبأ حتى شبَّت الثورة بين الكريتيين وحمل السلاح نحو ستة آلاف منهم وقصدوا إلى ثكنات الحامية المصرية التي اعتصمت في معاقلها، وأرسل مصطفى باشا الأرنائوطي حاكم الجزيرة إلى محمد علي باشا يبلغه تمرد السكان تمرُّدًا ينذر بالهرج والمرج وسوء العقبى، فعهد الوالي إلى قوة من الجند برياسة أمير البحار عثمان نور الدين باشا بقمع الفتنة.
غير أن عثمان باشا لجأ في البداية إلى أخذ الثوار باللين، ولكنهم أصرُّوا على موقفهم واشتبكوا مع الحامية المصرية في قتال فرَّقتهم فيه نيران المدافع، ووقع ثلاثون منهم في أسر الجيش المصري، فارتأى عثمان باشا أن يعفو عنهم على أمل أن يستميل الثوار إليه ويفل من حدَّتِهم.
إلا أنه لما عرض على محمد علي باشا هذه الفكرة رفض الوالي هذا الاقتراح ورفض العفو، وأصدر أوامره بقتل الثائرين الأسرى. ولكن كبُر على عثمان باشا نور الدين ألا يُؤبه لرأيه، فوطَّد عزمه على الاستقالة من خدمة الوالي.
وفي يوم ١٩ ديسمبر سنة ١٨٣٣ أقلعت العمارة المصرية من خليج السودا، وبعد بضعة أيام وصلت إلى كريت الفرقاطة «البحيرة» قادمة من ميناء يافا مقلَّة ٦٠٠ جندي من آلاي المشاة الخامس لإمداد حامية الجزيرة. أما عثمان باشا فكان قد برح كريت في صباح السابع عشر من شهر ديسمبر على ظهر إبريق صغير لجهة غير معلومة.
وفي أواخر ديسمبر عاد الأسطول المصري إلى الإسكندرية من غير قائده، وفي يوم ٢٩ ديسمبر لحق به الإبريق الذي كان قد استقله عثمان باشا بغير أمير البحار إذ كان قد ذهب إلى مدلي — مسقط رأسه — وأمر السفينة بالعودة بدونه إلى مصر.
يا صاحب السعادة
إن إصراري على الاستقالة الذي قضت به ضرورة قصوى سوف لا يُدهش صاحب السمو ولا يُدهشكم أنتم. بل بالعكس، وأنتما العليمان بأسبابها كل العلم سوف تُقدِّران رجلًا يُضحي بكل ما لديه لإنقاذ شرفه ويترك جميع ما يملك لعدم الوقوع في الذل.
ولئن كان في مقدور ضابط في مصر أن يلتمس عزله من غير أن يستهدف لعقوبة صارمة لكنت قد طلبت ذلك في السنة الماضية وتركت آنئذٍ خدمة الحكومة المصرية. وأرجوكم أن تتقبلوا شكري الخالص للخدمات التي أديتموها لي حتى الآن، والتي آمل أن تواصلوا أداءها لأفراد أسرتي الذين لا عون لهم بالإسكندرية.
وتفضلوا بقبول شعائر التبجيل والاحترام من:
وفي الوقت نفسه أرسل عثمان نور الدين كتابًا آخر إلى محمد علي باشا ضمَّنه هذا المعنى وأبدى له فيه جزيل شكره للنعم التي أولاه إيَّاها.
وقع هذا الحادث على الوالي وقعًا أليمًا حتى شعر غير مرة بنوبة اختناق وضيق نفس مثلما كان يشعر بها في ساعات الحزن الشديد، ولكنه على الرغم من هذا فإنه لم يتفوَّه بكلمة جارحة واحدة في حق عثمان باشا، بل نوَّه بكفاءته وأبدى تأثُّرًا ملحوظًا لابتعاده عنه وهو يكاد لا يكون لديه مال وبدون أن يتخذ أدنى احتياط أو عناية بثروته.
وبينما كان محمد علي باشا يفكر في إنفاذ سكرتيره الخاص إلى مدلي لحمل عثمان نور الدين على العودة إذا هو يتلقى في العشرين من يناير سنة ١٨٣٤ نبأ وصول عثمان باشا إلى الآستانة عارضًا خدماته على السلطان.
على أن هذه الخيانة لم تحُل دون استمرار محمد علي باشا على إعانة أسرة عثمان نور الدين التي تخلَّفت بالقطر المصري. وهكذا كافأ والي مصر ذلك القائد البحري الذي انقلب عليه في أخريات أيامه، وما لبثت المنية أن عاجلته بعد قليل فتُوفيَ في غضون سنة ١٨٣٤ نفسها متأثِّرًا بوباء الطاعون الذي تفشَّى في تركيا.
وقد أصدر المؤرخون على موقف عثمان نور الدين هذا أحكامًا مختلفة:
وتعريب هذه الفقرات ما يأتي:
في ذلك الوقت (أي في سنة ١٨٢٩) برزت في الطليعة شخصية من معدن آخر (غير معدن إسماعيل جبل طارق ومحرم بك)، هي ثمرة من ثمرات تحول مصر كما كان يمنِّي الوالي به نفسه، ذلك هو عثمان نور الدين ابن سقه باشا. فقد ولد في سنة ١٧٩٩ وكان مملوكًا صغيرًا توسَّط له يوسف بكتي قنصل السويد فأُرسِل في سنة ١٨٠٩ إلى أوروبا حيث مكث سبع سنوات في ميلانو وبيزا وليفورن وباريس. ثمَّ عاد في سنة ١٨١٨ وسرعان ما أصبح من المحظوظين الملحوظين بفضل معاضدة إسماعيل جبل طارق. وكان عثمان على جانب وافر من العلم؛ إذ كان يتكلم من اللغات التركية والعربية والإيطالية والفرنسية وقليلًا من الإنجليزية، كما كان واسع المعارف وذا رغبة ملحَّة في الاستزادة منها، ولكن إلى جانب هذه الخلال قد أفسده ميله إلى الثرثرة وحاجة قصوى إلى خلق قويم. ولما عُهِدَت إليه مهمة تكوين مكتبة إبراهيم باشا في بولاق عكف مع صديقه أحمد أفندي — الذي صار فيما بعد ناظرًا للمعارف العمومية — على ترجمة المؤلفات العلمية الأوروبية وعلى الأخص المؤلفات الخاصة بالجيش والبحرية. ولما تولى إدارة المدارس التي تأسست في بولاق ثمَّ في قصر العيني لتهذيب وتدريب المستخدمين، وصار مديرًا لكلية أركان حرب الجيش التي أنشأها بلانات في جهات آباد. استطاع عثمان نور الدين أن يستميل تلامذته ويستأثر بهم ويضمن إخلاصهم له، كما خطب ود الكولونيل سيف وتمكن من ربط صلات حسنة حتى في داخل الحرم. وفجأة في الخامس والعشرين من مايو سنة ١٨٢٥ تجلَّت ثقة محمد علي بكفاءته الخارقة للعادة، فعيَّنه مير لواء ثمَّ رئيس عام أركان حرب الجيش إلى أن نصَّبه في سنة ١٨٢٨ على رأس البحرية، وعهد إليه إخضاع جزيرة كريت.
وقد شغل عثمان نور الدين تلك المناصب المختلفة بمقدرة فائقة إلى أن ختم حياته الباهرة بأقبح الخيانات.
وتعريبه:
إنِّي أعتقد أن فكرة الاستقالة كانت مختمرة في رأس عثمان نور الدين منذ زمن بعيد؛ فإنه لما أحجم عثمان نور الدين عن مهاجمة الأسطول التركي منذ سنتين ولم يدمِّره طلب إبراهيم باشا من والده أن يعاقبه عقابًا صارمًا. غير أنه وإن تأجل تنفيذ العقاب فإنه بقي في الذاكرة، وأخيرًا أرسل عثمان باشا إلى أطنه حيث قابله إبراهيم مقابلة فاترة، ومنذ شهرين صدر إلى عثمان أمر بالإقلاع بأسطوله لإخماد ثورة كريت. وقد أُعدم هناك عدد عديد من الأهالي شنقًا وبدون محاكمة، وقد تألم عثمان باشا كثيرًا لهذه الحوادث حتى صحَّ عزمه على الفرار. وقبل أن يودع البحرية استبدل عثمان باشا ٦٥٠٠٠ فرنك من العملة التركية.