مصطفى مطوش باشا
أصله من قولة، حيث كان قبودانًا في المراكب الشراعية التجارية ثمَّ قدم إلى مصر واستقرَّ بها وسرعان ما استوقفت معارفه البحرية نظر محمد علي باشا، فعيَّنه وكيلًا للعمارة المصرية التي جهَّزها على قدم وساق لمساعدة الدولة العثمانية في حرب اليونان في سنة ١٨٢١ والتي كان قد وقع اختياره على إسماعيل بك جبل طارق وعلى صِهره محرم بك للقيادة العامة.
ولم تمضِ إلا بضع سنوات حتى عهد محمد علي إلى مطوش بك مقاليد نظارة البحرية فأصبح «ناظرًا للسفائن»، فكان ثاني نُظَّارها بعد الحاج أحمد الذي كان قد تولى إدارتها منذ سنة ١٨٢٦. ولما حضر في اليوم الثالث عشر من أغسطس سنة ١٨٢٥ إلى الإسكندرية الأسطول العثماني المكون من إحدى وأربعين قطعة تحت قيادة خسرو باشا كلف محمد علي باشا مطوش أغا ناظر بحريته «بسرعة تدارك المهمات اللازمة للدونانمة الهمايونية لأجل إتمام الترميمات لها بسائر أنواعها» بالاتحاد مع إبراهيم أفندي القادم مع العمارة العثمانية. وفي شهر أبريل سنة ١٨٢٧ وضع مطوش بك كشفًا دقيقًا لما استلزمته العمارة العثمانية الراسية في الإسكندرية من ترميمات فأصدر محمد علي باشا أوامره إلى ناظر الترسانة لتنفيذ ما أشار إليه مطوش بك في تقريره وترتيب القلفطية والعمال اللازمين لذلك.
وفيما بين يومَي ٢٣ يوليو و٥ أغسطس سنة ١٨٢٧ خرجت من ثغر الإسكندرية قوة بحرية مصرية مؤلَّفة من إحدى وثلاثين قطعة من بينها أربع فرقاطات وعشرة قراويت وستة أباريق وخمس شواني وست حراقات بقيادة محرم بك الذي عقد لواءه على الفرقاطة «الجهادية» في حين تولى كل من القبودانين مصطفى مطوش وحسن الإسكندراني قيادة إحدى هذه السفن. وقد انضمَّت إلى تلك القوة البحرية بعض الوحدات العثمانية بقيادة القبودان حسين بك مؤلَّفة من عشرين وحدة من بينها سفينتان وخمس فرقاطات وتسعة قراويت وكذلك ثلاث فرقاطات وإبريق واحد من تونس. وسارت في أثر الحملة خمس وعشرين نقالة وخمس سفن نمساوية مستأجرة وثماني قطع من الحجم الصغير، فبلغ مجموع هذه القوات تسعًا وثمانين قطعة أبحر على ظهرها ٤٦٠٠ مقاتل قاصدين شبه جزيرة المورة لإمداد جيش إبراهيم باشا هنالك.
وفي يوم ٩ سبتمبر سنة ١٨٢٧ رست العمارة المصرية بميناء نافرين وانضمَّت إلى أسطول تركي آخر مؤلَّف من اثنتين وثلاثين قطعة حضرت من الآستانة بقيادة أمير البحار طاهر باشا، وقد تولى إبراهيم باشا القيادة العامة للقوات البرية والبحرية، وأخذ يتأهَّب لتجهيز حملة بحرية إلى جزيرة هيدرا التي كانت أهم معقل للثورة اليونانية وتجريد حملة برية إلى شمال المورة.
وبينما هو يعد عدته لذلك إذا اثنتا عشرة سفينة إنجليزية تُفاجئه في الثاني عشر من شهر سبتمبر سنة ١٨٢٧ تعقبها سبع سفن فرنسية في الحادي والعشرين منه، ثمَّ تشفعها ثماني سفن روسية في أوائل شهر أكتوبر، ويتفق ربابنتها الثلاثة على مطالبة إبراهيم باشا بوقف حركات القتال برًّا وبحرًا طبقًا لنصوص معاهدة لندرة. ولم يرَ إبراهيم باشا مفرًّا من التعهد ببقاء أسطوله في ميناء نافرين حتى ورود تعليمات محمد علي باشا في هذا الصدد.
ولئن قطع إبراهيم باشا على نفسه هذا العهد إلا أنه لما رأى الأميرال كوشرين والجنرال شورش البريطانيين قد جمعا قواتهما للزحف بهما على باتراس، اعتبر إبراهيم أن نصوص الهدنة قد نُقِضت من جانب الحلفاء وأنه أصبح في حِلٍّ من عهده، فأبحر في يوم أول أكتوبر سنة ١٨٢٧ على رأس أربع عشرة سفينة واتجه إلى باتراس. غير أن الأميرال الإنجليزي كودرنجتون سار في أعقابه وأرغمه على العودة إلى مرساه بنافرين.
ولم تمضِ إلا أيام معدودات حتى تلقَّى إبراهيم من والده رسالة ينبئه فيها بأنه عرض الأمر على الباب العالي وأنه سيوافيه بتعليماته النهائية في هذا الشأن على ضوء ما سيتضمنه رد الدولة العلية. على أنه يوصيه بالتزام خطة السلم وتجنب الاصطدام مع الدول أو التحرش بقواتها.
وفي منتصف شهر أكتوبر سنة ١٨٢٧ غادر إبراهيم باشا نافرين وزحف على رأس جزء من جيشه داخل بلاد المورة لإنجاد الحاميات المصرية التي كانت قد استهدفت لهجوم الثوار اليونانيين. وما إن قام إبراهيم حتى هبط نافرين رسول للحلفاء حاملًا إنذارًا يتضمن إبلاغ القائد المصري بأنه وقد نقض أحكام الهدنة يعتبر مسئولًا عن هذا العمل وعن عواقبه الخطيرة. ولما لم يجد الرسول إبراهيم باشا في نافرين عاد بالرسالة إلى الأميرال كودرنجتون قائد الأسطول البريطاني الذي بادر إلى دعوة زميليه الأميرال دي ريني قائد الأسطول الفرنسي والأميرال هايدن قائد الأسطول الروسي فتداول ثلاثتهم في الأمر، واستقرَّ رأيهم على الدخول بأساطيلهم ميناء نافرين لإجبار إبراهيم باشا على تنفيذ مطالبهم. وما إن انتصفت الساعة الثانية بعد ظهر العشرين من شهر أكتوبر سنة ١٨٢٧ حتى أصدر الأميرال كودرنجتون بصفته القائد العام للأساطيل المتحالفة أوامره بالتأهب للقتال، وعند تمام الساعة الثانية اقتحمت سفن الدول بوغاز نافرين.
واصلت سفن الحلفاء سيرها واتخذت مكانها في الميناء، فاصطفَّت على شكل نصف دائرة في مواجهة السفن المصرية والتركية، واقتربت منها حتى صار بعضها على مرمى مسدس منها، ووقفت إحدى البوارج الإنجليزية على رأس الصف لتعطل عمل الحراقات المصرية الراسية عند مدخل الثغر.
وعلى إثر رصاصة طائشة انطلقت من إحدى السفن بدأ القتال في منتصف الساعة الثالثة بعد الظهر، فأطلقت السفن قنابل مدافعها، وتجاوب الفريقان الضرب، واستعرت نار الحرب، واجتمعت بين جوانب هذه البقعة النائية أسباب الهلاك والدمار وغشيت الميدان طبقات من الدخان المتكاثف تتخللها لهب النيران المشتعلة. واستمرَّ القتال على هذا المنوال حتى الساعة الخامسة مساءً وانتهت الملحمة بالقضاء على العمارتين المصرية والتركية إذ هلك معظمها نسفًا أو غرقًا أو حرقًا في حين جنحت البقية الباقية على السواحل وبلغ عدد القتلى من مصريين وأتراك ثلاثة آلاف في حين اقتصرت خسائر الحلفاء على ١٤٠ قتيلًا و٣٠٠ جريح.
وبعد وقوع كارثة نافرين عهد محمد علي باشا إلى مصطفى مطوش بإعادة تنظيم المدرسة البحرية غداة حادثة حسن بك القبرسلي. وتفصيل هذا الحادث أن القبودان حسن القبرسلي الذي كان مديرًا للمدرسة البحرية — وكان مقرها إحدى البواخر الراسية في ميناء الإسكندرية — كان بطبعه رجعيًّا يتمرَّد على كل شيء عصري حديث، وينعي على كل العلوم الحديثة ويقول إنها مخترعات شيطانية. واتفق أن وقعت مشادة عنيفة في هذا الصدد بينه وبين عثمان نور الدين، فاغتاظ القبرسلي من توبيخ وجَّهه إليه نور الدين وعزم على الانتقام منه، فانتهز فرصة عطلة يوم الجمعة — الموافق ٢٦ أكتوبر سنة ١٨٢٧ — ونزل إلى قاع السفينة المدرسية وأطلق رصاص مسدسه على البراميل المملوءة بالبارود فانفجرت الفرقاطة ونُسِفَ هو معها.
وفي أواخر شهر يونيو سنة ١٨٣٢ أنعم محمد علي باشا على مصطفى مطوش برتبة المير لواء، وأصدر بهذه المناسبة إلى كتخدا بك كتابًا بتاريخ ٢٦ يونيو سنة ١٨٣٢ يوصيه بصنع «نيشان مرصع على هيئة رسم وابور بحري وكسوة تشريفة.»
وفي أواخر فبراير سنة ١٨٣٥ أقلع مطوش باشا من الإسكندرية على رأس سبع سفن، وثلاث فرقاطات وقرويت واحد وثلاثة أباريق عليها ٨٠٠٠ بحَّار إلى جزيرة كريت، حيث ألقت المراكب مرساها في ميناء السودا. وفي أوائل أبريل لحقت بوحدات الأسطول هناك فرقاطتان كان قد أبحر على إحداهما — وهي المسماة «البحيرة» — الأمير محمد سعيد بك (نجل محمد علي باشا) الذي كان يستكمل وقتئذٍ علومه البحرية. وقد أخذت قطع الأسطول تقوم برحلات على شواطئ آسيا الصغرى وعلى سواحل سوريا حتى عادت إلى قاعدتها بالإسكندرية في الثاني عشر من شهر سبتمبر سنة ١٨٣٥.
وفي شهر أبريل سنة ١٨٣٦ وضع مصطفى مطوش باشا تصميمًا هندسيًّا لديوان الترسانة الجديد، وعرض الرسومات على محمد علي باشا فوافق عليها وأصدر أوامره للبدء في التنفيذ. كما أنه وافق في شهر نوفمبر سنة ١٨٣٦ على اقتراح مطوش باشا بتنسيق نياشين البحرية المصنوعة من الذهب والفضة حتى تفي بالغرض المطلوب منها، وتشمل الألف والسبعة والأربعين ضابطًا ومساعدًا الذين كان يضمهم الأسطول المصري وقتئذٍ.
ولعل أبلغ مثل نضربه لما كان يمتاز به محمد علي باشا وعهده من التوفر على العدل ونبذ كل محسوبية إنما هذه الرسالة التي أرسلها إلى مصطفى مطوش باشا في ٢٦ فبراير سنة ١٨٣٧، وفيها ذكر له «أنه اطَّلع على شقته المؤرخة ١٥ الجاري المرغوب بها استخراج رأيه عمن يجري تنصيبه بدل الخواجة فرباس حيكمباشا مستشفى البحرية المستعفي من كل من الشيخ نصر والشيخ إبراهيم وصبون ساكي الحكماء، وبناء عليه ولكونه عُلم من سياق إشعاره مساواة درجاتهم في الامتحان والأخلاق، فلأجل عدم مغدورية أحد منهم يلزم عمل قرعة بينهم وتنصيب من تصادفه.»
وفي خلال سنة ١٨٣٧ أصدر محمد علي باشا إلى ناظر المدارس أوامره — بناء على طلب مطوش باشا — بطبع ألفي نسخة من كتاب «الفنون البحرية» حتى يعمَّ نفعه كل من اهتم بشئون البحر.
وفي ٢٨ يونيو سنة ١٨٣٧ ركب محمد علي باشا البحر إذ أبحر على السفينة «بيلان» متَّجِهًا نحو جزيرة كريت، في حين أقلعت السفينة «حمص» بنجله إبراهيم باشا في اليوم الثالث من شهر يوليو قاصدة ميناء بيروت. وبعد رحلة استغرقت ستة عشر يومًا وصل الوالي إلى كانديا ونزل إليها في يوم ١٨ أغسطس. وفي اليوم السابق على مغادرته — أي في يوم ٢٧ أغسطس سنة ١٨٣٧ — قدمت إلى كريت سفينتان وأربع فرقاطات وقرويتان وإبريقان بقيادة مطوش باشا، وأقلع مجموعها في اليوم التالي نحو السودا. وقد تنقَّل محمد علي باشا في ربوع جزيرة كريت إلى أن عاد بمفرده إلى الإسكندرية في اليوم الثالث من سبتمبر، ولم تصل الوحدات الأخرى إلا في الرابع والعشرين من نوفمبر سنة ١٨٣٧.
وفي غضون سنة ١٨٣٨ عقد أمير البحار مطوش باشا لواءه على السفينة «عكا» ثمَّ على السفينة «بيلان» ابتداءً من يوم ٢٤ أغسطس.
وفي منتصف شهر سبتمبر قدم محمد علي باشا إلى الجهة الراسية فيها قطع الأسطول وعرض مختلف وحداتها قبل سفره إلى الوجه القبلي وزيارته للسودان ولسنار.
ولعل آخر رحلة قام بها محمد علي باشا مع مطوش باشا تلك الرحلة القصيرة التي لم تتجاوز الثلاثة أيام — من ١٧ إلى ٢٠ سبتمبر سنة ١٨٤٢ — ولم تنقضِ عليها إلا بضعة شهور حتى لاقى مصطفى مطوش باشا وجه ربه في غضون سنة ١٨٤٣ بعد حياة حافلة بجلائل الأعمال في خدمة البحرية المصرية التي أدار دفتها تسع سنوات كاملات. ودُفِنَ في الإسكندرية في ضريح بالقرب من مسجد أبي العباس المرسي.
وقد وصفه الأميرال دوران فييل في تلك الكلمة الوجيزة البليغة:
وتعريبها: