أنت تجسيد لذاكرتك
يبدو أن هناك شيئًا غامضًا في قوى الذاكرة وإخفاقاتها وتفاوتاتها يلفت الانتباه، مقارنةً بأي من قدراتنا الإدراكية الأخرى.
يؤكد هذا الفصل على أهمية الذاكرة في كل شيء نفعله تقريبًا؛ فدونها لن نستطيع أن نتكلم، أو نقرأ، أو نتعرف على الأشياء، أو نستدلَّ على طريقنا في البيئة المحيطة بنا، أو نحافظ على العلاقات الشخصية. ولتوضيح هذه النقطة سنعرض بعض الأفكار والملاحظات السردية عن الذاكرة، إلى جانب ملاحظات مفكرين ذوي شأن في مجالات أخرى ذات صلة مثل الأدب والفلسفة. وسنتناول بعد ذلك تاريخًا موجزًا للأبحاث المنهجية والعلمية حول الذاكرة، بدأها إيبنجهاوس في نهاية القرن التاسع عشر، ثم تطورت على يد بارتليت في ثلاثينيات القرن العشرين لتصبح أبحاثًا تجريبية جماعية ومُحكَمة أُجريت في سياق نماذج الذاكرة الحديثة لمعالجة المعلومات. وسنختتم باستعراض الكيفية التي ندرس بها الذاكرة في الوقت الحاضر، ومبادئ التصميم الجيد في الأبحاث المعاصرة عن الذاكرة.
(١) أهمية الذاكرة
لماذا تختزن هذه الملكة العقلية المستقلَّة التي منحنا الله إياها أحداثَ الأمس بشكل أفضل من أحداث العام الماضي، بل وأفضل من أحداث ساعة مضت؟ لماذا — مجددًا — خلال سنوات الكِبَر يبدو احتفاظها بأحداث الطفولة أقوى؟ لماذا يزيد تكرارنا لتجربةٍ ما قدرتَنا على استرجاعنا لها؟ لماذا تنعش الأدوية والإصابة بالحمَّى والاختناقات والانفعالات ذكريات نسيناها منذ مدة طويلة؟ … تبدو مثل هذه الغرائب عجيبةً جدًّا، وربما — إذا نظرنا إليها بديهيًّا — تكون عكس ما هي عليه بالضبط. من الواضح إذن أن هذه المَلَكة لا توجد مستقلة، ولكنها تعمل في ظل ظروف معينة، والبحث عن هذه الظروف هو أكثر مهامِّ عالِم النفس تشويقًا.
في هذا الاقتباس، يذكر ويليام جيمس بعضًا من جوانب الذاكرة الكثيرة المثيرة للاهتمام؛ ولذا سنتطرق في هذا الفصل لبعض سماتها المشوقة. ومع هذا، ففي فصل بهذا الطول والنطاق لن نستطيع، بالطبع، إلا أن نستعرض بشكل سطحي ذلك المجال الذي عُدَّ من أكثر مجالات البحث النفسي خضوعًا للدراسة الشاملة.
إن السبب وراء حجم الأبحاث التي أُجريت في موضوعات حول ماذا ولماذا وكيف نتذكر، يجب أن يكون واضحًا: فالذاكرة عملية نفسية رئيسية. وحسبما صرَّح إخصائي علم الأعصاب المعرفي البارز مايكل جازانيجا: «كل شيء في الحياة ذكرى، باستثناء هوامش بسيطة من الحاضر.» فالذاكرة تُتيح لنا أن نتذكَّر أعياد الميلاد والإجازات وغيرها من الأحداث المهمة التي ربما تكون قد وقعت منذ ساعات أو أيام أو شهور أو حتى عدة سنوات مضت. إنَّ ذكرياتنا شخصية و«داخلية»، إلا أننا دونها لن نستطيع أن نمارس أفعالًا «خارجية» — مثل إجراء حوار، أو التعرف على وجوه أصدقائنا، أو تذكُّر المواعيد، أو تنفيذ أفكار جديدة، أو النجاح في العمل، أو حتى تعلُّم المشي.
(٢) الذاكرة في الحياة اليومية
الذاكرة ليست مجردَ استدعاءِ معلوماتٍ صادفناها في فترة سابقة إلى أذهاننا؛ فكلما أثَّرت تجربة حدث سابق على شخص ما في فترة لاحقة، فإن أثر التجربة السابقة يُعدُّ انعكاسًا لذكرى ذلك الحدث السابق.
يمكن توضيح تقلبات الذاكرة بالمثال التالي: لا شك أنك قد رأيت آلاف العملات طيلة حياتك، ولكن دعنا نتأمل مدى قدرتك على تذكر عملة عادية ربما تكون في جيبك. دون النظر إليها، خذ بضع دقائق لتحاول رسم عملة ذات فئة نقدية محددة اعتمادًا على ذاكرتك. قارن الآن بين رسمك والعملة نفسها؛ إلى أي مدى كانت ذاكرتك دقيقة عن العملة؟ مثلًا: هل كان وجه العملة في الاتجاه الصحيح؟ كم عدد الكلمات (لو وُجدت!) على العملة التي تذكرتها؟ هل كتبت هذه الكلمات بشكل صحيح؟
أُجريت دراسات منهجية في هذا الموضوع بالذات في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، واكتشف الباحثون أن معظم الأفراد، في حقيقة الأمر، يملكون ذاكرة ضعيفة جدًّا لأشياء مألوفة للغاية، مثل العملات. ويمثل هذا نوعًا من الذاكرة نميل إلى التسليم جدلًا بوجوده (ولكنه — إلى حدٍّ ما — غير موجود فعلًا!) جرِّبه مع أشياء مألوفة أخرى في بيئتك، مثل الطوابع، أو حاول أن تتذكر تفاصيل الثياب التي عادةً ما يرتديها الأشخاص الآخرون في مكان عملك أو الذين تختلط معهم باستمرار. النقطة المحورية هنا هي أننا نميل إلى تذكُّر المعلومات الأكثر بروزًا وفائدة بالنسبة إلينا؛ فعلى سبيل المثال: قد نجيد تذكُّر حجم العملات أو أبعادها أو لونها مقارنةً باتجاه النقش أو الكتابة على العملة؛ لأن الحجم أو الأبعاد أو اللون قد تكون أهم بالنسبة إلينا عند استخدامنا النقود (أي أهم لأغراض الدفع والصرف التي صُممت النقود لأجلها). وعند تذكر الأشخاص، سنتذكر عادةً وجوههم وسماتٍ أخرى مميِّزة تبقى ثابتة نسبيًّا (وهي — لذلك — أكثر فائدة في التعرف عليهم)، بدلًا من السمات التي قد تتغير (مثل ملابسهم).
وبدلًا من التفكير في العملات والملابس، قد يكون من الأسهل بالنسبة إلى معظم الناس التفكير في دور الذاكرة في حالة طالب: (١) حضر محاضرة و(٢) استدعى بعد ذلك إلى الذاكرة بنجاح ما تعلمه خلال المحاضرة في قاعة الامتحان. هذا هو نوع «الذاكرة» الذي نعرفه جميعًا منذ أيام دراستنا. ولكن قد لا يكون واضحًا بدرجة كافية أن الذاكرة ربما تلعب رغم هذا دورًا فعالًا للطالب، حتى عندما لا «يتذكر» المحاضرة أو المعلومات «في حد ذاتها»، ولكنه يستخدم المعلومات المأخوذة من المحاضرة بشكل عام (أي ربما دون التفكير في المحاضرة نفسها، أو استدعاء المعلومات المحددة التي قُدِّمت في هذا السياق، وهذا ما يُطلق عليه «الذاكرة العرضية»).
في حالة استخدام الطالب بشكل عام للمعلومات المُقدَّمة خلال المحاضرة، فإننا نشير إلى أن هذه المعلومات قد دخلت «الذاكرة الدلالية»، المشابهة عمومًا لما نشير إليه أيضًا ﺑ «المعرفة العامة». علاوة على هذا، لو تشكَّل لدى هذا الطالب لاحقًا اهتمام (أو عدم اهتمام ملحوظ) بموضوع المحاضرة، فقد يعكس هذا الاهتمام في حد ذاته ذكرى المحاضرة السابقة، رغم أن الطالب قد لا يكون قادرًا على أن يتذكر بشكل واعٍ حضوره محاضرة عن هذا الموضوع من الأساس.
وبالمثل، تلعب الذاكرة دورًا، سواءٌ كنا ننوي التعلم أم لا. في حقيقة الأمر، إننا نقضي جزءًا صغيرًا نسبيًّا من وقتنا في محاولة «تسجيل» الأحداث لنتذكرها لاحقًا، كما في الدراسة الرسمية. وعلى النقيض من هذا، فإننا في أغلب الأوقات نمضي ببساطة في حياتنا اليومية. ولكن لو وقع — خلال هذه الحياة اليومية — حدث بارز (قد يكون — حسب تاريخنا التطوري ككائنات عاقلة — مرتبطًا بالشعور بالخطر أو المكافأة)، تتدخل عندئذٍ العمليات النفسية والفسيولوجية المتعارف عليها، ونتذكر عادةً هذه الأحداث بوضوح كبير. على سبيل المثال: مرَّ معظمنا بتجربة نسيان المكان الذي صففنا فيه السيارة في مرأب سيارات ضخم، ولكن لو تعرضنا لحادث وأصبنا سيارتنا و/أو سيارة من يجاورنا في الجراج، فعندئذٍ تظهر آليات «الكر أو الفزع أو الفر»؛ مما يضمن أن نتذكر عادةً هذه الأحداث (وموقع سيارتنا) جيدًا!
وهكذا فإن الذاكرة — في حقيقة الأمر — لا تعتمد على نية تذكر الأحداث. علاوة على هذا، يجب أن تؤثِّر الأحداث الماضية على «أفكارنا أو مشاعرنا أو سلوكنا» (كما رأينا في المثال السابق عن الطالب الذي يحضر المحاضرة) كي يوفر هذا دليلًا كافيًا لذاكرتنا عن هذه الأحداث. تلعب الذاكرة أيضًا دورًا بغض النظر عن نيتنا في استرجاع الأحداث الماضية أو الانتفاع منها. فكثير من آثار الأحداث الماضية غير مقصود، وقد «يقفز إلى الذاكرة» فجأة. وربما يحدث استرجاع للمعلومات فيما يتعارض مع نوايانا، كما توضح الدراسات التي أجراها الباحثون على مدار العقود العدة الماضية. ولقد شاع هذا الموضوع مؤخرًا في سياق ظواهر مثل استرجاع ذكريات ما بعد الصدمة.
(٣) نماذج وآليات عمل الذاكرة
هناك عدة نماذج مختلفة لكيفية عمل الذاكرة ترجع إلى العصور الكلاسيكية. فمثلًا: شبَّه أفلاطون الذاكرة بلوح الشمع، الذي تنطبع عليه الانطباعات أو «تُشَفَّر»، ثم «تُخزَّن» بعد ذلك، كي نعود إلى هذه الانطباعات (أي الذكريات) و«نسترجعها» في وقت لاحق. هذا التمييز الثلاثي بين «التشفير» و«التخزين» و«الاسترجاع» لازَمَ الباحثين العلميين حتى العصر الحديث. وشبَّه فلاسفة آخرون في العصور الكلاسيكية الذكريات بطيور في قفص أو بكتب في مكتبة، مشيرين إلى صعوبات استرجاع المعلومات بعد تخزينها؛ أي اصطياد الطائر المراد أو العثور على الكتاب المطلوب.
وقد أدرك المُنظِّرون المعاصرون أن الذاكرة عملية «انتقائية» و«تأويلية». بعبارة أخرى، تتسم الذاكرة بقدرة أكبر من مجرد التخزين السلبي للمعلومات. علاوة على هذا، بعد تعلُّم معلومة جديدة وتخزينها، يمكننا انتقاء وتأويل ودمج شيء بآخر؛ لنحسن الاستفادة مما نتعلمه ونتذكره. ومن المحتمل أن يكون هذا أحد الأسباب التي تسهِّل على خبراء الشطرنج تذكُّر مكان القطع على رقعة الشطرنج، ولمشجعي كرة القدم تذكر كل الأهداف الكروية في نهاية الأسبوع؛ أي بفضل معرفتهم الواسعة والروابط المتبادَلة بين العناصر المختلفة لهذه المعرفة.
خمس حواس؛ وهي قدرة عقلية مجردة غير قابلة للتغيير؛ وذاكرة انتقائية عشوائية؛ ومجموعة من الافتراضات والتصوُّرات المسبقة المتعددة للغاية، حتى إنني لا أستطيع أبدًا أن أتأمَّل سوى القليل منها، دون أن أعيها كلها أبدًا. فما قدر الواقع الكلي الذي يستطيع جهاز كهذا أن يستوعبه؟
مع هذا، هناك أشياء نحتاج إلى تذكرها كي نعيش حياتنا في هذا العالم على النحو السليم، وأشياء أخرى لا نحتاج إلى تذكرها. وحسبما لاحظنا بالفعل، غالبًا ما تتسم الأشياء التي نحتاج إلى تذكرها بأهمية تطورية: ففي مواقف «الخطر» أو «المكافأة» (سواء واقعية أو متصورة)، يتم استحضار آليات عقلية ومعرفية لمساعدتنا على التذكر بشكل أفضل.
وقد دفع تفكيرٌ مُشابِهٌ العديدَ من الباحثين المعاصرين إلى النظر إلى «الآليات الداعمة للذاكرة بأن أفضل وصف لها هو أنها نشاط ديناميكي» أو عملية ديناميكية وليست «شيئًا أو كيانًا جامدًا».
(٤) فكر إيبنجهاوس
لاحظ إيبنجهاوس أن معدل النسيان كان أُسيًّا بشكل تقريبي؛ أي إن النسيان كان سريعًا في البداية (بعد تعلم المادة مباشرةً)، لكن معدل نسيان المعلومة تراجع بالتدريج. ومن ثم فإن معدل النسيان لوغاريتمي أكثر منه خطيًّا. استمرَّت هذه الملاحظة ردحًا طويلًا من الزمن، وأثبتت فاعليتها مع عدة مواد وظروف تعلُّم مختلفة. وهكذا، إذا توقفتَ عن تعلم اللغة الفرنسية بعد ترك المدرسة، فستبدي خلال الشهور الاثني عشر الأولى تدهورًا سريعًا في مفرداتك الفرنسية، ولكن المعدل الذي تنسى به هذه المفردات سيتباطأ تدريجيًّا بمرور الوقت. ولذلك، إذا ذاكرت الفرنسية مجددًا بعد خمس أو عشر سنوات، قد تُفاجأ بالكم الذي احتفظت به فعلًا في ذاكرتك (مقارنةً بالكم الذي تذكرته قبل ذلك ببضع سنوات).
توجد سمة أخرى شائقة عن الذاكرة لاحظها إيبنجهاوس؛ وهي أنك بعد «فقدان» معلومات — مثل بعض مفرداتك الفرنسية — يمكنك أن تعاود تعلم هذه المعلومات بصورة أسرع من شخص لم يتعلم الفرنسية قط من الأساس (أي مفهوم «الحفظ»). يشير هذا الاكتشاف إلى أنه يجب أن يكون هناك أثر متبقٍّ من هذه المعلومات «المفقودة» في مخك. يثبت هذا أيضًا النقطة المهمة المتعلقة بالمعرفة «الواعية» مقابل المعرفة «اللاواعية»، وهي النقطة التي سنناقشها في فصول لاحقة: فمن الواضح أننا غير واعين بهذه المفردات الفرنسية «المفقودة»، ولكن نتائج البحث المتعلقة بهذه المعلومات المحفوظة تشير إلى أنه يجب أن يكون هناك قدر من التخزين لسجل الذاكرة عند مستوى لاواعٍ. وقد استعرض عالم النفس البارز بي إف سكينر نقطة أخرى وثيقة الصلة عندما كتب قائلًا: إن «العِلْم هو ما يبقى عندما يُنسى ما تم تعلُّمه.» ويمكننا أن نضيف: «… عندما يُنسى بشكل واعٍ، ولكنه يُخزَّن في صورة ترسبية أخرى.»
نُشر كتاب إيبنجهاوس الكلاسيك في هذا المجال بعنوان «عن الذاكرة» عام ١٨٨٥. يضم هذا العمل العديد من إسهامات إيبنجهاوس الخالدة في أبحاث الذاكرة، بما في ذلك المقاطع عديمة المعنى وتعريف النسيان الأُسِّي ومفهوم الحفظ (بالإضافة إلى مشكلات الذاكرة العديدة التي تناولها إيبنجهاوس تناولًا منهجيًّا في بحثه، مثل: آثار التكرار، وشكل منحنى النسيان، والمقارنة بين حفظ الشِّعر والمقاطع عديمة المعنى). الميزة الكبرى للمنهجية التجريبية التي مارسها إيبنجهاوس هي أنها تسيطر على الكثير من العوامل الخارجية (وربما التحريفية) التي قد تؤثر على الذاكرة. ووصف إيبنجهاوس مقاطعه عديمة المعنى بأنها «غير مترابطة على الدوام»، وهو ما اعتبره نقطة قوة في منهجه. ولكن يمكن انتقاده لفشله في استخدام مواد للذاكرة ذات معنى أوضح. وقد ذهب بعض العاملين في هذا المجال إلى أن منهج إيبنجهاوس يميل إلى المبالغة في تبسيط الذاكرة، مختزلًا فروقها الدقيقة في مجموعة من العناصر الرياضية المصطنعة. ولكن تكمن خطورة هذا المنهج في أننا على الرغم من توظيفنا للدقة العلمية وقدرتنا على تقسيم آليات الذاكرة إلى مكونات أسهل، فإننا قد نلغي جوانب الذاكرة البشرية التي تعتبر الأهم (والأوضح) بالنسبة إلى الطريقة التي تعمل بها ذاكرتنا في الحياة اليومية. ولهذا يوجد سؤال مهم يتعلق بالآتي: إلى أي مدى يمكن تعميم اكتشافات إيبنجهاوس على الذاكرة البشرية ككل؟
(٥) فكر بارتليت
يتمثل ثاني أعظم مناهج أبحاث الذاكرة في أعمال فريدريك بارتليت، التي أجراها في النصف الأول من القرن العشرين؛ أي بعد إيبنجهاوس بعدة عقود. في كتابه «التذكر» — المنشور عام ١٩٣٢ — تحدى بارتليت فكر إيبنجهاوس، الذي كان وقتذاك المهيمن على هذا المجال. ذهب بارتليت إلى أن دراسة المقاطع عديمة المعنى لا تكشف لنا كثيرًا عن طريقة عمل ذاكرة الإنسان في العالم الواقعي. وقد طرح سؤالًا مهمًّا: كم عدد الأشخاص الذين يقضون حياتهم في تذكر المقاطع عديمة المعنى؟ على النقيض من إيبنجهاوس — الذي حاول حذف المعنى من مواده الاختبارية — ركَّز بارتليت على العكس؛ أي على المواد التي تحمل معنى (وتحديدًا المواد التي نحاول أن نفرض عليها معنًى ما). حفظ أفراد التجارب التي أجراها بارتليت هذه المواد وتذكروها تحت ظروف طبيعية نسبيًّا. وفي واقع الأمر، يبدو أن من العناصر الجوهرية في «الطبيعة البشرية» أننا — في حالتنا الطبيعية — نسعى عادةً إلى فرض معنى على الأحداث التي تقع في بيئتنا. وتأكد هذا المبدأ من خلال معظم أعمال بارتليت. فمثلًا: في بعض دراسات بارتليت الأكثر تأثيرًا، طُلِب من المتطوعين قراءة قصة لأنفسهم (وكانت القصة الأشهر هي «حرب الأشباح»)، ثم حاولوا تذكر القصة لاحقًا.
-
كانت القصص أقصر على الأرجح وقت تذكرها.
-
أصبحت القصص أكثر ترابطًا؛ أي إن الأفراد كانوا يفهمون المادة غير المألوفة — فيما يبدو — بربط هذه المادة بأفكارهم الموجودة سلفًا ومعرفتهم العامة وتوقعاتهم الثقافية.
-
كانت التغييرات التي أجراها الأفراد عند تذكر القصة مرتبطة ظاهريًّا بردود الأفعال والمشاعر التي مروا بها عندما سمعوها لأول مرة.
ذهب بارتليت إلى أن ما يتذكره الناس ييسره — إلى حدٍّ ما — التزامهم الشخصي والانفعالي تجاه الحدث الأصلي المطلوب تذكره واستثمارهم فيه. وحسب قول بارتليت نفسه، تحتفظ الذاكرة ﺑ «تفاصيل بارزة قليلًا»، بينما يمثل بقية ما نتذكره استرسالًا يتأثر فحسب بالحدث الأصلي. وأشار بارتليت إلى هذه السمة الرئيسية في الذاكرة بأنها «إعادة بناء»، وليست «إعادة إنتاج». بعبارة أخرى، بدلًا من «إعادة إنتاج» الحدث الأصلي أو القصة الأصلية، فإننا نتوصل منهما إلى «إعادة بناء» معتمدة على مسلَّماتنا وتوقعاتنا و«نزعتنا النفسية» الحالية.
وكمثال، فكَّر في الطريقة التي يروي بها شخصان يشجعان دولتين مختلفتين (إنجلترا وألمانيا) أحداثَ مباراة كرة قدم شاهداها للتوِّ (بين منتخب إنجلترا ومنتخب ألمانيا). نفس الأحداث الموضوعية وقعت على أرض الملعب، ولكن مشجع إنجلترا سيروي على الأرجح الأحداث بطريقة مختلفة بوضوح عن مشجع الفريق الألماني. وعندما يشاهد شخصان نفس الفيلم، ستكون ذكرياتهما المروية عن الفيلم متشابهة، ولكن ستوجد عادةً اختلافات ملحوظة بينهما. لماذا قد تختلف روايتاهما؟ سيعتمد هذا على اهتماماتهما، ودوافعهما، ورد فعلهما الانفعالي؛ أي طريقة فهمهما للقصة المعروضة. وبالمثل، فالشخص الذي صوَّت لصالح الحكومة الحالية خلال الانتخابات العامة الأخيرة قد يتذكر جيدًا أحداثًا متعلقة بحدث قومي كبير (حرب مثلًا) بطريقة مختلفة تمامًا عن شخص آخر صوَّت لصالح حزب المعارضة الحالي. (تشير هذه الأمثلة أيضًا إلى الطريقة التي يمكن أن تؤثر بها العوامل الاجتماعية — بما في ذلك الأفكار النمطية — على ذكرياتنا عن الأحداث.)
لهذا يوجد اختلاف جوهري في طريقة تعامل إيبنجهاوس وبارتليت مع الذاكرة؛ إذ كان جوهر حجة بارتليت هو أن الناس يحاولون فرض معنًى على ما يلاحظونه في العالم، وأن هذا يؤثر على ذاكرتهم عن الأحداث. قد لا يكون هذا مهمًّا في تجربة معملية تستعين بمواد عديمة المعنى ومجردة نسبيًّا، مثل المقاطع عديمة المعنى التي استخدمها إيبنجهاوس. ولكن بارتليت ذهب إلى أن هذا «السعي وراء المعنى» — في سياق طبيعي أكثر — هو أحد أهم سمات الطريقة التي تعمل بها ذاكرتنا في العالم الواقعي.
(٦) بناء الذاكرة
كما رأينا في أعمال بارتليت، ليست الذاكرة نسخة حقيقية من العالم، على عكس أقراص الفيديو الرقمية أو التسجيل المرئي. ربما يكون الأكثر فائدة هو التفكير في الذاكرة بصفتها تأثير العالم على الفرد. وفي واقع الأمر، يصف «المنهج البنائي» الذاكرة بأنها مزيج من مؤثرات العالم وأفكار المرء الخاصة وتوقعاته. مثلًا: ستكون تجربة كل شخص خلال مشاهدته فيلمًا مختلفةً إلى حدٍّ ما؛ لأن كل فرد مختلف عن الآخر، ويعتمد على أحداث ماضية شخصية مختلفة، وله قيم وأفكار وأهداف ومشاعر وتوقعات وحالات مزاجية وتجارب سابقة مختلفة. وربما يكونون قد جلسوا بعضهم إلى جوار بعض في قاعة السينما، ولكن من الجوانب المهمة أنهم وُجهوا فعليًّا بفيلمين مختلفين وفقًا لاختلاف مشاعرهم وأفكارهم. وهكذا فإن من يبني الحدث، وقت وقوعه، هو الشخص الذي مر به. ويتأثر هذا البناء كثيرًا ﺑ «حدث» الذاكرة (في هذه الحالة عرض الفيلم)، ولكنه يكون أيضًا نتاج السمات الفردية والطبائع الشخصية لكل شخص (والتي تلعب جميعها دورًا أساسيًّا في كيفية خوض الحدث، و«تشفيره» ثم «تخزينه»).
وفيما بعد، عندما نحاول تذكر هذا الحدث، تتداعى بسهولة إلى عقولنا بعض أجزاء الفيلم، في حين أننا قد نعيد بناء أجزاء أخرى، حسب الأجزاء التي نتذكرها وما نعرف أو نعتقد أنها قد حدثت. (ومن المحتمل أن يُتنبأ بالحالة الثانية وفقًا لعملياتنا الاستنتاجية عن العالم، ممزوجة بعناصر الفيلم التي نتذكرها.) في حقيقة الأمر، نحن نجيد هذا النوع من إعادة البناء (أو «ملء الفراغات») لدرجة أننا غالبًا لا نعي عمدًا أنه قد حدث. ويبدو هذا محتملَ الحدوث بصفة خاصة عندما تُحكى ذكرى ما مرارًا وتكرارًا، مع وجود تأثيرات مختلفة في كل مرة يتم استرجاعها فيها (انظر الإشارة إلى تقنيتَي بارتليت عن إعادة الإنتاج المتسلسل والمتكرر المستشهد بهما في الجزء الوارد لاحقًا تحت عنوان «حرب الأشباح»). في مثل هذه المواقف، غالبًا ما تبدو الذكرى «مُعَادة البناء» حقيقية بقدر الذكرى «المُسترجَعة». وهذا شأن مقلق بصفة خاصة عندما نتأمل الدرجة التي يستطيع الناس أن يشعروا عندها أنهم «يتذكرون» سمات أساسية لجريمة قتل مشهودة أو اعتداء خلال فترة الطفولة قد مروا به شخصيًّا، في حين أنهم — بدلًا من ذلك — ربما «يعيدون بناء» هذه الأحداث، ويكملون المعلومات الناقصة اعتمادًا على معرفتهم العامة بالعالم (انظر الفصل الرابع).
في ضوء هذه الاعتبارات، شُبِّه فعل التذكر بمهمة عالِم الحفريات الذي يعيد بناء ديناصور من مجموعة عظام غير مكتملة، ولكنه يمتلك جانبًا كبيرًا من المعرفة العامة عن الديناصورات. في هذا التشبيه، يتيح لنا الحدث الماضي الوصول إلى مجموعة عظام غير مكتملة (مع وجود عظام «دخيلة» أحيانًا غير مستمدة من الحدث الماضي مطلقًا). عندئذٍ تؤثر معرفتنا بالعالم على جهودنا لإعادة تجميع تلك العظام وتكوين شيء يشبه الحدث الماضي. وقد تحتوي الذكرى التي نجمعها على بعض العناصر الفعلية من الماضي (أي بعض العظام الحقيقية)، ولكنها — في مجموعها — إعادة بناء غير دقيقة للماضي المرصود في الحاضر.
حرب الأشباح
عندما اقتدى بارتليت بإيبنجهاوس وحاول إجراء المزيد من التجارب باستخدام المقاطع عديمة المعنى، كانت النتيجة — حسب تعليقه — هي «خيبة الأمل وعدم الرضا المتزايد.» بدلًا من ذلك، فضَّل العمل باستخدام مادة نثرية عادية تكون «شائقة في حد ذاتها» — ذلك النوع من المواد الذي رفضه إيبنجهاوس في الواقع.
استعان بارتليت بتقنيتين أساسيتين في تجاربه:
«ذات ليلة اتجه شابان من إيجولاك إلى النهر لاصطياد الفقمات، وفي أثناء وجودهما هناك هبط الضباب وحل السكون، ثم سمعا صيحات حرب، ففكَّرا: «ربما تكون هذه غارة تشنها مجموعة محاربين.» فهربا إلى الشاطئ واختبآ خلف جذع شجرة. الآن وصلت الزوارق، وسمعا صوت المجاديف، ورأيا أحد الزوارق يتجه ناحيتهما، وكان هناك خمسة رجال في الزورق قالوا لهما:
«ما رأيكما؟ نريد اصطحابكما معنا: سنتجه إلى أعلى النهر لنشن الحرب على الناس.» قال أحد الشابين: «لا أملك سهامًا.» فقالوا: «السهام في الزورق.» قال: «لن أذهب معكم؛ فربما أُقتَل وأقاربي لا يعرفون إلى أين ذهبت، ولكن أنت — والتفت إلى الشاب الآخر — يمكنك الذهاب معهم.» وهكذا ذهب أحد الشابين، في حين عاد الآخر إلى دياره.
اتجه المحاربون أعلى النهر إلى مدينة تقع على الجانب الآخر من كالاما، فتقدم الناس إلى النهر وبدءوا يحاربون، وقُتل كثيرون منهم. ولكن سرعان ما سمع الشاب أحد المحاربين يقول: «أسرعوا، هيا نعد لموطننا. هذا الهندي قد أُصيب.» ففكر: «آهٍ، إنهم أشباح.» لم يشعر بالألم، لكنهم قالوا إنه أصيب بطلق ناري.
وهكذا عادت الزوارق إلى إيجولاك، ونزل الشاب إلى الشاطئ متجهًا لمنزله، ثم أوقد نارًا، وأخبر الجميع قائلًا: «أصغوا إليَّ، لقد رافقتُ الأشباح، وذهبنا للقتال، وقُتل العديد من رفاقنا، والعديد ممن هاجمونا قُتلوا. لقد قالوا إني أُصبت، لكني لم أشعر بالألم.»
روى كل شيء، ثم صمت، وعندما أشرقت الشمس سقط. خرج شيء أسود من فمه، وتلوَّى وجهه، فهب الناس على أقدامهم وصرخوا. لقد مات.»
اختار بارتليت هذه القصة لأنها لا ترتبط بالثقافة السردية الإنجليزية للمشاركين، وتبدو مفككة وغير مترابطة إلى حدٍّ ما بالنسبة إلى المستمع الأنجلوساكسوني، فتوقع بارتليت أن تضاعف هذه السمات من التغييرات في القصة عندما يحاول المشاركون إعادة إنتاجها.
«ذهب شابان إلى النهر لاصطياد الفقمات، وكانا يختبآن وراء صخرة عندما وصل إليهما قارب يحمل بعض المحاربين. لكن المحاربين قالوا إنهم أصدقاء، ودعَوْهما لمساعدتهم في محاربة عدو على الجانب الآخر من النهر. قال أكبرهما إنه لا يستطيع الذهاب؛ لأن أقاربه سيقلقون عليه كثيرًا لو لم يعد إلى البيت. وهكذا ذهب أصغرهما مع المحاربين في القارب.
في المساء عاد وأخبر أصدقاءه أنه كان يحارب في معركة عظيمة، وأن كثيرين ذُبحوا من كلا الجانبين. وبعد أن أوقد نارًا، خلد إلى النوم. وفي الصباح، عندما أشرقت الشمس، أعياه المرض، وجاء جيرانه لزيارته. كان قد أخبرهم أنه جُرِح في المعركة ولكنه لم يشعر بألم وقتها. ولكن سرعان ما ساءت حالته، فتلوى وصرخ وسقط ميتًا على الأرض. خرج شيء أسود من فمه، وقال جيرانه إنه كان يحارب بالضرورة مع الأشباح.»
«التذكر ليس إيقاظًا لآثار غير مترابطة لا حصر لها ولا تتغير؛ بل هو إعادة بناء، أو عملية بناء، خيالية مبنية على ارتباط مواقفنا بمجموعة نشطة من التجارب أو ردود الأفعال الماضية المنظمة، وبتفاصيل بارزة قليلًا تظهر عادةً في شكل صورة أو لغة. لذلك نادرًا ما تكون دقيقة بالفعل، حتى في أبسط حالات التلخيص المعتمد على الذاكرة …»
في هذا السياق، ربما لن يكون مفاجئًا أن يجد الناس ذكرياتهم غالبًا غير دقيقة إلى حدٍّ ما، أو أن تكون روايتا شخصين مختلفين شهدا الحدث عينه مختلفتين بعض الشيء.
بعد تناول اثنين من أكثر الشخصيات تأثيرًا في أبحاث الذاكرة التجريبية، سنعود الآن إلى دراسة مناهج ونتائج أحدث.
(٧) كيف ندرس الذاكرة اليوم؟
يمكن دراسة الذاكرة بطرق عديدة وفي مواقف كثيرة؛ فمن الممكن معالجتها ودراستها في «العالم الواقعي»، إلا أن معظم الأبحاث الموضوعية التي أُجريت حتى اليوم عن مسألة الذاكرة اشتملت على أعمال تجريبية، حيث تُقارَن فيها المعالجات المختلفة تحت ظروف مُحكمة (عادةً في بيئة معملية) تنطوي على مجموعة من الكلمات أو غيرها من المواد المشابهة المطلوب تذكرها. وقد تتضمن المعالجة أي مُتغيِّر من المتوقع أن يؤثر على الذاكرة، مثل طبيعة المادة (مثلًا: المثيرات البصرية في مقابل المثيرات اللفظية)، وألفة المادة، ودرجة التشابه بين ظروف الدراسة والاختبار، ومستوى الحافز للتعلم. وعلى نحو تقليدي، درس الباحثون التجريبيون الذاكرة من حيث الأنواع التالية من المثيرات: قوائم الكلمات، والمثيرات غير اللفظية مثل تلك التي استخدمها إيبنجهاوس، وغيرها من المواد المتاحة بشكل شائع مثل الأرقام أو الصور (كما استُخدمت أيضًا أنواع أخرى من المواد، بما في ذلك: النصوص والقصص والأشعار والمواعيد وأحداث الحياة).
على مدار العقود الأخيرة، عادةً ما تم تفسير الكثير من الأبحاث التجريبية التي أُجريت عن الذاكرة في سياق معالجة المعلومات والنماذج الحاسوبية للذاكرة التي تبناها معظم التجريبيين عقب الحرب العالمية الثانية. وداخل هذا الإطار، يُنظر عمومًا إلى الخواص الوظيفية الداعمة للذاكرة البشرية (وجوانب أخرى للأداء المعرفي) باعتبار أنها تعكس نوع معالجة المعلومات الذي يجسده الحاسوب العصري. (لاحظ أن هذه الاستعارة المجازية تشير عادةً إلى الخواص الوظيفية، «البرمجيات»، لا «المكونات الصلبة».) وعادةً ما تتضمن الدراسات البحثية الأحدث أعدادًا أكبر من المشاركين مقارنةً بمن خضعوا للتجربة في الأبحاث السابقة التي أجراها إيبنجهاوس وبارتليت، اللذان ركزا غالبًا على الدراسة التفصيلية للحالات الفردية (بمن في ذلك — في حالة إيبنجهاوس — إيبنجهاوس نفسه!) يمكن تحليل نتائج الدراسات الجمعية باستخدام تقنيات إحصائية استدلالية قوية تمكننا من أن نفسر بموضوعية حجم وأهمية النتائج التي تم التوصل إليها.
(٨) الملاحظة والاستنتاج: أبحاث الذاكرة في العصر الحديث
يتضح أثر الذاكرة من خلال الدرجة التي يؤثر بها حدث ما على السلوك اللاحق عليه. ولكن كيف نعرف إن كان السلوك اللاحق متأثرًا بالحدث السابق؟ في الجزء الأخير من هذا الفصل سنستعرض بعض التقنيات التي يستخدمها باحثو الذاكرة المعاصرون في هذا المجال.
جرِّب ما يلي: اكتب أول ١٥ قطعة أثاث تخطر على بالك، ثم قارن قائمتك بتلك الموجودة في آخر هذا الفصل. ربما تجد العديد من التطابقات. لو كنت قد حفظت قائمة بأسماء قطع الأثاث، ثم طُلب منك بعد ذلك تذكرها، فهل نستطيع أن نستنتج منطقيًّا أن تفكيرك في قطعة أثاث معينة يعزى مباشرةً إلى تذكرك القطع الموجودة في القائمة المقدمة مسبقًا؟ هذا ليس استنتاجًا سليمًا: فربما تتذكر بعض القطع بشكل واعٍ لأنها كانت في القائمة السابقة، وربما تفكر في قطع أخرى بسبب تأثير غير مباشر أو لاواعٍ ناتج عن حفظ القائمة السابقة، في حين أنك قد تفكر في بعض القطع لمجرد أنها قطع أثاث (أي ليس كنتيجة لحفظ قائمة الكلمات مطلقًا)؛ وبالتالي لا يمكن أن نستخلص بالضرورة أن عدد التطابقات بين قائمتك وقائمة التجربة يعتبر مقياسًا دقيقًا لتذكرك القائمة (لأن التطابقات قد تحدث لأيٍّ من الأسباب المذكورة في الجملة الأخيرة).
يسلط هذا المثال الضوء على مسألة مهمة في أبحاث الذاكرة، فحسبما أشرنا بالفعل، لا تُلحظ الذاكرة مباشرةً (على عكس، مثلًا، العاصفة الرعدية أو التفاعل الكيميائي)، ولكن يُستدل عليها من التغير في السلوك، الذي عادةً ما يُقاس من خلال تغير ملحوظ في أداء مهمة ما مصمَّمة لقياس الذاكرة. ولكن أداء مثل هذه المهمة سيتأثر بعوامل أخرى (مثل حافز المرء، وميوله، ومعرفته العامة، وعمليات التفكير المصاحبة)، كما سيتأثر بذاكرة المرء عن الحدث الأصلي؛ لهذا من المهم توخي الحرص تجاه ما هو (١) «مُلاحَظ» (المتأثر في العادة بعوامل غير الذاكرة في حد ذاتها) وما هو (٢) «مُستنتَج» عند إجراء بحث منهجي حول الخواص الوظيفية للذاكرة.
لتناول هذه المشكلة، تُجرَى أبحاث الذاكرة عادةً عن طريق المقارنة بين المجموعات المختلفة من المشاركين (أو المعالجات المختلفة للذاكرة)، التي تُنظَّم بحيث يقع «الحدث السابق» — أو تُجرى المعالجة — لإحدى المجموعات دون غيرها. يقع الاختيار على مجموعات المشاركين بحيث تكون متكافئة (أو على الأقل متشابهة للغاية) في جميع الأبعاد المحتملة وثيقة الصلة. على سبيل المثال: لن تختلف المجموعات عادةً في السن، أو التعليم، أو الذكاء. هذا النوع من التصميمات البحثية هو أساس معظم (إن لم يكن جميع) المواد التي نناقشها في هذا الكتاب. والتسلسل المنطقي يسير كالتالي: بما أن الاختلاف الوحيد المعروف وثيق الصلة بين مجموعات المشاركين هو وجود — أو غياب — حدث الذاكرة أو المعالجة، فإن الاختلافات الملحوظة بين المجموعات في وقت لاحق يُفترض أنها تعكس عندئذٍ ذكرى ذلك الحدث، ولكن من المهم ملاحظة أن هذا افتراض (وإن كان عادةً افتراضًا منطقيًّا). علاوة على هذا، من الضروري التأكد من عدم وجود اختلافات أخرى بين مجموعات الأفراد الخاضعين للتقييم يمكن أن تؤثر على نتيجة بحث الذاكرة.
إليكم مثالًا لهذا التوجه مأخوذًا من البحث المنهجي للظاهرة المقترحة المسماة «التعلم في أثناء النوم». افترض أنك شغَّلت لنفسك شرائط من المعلومات في أثناء نومك، آملًا أو متوقعًا أن تتذكر المعلومات لاحقًا. كيف تقيِّم ما إذا كانت هذه الشرائط فعالة؟ للإجابة عن هذا السؤال، ربما تقدم بعض المعلومات لأشخاص خلال نومهم، ثم توقظهم وتلاحظ ما إذا كان سلوكهم اللاحق يعكس أي ذكرى عن المعلومات التي قُدمت لهم خلال نومهم. أجرى وود وبوتزين وكيلستروم وشاكتر تجربة قاموا فيها بهذا. فخلال نوم الأفراد، قرأ هؤلاء الباحثون بصوت عالٍ أزواجًا من أسماء التصنيفات وأسماء العناصر المنتسبة إليها (مثل «معدن: الذهب»). وكُرر كل زوج من أزواج الكلمات «التصنيف: العنصر» عدة مرات. بعد عشر دقائق، أُوقظ المشاركون في الدراسة الذين كانوا نائمين خلال العرض المحفز، وطُلب منهم طرح أمثلة من تصنيفات معينة (مثل المعادن) بحسب ورودها على بالهم. كان الافتراض الذي تقوم عليه هذه الدراسة هو أنه إذا تذكر المشاركون قراءة الكلمات عليهم خلال نومهم فعلى الأرجح أنهم سيدرجون الذهب في قائمة أسماء المعادن التي يطرحونها بعد ذلك.
ومع هذا (بالنظر إلى الاعتبارات المذكورة سابقًا)، للتوصل إلى استنتاج سليم حول المعلومة المتذكرة، من الواضح أنه ليس كافيًا ملاحظة كم مرة ظهرت الأمثلة التي قُدمت في أثناء نوم المشاركين في القوائم المطروحة فيما بعد. فعلى سبيل المثال: العديد من الناس — عندما يُطلب منهم التفكير في المعادن — سيدرجون الذهب، حتى دون قراءته أمامهم سابقًا خلال نومهم. وطبقًا لمبادئ التصميم البحثي الناجح المذكورة سابقًا، يستطيع الباحثون التغلب على هذا النوع من المشكلات عن طريق دراسة الاختلاف بين أداء مجموعة مضاهية أو ظرف المقارنة، وبين أداء المجموعة التجريبية أو الظرف التجريبي.
في الدراسة التي أجراها وود وزملاؤه، عقدوا مقارنتين؛ كانت المقارنة الأولى بين المجموعات: فبعض المشاركين كانوا مستيقظين في أثناء قراءة أزواج الكلمات أمامهم، في حين كان البعض الآخر نائمًا. وبما أن المشاركين المضاهين تم تقسيمهم عشوائيًّا إلى المجموعة «النائمة» و«المستيقظة»، فإن مقارنة عدد مرات ظهور الكلمات المستهدفة لدى كلتا هاتين المجموعتين أظهرت ما إذا كان الأفراد أكثر تأثرًا (١) بالعروض في أثناء استيقاظهم أو (٢) بالعروض في أثناء نومهم. وفي حقيقة الأمر — في هذه الدراسة — كانت احتمالات قيام الأفراد المستيقظين خلال عروض أزواج الكلمات بطرح الأمثلة المستهدفة تُقدَّر بالضعف، مقارنةً بالأفراد الذين كانوا نائمين خلال العروض. وتثبت هذه المقارنة تحديدًا (وربما بما لا يثير العجب) أن التعلم في أثناء الاستيقاظ أفضل من التعلم في أثناء النوم. ومع هذا، لاحظ أن هذه المقارنة لا تستثني احتمالية أن يكون أداء الذاكرة لدى النائمين متأثرًا تأثرًا إيجابيًّا بالعروض السابقة الخاصة بكلمات «التصنيف: العنصر».
لهذا السبب عقد الباحثون مقارنة أخرى مهمة انطوت على تكرار مقاييسهم بذكاء تام. كانت هناك في الواقع قائمتان مختلفتان من أزواج الكلمات استُخدمتا في هذه الدراسة — تضمنت إحدى القائمتين «معدن: الذهب» في حين تضمنت القائمة الثانية «زهرة: الثالوث». قُرئ على كل مشارك واحدة فقط من قائمتي أزواج الكلمات في أثناء نومه، ولكن تم اختبار «جميع» المشاركين على قائمتَي التصنيف «كلتيهما» بعد استيقاظهم. أتاح هذا الإجراء للقائمين بالتجربة مقارنة عدد المرات التي طرح فيها الأفراد — بعد استيقاظهم — أمثلة للتصنيفات التي قُرئت عليهم مقارنةً بالأمثلة التي لم تُقرأ عليهم. بعبارة أخرى: رُصدت ملاحظات عدة تخص كل مشارك في هذه الدراسة، ثم تمت مقارنتها.
عندما عُقدت هذه المقارنة على الأفراد الذين سمعوا بعض أزواج «التصنيف: العنصر» في أثناء نومهم، أشارت النتائج إلى أنه لم يكن هناك اختلاف حقيقي بين تقديم الأفراد اللاحق لأمثلة التصنيفات الرئيسية: (١) عندما قُرئت الأمثلة عليهم سابقًا مقارنة ﺑ (٢) عندما لم تُقرأ الأمثلة عليهم. على النقيض من ذلك، عندما كان الأفراد مستيقظين خلال عرض الكلمات، أظهرت مقارنة مماثلة بين (١) و(٢) أن عرض قوائم الكلمات كان له تأثير ملحوظ على الذاكرة اللاحقة للأمثلة الرئيسية.
(٩) الخلاصة
ذكرنا في هذا الفصل أن الذاكرة ضرورية لكل شيء نفعله تقريبًا، ودونها لن نستطيع أن نتكلم، أو نقرأ، أو نستدل على طريقنا في البيئة المحيطة بنا، أو نتعرف على الأشياء، أو نحافظ على العلاقات الشخصية. ورغم أن النوادر والملاحظات الشخصية حول الذاكرة قد تكون تنويرية ومسلية، فإنها غالبًا ما تنبع من تجربة محددة لشخص معين. لذا؛ فمطروح للجدال إلى أي مدى يمكن تعميم هذه الملاحظات بغير استثناء؛ أي على جميع الأفراد. رأينا من خلال أعمال إيبنجهاوس وبارتليت كيف يستطيع البحث المنهجي تقديم رؤية جوهرية عن الخواص الوظيفية للذاكرة البشرية. ومؤخرًا صار بالإمكان تحليل الخواص الوظيفية الداعمة للذاكرة بشكل منهجي عن طريق التقنيات الإحصائية والرصدية التي تمكننا من تفسير حجم وأهمية الاكتشافات التي يتم التوصل إليها من خلال التجارب المحكمة بدقة. وستتناول الفصول القادمة من هذا الكتاب بعضًا من أبرز الاكتشافات التي توصلت إليها هذه الدراسات. وكما سنرى، فمن الأدق أن ننظر إلى ذاكرتنا بصفتها «نشاطًا» وليس «شيئًا». علاوة على ذلك، فإن أحد أهم الجوانب في الاكتشافات العلمية الحديثة هو أنه بدلًا من اعتبارها كيانًا فرديًّا («ذاكرتي» هذه … أو «ذاكرتي» تلك …) صرنا الآن نعرف أن الذاكرة تمثل مجموعة من القدرات العديدة المختلفة. وسنستعرض هذا الموضوع باستفاضة في الفصل الثاني.
قائمة الأثاث
-
كرسي
-
منضدة
-
كرسي بلا مسند
-
دولاب أوانٍ
-
سرير
-
أريكة
-
خزانة ثياب
-
مكتبة
-
مكتب
-
صوان
-
خزانة
-
صندوق تخزين