رسم الذكريات
سيتناول هذا الجزء من الكتاب الموضوع المحوري المتعلق بكيفية عمل أنظمة الذاكرة، وكيفية تحديد المكونات الوظيفية المختلفة للذاكرة. وستوضح النقطة الجوهرية أن أي نظام ذاكرة — سواء أكان المخ البشري (المشار إليه أحيانًا بأنه «أكثر الأنظمة تعقيدًا في العالم المُدرَك»)، أو القرص الصلب في الحاسب الآلي، أو مُسَجِّل الفيديو، أو مجرد خزانة ملفات مكتبية متواضعة — يجب أن يكون قادرًا على: (١) تشفير، و(٢) تخزين، و(٣) استرجاع المعلومات بكفاءة؛ لكي يمارس دوره كنظام ذاكرة. ويمكن أن تخفق الذاكرة لو تعرضت أي من هذه العمليات الثلاث لعقبات. وبمجرد مناقشة هذه النقطة، سألتفت بعد ذلك إلى عرض الطرق التي تم بها تحديد العمليات التي تجريها المكونات المختلفة داخل الذاكرة. وأزعم هنا أن انطباعاتنا الشخصية حول التمتع بذاكرة قوية أو ذاكرة ضعيفة (وأشير إلى «الذاكرة» هنا بالصيغة المفردة) غير صحيحة. على النقيض من ذلك، أظهرت معظم الأبحاث التي أُجريت على مدار المائة عام الماضية — على مشاركين أصحاء وعلى مرضى إكلينيكيين مصابين دماغيًّا — الطريقة التي تنقسم بها الذاكرة إلى عدة مكونات مختلفة. وسوف نوضح الفرق الرئيسي بين (١) الذاكرة القصيرة الأجل و(٢) الذاكرة الطويلة الأجل (التي غالبًا ما يسيء فهمها كلٌّ من الأطباء الإكلينيكيين والأشخاص العاديين على حد سواء) من خلال المقارنات التشبيهية الملائمة. ويمكن عندئذٍ النظر بعين الاعتبار إلى العناصر الوظيفية المختلفة داخل الذاكرة القصيرة الأجل والطويلة الأجل. وسوف يقدم هذا الفصل إطارًا مفاهيميًّا يمكن من خلاله فهم معظم المادة المقدمة في بقية هذا الكتاب.
(١) منطق الذاكرة: التشفير والتخزين والاسترجاع
هاك زهر إكليل الجبل؛ إنه للذكرى. أرجوك، حبيبي، تذكر.
- (١)
«تشفير» المعلومات (أي استيعابها أو اكتسابها).
- (٢)
«تخزين» هذه المعلومات أو حفظها بدقة، ولفترات زمنية طويلة في حالة الذاكرة الطويلة الأجل.
- (٣)
«استرجاع» هذه المعلومات المخزنة أو الوصول إليها.
ومن ثمَّ، إذا استخدمنا تشبيه خزانة الملفات، فإنك أولًا تضع مستندًا في مكان معين، ثم تحفظ هذا المستند في هذا المكان، وعندما تحتاجه فإنك تذهب لاستعادته من خزانة الملفات. ولكن ما لم تكن تملك نظام بحث جيدًا، فلن تستطيع إيجاد المستند بسهولة. وهكذا فإن الذاكرة لا تنطوي فقط على استيعاب المعلومات وتخزينها، ولكنها تنطوي كذلك على القدرة على استرجاعها أيضًا. ويجب أن تجيد جميع المكونات الثلاثة العمل معًا لكي تمارس الذاكرة دورها بفاعلية.
ترتبط مشكلات التشفير غالبًا بضعف الانتباه، في حين نشير إلى صعوبة التخزين في أحاديثنا اليومية بالنسيان. وبالنسبة إلى الاسترجاع، يوجد غالبًا فارق مهم بين «الإتاحة» و«إمكانية الوصول». على سبيل المثال: أحيانًا ما نعجز قليلًا عن تذكر اسم شخص، ولكننا نشعر وكأنه على طرف لساننا تمامًا. قد نعرف الحرف الأول من الاسم، وعدد المقاطع اللفظية، ولكننا عاجزون عن إنتاج الكلمة نفسها. لا عجب في أنْ يُطلق على هذا اسم «ظاهرة طرف اللسان». فنحن نعرف أن المعلومات مخزنة لدينا في مكان ما، وقد تكون لدينا معرفة جزئية بها (وهذا يعني أن المعلومة — نظريًّا — متاحة)، ولكن لا يمكن الوصول إليها حاليًّا. فالمرء يملك قدرًا كبيرًا من المعلومات المخزنة في ذاكرته، والتي من المحتمل أن تكون متاحة في أية لحظة، ولكن عادةً ما يُتاح جزء ضئيل فقط من المعلومات للوصول إليه في أي وقت.
قد تفشل الذاكرة في عملها بسبب حدوث تعطُّل في مكوِّن — أو أكثر — من هذه المكونات الثلاثة: («التشفير» و«التخزين» و«الاسترجاع»). في مثال ظاهرة طرف اللسان، فإن مكون الاسترجاع هو الذي فشل. وبذلك فجميع المكونات الثلاثة ضرورية للذاكرة الفعالة، ولكن لا يكفي أي مكون وحده؛ هذا هو المنطق الأساسي للذاكرة.
(٢) أنواع مختلفة من الذاكرة: البنية الوظيفية للتذكر
أسَّس أفلاطون ومعاصروه تأملاتهم حول العقل على انطباعاتهم الشخصية الخاصة. وما زال هذا يحدث اليوم، خصوصًا وسط بعض الأشخاص الذين يتجاهلون الاكتشافات المنهجية حول المخ والعقل باعتبارها «بديهية». ولكننا نملك الآن معلومات تجريبية نؤسس عليها نظرياتنا. فنحن نُجري دراسات تجريبية صارمة ومُحكمة بشدة لجمع معلومات موضوعية حول طرق عمل الذاكرة البشرية (انظر الفصل الأول). وكما سنرى، يتعارض العديد من هذه الاكتشافات الناجحة مع «البديهة» التي يعتمد عليها بعض الناس.
طبَّق القائمون بالتجارب عددًا من التقنيات المنهجية في محاولاتهم فهم الذاكرة. وكان أحد المناهج هو إعادة تقسيم مجال الذاكرة الضخم إلى مجالات يبدو أنها تعمل بشكل يختلف بعضها عن بعض. فكِّر فيما كنتَ ترتديه آخر مرة وصلت فيها إلى البيت. كيف تختلف هذه الذكرى عن تذكر أي شهور السنة تتكون من ٣٠ يومًا، أو تحديد الأعداد الأولية الواقعة بين ٢٠ و٣٠، أو تذكر كيفية عمل الأومليت؟ قد تبدو هذه أنواعًا مختلفة من الذاكرة، من الناحية البديهية. ولكن ما الدليل العلمي على ذلك؟ في حقيقة الأمر، أحد الاكتشافات الرئيسية على مدار المائة عام الماضية هو أن الذاكرة كيان متعدد المكونات (أكثر منه أحاديًّا). وسنناقش هذه الاختلافات باستفاضة في هذا الفصل، وفي أجزاء أخرى من الكتاب.
في ستينيات القرن العشرين، شاعت التقسيمات الفرعية للذاكرة والمعتمدة على نماذج معالجة المعلومات. وعقب التطورات السريعة في تكنولوجيا المعلومات التي وقعت بعد الحرب العالمية الثانية، حدثت طفرة في فهم متطلبات تخزين المعلومات خلال المعالجة الحاسوبية. وقد نشأ لاحقًا نموذج لمعالجة الذاكرة مكوَّن من ثلاث مراحل، ووصل إلى شكله النهائي في النموذج الذي اقترحه أتكنسون وشيفرين في ستينيات القرن العشرين. في هذه النماذج المرحلية، كان يُعتقد أن المعلومات تُخزَّن في البداية لوقت وجيز للغاية في «الذكريات الحسية»، ثم تنتقل بعدها مجموعة منتقاة من هذه المعلومات إلى «مخزن قصير الأجل». من هنا، يواصل قدر أصغر من المعلومات شق طريقه إلى «مخزن الذاكرة الطويلة الأجل».
وفيما يلي وصف لسمات هذه المخازن المختلفة.
(٢-١) المخزن الحسي
ظهر الدليل الموضوعي على مخازن «الذاكرة الحسية» من تجارب مثل تلك التي أجراها سبرلينج عام ١٩٦٠. قدَّم سبرلينج أمام المشاركين عروضًا مكونة من ١٢ حرفًا لفترة وجيزة للغاية (مثلًا: لمدة ٥٠ جزءًا من الألف من الثانية). ورغم أن المشاركين في هذه الدراسة استطاعوا ذكر حوالي أربعة حروف فقط، شكَّ سبرلينج أن المشاركين ربما يستطيعون بالفعل تذكر المزيد من الحروف، ولكن المعلومات تلاشت بسرعة فائقة أعجزتهم عن ذكرها. لاختبار صحة هذه الفرضية، صمَّم سبرلينج ببراعة شديدة مصفوفة بصرية قدَّم فيها الحروف في ثلاثة صفوف. بعد تقديم العرض البصري بفترة وجيزة للغاية، صدرت نغمة. طُلب من المشاركين تذكر جزء فقط من العرض البصري، طبقًا لدرجة النغمة. وباستخدام «إجراء التذكر الجزئي» هذا، اكتشف سبرلينج أن الأفراد يستطيعون تذكر حوالي ثلاثة حروف من أي صف مكون من أربعة حروف؛ مما يشير إلى أن حوالي تسعة من بين الحروف الاثني عشر قابلة للتذكر بصورة محتملة، ولفترة قصيرة للغاية.
استنتج باحثو الذاكرة من بحث كهذا أن مخزن الذاكرة الحسية موجود، ويحتفظ بقدر كبير نسبيًّا من المعلومات الحسية الواردة لمدة قصيرة في أثناء معالجة عناصر مختارة. ويطلق على الذاكرة الحسية للمعلومات البصرية اسم «الذاكرة الأيقونية»، في حين يشار إلى الذاكرة الحسية للمعلومات السمعية باسم «الذاكرة السمعية». وتتسم الذكريات الحسية عمومًا بالثراء (من حيث محتواها)، ولكنها قصيرة (من حيث مدتها).
(٢-٢) الذاكرة القصيرة الأجل
في إطار الدراسات العلمية، لقي المخزن اللفظي قصير الأجل اهتمامًا بالغًا، وقد استنتجنا وجوده — ولو جزئيًّا على الأقل — من «تأثير الحداثة» في الاستدعاء الحر. فمثلًا: طلب بوستمان وفيليبس من مشاركيهم تذكر قوائم مكونة من ١٠ أو ٢٠ أو ٣٠ كلمة. في حالة الاسترجاع الفوري، مال المشاركون إلى إجادة استدعاء الكلمات القليلة الأخيرة التي قُدِّمت لهم مقارنةً بقدرتهم على استدعاء كلمات من منتصف القائمة، وهو ما يعرف باسم «تأثير الحداثة». ولكن هذا التأثير يختفي لو تأجَّل اختبار الذاكرة بمدة لا تتجاوز ١٥ ثانية (ما دام اشتمل التأجيل على نشاط لفظي من جانب المشارك، مثل العد التنازلي). تفسير هذه النتائج هو أن تأثير الحداثة اشتمل على عناصر الذاكرة القليلة الأخيرة التي استُرجعت من المخزن قصير الأجل ذي السعة المحدودة نوعًا ما.
(٢-٣) الذاكرة الطويلة الأجل
على عكس التمثيل السمعي للمعلومات في المخزن قصير الأجل، يُعتقد أن المعلومات في الذاكرة الطويلة الأجل تُخزن بصفة أساسية وفق «معنى» المعلومة؛ وبالتالي، عندما يُطلب من أحد أن يتذكر مجموعة مختارة من الجمل ذات المعنى التي قُدمت له سابقًا، فإنه عادةً ما يعجز عن إعادة إنتاج نفس الكلمات بدقة، ولكنه يستطيع عمومًا نقل معنى الجمل أو جوهرها. وكما رأينا في الفصل الأول (عند تناول أعمال بارتليت)، فإن فرض المعنى من «المستوى العام إلى المستوى الخاص» يمكن أن يؤدي غالبًا إلى تحريفات وتحيزات داخل الذاكرة، كما في حالة قصة «حرب الأشباح». وسنعود إلى موضوع تحيز الذاكرة الطويلة الأجل هذا في الفصل الرابع، عندما نستعرض «شهادة شاهد العيان».
تُعتَبَر نماذج مثل نموذج الذاكرة ثلاثي المراحل لأتكنسون وشيفرين، والموضح سابقًا، مفيدة في تبسيط وتمثيل بعض جوانب تعقيد الذاكرة البشرية. مع هذا، يتطلب هذا التعقيد بحد ذاته تعديلًا متواصلًا يمكِّن هذه النماذج من دمج ملاحظات إضافية. مثلًا: حدَّد نموذج معالجة المعلومات الموضح سابقًا فرضيتين أساسيتين: (١) لا تستطيع المعلومات الوصول إلى الذاكرة الطويلة الأجل إلا بالمرور أولًا على المخزن قصير الأجل، و(٢) التمرن على المعلومات في المخزن قصير الأجل سيؤدي إلى كلٍّ من حفظها في هذا المخزن ومضاعفة فرصة نقلها إلى المخزن طويل الأجل.
ومع هذا، تعرضت أولى هاتين الفرضيتين للتشكيك بعد رصد حالات إكلينيكية مهمة؛ فالمرضى المصابون دماغيًّا أظهروا سعة غير فعَّالة بالمرة للذاكرة القصيرة الأجل؛ ومن ثم (حسب نموذج أتكنسون وشيفرين) يملكون مخازن متضررة بشكل خطير للذاكرة قصيرة الأجل. إلا أن هؤلاء المرضى بدت قدرة ذاكرتهم الطويلة الأجل سليمة. أما الافتراض الثاني لنموذج أتكنسون وشيفرين فأسقطته نتائج الدراسات التي تمرن فيها المشاركون على الكلمات القليلة الأخيرة من قوائم الكلمات لوقت أطول، دون إظهار تحسن في الاسترجاع طويل الأجل لتلك الكلمات. وفي ظل ظروف معينة، اتَّضح أيضًا أن مصادفة نفس المعلومة في عدة مناسبات مختلفة (وهو ما قد يُفترض، منطقيًّا، أنه يؤدي إلى كثرة المران) لم تكن كافية لتؤدي إلى الاحتفاظ بهذه المعلومة. على سبيل المثال: كما رأينا في الفصل الأول، يتدنى أداء الأفراد عندما يُطلب منهم تذكر التفاصيل الموجودة على وجهي العملات التي يستعملونها بشكل يومي.
هناك دليل آخر على الفارق بين مخزني الذاكرة القصيرة الأجل والطويلة الأجل موضوع محل تساؤل. فمثلًا: كما رأينا سابقًا، نُسِب تأثير الحداثة في الاستدعاء الحر إلى عملية التخزين قصير الأجل؛ لأن هذا التأثير قد تضاءل عندما امتلأت الثواني القليلة قبل التذكر بمهمة لفظية مثل العد التنازلي. ولكن عندما حفظ المشاركون الكلمات وعدوا تنازليًّا بعد كل كلمة في القائمة، ظلت العناصر القليلة الأخيرة تُسترجع بشكل أفضل مقارنة بمنتصف القائمة. تعارَض هذا النمط من النتائج مع نموذج أتكنسون وشيفرين؛ لأن المخزن قصير الأجل كان يجب «ملؤه» بمهمة العد التنازلي؛ وبالتالي لم يكن تأثير الحداثة ليُلاحظ. ظهر أيضًا التشفير الدلالي (أي معالجة المعلومات من حيث معناها) في الحفظ قصير الأجل تحت ظروف مناسبة؛ مما يشير إلى أن التشفير الصوتي ليس الصورة الوحيدة للتشفير المرتبطة بتمثيل المعلومات في المخزن قصير الأجل.
أيًّا كان نموذج الذاكرة المحدد الأكثر إقناعًا في نهاية المطاف، فإن العديد من نظريات الذاكرة تحدد فارقًا عامًّا ولكنه جوهري بين عمليتي الذاكرة القصيرة الأجل والطويلة الأجل. وكما سنرى، ينبع الدليل على الانقسام بين مخزن الذاكرة القصيرة الأجل والطويلة الأجل من: (١) عدة تجارب أُجريت على أفراد أصحاء وطبيعيين، و(٢) دراسة مرضى مصابين دماغيًّا ويعانون قصورًا في الذاكرة. كما يوجد أيضًا دليل متقارب من بحث بيولوجي مهم يؤكد الفرق بين تخزين الذاكرة القصيرة الأجل والطويلة الأجل.
(٣) الذاكرة العاملة
إذا تأمَّلنا بإمعان المخزن قصير الأجل، فسنجد أن الفارق بين «الذاكرة القصيرة الأجل» و«الذاكرة العاملة» غالبًا ما يكون غير واضح. في السابق، كان يُنظر إلى الذاكرة القصيرة الأجل (سواء صراحةً أو ضمنيًّا) بصفتها عملية «سلبية» نسبيًّا. ولكننا نعلم الآن أن الناس تفعل أكثر من مجرد الاحتفاظ بالمعلومات في المخزن قصير الأجل. فمثلًا: لو احتفظت ذاكرتنا القصيرة الأجل بجملة ما، فإننا نستطيع عادةً تكرار كلمات هذه الجملة بترتيب عكسي، أو النطق بالحرف الأول من كل كلمة في الجملة. هذا المعنى «الإيجابي» للذاكرة قصيرة الأجل هو ما يشار إليه بمصطلح الذاكرة العاملة؛ لأن هناك بعض العمليات (أو «الأعمال») العقلية التي تحدث للمعلومات التي يحتفظ بها العقل في تلك اللحظة. كما أن مصطلحي «الذاكرة العاملة» و«الذاكرة القصيرة الأجل» غالبًا ما يستخدمان أيضًا بالترادف مع «الوعي»؛ هذا لأن ما نعرفه بشكل واعٍ — أي ما نحتفظ به حاليًّا في عقولنا — تحتفظ به ذاكرتنا العاملة.
(٣-١) الحلقة الصوتية
وللحلقة الصوتية طول محدود؛ فهل يتجسَّد أفضل وصف لهذا الطول من خلال عدد العناصر أم الفترة الزمنية؟ أوضحنا أن «نطاق ذاكرة» المرء — أي عدد الكلمات التي يستطيع المرء سماعها ثم تكرارها دون خطأ — مرتبط بطول المدة المستغرقة للنطق بالكلمات. وهكذا، فإن قائمة كلمات مثل «برد، قطة، فرنسا، كنساس، حديد» من الأسهل كثيرًا تذكرها في اختبار للذاكرة القصيرة الأجل مقارنةً ﺑ «انتفاخ الرئة، الخرتيت، موزمبيق، كونيتيكَت، ماغنسيوم»، رغم أن القائمتين متطابقتان من حيث عدد الكلمات والتصنيفات الدلالية المشتقة منها (أي: عدوى، حيوان، بلد، ولاية أمريكية، معدن). ومع هذا، فإن «تأثير طول الكلمة» هذا يتلاشى إذا اضطر المشاركون إلى ممارسة الكبت اللفظي في أثناء حفظهم لقائمة الكلمات. مثال آخر لتأثيرات طول الكلمة نستمده من السرعة المتغيرة التي يمكن بها نطق الأرقام من ١ إلى ١٠ بلغات مختلفة: فحجم نطاق الذاكرة الرقمية بالنسبة إلى أشخاص يتحدثون لغات مختلفة مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالسرعة التي يمكن بها نطق الأرقام في تلك اللغة. تشير هذه الاكتشافات وغيرها إلى أن الحلقة الصوتية محدودة من حيث الزمن (وليس من حيث العدد).
(٣-٢) السجل البصري المكاني
على العكس مما سبق، يقدم «السجل البصري المكاني» وسيلة للتخزين المؤقت للصور ومعالجتها. وقد استُدل على وجوده من دراسات تثبت أن المهام المكانية المتزامنة يتداخل بعضها مع بعض فيما يتعلق بسعة الذاكرة القصيرة الأجل؛ وبالتالي إذا حاولت أن تؤدي مهمتين غير كلاميتين في وقت واحد (مثلًا: التربيت على رأسك وفرك بطنك)، فإن هاتين المهمتين مجتمعتين قد تجهدان السجل البصري المكاني، ومن ثم يتراجع الأداء في كل مهمة (مقارنةً بمستوى الأداء عندما تؤدى كل مهمة وحدها). وأشارت الدراسات إلى أن السجل البصري المكاني يتدخل في لعب الشطرنج، فيعكس مساهمة الذاكرة المكانية قصيرة الأجل في معالجة التشكيلات المختلفة لقطع الشطرنج على رقعة الشطرنج.
(٣-٣) المُنَفِّذ المركزي
(٣-٤) المصد العرضي
قَدَّمَتْ أحدث نسخ نموذج الذاكرة العاملة لبادلي هذا المكون الوظيفي. وطبقًا لنموذج بادلي المعدل، غالبًا ما تحتاج المعلومات التي تُسترجع من الذاكرة الطويلة الأجل إلى دمجها فيما يخص المتطلبات الحالية التي تلبيها الذاكرة العاملة، ويعزو بادلي (٢٠٠١) هذه الوظيفة المعرفية إلى المصد العرضي. وهو يقدِّم مثالًا لقدرتنا على تخيل فيل يلعب هوكي الجليد. في هذا الإطار، ثمة جدال أننا نستطيع تخطي المعلومة حول الأفيال وهوكي الجليد المقدمة إلينا من الذاكرة الطويلة الأجل عن طريق تخيُّل أن الفيل وردي اللون، وتخيل كيف يمسك الفيل عصا الهوكي، وبتأمل أي مركز في الملعب يمكن أن يشغله الفيل؛ وبالتالي يتيح لنا المصد العرضي تخطي ما يوجد بالفعل في الذاكرة الطويلة الأجل، ودمجه بطرق مختلفة، واستخدامه لخلق سيناريوهات جديدة يمكن أن تعتمد عليها الأفعال المستقبلية.
(٤) استعارات الذاكرة
يمكن تشبيه الذاكرة العاملة بسعة ذاكرة الوصول العشوائي في حاسوبك المكتبي. تحتل العمليات التي يقوم بها الحاسوب حاليًّا — من حيث موارده المعالجية — ذاكرة الوصول العشوائي، أو «الذاكرة العاملة» للحاسوب. ويشبه القرص الصلب في الحاسوب الذاكرة الطويلة الأجل، حيث تستطيع أن تضع المعلومات على القرص الصلب وتخزنها هناك إلى أجل غير مسمى، وتظل مخزَّنة هناك عندما تطفئ الحاسوب طوال الليل. يمكن اعتبار إطفاء الحاسوب مشابهًا للنوم بالنسبة إلى البشر! وبعد نوم ليل هانئ، نظلُّ قادرين على الوصول إلى المعلومات المخزنة في ذاكرتنا الطويلة الأجل (مثل اسمنا، وتاريخ ميلادنا، وعدد أشقائنا، وما حدث في يوم زاخر بالأحداث بصفة خاصة في ماضينا الشخصي) عندما نستيقظ في الصباح التالي. ولكن — في العادة — لا نستطيع تذكُّر الأفكار الأخيرة التي احتفظنا بها في ذاكرتنا العاملة عندما نستيقظ في الصباح التالي (لأن هذه المعلومات لم تُنقَل في العادة إلى ذاكرتنا الطويلة الأجل قبل أن نستغرق في النوم، قد يكون هذا محبطًا للغاية بالنسبة إلى أولئك الذين ينتجون أفضل أفكارهم خلال الدقائق القليلة التي تسبق استغراقهم في النوم!) ثمة مقارنة أخرى وثيقة الصلة تتعلق ﺑ (١) استخدام الذاكرة القصيرة الأجل في إجراء مكالمة هاتفية وحيدة لمطعم لم نزره من قبل، مقابل (٢) خلق ذكريات جديدة طويلة الأجل عندما — مثلًا — ننتقل إلى بيت جديد، وقد نضطر إلى خلق تمثيل للذاكرة لرقم هاتف بيتنا الجديد.
كما يساعدنا تشبيه مشغل الأقراص في الحاسوب في فهم الفرق بين التشفير والتخزين والاسترجاع في الذاكرة. فكِّر في الكم الهائل من المعلومات الموجودة على الإنترنت التي يمكن اعتبارها نظامًا ضخمًا للذاكرة الطويلة الأجل. ولكن، من دون الأدوات الفعالة للبحث عن المعلومات واسترجاعها من على الإنترنت، لا فائدة أساسًا من هذه المعلومات؛ فقد تكون متاحة من الناحية النظرية، ولكن من الناحية العملية هل يمكنك الوصول إليها عندما تحتاجها؟ لهذا أدى ظهور أدوات بحث فعالة مثل جوجل وياهو إلى إحداث طفرة هائلة في استخدام الإنترنت خلال السنوات الأخيرة.
ننتقل الآن من الذاكرة العاملة والعمليات المقترحة لمكوناتها إلى تناول العناصر الوظيفية المختلفة المقترحة داخل الذاكرة الطويلة الأجل. وقد اقتُرحت هذه الاختلافات كوسيلة لوصف النتائج التي تم التوصل إليها في أبحاث الذاكرة من خلال تقييم كلٍّ من الأفراد الأصحاء والأشخاص المصابين بأنواع مختلفة من الإصابات الدماغية. فقدَّم هذان المصدران كلاهما معلومات قيمة فيما يتعلق بتنظيم الذاكرة البشرية.
(٥) الذاكرة الدلالية والعرضية والإجرائية
حدَّد علماء النفس فارقًا قد يكون مفيدًا بين «الذاكرة العرضية» و«الذاكرة الدلالية»، والتي تمثِّل كلٌّ منهما نوعًا مختلفًا من الذاكرة الطويلة الأجل القابلة للوصول إليها بشكلٍ واعٍ (سبق وأوضحنا هذا الفارق في الفصل الأول). وبصفة خاصة، ذهب تولفينج إلى أن «الذاكرة العرضية» تنطوي على تذكُّر أحداث معينة، في حين أن «الذاكرة الدلالية» تتعلق بصفة جوهرية بالمعرفة العامة عن العالم. وتتضمَّن الذاكرة العرضية استرجاع «الزمان» و«المكان» و«المشاعر» المرتبطة بها في وقت الحدث. (تمثل «ذاكرة السيرة الذاتية» — أي استحضار أحداث من حياتنا السابقة — تصنيفًا فرعيًّا للذاكرة العرضية جذب اهتمامًا كبيرًا خلال السنوات الأخيرة.)
باختصار: يمكن تعريف الذاكرة العرضية بأنها الذاكرة المختصة بأحداث حياتك التي مررت بها، فتميل هذه الذكريات بطبيعتها إلى الاحتفاظ بتفاصيل عن الزمان والموقف التي اكتُسبت فيهما؛ وبالتالي فإن تذكُّر ما فعلته خلال عطلة نهاية الأسبوع الماضية، أو استرجاع ما حدث عندما خضعت لاختبار القيادة، يشكلان مثالين للذاكرة العرضية.
تتعارض الذاكرة العرضية وتتفاعل مع «الذاكرة الدلالية»، التي هي ذاكرة «الحقائق» و«المفاهيم». ويمكن تعريف «الذاكرة الدلالية» بأنها المعرفة التي يُحتفظ بها بصرف النظر عن الظروف التي اكتُسبت فيها. وفي واقع الأمر، غالبًا ما نجمع ونمازج بين الذاكرة العرضية والدلالية دون أن نعي أننا نفعل ذلك. فمثلًا: عندما نحاول أن نسترجع ما حدث في يوم زفافنا، فقد تتمازج ذكرياتنا الفعلية عن هذا اليوم مع توقعاتنا ومعرفتنا الدلالية حول نوعية الأحداث التي تقع «في العادة» خلال حفلات الزفاف.
تتسم هذه الأسئلة بدرجات نسبية من الصعوبة، ولكنها جميعًا تستعين بالمخزون الضخم من المعرفة العامة عن العالم، هذه المعرفة التي نكتسبها على مدار حياتنا ونميل إلى التسليم جدلًا بها. على النقيض من ذلك، لو سألتُك عما تناولتَه على الإفطار أمس، أو عما حدث في عيد ميلادك الأخير، فستستقي إجابتك من «ذاكرتك العرضية»؛ لأني الآن أطرح عليك أسئلة حول أحداث، أو وقائع، معينة حدثت في حياتك؛ ولذلك فإن ذاكرتك عن تناول الإفطار هذا الصباح ستكون ذاكرة عرضية تنطوي على متى وأين وماذا أكلت. من ناحية أخرى، فإن تذكر ما يعنيه ويشير إليه مصطلح «الإفطار» يستلزم الذاكرة الدلالية؛ وبالتالي تستطيع بلا شك أن تصف ما يعنيه «الإفطار»، ولكنك ربما لا تتذكر متى وكيف تعلَّمت هذا المفهوم، ما لم تكن قد تعلمت مفهوم الإفطار مؤخرًا (مما لا شك فيه أنك عرفت «الإفطار» في طفولتك، ولكن ربما تكون هناك مفاهيم أخرى اكتسبتها مؤخرًا). ما زالت كيفية «تحوُّل» الذكريات العرضية إلى ذكريات دلالية بمرور الوقت مجالًا يخضع لافتراضات واهتمامات بحثية كبيرة (على سبيل المثال: أول مرة عرفت فيها أن جبل إفرست هو أعلى جبل في العالم كانت خلال حدث معين، ولكن تدريجيًّا بمرور الوقت — وبالتعرض المتكرر — تحولت هذه المعلومة إلى معلومة دلالية).
لم يزل من غير المؤكد ما إذا كانت الذاكرة الدلالية والعرضية تمثلان نظامَي ذاكرة منفصلين حقًّا أم لا، ولكن الفصل بينهما أفاد كثيرًا في المساعدة على توصيف اضطرابات الذاكرة الإكلينيكية التي يبدو أنها تؤثر على أحد النظامين أكثر من الآخر. على سبيل المثال: اكتشف الباحثون أنه يمكن لاضطرابات معينة في المخ أن تؤثر تحديدًا على الذاكرة الدلالية، مثل «الخرف الدلالي». على النقيض من ذلك، ذهب إندل تولفينج إلى أن المتلازمة المعروفة باسم «متلازمة فقدان الذاكرة» تتسم بضعف انتقائي في الذاكرة العرضية، ولكن ليس في الذاكرة الدلالية (انظر الفصل الخامس).
يبدو أن هناك اتفاقًا عامًّا على أن النوع الثالث من الذاكرة الطويلة الأجل — وهو «الذاكرة الإجرائية» (مثلًا: أداء سلسلة من العمليات الجسدية الضرورية للتمكن من ركوب الدراجة) — مستقل عن الذاكرة التي يمكن الوصول إليها بشكل واعٍ. ومجددًا، يبدو أنه توجد اضطرابات معينة في المخ يمكن أن تؤثر تحديدًا على الذاكرة الإجرائية، مثل مرض الشلل الرعاش. كذلك كانت هناك أيضًا اقتراحات بأنه لا ينبغي اعتبار الذاكرة الإجرائية نظام ذاكرة متجانسًا، بل إنها تشتمل على عدة أنظمة فرعية مختلفة.
(٦) الذاكرة الصريحة والضمنية
يوجد فارق آخر شائع حدَّده باحثو الذاكرة بين الذاكرة الصريحة والضمنية. (يحمل هذا الإطار المُقترَح بعض التشابهات مع الإطار الذي تمت مناقشته في الجزء السابق، والخاص بالذاكرة العرضية والدلالية والإجرائية.) في هذا الإطار، تُعرَّف «الذاكرة الصريحة» بأنها تلك التي تتضمن المعرفة الواعية، في أثناء وقت التذكر، بالمعلومة أو التجربة أو الموقف المطلوب تذكره. وأشار باحثون آخرون إلى هذا النوع من تجربة التذكر بأنه «استرجاعي» أكثر منه صريحًا، وهناك تطابقات شديدة هنا مع الذاكرة العرضية، التي ناقشناها سابقًا.
تشير «الذاكرة الضمنية»، على العكس من ذلك، إلى تأثير ما على السلوك أو المشاعر أو الأفكار كنتيجة لتجربة سابقة، ولكنه يتجلى دون تذكر واعٍ للأحداث الأصلية. مثلًا: إذا مررت بمطعم صيني في طريقك إلى العمل صباحًا، فقد تفكر لاحقًا خلال ذلك اليوم في الخروج لتناول وجبة صينية، دون أن تعرف بشكل واعٍ أن هذا الميل قد تأثر بالتجربة التي خضتها في ذلك الصباح.
هناك دليل آخر على صحة هذا الرأي؛ على سبيل المثال: في ثمانينيات القرن العشرين أجرى لاري جيكوبي دراسة اشتملت على نوعين من الاختبارات: «التعرف» (الذي ينطوي على التذكر الواعي للمعلومات المكتسبة) و«التذكر اللاواعي» (في هذه الحالة، تم الاختبار عن طريق مهمة تعرُّف حسي؛ أي التعرف على كلمة تم عرضها بصورة مرئية لفترة وجيزة للغاية). كما تدخَّل جيكوبي أيضًا في كيفية حفظ الكلمات المستهدفة في تجربته؛ فكل كلمة مستهدفة ظهرت إما (١) دون سياق (مثل: «بنت» وحدها)، أو (٢) مع نقيضها كسياق (مثل: «ولد – بنت» معًا)، أو (٣) أنتجها المشارك عندما قُدِّم له النقيض (مثل: تقديم «ولد» فأنتج المشارك «بنتًا»).
انطوى الاختبار اللاحق للذاكرة الصريحة على إظهار مزيج من الكلمات المستهدفة والكلمات الجديدة على المشاركين، وطُلب منهم أن يحددوا أي الكلمات تعلموها سابقًا (تضمنت الكلمات «المتعلَّمة» كلًّا من الكلمات المقروءة والمنتَجة، كما وصفنا في الفقرة السابقة). على النقيض من ذلك، بالنسبة إلى اختبار الذاكرة الضمنية، عُرض مزيج من الكلمات المستهدفة والكلمات الجديدة لفترة وجيزة للغاية، كلمة تلو الأخرى، وطُلب من المشاركين تحديد كل كلمة عند عرضها. وكانت نتائج هذه الدراسة كالتالي: تحسن التعرُّف الصريح منتقلًا من حالة «اللاسياق» إلى حالة «الإنتاج»، ولكن — ما يثير الاهتمام — كان العكس هو الصحيح في مهمة التعرف الحسي الضمني! ونظرًا إلى أن نمط النتائج كان معكوسًا في الاختبارين، فهذا يوحي بأن العمليات الأساسية (أي الذكريات الصريحة والضمنية) مختلفة، وتنطوي على آليات ذاكرة ربما تكون مستقلة.
تعتبر الدراسة التي وُصفت في الفقرة السابقة مثالًا جيدًا يوضح كيف يمكن أن تساعدنا تجربة محددة بدقة في رصد فرق أساسي بين العمليات العقلية التي لن نستطيع فصلها بثقة باستخدام الاسترجاع أو التأمل الذاتي. ويتعلق مثال آخر للبحث المنهجي الدقيق في هذا المجال بأعمال أندريد وآخرين حول الذاكرة في أثناء التخدير الكلي. فقد أثبت هؤلاء الباحثون أن الناس يستطيعون فيما بعد إظهار الذاكرة الضمنية للمواد المعروضة عليهم خلال التخدير، حتى وإن كانوا فاقدين الوعي خلال وقت العرض. وأدت اكتشافات كهذه إلى اقتراحات بأن أعضاء الفرق الجراحية يجب أن يتوخوا الحذر بصفة خاصة حيال ما يقولونه عن مرضاهم خلال عملية جراحية تتم تحت تأثير التخدير الكلي! علاوة على هذا، أشار بحث آخر إلى أن الإعلانات التجارية قد تنجح بصفة أساسية من خلال تأثيراتها على الذاكرة الضمنية. وقد ثبت أن الناس الذين عُرضت عليهم إعلانات من قبل يصنِّفون هذه الإعلانات بصفتها أكثر جاذبية مقارنة بالإعلانات التي لم يشاهدوها سابقًا (وهي ظاهرة تُعرف باسم «تأثير التعرض البحت»).
(٦-١) أنواع مختلفة من مهام الذاكرة
أحيانًا ما تُسمى أيضًا المهام التي يفترض أنها تصل، بشكل متفاوت، إلى الذاكرة الصريحة والضمنية بمهام الذاكرة «المباشرة» و«غير المباشرة»، على التوالي. ومن الصعب أن نفصل بين طبيعة المهمة (أي المدفوعة بالمفاهيم أو بالبيانات؛ المباشرة مقابل غير المباشرة) وطبيعة مكون الذاكرة الخاضع للاختبار (أي: الصريح أو الضمني). وفي واقع الأمر، ذهب العديد من الباحثين إلى أنه ما من مهمة ذاكرة تتسم بأنها «عملية بحتة» فعلًا؛ حيث إن كل مهمة ذاكرة سيتوسطها مزيج من العمليات الصريحة والضمنية، وثقل هذه العمليات هو الذي سيختلف عبر مهام الذاكرة المختلفة.
(٦-٢) تجربة الذاكرة
يرتبط بفارق الذاكرة الصريحة/الضمنية نوعٌ من تجربة التذكر يصاحب أداء إحدى مهام الذاكرة. مثلًا: اقتُرح أنه يوجد فارق فعلي في الذاكرة بين «تذكُّر» الشخص لشيء و«معرفته» به. تم تعريف «التذكر» بأنه مرور الشخص بتجربة فينومينولوجية — أي ظاهراتية — حول رؤيته العنصر المحدد الخاضع للاختبار في تجربة التعلم الأصلية. على النقيض من ذلك، تمت الإشارة إلى أن الشخص قد «يعرف» ببساطة أن الكلمة كانت موجودة في القائمة الأصلية، دون أن يتذكر هذا الشخص العنصر تحديدًا. كان إندل تولفينج أول من استخدم هذا الفارق بين التذكر/المعرفة. ففي البحث الذي أجراه تولفينج، طلب أن يُحكم على كل استجابة في الاختبار بأنها مصحوبة إما (١) بتجربة استرجاع تعلُّم العنصر، أو (٢) بمعرفة أن العنصر قد تم تقديمه، ولكن دون تذكر الحدث تحديدًا. أجرى جاردينر وجافا وزملاؤهما منذ ذلك الحين اختبارات على أحكام التذكر/المعرفة في ظل مجموعة متنوعة من الظروف التجريبية المختلفة.
قد يكون هذا الفارق صعب التطبيق إلى حدٍّ ما، من حيث توصيفه بصورة موضوعية. مع هذا، ثبت أن عددًا من المعالجات التجريبية قد أثَّر على أحكام «التذكر» و«المعرفة» بصورة مختلفة. على سبيل المثال: أثبتت الدراسات أن المعالجة الدلالية (حيث يكون التركيز على معاني العناصر) تؤدي إلى استجابات «تذكرية» أكثر من المعالجة السمعية (التي تركز على صوت الكلمات المدروسة). وعلى النقيض، تشير نتائج البحث إلى أن نسبة استجابات «المعرفة» لا تختلف في الظروف الدلالية والسمعية.
(٧) مستويات المعالجة
أحد الأطر التكميلية الذي كان مؤثرًا للغاية عند التفكير في الذاكرة (لا سيما الذاكرة الطويلة الأجل) هو إطار «مستويات المعالجة». على النقيض من النماذج البنيوية للذاكرة، يركز هذا الإطار على أهمية المعالجة في الذاكرة، بدلًا من البنيان أو السعة. وقد تم التعبير بوضوح لأول مرة عن منهج مستويات الإطار في دراسات علم النفس التجريبية التي قام بها فيرجوس كريك وبوب لوكهارت، إلا أن مبدأها الأساسي بشَّر به باقتضاب بعض الشيء الروائي مارسيل بروست عندما كتب يقول: «سرعان ما ننسى ما لم نفكر فيه بعمق.» ذهب كريك ولوكهارت إلى أن قدرتنا على التذكر تعتمد على قدرتنا على معالجة المعلومات خلال وقت التشفير. وقد وصفا «مستويات معالجة» مختلفة، بدءًا من المستويات «السطحية» التي تتعامل فقط مع الخواص الفيزيائية للمثير الذي يتم تقديمه، مرورًا بالعمليات «العميقة» المنطوية على الخواص الصوتية، ووصولًا إلى عمليات أعمق تنطوي على التشفير الدلالي للمادة من حيث معناها.
من ثم، أثبت العديد من التجارب الرسمية — من حيث أداء الذاكرة اللاحق في الاختبار — أن المعالجة «العميقة» للمعلومات في وقت التشفير أفضل من المعالجة الأكثر «سطحية»، وأن تعميق المادة من خلال المعالجة الدلالية يمكن أن يحسِّن تعلُّم مواد الذاكرة. ما معنى هذا؟ حسنًا، هذا مثال: افترض أنه طُلب منك حفظ قائمة كلمات و(١) تقديم تعريف لكل كلمة في القائمة، أو (٢) تقديم ارتباط شخصي بكل كلمة في القائمة (كلٌّ منهما يتطلب معالجة دلالية للكلمات المدرجة في القائمة). في العادة ستتذكر قائمة الكلمات بشكل أفضل في ظل الظرفين (١) و(٢) مقارنة بما لو طُلب منك أداء مهمة أكثر سطحية وأقل دلالية، مثل (٣) تقديم كلمة أخرى على نفس الوزن لكل كلمة في القائمة، أو (٤) تقديم رقم الحرف في الأبجدية بما يتوافق مع كل حرف في كل كلمة مدرجة بالقائمة.
بتوضيح كريك وتولفينج فائدة هذا المنهج، أثبت كلاهما أن احتمالية التعرف على نفس الكلمة بشكل صحيح في تجربة للذاكرة تتراوح بين ٢٠٪ و٧٠٪، حسب «عمق» المعالجة التي تمت من قبل في وقت التشفير. عندما انطوت المعالجة الأولية على قرارات فقط حول حالة الحروف التي طُبعت بها الكلمة، تم التعرف بشكل صحيح عند مستوى ٢٠٪. وتحسن الأداء عقب قرارات التقفية (أي: القرارات الصوتية)، ولكنها كانت أحسن إلى حدٍّ كبير (أي تم التعرف بشكل صحيح بنسبة ٧٠٪ تقريبًا) عندما انطوت المعالجة على قرارات حول ما إن كانت الكلمة ستصلح من حيث المعنى في جملة معينة.
يؤيد الكثير من البيانات نموذج مستويات المعالجة. ومع هذا، تعرضت تفاصيل النموذج الأصلي للانتقاد. وتحديدًا، أثيرت اعتراضات على أساس أن هذا المنهج غير مباشر من الناحية المنطقية في طريقة تفسيره؛ وبالتالي، لو لوحظ أن عملية تشفيرية معينة أو إجراءً معينًا أدى إلى أداء أفضل للذاكرة، فيمكن الذهاب عندئذٍ — من منطلق إطار «مستويات المعالجة» — إلى أن هذا ناتج عن شكل «أعمق» من المعالجة المعرفية. ولو — على النقيض من ذلك — أدت عملية تشفيرية أخرى أو إجراء تشفيري آخر إلى أداء لاحق أضعف للذاكرة، فعندئذٍ — وفقًا لنموذج «مستويات المعالجة» — لا بد أن هذا حدث نتيجة معالجة أكثر «سطحية» في وقت التشفير. لذا فإن محور الاهتمام هو أن إطار «مستويات المعالجة» بهذه الطريقة يصبح محققًا لذاته وغير قابل للاختبار. المشكلة — في جوهرها — هي كيفية وضع معيار ﻟ «عمق» و«سطحية» المعالجة يكون منفصلًا عن أداء الذاكرة اللاحق.
لهذا زُعمَ أن معيار مستوى المعالجة لا يمكن تحديده بمعزل عن أداء الذاكرة الذي ينتجه. مع هذا، أشار فيرجوس كريك مؤخرًا إلى الطرق الفسيولوجية والعصبية التي قد تقدم مقياسًا مستقلًّا لعمق المعالجة. ورغم المشكلات المحتملة لقابلية النموذج للاختبار، فإن منهج «مستويات المعالجة» يلفت الانتباه — بشكل مهم — إلى أمور وظيفية مهمة بما في ذلك: (١) نوع معالجة المواد في وقت التشفير، و(٢) تعقيد المواد خلال التشفير، و(٣) ملاءمة المعالجة التي تتم في وقت التشفير (من حيث «الانتقال» إلى مهمة الذاكرة التالية؛ وسوف نتناول هذا الموضوع باستفاضة في الفصل الثالث). وشأن الإطار الذي حدده بارتليت (في الفصل الأول)، فإن التركيز الأساسي لإطار مستويات المعالجة هو أننا «فاعلون نشطون» في عملية التذكر، حيث إن ما نتذكره يعتمد على: (١) العمليات التي ننخرط فيها بأنفسنا عندما نصادف شيئًا أو حدثًا، بالإضافة إلى (٢) خواص الشيء أو الحدث نفسه.