المراحل العمرية السبع للإنسان
(١) نمو الذاكرة
بالرجوع إلى الفرق الثلاثي بين التشفير والتخزين والاسترجاع الوارد في الفصل الأول، يمكن أن نعتبر نمو الذاكرة بمنزلة نشأة تدريجية لاستراتيجيات أكثر تعقيدًا لتشفير الذكريات واسترجاعها (مع ثبات عمليات التخزين نسبيًّا خلال النمو). هذا هو الوضع بصفة خاصة كلما زادت المعرفة الدلالية وأتيحت اللغة. على سبيل المثال: ثمة دليل على أن زيادة المعرفة الدلالية تحسِّن الطريقة التي يمكن بها الوصول إلى المعلومات الموجودة في الذاكرة الدائمة، وأن اكتساب اللغة يتيح للأطفال القدرة على تشفير المواد بثراء أكبر فيما يتعلق بالتصنيفات اللفظية، ثم استخدام هذه التصنيفات كتلميحات عند الاسترجاع. وهناك دليل أيضًا على أن نمو مهارات معرفية أخرى يمكن أن يؤثر إيجابًا على قدرة الذاكرة؛ على سبيل المثال: قد يكون نمو مهارتَي حل المشكلات واختبار الفرضيات مرتبطًا بمحاولة استرجاع الذكريات والسعي إلى تحديد ما إذا كانت المعلومات المسترجعة صحيحة أم لا.
فيما يتعلق بقدرة الذاكرة الصريحة، يوجد دليل يؤكد النمو المتزايد لقدرتها الكاملة، لدرجة أنه حتى الأطفال الرُّضَّع يبدون قادرين على استخدام ذاكرة التعرف (مثلًا: في التعرف على وجه مقدم الرعاية)، في حين تبدو قدرة التذكر البدائية موجودة بحلول عمر خمسة أشهر تقريبًا. والآن ثمة أدلة كثيرة لافتة تشير إلى أنه حتى الرُّضع قبل المرحلة اللغوية يستطيعون إظهار ما يدل على وجود ذاكرة ثابتة ومحددة. جُمعت هذه النتائج باستخدام تقنيات لا تنطوي على اللغة — مثل المقارنة، والتعود، والتكيف، والمحاكاة — إلى جانب بعض التقنيات المأخوذة من البحوث اللاإنسانية (مثل الرد المؤجل والرد المؤجل غير المتطابق مع العينة). وقد جادل باحثون مثل روفي كوليار في أن الآليات الداعمة لعمليات الذاكرة واحدة في الأساس لدى الرُّضَّع والبالغين؛ حيث تُنسى المعلومات تدريجيًّا، وتُسترد بوسائل تذكير، وتُعدَّل بالمعلومات الجديدة التي تتداخل مع المعلومات السابقة. رغم هذا، فمع نمو الأطفال، تُسترجع الذكريات بشكل أسرع بعد تأخيرات أطول، وبواسطة عدد من تلميحات الاسترجاع المختلفة.
تشير دراسات عن الذاكرة الضمنية (أو الذاكرة غير الواعية؛ انظر الفصل الثاني) إلى أن هذا قد يكون صحيحًا لدى الأطفال الذين لا تتعدى أعمارهم الثالثة (مثل: التعلم الحسي، والتنشيط اللفظي). جدير بالذكر أن هذا الجانب من الذاكرة لا يبدو أنه يُظهِر مثل هذا التحسن التطوري اللافت، ربما لارتباطه بشكل من الذاكرة تحفزه مناطق مخية راسخة تطوريًّا. في حقيقة الأمر، اقترح البعض أن الذاكرة الضمنية لا تتحسَّن كثيرًا بعد مرحلة الطفولة. وعلى العكس من ذلك، يبدو أن هناك تطورًا مطردًا في مهارات ما وراء الذاكرة (أي المعرفة المتكونة عن عمليات الذاكرة وتنظيمها)، بحيث يتطور لدى الأطفال وعي أفضل بقوة ذاكرتهم أو ضعفها في مواقف معينة، ومدى احتمالية قدرتهم على تذكر معلومات معينة. مع هذا، فثمة ما يدل على نمو طفيف لاحق في هذه القدرات (مقارنةً بما يمكن اعتباره الذاكرة «الأساسية» المتمثلة في قدرات التشفير والتخزين والاسترجاع). قد يكون هذا مرتبطًا بالنمو العصبي البطيء نسبيًّا في الفصوص الأمامية من المخ خلال فترة المراهقة. ومثلما يوحي الاسم، فإنها جزء من المخ يشغل المنطقة الأمامية من الجمجمة. (يبدو أن هذه المنطقة المخية تطورت بشكل غير متكافئ لدى البشر مقارنةً بالأجناس الثديية الأخرى.) وسوف نناقش هذه المنطقة المخية بالتفصيل لاحقًا في هذا الفصل، في معرض الحديث عن تقدم العمر.
لم يحظَ السؤال حول ما يشكِّل أساس نمو الذاكرة بالإجابة الكاملة بعد. ولا شك أن الحالة المعرفية للأطفال وغيرها من القدرات التي قد تؤثر على الذاكرة (مثل قدراتهم اللغوية وقدراتهم البصرية المكانية) مهمة. لكن من المحتمل أن يكون النمو العصبي للمخ وغيره من العوامل البيولوجية مهمًّا أيضًا. وأحد الجوانب الشائقة عن ذاكرة الأطفال، والتي لم تزل غامضة إلى حدٍّ ما، هو حدوث «فقدان الذاكرة الطفولي»؛ حيث لا يستطيع معظم الناس أن يتذكروا بدقة معلومات عن مرحلة ما قبل سن الرابعة تقريبًا. وليس واضحًا ما إذا كانت هذه الظاهرة ناتجة عن (١) عمليات بيولوجية، أو (٢) تغيرات معتمدة على الحالة تؤثر على حالتنا أو نزعتنا النفسية بدايةً من باكر الطفولة وحتى مراحل لاحقة من حياتنا (والتي — كما رأينا في الفصل الثالث — يمكن أن تمنعنا عن تذكر المعلومات بدقة)، أو (٣) مزيج من هذه العمليات. أحد الاقتراحات هو أن ذكريات التجارب المبكرة قبل سن الرابعة قد تكون موجودة بالفعل، ولكن في صورة عصبية و/أو نفسية، وهو ما يعني أن الفرد لم يعد يستطيع الوصول إليها بصفتها ذكريات لتجارب محددة.
ثمة مثال قصصي لفقدان الذاكرة الطفولي والسمة الجذابة في «ذكريات» الطفولة يعرضه علينا عالم نفس النمو السويسري، جان بياجيه، الذي كتب يقول: «ترجع إحدى أولى ذكرياتي — لو كانت صحيحة — إلى عامي الثاني. ما زلت أستطيع أن أرى، بكل وضوح، المشهد التالي، الذي صدقته حتى بلغت سن الخامسة عشرة تقريبًا: كنت جالسًا في عربة الأطفال، التي كانت مربيتي تدفعها في الشانزلزيه، عندما حاول شخص أن يخطفني. كنت مثبتًا بالحزام المربوط حولي بينما حاولت مربيتي بشجاعة الوقوف بيني وبين الخاطف. تعرضَت لعدة خدوش ما زلت أستطيع أن أراها على نحو طفيف في وجهها. ثم تجمع الناس، وجاء ضابط شرطة مرتديًا معطفًا قصيرًا وهراوة بيضاء، ففر الرجل. ما زلت أستطيع أن أرى المشهد بأكمله، وأستطيع حتى أن أحدد مكانه بالقرب من محطة قطار الأنفاق. وعندما بلغت سن الخامسة عشرة تقريبًا، تلقى والداي خطابًا من مربيتي السابقة تقول فيه إنها قد التحقت بجيش الخلاص، وإنها أرادت أن تعترف بأخطاء ماضيها، وبصفة خاصة أن تعيد الساعة التي مُنحت لها في هذه المناسبة. لقد اختلقَت القصة برمتها، واصطنعَت الخدوش؛ لهذا، لا بد وأنني قد سمعت — في طفولتي — أحداث هذه القصة، التي صدقها والداي، وأسقطتها على الماضي في صورة ذكرى بصرية.»
تطابقًا مع هذا الوصف الذي قدمه بياجيه، قد يكون الأطفال الأكبر سنًّا والبالغون قادرين على تذكر أحداث حياتهم المبكرة بصورة عامة جيدة نسبيًّا، ولكنهم يواجهون صعوبة في تحديد مصدرها بسبب ضعف الذاكرة السياقية نسبيًّا في مرحلة الطفولة. ولهذا «يتذكر» بياجيه الحدث كما حكته المربية (معلنًا «ما زلت أستطيع أن أرى، بكل وضوح، المشهد التالي …») ولكنه في نفس الوقت عاجز بوضوح عن أن يدرك تمامًا (خلال مراهقته) أن المربية كانت مصدر هذه الرواية من الأحداث، التي — في الحقيقة — لم تقع. علاوة على ذلك، قد يكون من الصعب تحديد مكان الذكريات المبكرة بسبب استرجاعها (وإعادة تشفيرها) عدة مرات؛ وبالتالي لا يمكن ربطها على نحو دقيق بوقت أو مكان معينين. وكما ناقشنا سابقًا، قد تكون تغيرات السياق (انظر الفصل الثالث) بين وقت التشفير ووقت الاسترجاع مهمة بصفة خاصة عندما يحاول البالغون استرجاع الأحداث التي تم تشفيرها في فترة الطفولة. هذه الاحتمالات لا ينفي أحدها الآخر، ولكن يصعب تحليلها بأسلوب منهجي وعلمي.
كما رأينا في الفصل الرابع، فكلنا عُرضة لتحريفات الذاكرة. ومع هذا، قد يكون هذا هو الوضع بصفة خاصة عند تأمل أحداث طفولتنا، بسبب الصعوبات في تحديد مصدر وسياق معين. هذا له آثاره المهمة بشكل خاص عند تدبر أمور مثل شهادة شاهد العيان؛ حيث تشير غالبية الأدلة إلى أن الأطفال قادرون على تقديم شهادة شاهد عيان دقيقة حول أحداث مهمة بشكل شخصي في حياتهم. مع هذا، تشير الدراسات أيضًا إلى أنه — كما الحال مع البالغين — يمكن لذاكرة الأطفال أن تتأثر سلبًا بالإيحاءات الزائفة، بل وربما أكثر.
(٢) الذاكرة وتقدم العمر
ثمة ميل مزعج لدى معظم الناس إلى افتراض أن الرجل العجوز قد تلاشت قدراته العقلية. لو لم يتذكر شاب أو رجل في منتصف العمر — لدى مغادرته شركته — أين وضع قبعته، فهذا أمر عادي؛ ولكن لو اكتُشف نفس ضعف الانتباه هذا لدى رجل عجوز، فسيهز الناس أكتافهم، ويقولون: «لقد ضعفت ذاكرته.»
بالنظر إلى الزيادة المطردة في متوسط عمر السكان التي تحدث حاليًّا (وعلى الأرجح، سوف تستمر في الحدوث) في غالبية الدول، فإنه من المهم تحديد التغيرات الثابتة علميًّا في الذاكرة (إن وجدت) والتي يمكن رصدها كنتيجة لتقدم العمر. مع هذا، هناك بعض المسائل المنهجية الخطيرة التي يجب أخذها في الاعتبار في هذا المجال. على سبيل المثال: إذا قارنَّا ذاكرة شباب في عمر العشرين اليوم مع ذاكرة عجائز في عمر السبعين، فسنجد عوامل كثيرة مختلفة يمكن أن تفسر الاختلافات في أداء الذاكرة بين هاتين المجموعتين من الأفراد، بصرف النظر عن حقيقة أن الشباب الذين في عمر العشرين أصغر بخمسين عامًا. على سبيل المثال: من المرجح أن يكون التعليم والرعاية الصحية على مدار حياة العجائز البالغين حاليًّا سن السبعين أدنى كثيرًا مما تلقاه الشباب البالغون حاليًّا سن العشرين. وقد تحرِّف هذه العوامل الخارجية — أو المربكة — نتائج الدراسات التي تبحث آثار تقدم العمر على الذاكرة لو قارنا قدرة الذاكرة لدى شباب العشرين الحاليين بذاكرة عجائز السبعين الحاليين.
تُعتبر مقارنة ذاكرة شباب العشرين الحاليين بذاكرة عجائز السبعين الحاليين مثالًا لدراسة تجريبية «مستعرضة». على النقيض من ذلك، فإنه في الدراسة «الطولية» يكون الهدف هو متابعة نفس الأشخاص على مدار حياتهم منذ سن العشرين وحتى السبعين، لرؤية التغيرات التي تحدث في الذاكرة «لدى نفس الأشخاص» مع تقدمهم في العمر. ثمة بعض المزايا في هذا المنهج الطولي، حيث نقارن تغيرات الذاكرة التي تحدث لدى نفس الأشخاص. ومع هذا، لوحظ أن هناك ميلًا نحو بقاء أعداد كبيرة غير متكافئة من الأشخاص قويي الأداء — أي أشخاص يتمتعون بذاكرة ذات قدرة أفضل على التخزين وغيرها من الوظائف المعرفية — في الدراسة الطولية. (يُطلق على هؤلاء الأشخاص أحيانًا اسم «المتحكمين الخارقين» أو «الطبيعيين الخارقين».) بعبارة أخرى: ما يبدو أنه يحدث في بعض الدراسات الطولية هو أن الأفراد الذين يتلقون تقييمًا إيجابيًّا (مرتبطًا بقدرتهم الوظيفية الباقية نسبيًّا) نتيجة مشاركتهم في الدراسة الطولية قد يواصلون مشاركتهم، في حين ينسحب الأفراد الذين يواجهون صعوبة. قد يسفر هذا عن انطباع إيجابي زائف بآثار تقدم العمر. أما المشكلة الأخرى فهي — بالطبع — إيجاد شخص (أو، على الأرجح، مجموعة من الأشخاص) يبقون نشطين علميًّا لفترة طويلة بما يكفي لإجراء بحث طولي وتحليل البيانات على مدار خمسين عامًا! بإيجاز، لكل من الدراسة المستعرضة والطولية مواطن قوتها ونقاط ضعفها النسبية.
إذا أخذنا في الاعتبار نتائج كل من الدراسات المستعرضة والطولية، فسنجد بعض النتائج المتسقة في دراسات تقدم العمر ودراسات الذاكرة. وبصفة خاصة، تجدر ملاحظة أن هناك تطابقات بين تفاصيل قدرة الذاكرة لدى الأطفال وتلك التي لدى البالغين الأكبر سنًّا.
تبدو «الذاكرة القصيرة الأجل» محفوظة بشكل جيد إلى حدٍّ كبير لدى الأفراد الأكبر سنًّا، رغم أن المهام القائمة على عنصر الذاكرة العاملة غالبًا ما تتأثر سلبًا بتقدم العمر (رجاء الرجوع إلى الفصل الثاني لتوضيح هذا الاختلاف). وهكذا، فكلما استلزم الأمر عملًا معرفيًّا أكثر (بشكل منفصل عن التخزين قصير الأجل الأكثر سلبية)، يمكن عندئذٍ أن يظهر الضعف. على سبيل المثال: من المرجح أن يزداد ظهور المشكلات المرتبطة بالعمر عندما يُطلب من الأشخاص تكرار تسلسل رقمي بترتيب عكسي، مقارنةً بعندما يُطلب من الأشخاص تكرار تسلسل رقمي بنفس الترتيب.
عادةً ما يتراجع أداء مهام «الذاكرة الصريحة الطويلة الأجل» (أي الذاكرة الواعية بتجربة الذاكرة؛ انظر الفصل الثاني) تراجعًا ملحوظًا، خصوصًا بمقاييس الاستدعاء الحر، رغم أن التعرف يستمر جيدًا مع تقدم العمر. ومع هذا، يبدو أن التعرف يتغير نوعيًّا بالفعل، بتحوله الواضح إلى الاعتماد على المألوفية؛ وبالتالي عندما يتطلب التعرف ذاكرة سياقية (وهي المكون الأكثر قدرة على الاسترجاع في ذاكرة التعرف والذي ناقشناه سابقًا؛ انظر الفصل الثالث)، يظهر العجز مع تقدم العمر. قد يعني هذا أن ذاكرة كبار السن (مثل ذاكرة الأطفال؛ كما أوضحنا في بداية الفصل) أكثر عرضة للإيحاء والتحيز. قد تكون لهذا تبعات مهمة في سياق العالم الواقعي؛ مثلًا عندما يستخدم كبار السن ذاكرتهم لاتخاذ قرارات مهمة حول أمور مثل أصولهم المالية.
يبدو أن «الذاكرة الضمنية» (أي الذاكرة غير الواعية، التي تخضع عادةً للاختبار بشكل غير مباشر من خلال تقييم التغيرات التي تحدث في السلوك بدلًا من تذكر تجربة الذاكرة) تتراجع بعض الشيء مع تقدم العمر. على سبيل المثال: أجرى هيل (١٩٥٧) دراسة مثيرة للاهتمام عن الطباعة تدعم هذا الاستنتاج، وانطوت على تعلمه طباعة فقرة نصية وهو في سن الثلاثين ثم اختبر نفسه مجددًا وهو في سن الخامسة والخمسين ثم الثمانين! وقد أشارت نتائج دراسة هيل (على نحو يتسق مع دراسات مشابهة) إلى أن الذاكرة الضمنية لا تنضج نسبيًّا في باكر الطفولة وحسب، ولكن يبدو أنها تصمد جيدًا حتى الشيخوخة أيضًا.
ثمة تأثير ضعيف لتقدم العمر على «الذاكرة الدلالية». في واقع الأمر، يبدو أن هذه القدرة تتحسَّن على مدار الحياة. فمثلًا: عادةً ما تتضاعف مفردات الأشخاص ومعرفتهم العامة مع تقدمهم في العمر (رغم أنهم قد يواجهون صعوبة أكبر في الوصول إلى المعلومات المطلوبة؛ مثلًا: فيما يتعلق بظاهرة طرف اللسان التي ناقشناها في الفصول الثاني والثالث والرابع). وقد اقترح البعض أن تراكم المعلومات في الذاكرة الدلالية على مدار حياة المرء يمكن أن يفسِّر سبب اشتغال كبار السن كثيرًا بمهن معينة تعتمد متطلباتها اعتمادًا كبيرًا فيما يبدو على المعرفة الدلالية (مثل: قضاة المحاكم العليا، والروائيين، ورؤساء مجالس إدارات الشركات، والأميرالات، والأساتذة، واللواءات).
هناك بعض الأدلة على أن فقدان الذاكرة المرتبط بتقدم العمر ينشأ جزئيًّا من التدهور النسبي في الفصوص الأمامية بالمخ؛ مما يؤثر على الجوانب الاستراتيجية والتنظيمية للذاكرة. وكما ذكرنا سابقًا في هذا الفصل، يبدو أن هذا الجزء من المخ قد تطوَّر بشكل غير متكافئ لدى البشر مقارنةً بالكائنات الأخرى. وكما لاحظنا، فإن ظهور مهارة ما وراء الذاكرة (أي وعي المرء بقدرات ذاكرته) لدى الأطفال يبدو أيضًا مرتبطًا بنمو الفصِّ الأمامي، وهناك دليل على أن التدهور المرتبط بالعمر في مهارة ما وراء الذاكرة مرتبط بخلل الفص الأمامي. أما الذاكرة المستقبلية — أو تذكر عمل شيء في المستقبل — فهي جانب آخر من الذاكرة ارتبط بوظائف المخ الأمامية؛ وفي واقع الأمر، هناك دليل على أن هذه القدرة تتأثر سلبًا بتقدم العمر. خلاصة الأمر أن الفصوص الأمامية يبدو أنها تنمو في مرحلة متأخرة نسبيًّا من الحياة، ولكنها تبدأ في التدهور في مرحلة مبكرة نسبيًّا. بالتطابق مع هذا، اقتُرح أن تأثر الذاكرة بخلل الفص الأمامي يمكن اكتشافه لدى الأطفال وكذلك لدى كبار السن.
كما أن هناك دليلًا أيضًا على أن فقدان قدرة الذاكرة المرتبط بالعمر ربما يكون مرتبطًا بتناقص سرعة المعالجة المعرفية مع تقدمنا في السن. وأشارت اقتراحات أخرى إلى أن تغيرات الذاكرة المرتبطة بالعمر تنشأ عن ضعف ضبط النفس، و/أو قصور الانتباه، و/أو نقص الدعم البيئي أو السياقي. وكما في حالة «فرضية الفص الأمامي» لتقدم العمر، فإن لكل من هذه التفسيرات قيودها، ولكنها أنتجت جميعًا أسئلة بحثية مثيرة للاهتمام.
أحد الأمور ذات الأهمية الكبيرة هو ما إذا كانت تغيرات الذاكرة الناتجة عن تقدم العمر «بشكل طبيعي» هي بالضرورة سمات أساسية لمزيد من التدهور في قدرة المخ. هناك حالة أُطلق عليها اسم «الخلل المعرفي المعتدل» تُعرَف بأنها نوع وسيط بين تقدم العمر الطبيعي والخرف الإكلينيكي. وقد اقتُرح أن الخلل المعرفي المعتدل قد يكون خاصًّا بالذاكرة (الخلل المعرفي المعتدل الخاص بفقدان الذاكرة) أو قد ينطوي على عدة نطاقات معرفية (الخلل المعرفي المعتدل متعدد النطاقات). ويبدو أن عددًا كبيرًا من الأشخاص الذين تم تشخيصهم بالخلل المعرفي المعتدل يُصابون بالخرف الكامل خلال سنوات قلائل من اكتشاف هذه الحالة، ولكن بعض الأشخاص المصابين بالخلل المعرفي المعتدل لا تتدهور حالتهم وصولًا إلى الخرف. وبالنظر إلى «القنبلة الديموغرافية الموقوتة» حاليًّا لأعداد متزايدة من المسنين الذين يعيشون في معظم الدول، يوجد في الوقت الحالي استثمار هائل للموارد موجه إلى محاولة اكتشاف العوامل التي تؤثر على الانتقال من الخلل المعرفي المعتدل إلى الخرف. على سبيل المثال: أشارت أدلة حديثة إلى أن عوامل مثل الرياضة والنظام الغذائي الصحي (لا سيما الأنظمة الغذائية قليلة التشبع بالدهون والمحتوية على الكثير من مضادات الأكسدة) ليست صحية فحسب بالنسبة إلى الجسم، ولكنها قد تساعد المخ أيضًا في أداء عمله بكفاءة مع تقدم العمر.
علاوة على ذلك، قد تكون التمارين العقلية (مثل الكلمات المتقاطعة والشطرنج — وتعلم مهارات جديدة مثل تكنولوجيا المعلومات) مفيدة في الحفاظ على القدرة العصبية والنفسية. من ناحية أخرى، تشير نتائج الأبحاث إلى احتفاظ المخ بدرجة من قدرة النمو والإصلاح على مدار الحياة والتي يمكن حثها بالتمرينات والأنشطة العقلية المحفزة. هذا أمر بالغ الأهمية بصفة خاصة فيما يتعلق ببيئة المعيشة المثالية لكبار السن (على سبيل المثال: أولئك الذين يلتحقون بدور المسنين نتيجة لضعف جسدي أو صعوبات معرفية). قد يكون الحصين (جزء المخ الذي يبدو مشتركًا بشكل أساسي في دمج الذكريات، خصوصًا فيما يتعلق بالذاكرة العرضية؛ انظر الفصلين الثاني والخامس) حسَّاسًا بصفة خاصة لإعادة النمو العصبي و/أو الترابط المتنامي عقب التمرين أو التحفيز العقلي.
بالنسبة إلى الاضطرابات الإكلينيكية المتعلقة بالعمر، عادةً ما يكون خلل الذاكرة إشارة مبكرة على الخرف. وبصفة خاصة، يعتبر العجز في الذاكرة العرضية وأداء الحصين سمة للمراحل المبكرة من الصورة الأكثر شيوعًا للخرف، وهي الخرف الشيخوخي من نوع ألزهايمر. ويمكن أن يحدث ضعف الذاكرة العرضية بشكل منفصل نسبيًّا في المراحل المبكرة من المرض. ولكن في مرحلة متقدمة من الخرف، قد تتأثر العديد من القدرات المعرفية الأخرى؛ مثل اللغة، والإدراك، والمهارات التنفيذية. كما اقتُرح أن المُنفِّذ المركزي في الذاكرة العاملة (انظر الفصل الثاني) يمكن أن يتأثر بشكل مختلف في مرض ألزهايمر. فعلى عكس الأشخاص الذين يعانون من صور أكثر انتقائية لفقدان الذاكرة (انظر الفصل الخامس)، فإن الأشخاص المصابين بمرض ألزهايمر يمكن أن يكونوا ضعافًا في بعض اختبارات الذاكرة الضمنية إلى جانب الذاكرة الصريحة، لا سيما في المراحل المتأخرة من المرض؛ مما يعكس تطور الضرر الدماغي في هذا المرض المدمر. وهناك صورة أخرى من الأمراض التنكسية العصبية أُطلق عليها الخرف الدلالي. على عكس مرض ألزهايمر، ينطوي هذا النوع من الخرف على تدهور حاد في الذاكرة الدلالية (انظر الفصل الثاني)، حيث إن الأشخاص المصابين بهذا المرض يفقدون القدرة على التعرف على الأشياء المألوفة مثل الأكواب أو المناضد أو السيارات.
في الوقت الحالي، تعالج العقاقير المتاحة للخرف الأعراض؛ أي تعالج آثار المرض (مثل ضعف الانتقال العصبي في المخ) بدلًا من معالجة الأسباب الرئيسية للمرض. علاوة على ذلك، فالعقاقير الحالية غير قادرة على منع التقدم العنيد لمرض تنكسي عصبي مثل مرض ألزهايمر. قد يتغير هذا في المستقبل، من خلال تقنيات مثل العلاج بالخلايا الجذعية أو جراحات المخ الترقيعية. إلى جانب هذا، أثبتت تقنيات إعادة التأهيل المعرفي فاعليتها في مضاعفة قدرة الذاكرة المتاحة لدى الأشخاص المصابين بمرض تنكسي عصبي؛ مما يساعد في زيادة الثقة بالنفس وتحسين الحالة النفسية بالإضافة إلى القدرات الوظيفية (انظر الفصل السابع).
ومع توافر المزيد من الاختبارات التشخيصية والعلاجات الممكنة، أصبح هناك اهتمام متزايد بتحديد مقاييس الذاكرة والإدراك التي تُعد حساسة ومخصصة للكشف عن الخلل المعرفي المعتدل والخرف. ولو أمكن اكتشاف التدهور المعرفي في مرحلة مبكرة، فهناك فرصة كبيرة لإمكانية علاج (أو على الأقل تحسين) أي عملية تنكسية بكفاءة.