تحسين الذاكرة
هناك العديد من الحلقات الدراسية والدورات التدريبية والكتب المتاحة في الأسواق التجارية تدَّعي قدرتها على تحسين ذاكرتنا بشكل ملحوظ. سيستعرض هذا الفصل الدليل الموضوعي والعلمي الثابت على تقنيات قد تكون قادرة أو غير قادرة على تحسين الفاعلية الوظيفية لذاكرتنا. وسيكون التركيز منصبًّا على تقنيات مثل مُعينات الذاكرة التي قد تحسِّن فاعلية «برامج» الذاكرة، ولكن ستتم الإشارة أيضًا إلى المعالجة المستقبلية المحتملة ﻟ «المكونات» التي تشكِّل الذاكرة، والتي بواسطتها سيكون من المحتمل استخدام العقاقير و/أو الأجهزة التعويضية و/أو الزراعات العصبية في المستقبل لمحاولة تصحيح مشكلات الذاكرة الناجمة عن الإصابة الدماغية. كما سنستعرض أقوياء الذاكرة في هذا الفصل (وهم الأشخاص الذين يتمتعون بقدرات ذاكرة قوية)، خصوصًا شخص مُشار إليه ﺑ «ش». قد يتمنى الناس غالبًا «ذاكرة مثالية»، ولكن قصة «ش» توضح أن القدرة على النسيان لها فوائد ملحوظة.
(١) هل تستطيع تحسين ذاكرتك؟
(١-١) المقومات «البدنية»
في الوقت الحالي، لا يستطيع أي منا أن يحسِّن بحقٍّ الآليةَ التي تتشكل منها الذاكرة، على الأقل من حيث المقومات البيولوجية التي تنطوي عليها؛ فمن الناحية العلمية، لا توجد حاليًّا طريقة موثوق بها لتحسين الأنظمة العصبية المشكِّلة للذاكرة بشكل منهجي (رغم أنه — بالطبع — من السهل نسبيًّا تدمير هذه الأنظمة عن طريق إصابات الرأس، والمشروبات الكحولية، وصور أخرى من الإيذاء الجسدي والكيميائي).
هناك ما يدل على أن بعض العوامل (مثل المنبهات، كالنيكوتين أو الكافيين) تستطيع تعزيز ذاكرتنا، غالبًا عن طريق تحسين انتباهنا (ومن ثم تحسين تشفيرنا لمواد الذاكرة). ومع هذا، لا تُلاحظ آثار هذه المنبهات على نحو يمكن التعويل عليه إلا عندما نكون مجهدين ونظامنا المعرفي مهددًا دونها. ولو جعلتنا هذه المنبهات يقظين «أكثر من اللازم»، فستكون لها تبعات سلبية. كما كانت هناك ادعاءات بوجود «منشطات ذهنية» معينة وعوامل كيميائية عصبية أخرى يمكن أن تحسِّن أداء المكونات العصبية التي تشكِّل الذاكرة. ويبدو أن هذه العوامل عادةً ما تعمل عن طريق تعزيز التواصل أو النقل الكيميائي بين خلايا المخ. ولكن — مجددًا — ليست هذه العناصر مفيدة دائمًا بحق إلا لبعض الأفراد المصابين بخلل في الذاكرة نتيجة — مثلًا — اعتلال أو مرض دماغي (مثل الخرف). وعلى العكس من ذلك، ففي حالة الأفراد الأصحاء (حيث يبدو أن المخ يؤدي عمله أكثر أو أقل من قدرته القصوى)، فاستخدام مثل هذه العوامل الكيميائية لا يحسِّن فعلًا الأداء فوق هذا المستوى «الأقصى». ويمكن أن نورد تشبيهًا بسيطًا نسبيًّا من خلال محرك السيارة: فلو كنت تملك بالفعل زيتًا كافيًا في حوض الزيت لتزييت المحرك بكفاءة، إذن فإضافة المزيد من الزيت لن يحسن بالضرورة الفاعلية الوظيفية للمحرك ونقل الحركة.
قد يكون من الممكن تحسين «المكونات العصبية» التي تشكِّل الذاكرة في المستقبل؛ ربما (١) عن طريق المعالجة الجينية والعصبية وتقنيات زراعة الأعضاء، أو (٢) عن طريق الجمع بين المكونات المعتمدة على الكربون وتلك المعتمدة على السليكون. وفيما سبق ترتبط الطريقة (١) بتعزيز الركيزة الدماغية فرضيًّا، في حين ترتبط (٢) باستخدام الأجهزة الاصطناعية التعويضية. وكانت هناك بالفعل محاولات لإجراء كلتا العمليتين على حيوانات التجارب. مع هذا، تبقى هذه التقنيات المقترحة مثيرة للجدل؛ وبالتالي في الوقت الحالي، يبدو أننا نستطيع فعلًا العمل فقط مع المكونات العصبية المتاحة لنا حاليًّا داخل رءوسنا، ومحاولة التأكد من أن «البرامج» التي تدير هذه الأنظمة تعمل على النحو الأمثل. كيف نفعل ذلك؟
(١-٢) البرامج
ما الذي يعتبر «ممارسة مثلى» لتذكر المزيد؟
-
يبين لنا «تأثير التدريب المتقطع» أنه من الأفضل توزيع محاولات الحفظ على مدار فترة زمنية طويلة، بدلًا من تجميع المحاولات معًا في فترة واحدة؛ إذ إن «القليل الدائم» هو المبدأ الرئيسي هنا؛ وبالتالي فإن حشو الرأس من أجل الاختبار لا يمكن أن يحل محل المراجعة المستمرة الدائمة.
-
في موضوع وثيق الصلة، فإن «الحفظ بلا أخطاء» هو استراتيجية مرنة يتم فيها اختبار العنصر الجديد في البداية بعد فترة تأجيل قصيرة؛ ثم بعد حفظ العنصر بشكل أفضل، تزداد فترة الممارسة بالتدريج. يكمن الهدف الرئيسي في اختبار كل عنصر خلال الفترة الأطول التي يمكن إعادة إنتاجه فيها بشكل موثوق به. يبدو هذا صالحًا بكفاءة كبيرة كتقنية حفظ. أما النتيجة الفرعية المفيدة في الحفظ بلا أخطاء فهي أن دافع الدارس دائم؛ لأن معدل فشل الذاكرة يبقى عند مستوى منخفض.
-
لو تذكرت شيئًا من تلقاء نفسك (مثل استرجاع هجاء كلمة)، فإن هذا يميل إلى تقوية الذاكرة بكفاءة أكبر.
-
يعتبر تركيز الانتباه على ما تتعلمه منهجًا فعالًا. وقد وجَّه المعلمون الفيكتوريون كثيرًا من الاهتمام نحو التكرار والتعلم بالحفظ عن ظهر قلب؛ لكن تكرار المعلومات لا يضمن أن الانتباه موجه إلى المادة (كما رأينا سابقًا في هذا الكتاب، فما من شيء من المرجح أن يدخل إلى الذاكرة الطويلة الأجل ما لم تواظب عليه).
-
تشفير المعلومات لفظيًّا وبصريًّا معًا (أي خلق صورة بصرية لعنصر لفظي)، وتصميم «خرائط عقلية» غالبًا ما يكونان تقنيات حفظ فعالة. (كتب المؤلف توني بوزان عددًا من الكتب وغيرها من المطبوعات تصف استخدام تقنيات «الخرائط العقلية». رجاء مطالعة قراءات إضافية في نهاية الكتاب.) ويمكن أيضًا أن يكون استخدام أنواع أخرى من التقنيات المُعِينة للذاكرة فعالًا للغاية (انظر الأجزاء اللاحقة في هذا الفصل).
-
الطريقة التي نعالج بها المعلومات مهمة؛ يسعى الناس إلى إيجاد معنى في المعلومات التي يحاولون تذكرها، ولو غاب المعنى يحاول الناس فرض معناهم الخاص على المادة (انظر الفصل الأول، حيث عرضنا قصة بارتليت «حرب الأشباح»). بالاعتماد على هذه الظاهرة، فالقاعدة العامة هي أن طريقة معالجة المعلومات غالبًا ما تساعد في ربط المادة الجديدة بك وبظروفك الخاصة بأكبر قدر ممكن من الثراء والتفاصيل خلال الوقت المتاح. والسعي إلى فهم المعلومات التي تذاكرها، بدلًا من حفظها بسلبية، عادةً ما يحسِّن الذاكرة. (يبدو أن معالجة المعنى ترتبط في العادة بالمزيد من معرفتنا العامة، وبذلك تشفر المعلومات دلاليًّا بثراء أكبر وتحسن أداء الذاكرة اللاحق.)
-
إن الحافز لاكتساب معلومة هو عامل آخر مهم، رغم أن آثاره قد تكون غير مباشرة (على سبيل المثال: لو كان الشخص متحمسًا بدرجة كبيرة، فسيؤثر هذا في كم الوقت الذي يقضيه في الاهتمام بالمادة المطلوب استذكارها، وهذا بطبيعة الحال سيحسن كم التعلم الذي يحدث).
-
توجد علاقة معقدة تعزيزية بالتبادل بين الانتباه والاهتمام والحافز والخبرة والذاكرة؛ وبالتالي كلما زادت معرفتك في مجال معين، زاد اهتمامك به، ومعرفتك واهتمامك سيعزز أحدهما الآخر لتحسين ذاكرتك الخاصة بمادة هذا المجال. مثال لهذا قد يكون باحث الذاكرة الذي يجد بشكل تراكمي أنه من السهل التوصل إلى نتائج جديدة في هذا المجال والاحتفاظ بها، كلما زادت خبرته! ينطبق المبدأ نفسه على العديد من مسارات الحياة؛ فمثلًا: قد يكون مدير المبيعات قادرًا على استيعاب معلومات عن منتجات جديدة، بانيًا على معرفته بالمنتجات التي بيعت في السوق على مدار العقود القليلة الماضية.
باختصار: يتطلب تحسين أداء الذاكرة تطبيقًا ومبادرة ومثابرة، ولكن هناك أيضًا بعض التقنيات الموثوق بها التي يمكن أن تساعدنا. علاوة على هذا، يعتمد ما نتذكره — جزئيًّا — على ما كنا نفكر به، أو نشعر به، أو نفعله وقت التجربة الأصلية (رجاء الرجوع إلى آثار الذاكرة المعتمدة على الحالة التي ناقشناها في الفصل الثالث). فيمكن أن تتيح لنا هذه المعرفة وضع استراتيجيات تساعدنا في تعديل ما نتذكره.
وسنتناول بالتفصيل فيما يلي بعض أهم العوامل المؤثرة على سهولة تذكر المعلومات.
(٢) التمرين
هناك استراتيجية مبكرة غالبًا ما يتبناها الأطفال، وهي تكرار المادة مرات ومرات «داخل رءوسهم». يمكن أن يساعدنا مجرد تكرار المعلومة، دون أفكار إضافية عن المعنى أو الأفكار المصاحبة، في الاحتفاظ بالمعلومة لبضع ثوانٍ، ولكنها عمومًا وسيلة ضعيفة للغاية للتعلم على المدى الطويل (انظر الفصل الثاني).
على سبيل المثال: طلب كريك وواتكينز من المشاركين حفظ قوائم كلمات، وفي حالة واحدة حثا المشاركين على تكرار الكلمات القليلة الأخيرة في القائمة مرات ومرات لبعض الوقت قبل استرجاعها. وتم اختبار ذاكرتهم بعد تقديم القائمة فورًا. تذكر المشاركون جيدًا الكلمات المكررة في الاختبار الفوري، ولكن في نهاية التجربة أُعيد اختبار جميع القوائم المختلفة التي قُدمت. وفي الاختبار الأخير، لم يكن استرجاع الكلمات التي تمرنوا عليها مرارًا وتكرارًا (وتذكروها بشكل أفضل في الاختبار الفوري) أفضل من كلمات أخرى لم يكرروها على الإطلاق. ووُصف التكرار بأنه «تمرين احتفاظ»؛ فقد احتفظ هذا النوع من التمرين كما يبدو بالمعلومات داخل الذاكرة مؤقتًا، ولكنه لم يحسِّن الذاكرة الطويلة الأجل.
على النقيض من تمرين الاحتفاظ، استعان بعض المشاركين في دراسة كريك وواتكينز ﺑ «التمرين التفصيلي». وبدلًا من تكرار المعلومات بسلبية في محاولة للاحتفاظ بوجودها، في التمرين التفصيلي يتفكر المشاركون في معنى المعلومة ثم يفصِّلون هذا المعنى. رغم أن كلا النوعين من التمرين يمكن أن يحتفظا بالمعلومات لفترة قصيرة، فقد اكتُشف أن الاسترجاع عقب فترة تأجيل يكون أفضل بكثير عندما يتم التمرن على المعلومة بالتفصيل مقارنةً بحين يتم التمرن عليها فقط بأسلوب احتفاظي. فالأمر يبدو كما لو أن التمرين التفصيلي يعيد تشفير المعلومة لكي يمكن الاحتفاظ بها بكفاءة أكبر (راجع إطار «مستويات المعالجة» الوارد في الفصل الثاني).
(٣) ممارسة الاسترجاع الممتد
بغض النظر عن نوع التمرين، يستفيد الاسترجاع اللاحق للمعلومات من «الممارسة الاسترجاعية» المتباعدة، التي تنطوي على محاولة تذكر المعلومة على مدار فترات زمنية متباعدة. تسمى هذه الطريقة أحيانًا «التمرين الممتد» أو «الاسترجاع المتباعد». قد يعتبر هذا المنهج تقنية لمضاعفة الحفظ، مع استخدام المجهود العقلي بطريقة مثلى. المبدأ الأساسي هنا هو أن الذاكرة تقوى أكثر عندما نحاول الاسترجاع قبل أن يصبح من الصعب للغاية القيام به. ويصعب — بالطبع — تحديد هذه النقطة الزمنية بعض الشيء، لدرجة أنه في العادة توضع تقديرات معقولة لها. ومن الشائق تأمل كيفية تشابك هذا المبدأ مع مبدأ «الحفظ بلا أخطاء»، الذي سنتناوله لاحقًا في هذا الفصل.
إن المبادئ الجوهرية التي تشكل الاسترجاع المتباعد هي كالتالي؛ عندما نصادف لأول مرة معلومة ما، قد لا تكون قوية نسبيًّا بحيث يسهل تذكرها. وبالنجاح في استرجاع المعلومة بشكل صحيح بعد تعلمها بفترة قصيرة، فمن الأرجح أن نتذكرها مجددًا لاحقًا؛ وبالتالي نستطيع أن نتيح فترة تأجيل أطول قليلًا قبل محاولة الاسترجاع الناجحة التالية. ومع كل محاولة ناجحة، يمكن زيادة فترة التأجيل بين كل محاولة استرجاع، ونحقق رغم هذا نجاحات أكبر.
أظهر لانداور وبيورك كفاءة الجدول الزمني الممتد لممارسة الاسترجاع. قرأ هذان الباحثان أسماءً شخصية وألقابًا عائلية خيالية على المشاركين، الذين طُلب منهم لاحقًا تذكر الألقاب العائلية الخيالية عند عرض الأسماء الشخصية الخيالية عليهم مجددًا. كان من المقرر أن تستكشف الاختبارات عدة سيناريوهات، بما في ذلك اختبار «الجدول الزمني الممتد»، الذي قُدمت فيه اختبارات الذاكرة في البداية بعد فترة تأجيل قصيرة، وبعدها زاد الفاصل الزمني بانتظام. وبالنسبة إلى الجدول الزمني الممتد، تم الاختبار الأول (مثلًا: للاسم «جاك ديفيز») فورًا، ثم تم الاختبار الثاني بعد تخلل ثلاثة عناصر (مثلًا: «جاك ديفيز»، ثم «جيم تايلور»، ثم «بوب كوبر»، ثم «جون أرنولد»، يعقبها الاختبار بكلمة جاك …؟) ثم تم الاختبار الثالث بعد تخلل عشرة عناصر أخرى. في هذه الدراسة، اكتشف لانداور وبيورك أن أي ممارسة استرجاعية كانت مفيدة (مقارنةً بالحالة المحكمة التي لم يتم التمرن عليها)، ولكن لوحظت الفائدة الأكبر في هذا الجدول الممتد، الذي أدى إلى استرجاع العناصر بضعف المستوى تقريبًا الذي استُرجعت به العناصر التي لم يتم التمرن عليها.
الاسترجاع الممتد هو استراتيجية ممتازة للطلاب، وهو غير صعب نسبيًّا من حيث المجهود والابتكار المطلوبين، ومع هذا يمكن تطبيقه على أي مادة تقريبًا.
(٣-١) مزايا الدراسة المتباعدة
ثمة مفهوم وثيق الصلة يتعلق بمزايا الدراسة المتباعدة. قد يكون من الطبيعي الاندفاع بقوة إلى محاولة اكتساب معلومات جديدة، لكن ثبت مرارًا أن هذه الاستراتيجية مضللة. لاحظ إيبنجهاوس مزايا محاولات الدراسة المتباعدة (انظر الفصل الأول)، حيث اكتشف أن توزيع جلسات دراسته على مدار ثلاثة أيام تقريبًا قللت إلى النصف قدر الوقت المطلوب عند استرجاع قوائم المقاطع عديمة المعنى. في حقيقة الأمر، غالبًا ما يكون العرضان المتباعدان للمادة المطلوب تعلمها فعالين بمقدار الضعف مقارنةً بعرضين مكثفين وغير متباعدين.
أوضح باريك وفيلبس قوة تأثير الدراسة المتباعدة؛ فقد قارنا بين أداء المشاركين الذين تعلموا لأول مرة مفردات إسبانية ثم أعادوا تعلمها، عن طريق اختبارهم بعد ثماني سنوات من جلسة التعلم. وكانت إحدى المجموعات قد تعلمت لأول مرة المفردات وأعادت تعلمها بفاصل زمني بين التعلم الأول وإعادة التعلم مقداره ٣٠ يومًا، في حين تعلمت المجموعة الأخرى المادة لأول مرة وأعادت تعلمها في نفس اليوم. وبعد ثماني سنوات، أظهرت المجموعة التي تعلمت المادة لأول مرة وأعادت تعلمها بفاصل ٣٠ يومًا مستوى أداء ذاكرة أعلى بنسبة ٢٥٠٪ من المجموعة التي تعلمت لأول مرة وأعادت التعلم في نفس اليوم!
(٤) المعنى والذاكرة
للمعنى تأثير رئيسي على الذاكرة، كما رأينا في الفصل الأول ومواضع أخرى. ذهب إيبنجهاوس إلى أنه لكي يكتشف المبادئ الأساسية للذاكرة، فسيحتاج إذن إلى دراسة كيفية تعلم المواد البسيطة المبنية بشكل منهجي. ولكن رغم أن إيبنجهاوس قضى كثيرًا من وقته في تعلم المقاطع عديمة المعنى، فقد اعترف بأن دراسة مادة الذاكرة والبقاء عليها يمكن أن يتأثر بمعناها.
كما رأينا في الفصل الأول، ابتكر إيبنجهاوس مقاطع بضم حرف ساكن وحرف متحرك وحرف ساكن. بعض من هذه الثلاثيات (ساكن-متحرك-ساكن) شكلت كلمات قصيرة أو أجزاء كلمات تحمل معنى، ولكن كان أغلب هذه الثلاثيات مقاطع عديمة المعنى نسبيًّا. وضع إيبنجهاوس قائمة بهذه المقاطع وحفظها بالترتيب — وهو ما تطلب غالبًا العديد من المحاولات لتعلمها بإتقان. وعلى النقيض من تعلمه البطيء نسبيًّا لهذه المقاطع، فإن اكتسابه لمواد ذات معنى أكبر مثل الشِّعر كان أسرع.
هناك مزيد من التوضيح لأهمية المعنى في استرجاع مادة مختلفة تمامًا قدمه بحث حديث نسبيًّا أجراه باور وزملاؤه عن ذاكرة الرسوم الكروكية (أي: الرسوم الخطية البسيطة لصور عديمة المعنى). قُدم لبعض المشاركين معنى لكل رسم كروكي (مثلًا: فيل يركب دراجة أحادية العجلة). لاحظ باور وزملاؤه أن الأفراد الذين قُدم لهم معنى لكل رسم كروكي كانوا قادرين على رسم الصور من الذاكرة بشكل أفضل (بدقة ٧٠٪) من المشاركين الذين لم تُقدم لهم هذه المعاني (بدقة ٥١٪).
(٥) المساعدات الخارجية
نستطيع في الوقت الحاضر أيضًا الوصول إلى عدد من المساعدات «الخارجية» الاصطناعية للذاكرة، مثل الحواسيب والمساعدات الرقمية الشخصية والهواتف المحمولة والمسجلات الصوتية والمفكرات والمذكرات وتقارير الشركات وملخصات المحاضرات … إلخ. لعل أقدم مثال للمساعدة الخارجية للذاكرة هو عقدة المنديل، التي لا تمدنا بأي معلومات بهذه الطريقة، ولكنها تخبرنا بأننا نحتاج إلى البحث في منظومة الذاكرة لاسترجاع معلومة مهمة.
تتسم المساعدات الخارجية للذاكرة في القرن الحادي والعشرين بالتعقيد، ويمكنها أن تعمل بكفاءة عالية، إلا أننا لا نستطيع أن نحملها معنا (مثلًا: في بعض اختبارات المدارس أو الجامعات). لو أردنا تحسين ذاكرتنا دون الاضطرار إلى الاعتماد على مساعدة خارجية اصطناعية، إذن (إلى جانب تطبيق المبادئ الواردة سابقًا في هذا الفصل) فقد نحب أن نحذو حذو الأشخاص الذين يتمتعون بما يسمى «الذاكرة الاستثنائية»، الذين غالبًا ما يستخدمون تقنيات تحمل اسم «مُعينات الذاكرة».
(٥-١) مُعينات الذاكرة
معينات الذاكرة هي طريقة لتنظيم المعلومات كي يسهل تذكرها، عادةً عن طريق استخدام الرموز أو الصور البصرية أو السجع (وأحيانًا الجمع بينها). وهناك طريقتان معروفتان كثيرًا، وهما «طريقة المواقع» و«الكلمات الوتدية».
(٥-٢) طريقة المواقع
أقدم طريقة لإعانة الذاكرة هي طريقة المواقع، التي تعلمناها منذ عصور سحيقة ومستخدمة حتى يومنا الحاضر. تنطوي هذه التقنية على حفظ سلسلة من الأماكن أو المواقع المألوفة والبارزة، ويمكن للطلاب استخدام أماكن من مباني مدرستهم أو جامعتهم. العنصر الأول المطلوب تذكره يتم تخيله في أول هذه الأماكن (أي: باختلاق صورة ذهنية)، ويتم تخيل العنصر الثاني في المكان الثاني، وهكذا دواليك. وينطوي الاسترجاع اللاحق لهذه المعلومات عندئذٍ على التنقيح العقلي للأماكن وإعادة التعاطي مع كل من الصور التي اختُلقت سابقًا. وأثبتت الأبحاث الفاعلية العالية لهذه التقنية، ولكن قد يكون استخدامها محدودًا بسبب عدم التوافر النسبي للمواد والمواقع المناسبة التي يستطيع بها المرء اختلاق الصور.
يُزعَم أن مصدر هذه التقنية يرجع إلى الآتي: في عام ٥٠٠ تقريبًا قبل الميلاد، حضر الشاعر اليوناني سيمونيديس احتفالًا. وبعد تقديمه ثناءً هناك بفترة قصيرة، تم استدعاؤه. اتضح أن هذه كانت ضربة حظ بالنسبة إليه؛ لأنه بمجرد رحيله انهارت أرضية قاعة المأدبة وأصيب وقُتل العديد من ضيوف المأدبة. تشوهت جثث كثيرة في هذه المأساة، حسبما زُعِم؛ مما جعل من المستحيل للأقارب التعرف على الأشخاص لكي يقيموا لهم مأتمًا مناسبًا. ولكن سيمونيديس اكتشف أنه يستطيع أن يتذكر بسهولة كبيرة أين كان يجلس معظم الضيوف في الوقت الذي غادر فيه قاعة المأدبة؛ مما جعل من السهل تحديد الأفراد.
بناءً على هذه التجربة، قيل إن سيمونيديس قد صمَّم تقنية عامة لإعانة الذاكرة. انطوت التقنية على تخيل غرفة أو مبنى بالتفصيل، ثم تخيل أشياء أو معلومات عديدة مطلوب تذكرها موضوعة في أماكن محددة. وكلما احتاج سيمونيديس تذكر هذه العناصر، كان يتخيل نفسه يسير عبر الغرفة أو المبنى و«يلتقط» هذه العناصر؛ أي يجمع تلك المعلومات المحددة. شاع نظام الاستظهار هذا لدى خطباء قدامى مثل شيشرون، الذين كانوا مضطرين إلى تذكر نصوص متسلسلة طويلة للغاية من أجل خطبهم. وفي واقع الأمر، لم يزل مستخدمًا حتى اليوم (مثلًا: لدى من يلقون كلمة في حفلات الزفاف، حيث يكون غالبًا من المهم تذكر تسلسل من العناصر بترتيب محدد). ويبدو أن هذه التقنية تعمل بكفاءة خصوصًا مع الكلمات الملموسة، مثل أسماء الأشياء، التي يمكن «وضعها» في موقع بعينه. ولكنها يمكن أن تعمل أيضًا مع الكلمات المجردة، مثل «الحقيقة» و«الأمل» وغيرهما، شريطة أن يستطيع الشخص اختلاق صورة تمثيلية للمفهوم المجرد ووضعه في المكان المناسب.
(٥-٣) الكلمات الوتدية
مثل طريقة المواقع، يمكن استخدام هذه التقنية مع كثير من المواد المتنوعة التي يجب تذكرها، كل ما يحتاجه المرء ببساطة هو ربط كل عنصر في التسلسل بكل كلمة وتدية، عن طريق عقد صلة بارزة ومحفزة للذكريات بشكل خاص. تتيح «تقنية الكلمات الوتدية» استخدامًا أكثر مرونة لتقنية الصور البصرية مقارنةً بطريقة المواقع، ويمكن أن تكون فعالة بشكل مؤثر. وهي — في واقع الأمر — تشكل أساس معظم تقنيات تحسين الذاكرة المحترفة. فالكلمات الوتدية تقدم تلميحات للذاكرة يسهل الوصول إليها، في حين أن استخدام الصور يربط التلميح بالعنصر المطلوب تذكره عن طريق روابط بصرية مكانية قوية.
وهكذا، ففي هذه التقنية تحل الكلمات الوتدية التي يسهل تخيلها محل الأماكن في طريقة المواقع. ورغم أن التقنية تظل قائمة على الصور البصرية، فإننا باستخدام تقنية الكلمات الوتدية قد نحفظ كلمات تمثل كل رقم من ١ وصولًا إلى ١٠٠. صُممت هذه التقنية لكي يمكن حفظ الكلمات الوتدية نفسها بسهولة؛ لأنها مبنية طبقًا لبضع قواعد سجع بسيطة تتيح ربط الأرقام بشكل قوي مع الكلمات الوتدية.
في كتاب صدر حديثًا، يصف وايلدنج وفالانتاين دراسات عن أفذاذ الذاكرة وغيرهم من خبراء الذاكرة، الذين اكتشف العديد منهم قيمة الصور الذهنية كتقنية لتحسين الذاكرة. استخدام الصور ليس ضروريًّا لتحسين الذاكرة، ولكنه يمثل وسيلة قوية يمكن للمادة عديمة المعنى وغير المترابطة نسبيًّا على نحو ظاهري أن تصبح ذات معنى وترابط أكبر؛ ومن ثم يسهل تذكرها.
(٥-٤) معينات الذاكرة اللفظية
رغم أن معينات الذاكرة القديمة اعتمدت اعتمادًا أساسيًّا على الصور البصرية (مثل طريقة المواقع)، فإنه في العصور اللاحقة ظهرت معينات الذاكرة اللفظية. على سبيل المثال: ثمة طريقة بسيطة لربط الكلمات في إحدى القوائم، وهي صياغة قصة. أظهرت الأبحاث أن دعوة الأفراد إلى اختلاق قصة تربط معًا قائمة كلمات تجعل استرجاع هذه الكلمات لاحقًا أفضل. علاوة على ذلك، يعرف العديد من الدارسين قوافي بالإنجليزية مثل تلك التي تميز بين شهور السنة الثلاثين يومًا وغيرها، حيث يقدم الإيقاع والقافية تركيبات تساعد في الاسترجاع.
يمكن أيضًا استخدام أشكال أخرى من المعلومات المحفوظة جيدًا لإكمال ذاكرة الحقائق أو المثيرات. على سبيل المثال: قد يكتشف الموسيقيون أنهم عندما يحددون كلمات معينة لنغمة معروفة جيدًا، سيستطيعون تحسين ذاكرتهم لهذه الكلمات. استخدم الطلاب هذه التقنية ليتذكروا التسلسلات المعقدة (مثل المسارات البيوكيميائية) وليحتفظوا بأطر مفاهيمية وهيكلية تفصيلية (مثل العلاقات المتداخلة بين هياكل تشريحية عصبية مختلفة). وأحيانًا ما يجد الأشخاص المولعون بالأرقام أن سلسلة من الأرقام تحمل روابط شخصية ثرية. يمكن عندئذٍ تخزين هذه الروابط في الذاكرة الطويلة الأجل؛ مما يجعل من الأسهل تذكر تسلسلات أرقام طويلة في مجموعة «تكتلات»، بدلًا من أرقام منفصلة (بافتراض، طبعًا، أن تسلسل الأرقام المطلوب تذكره يمكن ربطه ﺑ «تكتلات» الأرقام المخزنة بالفعل في الذاكرة الطويلة الأجل). على سبيل المثال: قد يخصص شخص مهتم بالأرقام أو الرياضيات للذاكرة أن الأرقام الأربعة الأولى من رمز «باي» هي ٣٫١٤٢، فيكون قادرًا عندئذٍ على استخدام هذه المعلومة لمساعدته في تشفير أرقام أخرى ليتذكرها لاحقًا.
(٦) تذكر الأسماء
كما رأينا على مدار هذا الكتاب، يلعب المعنى دورًا رئيسيًّا في تحديد ما يمكننا تذكره. تأمل مسألة تذكر الأسماء. عادةً ما يشتكي الأشخاص الذين يشعرون أن ذاكرتهم ضعيفة من أنهم يجدون صعوبة في تذكر الأسماء تحديدًا. في حقيقة الأمر، الناس عمومًا غير قديرين في حفظ اسم جديد. عندما نتعرف على شخص جديد، عادةً ما تكون أذهاننا مشغولة بأشياء أخرى (مثلًا: بمحادثة تتم في نفس الوقت)؛ وبالتالي غالبًا ما نفشل في الانتباه إلى اسم ذلك الشخص. ثم على الأرجح أننا لا نستعمل أو نحاول التفكير في اسم الشخص حتى وقت بعيد لاحق، ووقتها غالبًا ما تفشل الذاكرة. ولكننا نستطيع أن نحسِّن ذاكرتنا في تذكر أسماء الأشخاص بتوجيه انتباهنا الكامل وترديد اسم هذا الشخص عندما نتقابل لأول مرة.
ولكن تحمل مشكلة تذكر الأسماء أبعادًا أخرى أكثر من مجرد عدم الانتباه إلى اسم شخص أو عدم استعماله حتى وقت بعيد لاحق. فقد قدم كوهين وفوكنر للمشاركين معلومات عن شخصيات خيالية: أسماءها، وأماكن نشأتها، ومهنها، وهواياتها. وتذكر المشاركون جميع الصفات الأخرى لهذه الشخصيات الخيالية أفضل من أسمائها. لماذا؟ يبدو أن هذا ببساطة ليس لأن الأسماء كلمات غير مألوفة؛ لأن العديد من الأسماء هي أيضًا أسماء عامة (مثل: الخزَّاف، والخبَّاز، والنسَّاج، والطبَّاخ). أجريت دراسات بحثية منهجية حفظ فيها الأفراد نفس مجموعة الكلمات، ولكن أحيانًا كانت تُقدَّم إليهم هذه الكلمات بصفتها أسماءً، وأحيانًا أخرى بصفتها مهنًا. اللافت للنظر أنهم تذكروا نفس الكلمات بصورة أفضل عندما قُدمت لهم بصفتها مهنًا لا بصفتها أسماءً؛ وبالتالي، يتضح أنه من الأسهل أن نعرف أن شخصًا يعمل نجارًا عن أن يكون اسمه السيد النجار!
مع هذا، يبدو أن الأسماء التي هي أيضًا كلمات حقيقية لها ميزة فعلية (من حيث احتمالية تذكرها) تفوق الأسماء التي لا تشكل كلمات. قد يكون غياب الروابط المفهومة (أي الدلالية) في بعض الأسماء جزءًا من تفسير سبب صعوبة حفظها. أوضح كوهين أن الكلمات المفهومة المقدَّمة بصفتها أسماءً (مثل الخباز) يسهل تذكرها عن الأسماء الأقل وضوحًا لكونها غير ذات معنى (مثل سنودجراس). ولكن في القرن الحادي والعشرين غالبًا ما تُعامل الأسماء على اعتبار أنها لا تحمل معنى، فكر لثانية كيف نُفاجأ أحيانًا عندما ندرك أيضًا أنها مهن أو أشياء (مثلًا: اسما القائدين السياسيين المعاصرين، ثاتشر (بمعنى الشخص الماهر في تسقيف المنازل من القش) وبوش (بمعنى شجيرة) في الإنجليزية). وفي واقع الأمر، من المعروف أن الانتباه إلى معنى اسم شخص يمكن أن يحسن الذاكرة لهذا الاسم، لا سيما عندما تقترن به الممارسة في استرجاعه. علاوة على هذا، إذا استطعنا تكوين روابط بين مظهر الشخص واسمه، فسنستطيع إذن أن نحسن ذاكرتنا لاسم هذا الشخص، خصوصًا لو استطعنا تكوين صورة بصرية بارزة؛ وبالتالي، إذا قابلنا شخصًا يدعى جاك ويبدو شبيهًا بممثل نعرفه اسمه جاك، أو إذا قابلنا شخصًا اسمه تايلور (بمعنى خيَّاط) يرتدي ثيابًا أنيقة، فقد نكون قادرين جيدًا على استخدام هذه الروابط لتحسين ذاكرتنا لاسم ذلك الشخص.
(٧) تأمل تعلمنا الذاتي
يشير مفهوم «ما وراء الذاكرة» إلى الفهم الذي نكتسبه عن ذاكرتنا الخاصة. ما مدى دقتنا في الحكم على إجادتنا حفظ شيء؟ هذا شأن مهم؛ لأننا لو استطعنا الحكم كما ينبغي على مدى نجاحنا (أو فشلنا) في تعلم مادة، فسنستطيع تطبيق هذه المعرفة لتوجيه خططنا الدراسية اللاحقة، فنقضي وقتًا إضافيًّا على المادة التي لم نتعلمها جيدًا. إلام يشير الدليل الموضوعي؟ لو قدمنا حُكمًا عقب دراسة المادة مباشرة، فسيبدو أننا غير قديرين نسبيًّا في التنبؤ بأداء ذاكرتنا اللاحق. من ناحية أخرى، عندما نقدم الحكم بعد فترة تأجيل، فسيبدو أننا أفضل نسبيًّا في التوصل إلى هذا الحكم. يقترح بحث إضافي أنه — في بعض المواقف التعليمية — يميل الناس إلى أن يجدوِلوا وقت دراستهم مع التركيز على المجالات التي يعرفونها جيدًا أو يعتبرونها شائقة بصفة خاصة، ولكنهم يهملون مجالات تحتاج إلى مجهود. يشير هذا الاكتشاف إلى أننا نحتاج إلى تنظيم أنفسنا لتوزيع وقتنا توزيعًا منهجيًّا على الموضوعات المطلوب منا استيعابها لكي نتعلمها بكفاءة.
(٨) الرجل ذو الذاكرة الحديدية
السعادة ليست إلا صحة وفيرة وذاكرة ضعيفة.
يتمنى الناس غالبًا «ذاكرة مثالية». لكن القصة التالية تبين أن «القدرة» على النسيان لها مزاياها الملحوظة. كان شيرشيفسكي (أو السيد «ش») — الذي سُجلت قصته في كتاب لوريا «عقل قوي الذاكرة» — يتمتع بذاكرة استثنائية بحق تعتمد اعتمادًا قويًّا على الصور البصرية. كما بدا أيضًا أنه يعكس ظاهرة محددة تسمى «الحس المتزامن»، التي وفقًا لها يقوم مثير معين بتحفيز تجارب حسية غير عادية. بالنسبة إلى شخص لديه هذه الحالة، فإن سماع صوت معين قد يستحضر لديه رائحة معينة، أو قد تستحضر رؤية رقم معين لونًا محددًا.
اكتُشِفت حالة «ش» لأول مرة خلال عمله كصحفي عندما لاحظ رئيس تحرير جريدته أنه كان يجيد بشكل استثنائي تذكر التعليمات التي تُلقى عليه قبل تحقيقه في خبر ما. في واقع الأمر، كان «ش» يُظهِر فيما يبدو استرجاعًا شبه مثالي حتى للمعلومات معدومة المعنى ظاهريًّا. ومهما كان البيان الموجز الذي يتلقاه معقدًا، لم يضطر يومًا فيما يبدو إلى كتابة ملاحظات، وكان يستطيع تكرار أي شيء يُقال له حرفيًّا تقريبًا. سلَّم «ش» بهذه القدرة، لكن رئيس تحريره أقنعه بمقابلة عالم نفس، يُدعى إيه آر لوريا، من أجل إجراء فحوصات. فوضع له لوريا سلسلة من مهام الذاكرة متنامية التعقيد، بما في ذلك قوائم بأكثر من ١٠٠ رقم، وسلسلة طويلة من المقاطع عديمة المعنى، وأشعار بلغة غير معروفة، ورموز معقدة وصيغ علمية مطولة. لم يستطع «ش» تكرار هذه المادة بدقة وحسب، ولكنه استطاع أيضًا أداء مهام مثل تكرار المعلومات بترتيب عكسي. واستطاع حتى أن يسترجع المعلومات بعد ذلك بعدة سنوات.
يبدو أن سر ذاكرة «ش» الاستثنائية كان في قدرته على خلق وفرة من الروابط البصرية وغيرها من الروابط الحسية المحفزة للذاكرة دون مجهود كبير، والتي ربما تكون مرتبطة بحسه المتزامن. كان هذا يعني أنه حتى المعلومات التي بدت مملة وثقيلة بالنسبة إلى الأشخاص الآخرين كانت تخلق بالنسبة إلى «ش» تجربة حسية حية متعددة الأشكال، ليس فقط من الناحية البصرية ولكن أيضًا — مثلًا — من ناحية الصوت واللمس والشم؛ وبالتالي استطاع «ش» أن يشفر ويخزن أي معلومة بطريقة مستفيضة وثرية.
قد يتخيل المرء أنه سيكون من الرائع التمتع بذاكرة شبه مثالية، مثل «ش». ولكن في حقيقة الأمر، يعتبر النسيان عمومًا وسيلة تكيفية إلى حد كبير، حيث إننا (كقاعدة عامة) نميل إلى تذكر الأشياء المهمة بالنسبة إلينا، في حين تتلاشى الأشياء الأقل أهمية بالنسبة إلينا على الأرجح؛ لذا، فبصفة عامة، تميل ذاكرتنا إلى العمل مثل المنخل أو آلية الفلترة لتضمن أننا لا نتذكر كل شيء على الإطلاق. على العكس من ذلك، كان «ش» يتذكر كل شيء تقريبًا على الأرجح، وأصبحت حياته بائسة إلى حد بعيد. بدت المشكلة الرئيسية بالنسبة إليه هي أن المعلومات الجديدة (مثل الثرثرة الفارغة من أشخاص آخرين) تحفز لديه تسلسلًا من روابط الذاكرة المشتِّتة للانتباه خارجًا عن السيطرة. في النهاية، لم يستطع «ش» حتى إجراء محادثة، ناهيك عن أداء عمله كصحفي.
مع هذا، انصرف «ش» إلى قوة ذاكرته كمورد رزق، فقدم عروضًا لمهاراته الاستثنائية على المسرح؛ أي إنه استغل قدرته لكسب قوت يومه. ولكنه واجه صعوبة بالغة في نسيان بعض المعلومات المجردة التي أعاد إخراجها خلال هذه العروض، مكتشفًا أن ذاكرته أصبحت تعج أكثر فأكثر بكافة أنواع المعلومات عديمة الجدوى التي لم يكن في حاجة إليها، ويفضِّل أن ينساها.
نصيحة عند المذاكرة قبل امتحان
تعتمد الذاكرة اعتمادًا كبيرًا على وضوح أفكارنا وانتظامها وترتيبها. يشكو الكثيرون افتقارهم إلى الذاكرة، في حين يكمن العيب في الإدراك؛ وهناك آخرون — باستيعابهم أي شيء — لا يحفظون شيئًا.
• اختر بيئة لا تحتوي على الكثير من مصادر التشتيت والإلهاء؛ كي تستطيع التركيز على المعلومات المستهدفة لا على المشتتات التي قد توجد في هذه البيئة. (استرجع أهمية تركيز الانتباه وتشفير المواد المستهدفة بشكل لائق من أجل أداء الذاكرة اللاحق، كما ناقشنا سابقًا في هذا الفصل.) ورغم هذه النقطة، فغالبًا ما يجد الناس أن الموسيقى تستطيع أن تساعدهم في خلق بيئة مريحة مناسبة للمذاكرة، رغم أنه (لأسباب ربما تكون مرتبطة بالإلهاء) من المرجح أن تكون مقطوعة موسيقية مألوفة أكثر نفعًا في هذا الأمر مقارنةً بمقطوعة جديدة. نقطة أخرى وثيقة الصلة هي محاولة تشفير المعلومات بأكبر قدر ممكن من الحيوية؛ على سبيل المثال: عند قراءة كتاب دراسي، تخيل نفسك تناقش مؤلف الكتاب، وحاول ربط ما يُقال بما تعرفه بالفعل.
• فكر في العلاقة المتداخلة بين المفاهيم والحقائق والمبادئ المختلفة في المجال الذي تذاكره (هذا لن يفيدك وحسب عندما تحاول تعلم المادة استعدادًا لامتحان، ولكنه غالبًا ما سيفيدك أيضًا في الإجابة عن الأسئلة الموضوعة خلال الامتحان نفسه).
• فكر بصورة عامة في الموضوعات التي تذاكرها وحاول أن تتخيل تطبيقها على مشكلات حياتك اليومية؛ أي المشكلات التي تصادفها أنت شخصيًّا.
• اربط المادة الجديدة بك وباهتماماتك الخاصة بأكبر قدر ممكن من الثراء والاستفاضة. من المرجح عندئذٍ أن تجيد بشكل أكبر إعادة إنتاج هذه المعلومات في سياق الامتحان.
• فيما يرتبط بالنقطة الأخيرة: حاول أن تتعلم ﺑ «إيجابية» لا ﺑ «سلبية». غالبًا ما يُقال إن أفضل طريقة لتعلم موضوع هي أن تعلِّمه؛ لأن نقل المعلومة إلى شخص آخر يتطلب منك القدرة على إعادة إنتاجها، ليس بطريقة سلبية، ولكن بفهم واستيعاب. بعبارة أخرى: لا تواصل مذاكرتك بمجرد قدرتك على التعرف على الإجابة الصحيحة، ولكن فقط عندما تستطيع إعادة إنتاج هذه الإجابة تلقائيًّا دون تلقين، وتستطيع شرح المادة بشكل مفهوم لنفسك أو لشخص آخر. (يمكن أن تكون مجموعات الدراسة التي يتم تشكيلها مع طلاب آخرين مفيدة في هذا الشأن.)
• يُعد تنظيم المعلومات مفيدًا بطريقتين: (١) بهيكلة ما يتم تعلمه، بحيث يؤدي استرجاع جزء من المعلومة إلى استدعاء الباقي، ولأنه (٢) بربط المادة المتعلمة حديثًا بالهيكل المعرفي الحالي للمرء، يصبح من الأسهل استيعاب المادة الجديدة.
• الممارسة أيضًا مهمة؛ لن تستطيع أن تتهرب تمامًا من آثار «فرضية الوقت الكلي»، التي تفيد بأنه (في ظل نفس الظروف) يعتمد الكم الذي تتعلمه على كم ممارستك. ينطبق هذا سواء أكنت تتعلم حقائق أو نظريات أو خطوات في تسلسل رقص أو لغة أجنبية. مع هذا، فكما رأينا سابقًا في هذا الفصل، فإن تجميع كل ممارساتك معًا في جلسة تعلم ماراثونية (مثل حشو الرأس من أجل الامتحان) ليست طريقة فعالة في التعلم؛ فالقليل الدائم استراتيجية تعلم أفضل بكثير (باستخدام تقنيات مثل الاسترجاع المتباعد).
• استثمر بإيجابية تلك الأوقات في حياتك التي يتوافر لك فيها فاصل زمني لست مشغولًا خلاله (على سبيل المثال: إذا كنت تنتظر حافلة وعليك تذكر مادة دراسية ما، استغل هذا الوقت بكفاءة). احتفظ بمجموعة من الملاحظات على بطاقات ورقية، أو استخدم حاسوبك المحمول أو المساعد الرقمي الشخصي أو هاتفك المحمول في تدوين الملاحظات وعقد الروابط ورسم الخرائط العقلية وإنعاش ذاكرتك حول المادة المطلوب تذكرها.
• بناءً على نتائج الأبحاث التي أجراها برانسفورد وزملاؤه، فقد وجهوا تركيزًا كبيرًا إلى «عمليات النقل المناسبة» أو «خصوصية التشفير» (انظر الفصل الثالث). ينص هذا المبدأ على أن المهم فيما يتعلق بمهمة التعلم هو كيفية قيامها ﺑ «نقل» المعرفة إلى موقف الاختبار. من هذا المنطلق، يجب على الناس أن يحاولوا الانخراط في أنشطة خلال التعلم تحاكي ما سيحتاجون إلى عمله في موقف الاختبار أو الامتحان؛ بهدف بلوغ مثالية أداء الذاكرة اللاحق.
• كملحوظة وثيقة الصلة، لا تستذكر وأنت منهك، وحاول أن تجري مراجعتك عندما تكون في سياق جسدي وانفعالي مماثل قدر الإمكان للسياق الذي من المرجح أن توجد فيه وقت الامتحان (مثلًا: جالسًا أمام منضدة أو مكتب بسيط). كما أنك ستنتبه للمعلومات بشكل أفضل وتشفر المثير بفاعلية أكبر عندما تكون متيقظًا عنه عندما تكون متعبًا.
• فيما يتعلق بالاتساق في السياق الجسدي والانفعالي، فقد رأينا في الفصل الثالث كيف يمكن أن يؤثر تغير السياق على الاسترجاع سلبًا. في واقع الأمر، أحيانًا يمكن أن تفيد المحاولة الذهنية لإعادة بناء السياق الذي اكتسب فيه المرء المعلومة (مثلًا: من خلال الصور البصرية) في تحسين الاسترجاع اللاحق.
• أخيرًا وليس آخرًا، فكِّر في استخدام الصور البصرية والتقنيات المُعينة للذاكرة (مثل تلك الموضحة في هذا الفصل) لتحسين ذاكرتك.
• الرسالة العامة هنا هي أن الذاكرة القوية تتطلب مستوى عاليًا من الانتباه والتحفيز والتنظيم، وهذا بدوره يعتمد على الاهتمام الشخصي.
(٩) أفكار ختامية
- (١)
الذاكرة مهمة للأفراد؛ فهي تلعب دورًا في الفهم والتعلُّم والعلاقات الاجتماعية وفي العديد من جوانب الحياة الأخرى.
- (٢)
يستدل على وجود ذكرى لحدث قديم أو معلومة قديمة كلما أثَّر هذا الحدث القديم أو المعلومة القديمة على أفكار الشخص أو مشاعره أو سلوكه في وقت لاحق. (لا يحتاج الشخص إلى أن يكون واعيًا بأي ذكرى عن الحدث القديم، وقد لا يكون واعيًا حتى بالحدث لحظة وقوعه؛ نية التذكر أيضًا ليست ضرورية.)
- (٣)
تُلاحَظ الذاكرة من خلال الاستدعاء الحر، والاستدعاء التلميحي، والتعرف، والمألوفية، وغيرها من التغيرات السلوكية مثل التنشيط وتصرفاتنا الجسدية.
- (٤)
يبدو أن الذاكرة تنطوي على أكثر من نظام أو نوع واحد من العمليات؛ لأن هناك دليلًا على أن أنواعًا مختلفة من الذكريات يمكن أن تتأثر بشكل مختلف بتعاملات أو متغيرات محددة.
- (٥)
تصعب دراسة الذاكرة؛ حيث إنها يجب استنتاجها من سلوك ملحوظ.
- (٦)
الذاكرة ليست نسخة حقيقية من الحدث القديم؛ فالأحداث تُبنى عن طريق الأفراد لحظة وقوعها؛ والتذكر ينطوي على إعادة بناء للحدث أو المعلومة.
- (٧)
طور علماء النفس فهمنا للعديد من المتغيرات التي تؤثر على الذاكرة، ولكن لم يزل هناك الكثير لنتعلمه. ومع هذا، يمكن لكل منا أن يكون أكثر حكمة في استخدام ذاكرته عن طريق الاستعانة بمعينات فعالة للذاكرة وتوجيه مجهوداتنا بالشكل المناسب لمساعدتنا في تعلم المعلومة وتذكرها.