المحاضرة الأولى
أيها السادة: في ضواحي سنتريس، حيث يحلو السمر، في ليالي القمر، وعلى شاطئ النيل هناك، حيث النجم والشجر، والماء والزهر في تلك البقعة المشتبهة الأزاهر، المشتبكة الجداول، حيث السواقي الشاديات، والطيور الصادحات، وتحت تلك الشجرة المعطَّفة الغصون، المهدَّلة الشعور، حيث أجلس في الضحى والظهيرة، مع الصحب والعشيرة، بجانب ذلك الطريق الجميل حيث تعدو السيارات الفاخرة، من القاهرة إلى الإسكندرية ومن الإسكندرية إلى القاهرة، وحيث يمشي فضلاء سنتريس في الأصائل والعشيات، جماعات جماعات، يتناشدون الأشعار، ويتناقلون الأخبار.
هناك حيث أستظرف الجلوس مع أولئك الأمجاد، شجعان البلاد، أولئك الذين لم تخالط نفوسهم أوضار الحضارة، ولا سموم المدنية، ولم تفارق طباعهم أخلاق البداوة، ولا رسوم العصبية، أولئك الذين أجلس إليهم فيعود إليَّ ضلالي القديم، وعدواني الموروث فأتمدَّح بأجدادي الشجعان، وآبائي الأبطال، وأذكر ما شنُّوا من الغارات، في العصور الخاليات.
هناك حيث أقضي شطرًا من الصيف، وجزءًا من الخريف، بين خطاب أكتبه، أو جواب أقرؤه، وحبيب أساهره، أو أنيس أسامره، وعهد أحنُّ إليه، أو عيش أبكي عليه.
وكذلك يميل الشباب إلى شعر الشباب، كما يرغب الكهول في أدب الكهول، فإن للشبيبة شعرًا، وللكهولة شعرًا، ولأدب الصبا في استطرافه أشياع وأتباع، كما لحكمة الشيخوخة في رزانتها أنصار وأعوان.
فلما قضينا بعض مآرب الشباب، من الجري في ميدان الخيال الساحر، وشرحنا بعض أهوائنا وميولنا في شخص ابن أبي ربيعة، وكانت الشمس قد جنحت إلى الغروب، ونسمات الأصيل قد مالت إلى الهدوء، وبدت لنا سنتريس وكأنها بسمة في فم الكون يضمرها إذا جن الظلام، فما نتبين منها غير المصابيح الزاهرة، في المغاني الساهرة، والأندية السامرة، لم نجد بدًّا من العودة إليها ومساهرة السامرين فيها.
ولأمر ما أراد صديقي الشيخ حسين أن يذهب إلى منزله في شمال البلدة، وأردت العودة إلى منزلي في جنوبها الشرقيِّ، بيد أنَّا لم نكد نبتعد كثيرًا حتى سمعته يقول: إذا عدت غدًا فأحضر معك ديوان ابن أبي ربيعة، فقلت له مازحًا: ومن ابن أبي ربيعة؟ فأجاب مسرعًا: فتى قريش وشاعرها.
فأعجبت بجوابه، وسررت من بداهته، إذ علمت أن ابن أبي ربيعة مهما درسنا شعره، وحللنا شخصيته، فلن نجده إلا فتى قريش وشاعرها، وكذلك أريد أن أحدثكم عنه من هذه الناحية: فأشرح لكم فتوته وشعره، أو حبه ونسيبه.
•••
أيها السادة: إن الغرض من هذه المحاضرات إنما هو البحث العلمي قبل كل شيء، والوصول إلى الحقيقة من أي سبيل، وهنا ألفت نظركم إلى أن العلم لا يكون دائمًا جافًّا، بل قد يكون أحلى من المُنى، وأشهى من ثغور الحسان، فإنك إذا احتجت إلى شيءٍ من الزهادة في العيش، والرغبة عن الحياة؛ لتفهم الجزء الثالث من كتاب «الإحياء» للغزالي، وإلى قسط من الارتياب؛ لتفهم حديث الملحد تيموكليس مع الراهب بافنيس، للفيلسوف أناتول فرانس، فإنك أيضًا في حاجة إلى شيء من الخلاعة، ونصيب من المجون؛ لتفهم الشاعر الفتى عمر بن أبي ربيعة.
وكذلك أدعوكم إلى استقدام هواكم: قديمه وحديثه، واستنهاض صبابتكم: طريفها وتليدها، حتى تفهموا هذا الشاعر الغَزِل، وتدركوا غرض هذا الماجن الخليع.
ولن تكونوا إذا فعلتم ذلك إلا باحثين عن الحقيقة، سائرين إليها عن طريق العلم، فإن أنواع العلوم تتطلب ألوانًا من النفوس، بل الفن الواحد يتطلب أرواحًا مختلفة، لفهم أدواره المختلفة، فليس الذي يفهم نسيب الأمراء ويطرب له؛ لأنه يساكن من يهوى، ويختلف إلى من يحب، بقادر على أن يفهم نسيب المشرَّدين في الآفاق ممن أهدرت دماؤهم، وصودرت ميولهم. وليس الذي يعجب بقول كُثيِّر:
بمستطيع أن يعجب بقول الآخر:
فإذا رأيتموني أكثر من الأمثلة، وأُعنى بإنشاد الشعر، فليس ذلك لإمتاع أفئدتكم، وإشباع أسماعكم فحسب؛ بل لأثبِّت في أذهانكم، وأمكِّن في قلوبكم صورة ذلك الشاعر الشابِّ، الذي قضت أيامه بأن لا تمتد إليه أيدي الرسامين والمصورين، فلم يبق لنا من معالم جماله، ومعاهد شبابه، إلا ما تركه في شعره، وخلَّاه في نسيبه، والشعر صورة الشعراء.
•••
وبعد فهل كان ابن أبي ربيعة محبًّا صادق الحب، متين الصبابة؟ أم كان فتًى مغرورًا بشبابه، مفتونًا بجماله، لا يأبه بالحب، ولا يخضع للغرام؟ وإذا لم يكن عاشقًا ولا محبًّا، فكيف أجاد النسيب، وأبدع في التشبيب؟ وما هي ميزة شعره، التي بذَّ بها إخوانه، وفاق بها أقرانه؟
فأمامنا إذن مسألتان: الأولى حقيقة حبه، والثانية حقيقة شعره، وسنوفي الكلامَ عن أولاهما في هذه المحاضرة، ونرجئ الكلام عن أخراهما إلى المحاضرتين القادمتين، إن شاء الله.
- أولًا: لأنه حضريٌّ لا بدويٌّ، وقلَّما يصدق للحضريين حبٌّ أو تبقى لهم صبابة؛
إذ يرون من متممات الظَّرف، ومكمِّلات الأدب، أن يحيا الرجل بعين باكية،
وقلب خفَّاق، فلا يزالون يتلمَّسون الهوى ويتحسَّسون الصبابة، حتى تتاح لهم
أسبابها، وتساق إليهم همومها.
وأنا الذي اجتلب المنيَّةَ طرْفُهُفمن المطالبُ والقتيلُ القاتلُ؟!
وإذا رهب البدويُّ الحبَّ، فقال: يتخوف عواقبه، ويتهيَّب جانبه:
فيا رب خذ لي رحمةً من فؤادهاوحُلْ بين عينيها وبين فؤاديرأيت الحضريَّ شَرِهًا طماعًا، يودُّ لو حشر الله إليه أهل الجمال أجمع فنال من الصبابة أقصاها، ومن المحبَّة أسماها، وينشد قول ابن الأحنف:
إن الهوى لو كان يَنْــفُذ فيه حكمي أو قضائيلطلبتهُ وجمعتهُمن كلِّ أرضٍ أو سماءفقسمتهُ بيني وبيــن حبيب نفسي بالسواءفنعيش ما عشنا علىمحض المودَّة والصفاءحتى إذا متنا جميــعًا والأمور إلى فناءمات الهوى من بعدناأو عاش في أهل الوفاءكأنَّ حتمًا على البدويِّ أن يخلد إلى القناعة في كلِّ شيء، وعلى الحضريِّ أن يُعرف بالجشع في كلِّ شيء.
ومن هنا تعرف كيف غلبت العفة على أولائك، وتطرق الفسق إلى هؤلاء، فإذا قلتَ للبدويِّ أنشدني شيئًا من الشعر، فقلَّما يروقه غيرُ جَحْدرٍ وقد زُجَّ في السجن:
أليس الليل يجمع أمَّ عمرٍووإيانا؟ فذاك لنا تدانِنعم وأرى الهلال كما تراهويعلوها النهار كما علانيوإذ استنشدت الحضريَّ شيئًا من مختاره في النسيب، فقلَّما يُنشدك غيرَ قول ابن الفارض:
وإذا اكتفى غيري بطيف خيالهفأنا الذي بوصاله لا أكتفيوذلك لما يختلف الفريقان في فهم معنى السعادة في الحب، فهي عند الأعراب لا تعدو مسامرة الأماني، ومسايرة الأحبة، وعند أهل الحضر: كل ما أمتع العين واﻟ … إلى غير ذلك مما يشتهون.
وإذا كان المال — وهو من معبودات الحضريين — يطلب بعضه للادخار وبعضه للإنفاق، فإن الجمال عندهم كذلك — إلا من عَصَم الله — فهم يعجبون بالعيون الكحيلة، والشعور المرسلة؛ ليمتعوا عيونهم بالنظر إليها وأفئدتهم بالتفكير فيها، ثم لا تسأل بعد ذلك عن رأيهم في بقية المحاسن، فعهدي بهم يرجون الخدَّ للتقبيل، والريقَ للارتشاف، وهكذا حتى يصل بهم الطمع إلى ما ترغب النفس عن ذكره، والتأمل في جدواه.
الحسن عند الحضريين أشبه شيء بجنة وردها جَنِيٌّ، وزهرها نديٌ، يدخلها الزائر فلا يعجب منها بزهرة ذات بهجة، أو وردة ذات نضرة، إلا دعته أخرى أنضر منها وأصبح.
فإذا ذهب إليها يجتلي حسنَها، ويتأمل شكلها، لفتت نظره ثالثة ورابعة، حتى يتصفح الحديقة بأكملها، ويقتلها نظرًا وشمًّا، والمرء يكلف بالحسن، ويُغرم بالجمال.
فإذا عاد إلى قلبه، ورجع إلى نفسه؛ ليعرف أيها أعلق بخاطره، وأملك لوجدانه، حسبها هذه بل تلك، ثم يختلط عليه الأمر، فلا يدري أيها أحق بالرعاية، وأولى بالاحتفاظ، فينصرف وقلبه مسرور من البستان في جملته، غير مغرم بزهرة معينة من زهوره الحسان.
وكذلك يمشي الحضريُّ في متنزهات الحواضر، فيرى من شتى الألوان في الحسن، ومختلف الأشكال في الملاحة، ما يملأ عينه، ويبهر قلبه، ثم يأوي إلى بيته خليًّا من الهوى بريئًا من الصبابة، كأن لم يسمع وَسْواس الحُليِّ، ولم ير لألاء الجبين.
وهب أن بين أولئك الفاتنات، من غلبت على قلبه، واستولت على لبه، أتراه يسلم في أيامه البواقي، من غادة أملح شكلًا، وأحلى دِلًّا، فتملك من بعدها قلبه، وتنفرد من دونها بهواه، وهو للحسن تَبوع؟
ألا إن الحضريَّ في حبِّه كمدمن الخمر، يُصرع كلَّ يوم مرة، فينسى بكأسه الأخرى كأسه الأولى.
والمرء ما دام ذا عين يقلِّبهافي أعين الغيد موقوف على الخطرولقد ذكروا أن كُثيِّرًا مشت أمامه امرأة ظريفة المِشية، فتبعتها عينه، فالتفتت إليه، فعرض عليها حبه، فقالت: كيف ذلك وقد ضاع شعرك في عزة؟ فقال: يا سيدتي! قد كان ذلك تصنعًا ورياء، ولئن أبحتني حبك، ومنحتني حسنك، لأُسيِّرنَّ في ذكرك الشعر، ولأضربن بحسنك الأمثال، فكشفت عن وجهها فإذا هي عزة، ثم قالت له: حسبك يا غادر! فبهت كثير وانصرف وهو خزيان نادم!
وكذلك كان ابن أبي ربيعة، فما قَصَر نفسَه على امرأةٍ، ولا وقفَ حبَّه على فتاة، وإنما كان يتلمَّس الجَمالَ بين مناسك الحج، ويتلقَّط الحسن في مسارح الظباء، فيغشى الرياض الزاهرة، علَّه يظفر بزهرة لا كالزهور، ويقصد الأندية السامرة، عساه يسمع حديثًا عن بعض الآنسات الحور، بل ربما صدَّ عمَّن تجزيه بالحب حبًّا، ورام من تجزيه بالقرب الصدود.
ولقد مرَّ به فَتيانِ وهو بالحِجْر يصلي، بعد أن صوَّح زهرُه، وتأوَّد غصنُه، وبعد أن سئم الغواية والفساد، وجنح إلى الهداية والرشاد، وبعد أن خلَّى الغرامَ جانبًا، وأقبل على نفسه يحاسبها، وعلى ربه يستغفره، فلم يكد يقضي صلاتَه حتى هُرع إليهما يتعرَّف خبرهما ويعرف أهلهما، فلما عرفهما وكانا أخوين، قال: يا ابْنَيْ أخي: لقد كنت موكلًا بالجمال أتبعه، وإني رأيتكما فراقني حسنكما وجمالكما، فاستمتعا بشبابكما قبل أن تندما عليه. وليس بعجيب أيها السادة أن لا يصدق في حبه مَن يقول:
سلامٌ عليها ما أحبت سلامنافإن كرهته فالسلام على الأخرىولا نريد بهذه الكلمة الغضَّ من عواطف الحضريين ولا الطعن في كرامتهم، فقد يكون من بينهم من هو أصدق حبًّا، وأنقى عرضًا، ولكنَّا نرى الشرَه في الحب، والطمع في الصبابة، من علائم التلون، ودلائل التقلب.٤ليس في القلب موضع لحبيبيــن ولا أحدث الأمور اثنانفكما العقل واحدٌ ليس يدريخالقًا غير واحدٍ رحمنفكذا القلب واحدٌ ليس يهوىغير فرد مباعد أو مدانوكذا الدين واحدٌ مستقيمٌوكفور من عنده دينانهو في شِرعة المودَّة ذو شِركٍ بعيدٌ عن صحَّة الإيمانوكذلك كان الحضريُّون مكذَّبين في عشقهم، متهَمين في حبهم.
- ثانيًا: كثر غروره بشبابه، وفتونه بجماله، وتحدثه بحبِّ النساء له، وإقبالهن
عليه، وقلَّما يكون المعشوق عاشقًا، والمحبوب مُحِبًّا، وقد رأيت في شعره
عزةَ المعشوق، لا ذِلةَ العاشق، وتيهَ المحبوب، لا خضوعَ المحب.
فتارة يذكر أنه أمنية محبوبته، وأمل معشوقته، كقوله:
ألمِم بزينب إنَّ الركب قد أَفِداقلَّ الثواء لئن كان الرحيل غدا٥قد حلفت ليلة الصَّورين جاهدةًوما على المرء إلا الحلف مجتهدا٦لأختها ولأخرى من مناصفها:لقد وجدت به فوق الذي وجدا٧لو جُمِّع الناس ثم اختير صفوتهمشخصًا من الناس لم أعدل به أحدًاوقوله:
وإنها حلفت بالله جاهدةًوما أهلَّ له الحجاج واعتمرواما وافق النفس من شيء تُسرُّ بهوأعجب العينَ إلا فوقه عُمَرُوأخرى يتمدَّح بعتبها عليه، وتوددها إليه، كقوله:
فما أنسَ من وُدٍّ تقادم عهدُهُفلستُ بِنَاسٍ، ما هدت قدمي نعليعشيةَ قالت والدموع بعينها:هنيئًا لقلب عنك لم يُسْله مُسللقد كان في إقراضك الودَّ غيرَناوفعلك ناهٍ لي لو انَّ معي عقليفهذا الذي في غير ذنب علمتهصنيعك بي حتى كأنك ذو ذَحل٨هل الصَّرم إلا مسلمي إن صرمتنيإلى سقم ما عشت أو بالغٌ قتلي٩وحينًا يفخر بدموعها المرفضَّة لبعده، المنهلَّة لهجره، كقوله:
تقول وعينها تذري دموعًالها نسق على الخدين تجريألستَ أقرَّ من يمشي لعينيوأنت الهم في الدنيا وذكري؟أمن سَخَط عليَّ صددت عنيحملت جنازتي وشهدت قبري؟وآخر يصف نفسه بالجمال اليوسفي، فيقول:
قلن: هذا الذي نلومك فيهلا تحجي من قولنا بفتيلفصليه فلن تُلامي عليهفهو أهل الصفاء والتنويلوإنه ليُغْرب أحيانًا في الصَّلَف، ويمعن في التيه؛ فيقول مثلًا:
قالت على رِقْبةٍ يومًا لجارتها:ما تأمرين؟ فإن القلب قد تُبِلا١٠وهل ليَ اليوم من أختٍ مواسيةٍمنكنَّ أشكو إليها بعض ما عملا؟فراجعتها حَصَانٌ غيرُ فاحشةٍبرجع قول ولُبٍّ لم يكن خطِلا١١لا تذكري حبَّه حتى أراجعهإني سأكفيكِهِ إن لم أمت عَجلافاقْنَيْ حياءك في سترٍ وفي كرمٍفلستِ أوَّل أنثى عُلِّقت رجلا١٢صدَّت بعادًا وقالت للتي معها:بالله لوميه في بعض الذي فعلاوحدثيه بما حُدِّثت واستمعيماذا يقول ولا تُعْيي به جَدَلاحتى يرى أن ما قال الوشاة لهفينا لديه إلينا كله نقلاوعرِّفيه به كالهزل واحتفظيفي غير معتبة أن تُغضبي الرجلافإنَّ عهدي به والله يحفظهوإن أتى الذنب ممن يكره العذلالو عندنا اغتيب أو نيلت نقيصتهما آب مغتابه من عندنا جَذِلاويقول أيضًا في الحديث عن بعض الواجدات به:
لقد حَلِيتْكَ العين أول نظرةوأُعطيتَ مني يابن عمِّ قبولافأصبحت همًّا للفؤاد ومنيةوظلًّا من النعمى عليَّ ظليلافهذا كله دليل على أن ابن أبي ربيعة كان معشوقًا لا عاشقًا، ومطلوبًا لا طالبًا، وأن النساء كانت تقع عليه كما يقع النحل على الزَّهَر، والطير على الشجر.
- ثالثًا: كثرت دعوى ابن أبي ربيعة توحيدَ حبه، وإفراد غرامه، فيقول في
ليلى:
لقد أرسلتْ في السر ليلى تلومنيوتزعمني ذا مَلَّة طَرِفًا جَلْدًا١٣تقول: لقد أخلفتنا ما وعدتناووالله ما أخلفتها طائعًا وعدافقلت مَرُوعًا للرسول الذي أتى:تُراه — لك الويلات — من أمرها جِدَّاإذا جئتها فاقرَ السلام وقل لها:ذَري الجورَ ليلى واسلكي منهجًا قصداتَعُدِّين ذنبًا أنت ليلى جنيتِهعليَّ! ولا أُحصي ذنوبكمُ عدَّاأفي غيبتي عنكم ليالٍ مرضتُهاتزيدينني ليلى على مرضي جَهْدا؟!فلا تحسبي أني تمكَّثت عنكمُونفسي ترى من مكثها عنكمُ بُدَّاألا فاعلمي أني أشد صبابةًوأصدقُ عند البين من غيرنا عهداغدًا يكثر الباكون منا ومنكمُوتزداد داري من دياركمُ بُعدافإن تصرميني لا أرى الدهرَ قُرَّةًلعيني ولا ألقى سرورًا ولا سعدًافإن شئتِ حرَّمت النساء سواكمُوإن شئتِ لم أطْعم نُقَاخًا ولا بَرْدا١٤
ويقول في الرباب:
أرسلت تعتب الرباب وقالت:قد أتانا ما قلت في الإنشادقلت: لا تغضبي فداؤك نفسيثم أهلي وطارفي وتلاديإن تعودي تكن تهامة داريوبنجدٍ إذا حللت معاديأنت أهوى إليَّ من سائر الناسِ ذريني من كثرة التعدادويقول في عبدة:
أعبْدةُ ما ينسى مودتَكِ القلبُولا هو يُسليه رخاءٌ ولا كَربُولا قول واش كاشحٍ ذي عداوةٍولا بُعد دار إن نأيتِ ولا قربُوما ذاك من نُعمى لديك أصابهاولكن حبًّا ما يُقاربهُ حبُّفإن تقبلي يا عبد توبة تائبيتب ثم لا يوجد له أبدًا ذنبأَذِلُّ لكم يا عبدُ فيما هويتمُوإني إذا ما رامني غيرُكم صَعبُوأعذل نفسي في الهوى فتعقَّنيويأصِرني قلب بكم كَلِفٌّ صبُّوفي الصبر عمَّن لا يواتيك راحةولكنَّه لا صبر عندي ولا لبُّوعبدة بيضاء المحاجر طَفلةٌمنعَّمةٌ تُصبي الحليم ولا تصبوولستُ بناسٍ يوم قالت لأربعٍنواعم غُرٍّ كلهن لها تِرْبُ:ألا ليت شعري فيم كان صدودهُأَعُلِّقَ أخرى أم عليَّ به عتب؟ويقول في زينب:١٥أُحدِّث نفسي والأحاديث جمَّةٌوأكبر همِّي والأحاديث زينبإذا طلعت شمس النهار ذكرتهاوأُحْدِث ذكراها إذا الشمس تغربويقول في أسماء:
لم يُحببِ القلبُ شيئًا مثل حبكمولم تر العين شيئًا بعدكم حَسَناما إن نبالي إذا ما الله قرَّبكممن كان شطَّ من الأحباب أو قطنا١٦فإن نأيتم أصاب القلبَ نأيُكموإن دنت داركم كنتم لنا سكناإن تبخلي لا يُسلِّي القلبَ بخلُكموإن تجودي فقد عنَّيتِني زمناويقول في هند:
ولقد قلت إذ تطاول هجري:ربِّ لا صبر لي على هجر هندِربِّ قد شفَّني وأوهن عظميوبراني وزادني فوق جَهْديليس حبِّي لها ببدعة أمرقد أحبَّ الرجال قبلي وبعديجعل الله من أُحبُّ سواكممن جميع الأنام نفسَك يفديويقول في النوار:
لا أبالي، إذا النوى قرَّبتكمفدنوتم، من حَلَّ أو من ساراوالليالي إذا نأيتِ طوالٌوأراها إذا دنوتِ قصاراويقول في عمرة:
إحدى بني أود كلفت بهاحملت بلا ترةٍ لنا وتْراوالله ما أحببت حبَّكُملا ثيِّبًا خُلقت ولا بِكراوأظهر من كل ما تقدم قوله في عثمة:
ما خنت عهدَك يا عثيم ولا هفاقلبي إلى وصلٍ لغيرك فاعلميولا يمكن أيها السادة أن تكون كل هذه الدعاوى صحيحة، فإن كَذَب بعضها كان دليلًا على كذب البواقي، فهو إذن محتالٌ ماهر يُقسِم لكل غانية يمينًا، والغواني سريعة التصديق.١٧ - رابعًا: قد جاء في شعره ما يدل على أن النساء عرفن فيه التلوُّن، وعهدن منه
التقلب، فمن ذلك قوله:
عجبًا ما عجبتُ مما لو أبصرت خليلي ما دونه لعجبتالمقال الصفيِّ: فيم التجنِّيولما قد جفوتني وهجرتا؟في بكاءٍ، فقلت: ما الذي أبــكاك؟ قالت فتاتها: ما فعلتاولوت رأسها ضِرارًا وقالتإذ رأتني: اخترت ذلك أنتاحين آثرت بالمودَّة غيريوتناسيت وصلنا وملِلْتاقلت لي قول مازح تستبينيبلسان مصدَّق إذ حلفتاعاشري فاخبُري فمن شؤم جَدِّيوشقائي عُوشِرْتَ ثم خُبِرتافوجدناك إذ خَبرنا ملولًاطَرِفًا لم تكن كما كنت قلتاوتجلَّدت لي لتصرم حبلىبعدما كنت رثَّهُ قد وصلتافاذكر العهد بالمحصَّب والودالذي كان بيننا ثم خُنتا١٨ولعمري ما ذا بأول ما عاهدتني يابن عمِّ ثم غدرتافحرامٌ عليَّ أن لا تنال الدهرَ مني غير الذي كنت نِلتا١٩قلت: مهلًا عفوًا جميلًا، فقالت:لا وعيشي ولو رأيتك مِتا
ويقول في الحديث عن بعض معشوقاته:
قالت وقد جَدَّ رحيل بهاوالعين إن تطرف بها تسجم:إن ينسنا الموت ويؤذن لنانَلقَك إن عمرت بالموسمإنك والله لذو مَلَّةٍيصرفك الأدنى عن الأقدمويقول أيضًا في الحديث عن بعضهن:
قالت لآنسة رداح عندهاكالرئم في عقد الكثيب الأيهم:هذا الذي منح الحسان فؤادهوشركنَه في مخِّه والأعظمعلمي به واللهُ يغفر ذنبهفيما بدا لي ذو هوى متقسمطَرِف ينازعه إلى الأدنى الهوىويبت خلة ذي الوصال الأقدموقد كثر شعره في هذا المعنى، حتى لقد يذكر شتمهن له، وعتبهن عليه، كقوله:
وقالت: حلت عن عهدي ووديجديد ما حييت لكم يسيروطاوعت الوشاة وزرت من لميزرك وقد تبين لي الختورولم ترع الوداد كما رعيناوبانت منك لي عمدًا أمورُولم تَجزِ القروض ولم تُثبهاوأنت لكل صالحةٍ كفورُوقد أقر نفسُه بالتلوُّن، وصرَّح بالتقلُّب، في قوله:
لعمري لقد كان الفؤاد مسلمًاصحيحًا فأمسى لا يُطيق لها هجرافجازى ودودًا كان قبلك في الهوىدءولًا فقد أورثته السُّقم والضُّراأفي الحق أَن حُكِّمتمُ فحكمتمُصوابًا فما أخطأتم الظلم والكفراوأين هذا أيها السادة من قول مضرس بن قرط المزني:
ولو تعلمين العلم أيقنتِ أننيوربِّ الهدايا المشعَرات صدوقُأذود سَوَامَ الطرف عنك ومالهُإلى أحدٍ إلا عليكِ طريقفإِن كنت لمَّا تَخبُريني فاسأليوبعض الرجال للرجال رَمُوقُسَلي هل قلاني من خليل صحبتهُوهل ذم رحلي في الرحال رفيق؟وهل يَجْتوي القوم الكرام صحابتيإذا اغبرَّ مَخْشِيُّ الفِجاج عميق
فيا ليت شعري — وقد بينت لكم كذبه في الحب — ما هي الميزة التي سما بها شعره، وسار بها ذكره؟ وما هو السر في أَنْ سَحَر شعره النساء، وآمن به الشعراء؟
هوامش
وكان — رحمه الله — آية الآيات في حسن الخلق، وصباحة الوجه، وحلاوة الحديث، وأصالة الرأي، وكان لا يعدله عندي غير شقيقي سيد مبارك الذي فقدته معه في أسبوع واحد، وكان موتهما معًا بالحُمَّى الإسبانية لا ردَّ الله لها غربة ولا قدَّر لها رجعة، وكان أخي سيد من أقوى الفتيان بأسًا، وأمضاهم عزيمة ولو عاش لضربت بشجاعته الأمثال.
وهي فكرة جميلة غير أنها لا تنطبق على ابن أبي ربيعة وأمثاله من الحضريين، فإن كثيرًا منهم يشاركون الفلاسفة في سَعة العلم، وبعد النظر، ثم لا يرون رأيهم في التقشف والزهد، وإليهما يرجع الفضل في كبح الهوى وزجر النفس.
على أن المذاهب الفلسفية لا تدعو كلها إلى الطهر، ولا ترغِّب في العفاف، ولا ينتفع المرء بأحسنها أثرًا ما لم يصر من أربابها، والداعين إليها، في سرِّه وجهره، وشبابه ومشيبته، وإلا فلماذا تجمع الحواضر بين العلم والفساد؟
هذا، وقد عرض أستاذنا الدكتور طه حسين لحب ابن أبي ربيعة في كتابه «حديث الأربعاء» ج٢ ص١٤٣، فذكر أنه لم يكن يحب بعقله ولا بقلبه وإنما كان يحب بحسِّه، وبحسِّه ليس غير، ثم قرر أنه لم يكن يتصور المرأة إلا على أنها مكمِّلة للرجل لا تستطيع أن تعيش بدونه، وأنه لم يكن يقصر هذه الصلة الجنسية على معناها الماديِّ وحدَه، وإنما كان يريدها واسعة متناولة جميع أطراف الحياة.