المحاضرة الثانية
أيها السادة: بيَّنا في المحاضرة السالفة أن ابن أبي ربيعة لم يكن صادق الحب، ولا متين الصبابة، وأنه كان هتَّاكًا للحرائر، فتَّاكًا بالأوانس، ساعده على ذلك شبابه الرائع، وجماله الفاتن، وثروة طائلة كان من شأنها أن يتسع وقته لمداعبة الغيد، وملاعبة الحور.
وما كان بنا أن نطيل القول في ذلك، لولا ما نعرفه ونؤمن به من أنه لا يصح الحكم على شعر شاعر، أو نثر ناثر، إلا بعد الوقوف على دقات قلبه، وخطرات فؤاده، وقد علمنا مما سلف مبلغ ابن أبي ربيعة من الحب، ونصيبه من الصبابة، ولم يبق إلا أن نذكر ما يجب أن يكون لشعره من ميزة، ولأسلوبه من طابع؛ وفقًا لحالته النفسية، وميوله الشخصية، وأن نبين أثر تلوُّنه في حبه، وتلاعبه في عشقه، وكيف كان ذلك داعيًا إلى أن يكون لشعره صفة تميزه عن غيره، وتفضله عمَّا عداه.
غير أني لم أشأ أن أكشف الغطاء عن ذلك، وأميط اللثام عنه، إلا بعد أن أبين لكم كيف فهمه الناس من قبلنا، وكيف كان حكمهم على شعره وتقديرهم لأدبه؟ فإني إذا فعلت ذلك فبينت بُعدهم من الصواب، وانحرافهم عن الجادة، كنت جديرًا بأن أقول: إني عملت عملًا جديدًا، وأحدثت أثرًا جميلًا، وابتدعت بدعة حسنة، وسلكت في فهم ابن أبي ربيعة سبيلًا لم يسلكه الناس من قبل. نعم، وكنت جديرًا بأن أخطِّئ من يقول: لا جديد تحت الشمس، وأن أكون نصيرًا للداعين إلى الجديد تتميمًا للقديم.
أعمل ذلك وأسعى إليه، وأنا أحترم أدب الأسلاف وفكرهم، مع اعتقادي أن كل شيء في الكون قابل للتهذيب، مفتقر إلى التكميل، وأن السبعين صحيفة التي كتبها صاحب «الأغاني» عن ابن أبي ربيعة لم تكن لتفهمنا حقيقته، وتعرفنا شخصه؛ إذ كانت موضوعةً على غير نظام مبنية على غير أساس، وأن بنوَّتنا لأسلافنا وتبعيتنا لهم لا يحولان بيننا وبين تكميل ما لم يكمِّلوه، وتهذيب ما لم يهذبوه، فإن للولد — وإن يكن سرَّ أبيه — قلبًا يفقه به، وعينًا يبصر بها، غير قلب أبيه وعينه، وليس للوالد مهما عظم أمره، وجلَّ قدره، أن يضطر ابنه إلى الحكم على الأشياء كما يحكم هو عليها. كما لا ينبغي للولد مهما أخلص في بنوته، وصدق في بره، أن يعق الطبيعة فيما أهدته من نظر ومنحته من تدبير.
•••
أيها السادة: قد علمت أن ابن عباس سمع شعر ابن أبي ربيعة واستحسنه، وأن قائلًا قال له: الله الله يا بن عباس! فإنَّا نضرب إليك أكباد الإبل من أقاصي البلاد نسألك عن الدين فتعرض؛ ويأتيك غُلامٌ من قريش فينشدك سفهًا فتسمعه؟ فقال: تالله ما سمعت سفهًا! فعلمت من ذلك أن ابن أبي ربيعة شاعرٌ مستجاد الشعر، غير أن الشعراء كثير، فمن هو من بينهم؟ وما سبيله التي سلكها؟ وما هو الإبداع الذي عرف به؟
وبلغني أن الفرزدق سمع شيئًا من تشبيب ابن أبي ربيعة، فقال: هذا الذي كانت الشعراء تطلبه فأخطأته وبكت الديار، ووقع هذا عليه. فلم أفهم من هذا شيئًا، ولم أدر ما الذي يدل عليه اسم الإشارة في قوله: هذا الذي كانت الشعراء تطلبه فأخطأته؟
وبلغني أيضًا أنه كان بالكوفة رجل من الفقهاء يجتمع الناس إليه فيتذاكرون العلم، وأنه ذُكر يومًا شعر ابن أبي ربيعة في مجلسه فهجَّنه، فقالوا له: بمن ترضى حكمًا؟ ومر بهم حماد الراوية، فقال: قد رضيت هذا، فقالوا لحماد: ما تقول فيمن يزعم أن عمر بن أبي ربيعة لم يحسن شيئًا؟ فقال: أين هذا؟ اذهبوا بنا إليه، قالوا: نصنع به ماذا؟ فقال: ننزو على أمه لعلَّها تأتي بمن هو أمثل من عمر! فعلمت أن ابن أبي ربيعة شاعر اختلف الناس في تقديره، وأن بعض أعدائه اعتمدوا في النيل منه على الفحش والسباب.
وسمعت أيضًا أن العرب كانت تُقرُّ لقريش بالتقدم عليها في كل شيء إلا الشعر؛ فإنها كانت لا تُقرُّ لها به، حتى كان عمر بن أبي ربيعة، فأقرَّت لها الشعراء بالشعر أيضًا ولم تنازعها شيئًا، فلم أفهم من هذا أيضًا إلا أنه شاعر مجيد، رفع من شأن قومه، وأكمل مجد آبائه.
وربما سمعت من طريق آخر أنه محب، فأقول: ومن هو في المحبين، فإن الحبَّ درجات؟ أو ناسبٌ متغزل، فأقول: ومن هو في المشببين، فإن للنسيب مذاهب؟
•••
وكذلك ما زلت أسمع من أخبار ابن أبي ربيعة، وأقرأ من وصف الناس له، ما يبعدني عن فهمه، والحكم على شعره، حتى رأيت حديثًا مسهبًا لبعض العلماء المتقدمين فيما ابتكره ابن أبي ربيعة من نادر المعاني، وابتدعه من جديد الأغراض، حديث علميٌّ، أراد به كاتبه — عفا الله عنه — أن يعلِّم الناس كيف يعتسفون في فهم الأدب، ويضلون في تقدير الشعراء: حديث طويل بيد أنه كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا، حديث خادع، ظن صاحب «الأغاني» أنه يكرم الأدب بذكره، ويمتع الأدباء بنقله، فلم يغفل منه كلمة، ولم يغادر منه حرفًا.
وقد رأيت أن أنقل لكم ذلك الحديث وأناقشه؛ حتى تعلموا أي ضرر يعود على قارئ تلك الكتب، إن لم يكن من أهل الحكم، وممن يميز الخبيث من الطيب، وحتى تعرفوا خطأ أولئك الذين يدرسون الأدب في بيوتهم، وبعد الفراغ من أعمالهم، ظنًّا منهم أنه علم كماليٌّ بسيط، يكفي في فهمه ودركه أن يكون للمرء مكتبة يرجع إليها، ويروض الفكر فيها، ثم يبيحون لأنفسهم بعد ذلك أن يؤلفوا في الأدب، وأن ينقدوا الكتاب والشعراء!
نعم، وحتى يعلم الناس جميعًا أن لا حياة للأدب، ولا بقاء للغة، إن لم ننظر في حياة غيرنا الأدبية، فنعرف الفرق بين أدبنا وأدبهم، وكيف نبهوا بعد خمولهم، ونشطوا بعد فتورهم، وما هي السبل التي أوصلتهم إلى ما وصلوا إليه، حتى نصل نحن كذلك، فإنا لا نريد أن نفخر بأجدادنا ونحن دونهم، ولا أن نعيش في ظلهم كما عاش آباؤنا في ظلهم، بل نريد أن تكون لنا ثروة أدبية، وتراث فكري، وأن نحيا في أنفسنا، وبأنفسنا، حياة طيبة خالدة، يتغنى بها الأبناء والأحفاد.
فهل رأيتم أغمض من هذا الكلام، وأقل وضوحًا منه؟ وهل يحسن أن يجيب المرء بمثل هذا إذا سئل عن شعر ابن أبي ربيعة؟
اللهم إنك تعلم أني لا أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وأني لقيت عنتًا في فهم هذا الحديث المبهم الغامض، وأني أخشى أن يتورط فيه من يشق عليه فهمه، ويصعب عليه دركه، فإن المؤلف نفسه قد شعر بغموضه، وأحس بإبهامه: فأطال في شرحه بالمثال.
ولنفرض أن هذا كلامٌ واضحٌ بيِّن، فمن ذا الذي يستطيع أن يحمِّل ذاكرته ستًّا وأربعين صفة لشاعر واحد؟ وما كانت تكون الطامة لو ألِفْنا هذا النحو من الفهم في تقدير كتابنا وشعرائنا وحكمائنا؟ أكانت تتسع اللغة لهذه الألقاب العديدة، والمصطلحات الكثيرة؟ أم كان يتسع وقتنا لدراسة الفنون على هذا النحو في اختلاف أنواعها، وتباين أشكالها؟ هيهات! ولشدَّ ما تورَّط الكاتب في الخطأ، وأمعن في الضلال!
•••
ولكن فلنترك تأنيبه جانبًا، ولنعد إلى النظر في تلك الكلمة، ولنفهمها فهمًا يخوِّل لنا الحكم عليها، حكمًا صارمًا لا يرد.
أليس معنى كلامه قبل كل شيء أن ابن أبي ربيعة انفرد بتلك الصفات كلها لم يشاركه فيها مشارك، ولم يزاحمه عليها مزاحم؟ وإلا فكيف بهر بها الناس، وفاق من أجلها النظراء؟ لا بد أن يكون غرضه ذلك وإلا كان خاطئًا في حكمه، واهمًا في فهمه. نعم، يجب ألا يريد من تلك الصفات إلا أنها من خواص ابن أبي ربيعة، فإن ذلك هو موضوع الحديث، وما سُلَّ من أجله القلم، وإذن فلننظر أصدق أم كان من الكاذبين؟
وإني ألاحظ أولًا أيها السادة: أن ذلكم المؤلف لم يدرس شعر ابن أبي ربيعة دراسة تمكِّنه من الحكم الصحيح، وتجعله قادرًا على وضع الكلم في مواضعه، وأن يكون الشاهدُ وَفقًا لما يزعمه، وطبقًا لما يدعيه؛ فقد رأيناه يمثل لدقة معناه وصواب مصدره بقوله:
وليس هذا بالكلام الرائع ذي المعنى الدقيق؛ وإنما هو شعر كان من أمره في التعقيد أن اختلف الناس في فهمه وتأويله؛ فقال إسحق بن إبراهيم: يعني أنه لم يؤهل فيعدوه تقادم العهد، وهو فهم سقيم، فإن المنزل الذي لم يؤهل حتى لا يخشى عليه تقادم العهد، ليس أهلًا للتحية، ولا لتذراف الدموع، وقال بعض المدنيين: يحيِّيه بأن يؤهل؛ أي يدعو له بذلك، وهو أنسب، وكان أولى لو مثل الكاتب لدقة المعنى وصواب المصدر بقوله:
ونحن بالرغم من نقد هذا الأكول الشَّره، نرى ابن أبي ربيعة أبصر بمواقع الكلم؛ فإنه هنا لا يتحدث عن فتوته وشبابه، حتى يصف هدايا النساء له، وإقبالهن عليه، وإنما يذكر ما نالت من حسنه الأيام، وهدَّت من قواه الليالي، ألا ترونه يقول بعد ذلك:
وهذا ولا شك أدق معنًى وأصوب مصدرًا ممَّا ذكره صاحبنا من قبل في بيان رأيه، وتأييد مذهبه. ثم مثل لصدقه الصفاء بقوله:
وعندي أن هذا الشعر يدلُّ على الكذب أكثر مما ينمُّ على الصدق، وما قيمة الصدق في حبه، والحب في قلبه، وهو يعرف غيرها ويصل سواها؟ ولو أنه نظر نظرةً عميقةً في شعر ابن أبي ربيعة لاهتدى إلى المثال الواضح، والشاهد البين في الدلالة على صدقه في الحب، وثباته في الغرام، وإليكم أحسن ما قال ابن أبي ربيعة في هذا المعنى، وقد وقف في بعض المناسك فأقبل النساء جماعاتٍ جماعاتٍ كأسراب الحمائم، وكنَّ بالحج عابثات، وفي النسك لاعبات:
فأخذ الرجال يرشقونهن بالنظرات، ويصلونهن بالأماني: فيطيعون الهوى ويعصون الله، ويجيبون داعيَ الحسن ويعقُّون داعي النسك، كل ذلك وابن أبي ربيعة عفيف الطرف والقلب، لا خشيةً من الله، أو إجلالًا للمنسك، ولكن طاعةً للهوى، ونزولًا عند حكم الصبابة، احتفاظًا بودِّ من يهوى، ورعيًا لعهد من يحب، وفي ذلك يقول:
ومثَّل لحسن عزائه بقوله:
وليس في هذا الشعر شيء من حسن العزاء، إنما هو تناسٍ لمن يهوى، وتغاضٍ عمَّن يحب، فكيف يُحسب من الحسنات أو يعدُّ من المبتدعات؟ ولعل خيرًا منه في معناه، وأدلَّ منه على الصبابة، قول شبيب بن البرصاء:
وألاحظ أيضًا أيها السادة أنه كرر بعض الصفات، فإنه قال: إن أعتذر أبرا، وأنشد في ذلك قوله:
ثم قال: وطلاوة الاعتذار، وأنشد فيها قوله:
ولا فرق بين هذين الشعرين إلا أنه في أولهما يحدث عن نفسه، وفي ثانيهما عن حبيبته.
وكذلك ألاحظ أن قوله: «وقلة الانتقال، وإثبات الحجة، إن قدح أورى، وإن اعتذر أبرا، وإن تشكَّى أشجى.» كل هذه الصفات تؤدي إلى غرض واحد: هو استيفاء الموضوع، وإقناع المخاطب؛ فإنك تنظر إلى ما أنشده في قلة الانتقال، فلا تجد غير ما أنشده في إثبات الحجة: فكلاهما في محاورة اللائم ومراجعة العاذل.
على أن إسباغَ الكلام، وتتميم الموضوع، يعدَّان من الميزات الأولية في الشعر العربي، فقد يتكلم الشاعر عن عدة أشياء في قصيدة واحدة، وهو مع ذلك يوفي كلَّ موضوع حقَّه، ويعطي كلَّ وصف قسطَه. وهذا سويد بن أبي كاهل اليشكري، جعل قصيدته العينية صحيفة لتاريخه، وشرحًا لأغراضه، حتى ليحسب القارئ أنْ ليس في استطاعة شاعر غيره، أن يبسط القول في مسألة واحدة بسطه فيها، ولا أن يبلغ غرضه من شيءٍ ما بلغ منه، فلو أن شاعرًا شاء أن يصف عدوًّا حَسَن الظاهر سيئ الباطن، لما زاد على قوله:
وهذا من النعت الشامل، والوصف السابغ، وهو جزءٌ من قصيدة كثرت أغراضها، وتشعَّبت فنونها، ولو كان بي أيها السادة أن أشرح لكم طريقة العرب في الوصف وسبيلهم في البيان، لكان لي مضطرب واسع، وميدان فسيح، ولكني أريد الآن أن أفهمكم فقط أن ابن أبي ربيعة ليس أول شاعر بسط القول، وهلهل الشعر، فليست أبياته التي يقول فيها:
ليست هذه الأبيات — وهي التي أنشدها ذلكم المؤلف في إثبات الحجة — بشيء من جانب ما قالته جليلة بنت مُرَّة، وقد اعتدى أخوها جساس على زوجها كليب فقتله، فمنعتها أخت كليب من الدخول في مأتمه. فأخذت تبين لها بِشَائق القول، وساحر البيان، مصيبتَها في زوجها، وهمَّها على أخيها، وأنها أولى منها بالحزن، وأجدر بالشجي، وذلك قولها:
وذلك نفسه هو القصد للحاجة الذي جعلوه من مبتدعات ابن أبي ربيعة، ممثلين بقوله:
وألاحظ أيضًا أيها السادة أن أكثر تلك الصفات من الأمور العامة التي لا تحدِّد معنًى ولا ترسم طريقة، فما الذي أراده بسهولة الشعر، وشدة الأسر؟ وما الذي قصده من حسن الوصف؟ وما الذي عناه بفتح الغزل؟ ولقد تأمَّلت الأمثلة التي ذكرها لتلك الصفات، فإذا هي أكثر منها غموضًا؛ فقد مثَّل لحسن الوصف بقوله:
فما وجه الحسن هنا؟ إن كان في إحراز الصفات المختلفة للموصوفات المختلفة، فليس بالشيء الجديد، فلقد قال امرؤ القيس في وصف حصانه:
وإن كان لروعته وبهائه، فما هو أيضًا بالمبتدع، وخير منه قول الشنفرَى:
ومثَّل لفتح الغزل بقوله:
وهو معنى مشهور، لا يصح أن يجعل دليلًا على نبوغ شاعر، على أنه ينسب للأحوص، وكذلك رأينا فيما ذكره من تسهيله وتقويله، واختصاره الخبر، ودقة معناه وصواب مصدره، إلى غير ذلك من الأوصاف العامة والنعوت التي لم تُحدَّد، فلم يبق إلا أن ننظر في الصفات التي يظن أنه ابتدع ما أفصحت عنه، وابتكر ما دلَّت عليه.
•••
وإني قبل ذلك ألفت نظركم إلى أن تلك الصفات يرجع بعضها إلى المعنى، وبعضها إلى اللفظ، وشيء منها إلى الأسلوب. وأريد بالمعنى هنا الفكرة الأساسية، التي يعدُّ الشاعر مبدعًا لها إذا سبق بها، كما يقولون: أول من طرد الخيال طرفة بن العبد في قوله:
وأريد باللفظ الكلمة المستعملة أول مرة في التعبير عن معنًى معروف، كما يقولون: أول من قيَّد الأوابد امرؤ القيس في قوله:
يريدون أنه أول من عبَّر عن السرعة بهذا التعبير. فأما الأسلوب — وهو الطريقة المثلى في الأداء — فإني لا أريد مناقشة المؤلف فيما يتعلق به، فقد كان للعرب قبل ابن أبي ربيعة بأجيالٍ أسلوب سامٍ بديع، ما زال الناس يقتفون فيه أثرهم، ويترسَّمون خُطاهم، على أن أكثر ما يتعلق بذلك من تلك الصفات منتقد مزيَّف، وقد أشرنا إلى شيء منه في الملاحظات السالفة، فليتأمله الراغب في الفهم، والجانح للبيان. فمن الصفات المعنوية عفة المقال، التي مثَّل لها بقوله:
وكان ذلك من خير ما يوصف به الشعر في الحب، وتنعت به أحاديث الصبابة؛ لولا أننا لا نعده حسنة للشاعر ولا منقبة للمحب، ما لم يكن من خواصِّه، ومما لا يعدل عنه، فكيف وابن أبي ربيعة متهتك في شعره، متطرف في نسيبه؟
على أن هذا الشعر وإن دلَّ على عفَّة المحب، فإنه لا يدل على إغراب المحبوب في الصيانة، وإمعانه في التمنع، وخيرٌ منه قول الشنفرَى في ظبية تسكن إلى أمها، وتنفر من محبها:
وما زال العرب يفتخرون بالعفة، ويتمدحون بالصيانة، فكيف يكون ابن أبي ربيعة مبتدعًا للعفة في المقال، وقد عرفت من قبله في الفعال؟ ومما ابتدعه أيضًا في زعمهم عطف المساءة على العذال في قوله:
وهو خطأٌ في الفهم، فإن هذا معنى أوجدته حادثة خاصة، وليس كل عاذل بقواد، حتى يكون المعنى شاملًا لكل لائم وعاذرًا لكل ملوم، وقد وُجد في كتاب الله من قبل، فلاسبيل لعدِّه من المبتكرات، ولا لجعل صاحبه من المبدعين.
•••
ثم قال: ومن إقدامه عن خبرة ولم يعتذر بغرة قوله:
على أن وصل الغانيات، والحظوة لديهن، قد لا يحتاج إلى قسط أوفر من الدهاء، ونصيب أكبر من السياسة، حتى يفخر الشاعر بالفوز فيه والظفر به، إنما يكبر المرء في عين النساء بفحولته، وبشبابه النضير، وغصنه الرطيب، وما منحته الطبيعة من ديباجة مشرقة ومحيا وسيم، فأما اللوام والعذال والوشاة، فهم أهون الناس عليه، وأصغرهم لديه، إن نال من حِبِّه الكرامة، وحل في قلبه الشفيق.
ولهل البهاء زهير قلده في هذا المعنى: إذ جعل القواد المخنثين أشباهًا لسفراء الدول حين يقول:
إذ كانوا لا يغفلون عن حراسة الخير، ولا يَفتُرون في مدافعة الشر.
ثم قال: ومن تحذيره قوله:
ولست أرى في هذا الشعر ما ينبئ عن ابتداع، أو يدل على اختراع، فإن تحذير الرسول من الأمور الفطرية التي تخطر ببال أحدث الناس عهدًا بالحب، وأقلهم علمًا بما يجني الوشاة.
على أن ذلك قد يكون من عيوب تلك القوادَّة التي كان ينبغي أن لا تحتاج إلى تحذير، فما يصح أن تكون جارية ابن أبي ربيعة غرة بلهاء، يدرك الناس ما تسعى له، فيعرفون من تمشي إليه، أو تخطئ فهم ما أرسلت به، فتخفق فيما سعت له.
فأين كانت — لا عفا الله عنها — تلك العجوز الشمطاء، والداهية الشعواء، التي كان يرسلها ابن أبي ربيعة إلى الظباء النوافر، والحسان الغرائر، فتسمعهنَّ من حلو الحديث ومُرِّه، وصعب الكلام وسهله، ما يجعلهن إلى الفسق أميل، ومن الفحش أقرب، فيصبحن خليعات فاجرات، بعد أن كنَّ عفيفات طاهرات؟!
أين كانت — لا كانت — تلك التي يقول فيها:
تلك التي ودَّ الناس لو أتاحت لهم الأقدار خليفةً في عقلها، أو أميرًا في رأيها، والتي طلب الوليد من حماد أن يسعفه بمثلها، ويدركه بشبهها، حتى تعطف سلمى عليه، وتردها إليه.
ذلك ما أجاد ابن أبي ربيعة في وصف الرسل، فأما «التحذير» الذي عناه المؤلف، فهو ضرب من الخطأ، أو نوع من الفضول.
•••
ثم قال: ومن قناعته بالرجاء من الوفاء قوله:
وقد علمت مما أسلفناه أن ابن أبي ربيعة لم يكن ممن يرضى في حبه باليسير من الوصل، والقليل من القرب، حتى تعدَّ من ميزاته القناعة، ومن خصائصه العفاف. وأين هذا البيت في حسنه من قول جميل:
ولا تحسبوا أيها السادة أن هناك فرقًا بين الشعرين في المعنى حتى تستبعدوا المقارنة، فإن المؤلف — فيما أظن — لم يشأ إلا التنويه بقناعة الشاعر، والتغني بعفافه، بدليل قوله بعد ذلك: هذا أحسن من قول كثيِّر:
وقد شاء أن يخطئ في الآخرة والأولى؛ فإن ابن أبي ربيعة يتكلم عن محبوبه، وكثيِّر يتكلم عن خليله، وقد يرضى المرء بظلم حبيبه ولا يرضى بجور صديقه، فقد يصدف الحبيب دلالًا، ويعرض الصديق ملالًا، والصبُّ عن حِبِّه صفُوح، وربما نُوقش الصديق.
فأمَّا ما أسدل ابن أبي ربيعة من الحلل الجديدة الفاخرة، على المعاني القديمة الباهرة، وما تندَّر به من التراكيب الطريفة المخترعة، والتعابير الحديثة المبتدَعة، فإنا نرحم الأدب من أن يُعجب بها كاتب فيزيِّن بها نثره، أو يُخدع بها شاعر فيجمِّل بها شعره، إذ كانت في جملتها من الاستعارات الفاسدة، والمجازات المردودة، مما ينبو عنه الطبع، ويمجُّه الذوق السليم، فما حسن إنكاح النوم في قوله:
وعلى أي وجه تجري هذه الاستعارة، ومن أي سبيل يجوز هذا المجاز؟ إنْ هذا إلَّا اختلاق.
ولست أدري لِمَ لَمْ يفتن الكاتب أيضًا بما أبدع ابن أبي ربيعة من تشبيه الحسناء وهي تتثنَّى، بالحية وهي تتلوى؟! فهو أيضًا تعبير مخترع، وتشبيه مبتدع، لا يقل عن إنكاح النوم في السماجة، ولا ينقص في الفضول؟ وإنهم ليعجبون أيضًا بقوله:
وذلك أنهم يزعمون أنه أول من ضرب الحديث ظهرًا لبطن، من غير أن يبينوا ما يُراد بذلك البِدْع الجديد!
ويستجيدون أيضًا قوله:
وهو من الخطأ في التعبير، فإن الحب حين تبدو علائمه من الأرق والسهاد، والنحول والذبول، لا يقال عنه: بطن وظهر، وإنما يقال: ظهر منه ما كان خفيًّا، وبدا ما كان مستورًا، وقد يستبعدون أن يكون الأسى الظاهر، تمثالًا للجوى الباطن، كأن ما يبدو بالجسم من شحوب وبالوجه من لغوب، إنما هو شَرَرٌ تطاير من لهيب القلب، وسعير الفؤاد. وإن تعجب فعجب قوله:
كأن لم يقتل الحب من أحد، ولم يُصرع به إنسان!
•••
وإني أيها السادة — على ما أغربت في نقد ذلكم المؤلف — أرى من الإنصاف أن أعزز رأيه في كلمة اختارها في طلاوة الاعتذار، وأخرى في تحيير ماء الشباب، وثالثة في صدق الصفاء. فأما الأولى فهي قوله:
والحق أقول: إن إعجابي بهذه الأبيات، ليس لما فيها من طلاوة الاعتذار — كما ذكر ذلك المؤلف — بل لما فيها من الجرأة في الخروج على الوشاة، ومن ذا الذي يقرأ قوله:
ثم لا يعطي العدو أذنًا غير واعية، وفؤادًا غير أوَّاب؟ أم من ذا الذي يسمع قوله:
ثم لا يطير إلى حبيبه؛ لينعم بجماله، ويظفر بوصاله؟ وأما الكلمة الثانية فهي قوله:
ووجه الحسن في تحيير ماء الشباب، أنك تنظر إلى الخدود المورَّدة فتراها كالشفق تتنقل من تحته الشمس، أو كالمشكاة يتموَّج في قلبها المصباح.
وجملة القول: أن ما نسب إلى ابن أبي ربيعة من المعاني المبتكرة والألفاظ المبتدعة، على ما فيه من وهَنَ، وما به من دَخَل، لا يفصح عن منهج في الشعر غير مألوف، أو سبيل غير معروف. فما طريقه الجديد، أو منهجه الحديث؟