المحاضرة الثالثة
أيها السادة: إن الشعر أثرٌ من آثار النفس، ولونٌ من ألوان الفؤاد، وكما تختلف النفوس في نزعاتها، والقلوب في خطراتها، يختلف الشعر في أغراضه، ويتنوع في مناحيه.
نعم تتنوع مناحي الشعر، وتتعدد مذاهبه، بيد أنه لا يكفي أن يقال: إن شعر اليأس غير شعر الرجاء، وشعر الحزن غير شعر الفرح، فإن ذلك وإن فرق بين عاطفة وعاطفة، وحالة وأخرى، فإنه لا يرضي الأديب الفيلسوف، الذي يعرف لعاطفة الحب ألوانًا مختلفة، ولثائرة الحزن أشكالًا متباينة، فيرى الحزن على الحبيب الراحل، غير الحزن على الحبيب المفقود، ويرى الشعر في بكاء الأبناء، غير الشعر في رثاء الآباء، حتى ليؤمن بالفرق بين الشاعرين يدعوان إلى نِحلة واحدة، بلهجة واحدة، إذ كانت خطوات السائرين في سبيل واحد إلى غرض واحد تختلف قوةً وضعفًا، ونشاطًا وفتورًا، باختلاف فهمهم للغاية التي يقصدونها، والغرض الذي يرمون إليه.
•••
إذن، فمن ابن أبي ربيعة من بين المحبين؟ وما شعره من بين أنواع النسيب؟
ابن أبي ربيعة! أليس هو ذلك الرجل الذي ألحظه في أعطاف الماضي، وأنظره في ثنايا الزمن، فأرى فيه التيه والدَّل، والفخر والأُبَّهة؟ أليس هو الذي يبدو على قدم العهد وكأنه الزهرة الناضرة، أو الابتسامة الحائرة؟ ما لي أراه هكذا مفتونًا بشبابه، مغرورًا بجماله؟ وما بال النساء يُشرقن من حوله، ويطلعن عليه، فما يملكن قلبه، ولا يأسرن فؤاده؟
بلى إنه رجل خليع، وفاتن المنظر أخاذ؛ فلا بد أن يكون شعره كذلك فاتنًا أخاذًا. وضاحك الثغر بسَّام؛ فيجب أن يكون شعره كذلك ضاحكًا بسَّامًا، فإنما الشعر صورة النفس، وتمثال الفؤاد.
ألا فليخل شعره من التوجُّع، وليسلم نسيبه من الجزَع، وليترك الهم لقوم سواه، فما كان بالمحزون ولا المهموم!
علام يصف الليل فيشكو كواكبه البطيئة، ونجومه المشكولة، وفجره المفقود؟ وما كان الرجل في التفاف النساء حوله، وإقبالهنَّ عليه، بالذي يضجُّ منه السرير لبعد الأنيس، أو تسأم منه الحجرات لفقد السمير؛ فلقد كانت تعِدُه المرأة بالزيارة في جنح الليل، فلا تكاد تصل إلى منزله، تحتى تجد غيرها قد سبقتها إليه، فتعود آسفة حزينة.
علام يشكو البينَ، وما روَّعه نذيرٌ بالفراق إلا بشره بشير بالتلاق؟ أم كيف يُبكيه الوداعُ، وهو الذي ما شيَّع حبيبًا، إلَّا استقبل حبيبًا، ولا غابت عنه شمس، إلَّا أشرقت عليه شمس؟
ألا فليذكر الليل الطويل جَميلٌ، وليحزن من البين المشتِّ كُثَيِّرٌ، ثم ليتركوا ابن أبي ربيعة بين الشموس السواطع، والبدور الطوالع، وإنه من بينهم لسعيد.
لم يكن ابن أبي ربيعة ممن إذا غاب عنه حبيب، أخذ في الحنين إليه والبكاء عليه، تلك سبيل الشعراء المفجَّعين الذين كانت قلوبهم أعوانًا للدهر عليهم، وكانت نفوسهم أخصامًا لهم، أولئك هم المعوزون في عالم المحبة، والمحرومون في دولة الصبابة، أولئك الذين يرون الجمال ظلًّا ظليلًا، ثم لا يستطيعون أن يتفيئوا ما له من وارف الظلال، أولئك الذين يحسدون الغلائل على الأعطاف، والعقود في النحور. وكيف يكون ابن أبي ربيعة مثلهم مسكينًا في شعره، وما كان مسكينًا في حبه؟ أم كيف يصف البكاء والمدامع، وما ألِمَتْ نفسه، ولا دمعت عينه؟ بعدًا للذلة حتى في الحب! وتبًّا للمسكنة حتى في الغرام!
ولكن عذرناكم جماعة المؤلفين الذين يوجبون الذل في النسيب؛ عذرناكم لأن المحبين جميعًا أذلاء؛ ولأن أمثال ابن أبي ربيعة في الحب قليل، عذرناكم لأنا لا نجد مفرًّا من هذه الذلة، ولا محيصًا عن هذه المسكنة؛ ولأن الله في رحمته لم يشأ أن يجعلها ذلة خالصة، بل شابها بنوع من الحرية، وقسط من الاختيار، يتمثل في إقبالنا على الحسن، إقبالَ الساري على القمر، والصادي على النهَر.
نعم عذرنا المؤلفين في تلك القيود التي وضعوها في النسيب؛ لأنهم ظنوا أن الناس جميعًا يعرفون منه ما يعرفون، ويفهمونه كما يفهمون. ولكن، فلنرحم أنفسنا من اتباعهم والسير في آثارهم، ولنجر على سنن الكون وطبائع الحياة، فيما نصدر من الأحكام، وما نبدي من الآراء.
ألسنا نخطِّئ من يزعم أن الورد في عام من الأعوام، ضعفت شجراته، وقلت زهراته؛ لأن آفةً ألمَّت بحديقة من حدائقه، وطافت بجنة من جناته؟ بلى إنا نخطئه في زعمه؛ لأن ذلك قد يلم بالشجرتين في مغرس واحد، فتنجو إحداهما وتعطب الأخرى، فكيف نقبل إذن أن نحكم على الشعر قبل أن يوجد الشعراء، وعلى التشبيب قبل أن يخلق المشبِّبون؟ ألا إن الحكم الأدبيَّ لا يغني فيه غير الاستقراء، وهيهات أن ينفع الاستقراء حيث يكثر الشذوذ، وما دام الأدب من آثار النفوس، وما دامت النفوس قلَّما تتشاكل، فلن يصح إلحاق الأواخر بالأوائل، ولا الحكم على الأحفاد باتباع الأجداد.
ولقد كان يصعب التمييز بين شعراء العرب لو اتبعوا نقادهم فيما يأمرون به من توحيد المعاني، وتحدِّي القدماء، ولكن يظهر أن النفوس العربية الوثابة، التي ألفت الحرية، واعتادت الخروج حتى على الملوك والأمراء، لم تشأ أن تخضع في جوانح الشعراء لتلك النظم المشوشة التي وضعها العلماء، وكذلك نهض الأدب مع ارتباك النقد، فكان الشعراء في واد، والنقاد في واد.
إذن فلنترك تلك السبل، ولنحكم على الشاعر بما يصح أن يكون من ناحية ما اختص به، من لون نفسه، ووجهة خاطره، غير ناظرين إلى تلك الأنواع العامة، التي اتبعها صاحب «الأغاني» وغيره، تلك التي لا تميز شاعرًا عن شاعر، ولا كاتبًا عن كاتب، ولنجرب ذلك في الحكم على ابن أبي ربيعة المخزومي، ثم لننزل عند حكم الطبع، ولنتبع رائد التفكير.
•••
علمتم أيها السادة أن ابن أبي ربيعة كان شابًّا محسود الشباب، وأنه كان الأمل الحلو الذي تتغنى به كل حسناء أوت إلى فراشها، أو هبَّت من منامها، والأمنية العذبة التي تترقرق في قلوب العذارى صاعدة هابطة بين اليأس والأمل، والرجاء والقنوط، والحديث المعسول تُفضي به البنت إلى أمها، والأخت إلى أختها، بل كان زهرة النرجس، تلك الزهرة المقدسة، التي كان يرى العرب أن لا بد لمن يرغب في الحياة أن يشمها مرَّةً كلَّ شهر، أو مرَّة كلَّ سنة، فإن لم يستطع ففي العمر مرة. وكان ابن أبي ربيعة يعلم ذلك، ويعلم أنه حديث الفتيان في الأندية السامرة، والفتيات في المغاني الزاهرة، نعم كان يعلم من ذلك ما أورثه العزة في نفسه، والتيه في حبه، فرغب عن قرب الملوك، وترك زيارة الأمراء؛ علمًا منه بأن له ملكًا أعظم من ملكهم، وعزًّا أروع من عزهم، إذ كان أمير الحسن في عصره، ومليك الحب في دهره، فطالما قُدِّمت إليه الحلل الفاخرة، والطيب النادر العَرف؛ حبًّا في شعره الذي تنبُه به الغواني، وتُنفَق به الأوانس، إذ كان من دلائل الحسن الذي يعتز به النساء، ويتيه به الكواعب أن يسير بيت لابن أبي ربيعة في وصف امرأة والتشبيب بفتاة.
علم ذلك ابن أبي ربيعة، وعلم أنه البدر الطالع في سماء الحسن، والزهرة الشائقة في جنة المحبة، فرأى من الحكمة أن يعمل على ما يزيد حبه رسوخًا، وشعره نباهة، فاحتال لذلك بحيل ثلاث.
•••
الحيلة الأولى: إبداعه في وصف النساء؛ ذلك الوصف الذي ما سمعته امرأة إلا ودَّت أن تكون الغرض منه، والسبب فيه، والذي ما ذكر فيه اسم امرأة إلا كانت أمل الآمل وأمنية المتمنِّي، والذي طالما تسابق النساء إليه، وتباغضن من جرائه، فكم كان يحسد المرأةَ جاراتُها، ويغبطها أترابُها، إذا نوَّه بها ابن أبي ربيعة في شعره، أو خصها بالنسيب.
ويرى الدكتور ضيف أن ابن أبي ربيعة لم يُعرف إلا بالقَصَص، فلم يكن من الوصَّافين للنساء، والناعتين للمحاسن. أما أنا فقد رأيت من حوادث النساء ما يدل على أنه كان لوصفه منزلة عندهن، وحديث بينهن، فقد ذكروا أن عائشة بنت طلحة سهرت ليلةً لِهمِّ ألمَّ بها، فقالت: إن ابن أبي ربيعة لجاهل بليلتي هذه حيث يقول:
ولقد أشار إلى ذلك بقوله:
ورأيت من نظرائه من نوَّه بذلك؛ فقد قال نصيب: ابن أبي ربيعة أوصفنا لربات الحجال. إلا أنه ينبغي أن نلاحظ أنه لم يكن يصف النساء إلا بما يزيدهنَّ غرورًا بشبابهن، وفتونًا بجمالهن، وبما يشتهين أن يُعرفن به من ثقل الأرداف، ورقة الأطراف، وبياض الترائب وسواد الذوائب، إلى غير ذلك مما لو خلا النساء إلى شياطينهن، وسكنَّ إلى أمثالهن، ما خضن في غيره، ولا تحدثن في سواه. إن المرأة تودُّ كثيرًا أن تكون كما قال:
كما يود الرجل — لو تغنى الودادة — أن يتناوم في أحضان امرأة فضفاضة الصدر، رجراجة الردف:
نعم، وتود المرأة أن توصف بأنها ضعيفة المشي، قصيرة الخطو، لا لضعفٍ في جسمها، بل لثقل في ردفها، يحول بينها وبين زيارة جاراتها، كما قال ابن أبي ربيعة:
حتى لتمنعها أردافها من أداء الفريضة، كما قال:
وليت شعري ما هي صلاة تلك الفينانة المِكسال!
وإني لأرحم التي يقول فيها:
ثم أكاد … إذا قرأت قوله:
عفا الله عنك يا ابن أبي ربيعة، فقد جعلتنا نفرط في القول، ونسرف في الحديث، حتى لنخشى على أنفسنا أن نتمثَّل بقولك:
وإنك لكما قال عبد الملك: أطول قريش صبوة، وأبطؤها توبة!
وأقول بعد ذلك أيها السادة: إن الرجل كان يختصر أحيانًا في الوصف، إلا أنه كان مع ذلك يصيب الصميم من المعنى المراد، فأي حسن فاته في قوله:
وأي غرض لم يصبه بقوله:
أمَا تلمحون جماعة المسلمين إذ ذاك، وهم أحزاب وشِيَع، يفضل بعضهم عليًّا، ويرفع آخرون عمر، حتى إذا ذكرت هذه الغانية، اتفقوا على حسنها، وأجمعوا على تفضيلها؟
فأما إذا عمد إلى الإطناب فإنه الواصف القدير، الذي يضع الكلم في مواضعه، ويقر المعنى في نصابه، فيصف المرأة بما تود أن توصف به، وبما يعلم أنه الشَّرَك ينصبه النساء ليصدن به الرجال، فيقول مثلًا:
وله في الأوصاف الظاهرة شعر كثير، يمتاز عن شعر أسلافه برقة الحاشية، وقرب المأخذ، وأنه يأتي إلى النساء من الناحية التي يرضينها، ويدخل إليهن من الباب الذي يهوينه، وأي امرأة لا يطربها قوله:
تلكم هي الحيلة الأولى؛ حيلة الوصف السابل، والنعت الشامل.
فأما الحيلة الثانية: فهي تلطُّفه في مخاطبة الغواني، وتودُّده إليهن بحسن الحديث، والنساء ضعيفات القلوب، رقيقات الأكباد، يسكنَّ إلى الحديث الممتع، ويصغين إلى الحوار اللطيف. وآكد ما يكون ذلك إذا شُعشِع الحديث بشيء من الصبابة، أو مزج بقسط من الاستعطاف. وكذلك كانت طريقته في مخاطبة الحسان، ومحاورة الغواني، من ذلك قوله:
ومثل هذا الشعر جديرٌ بأن يفتن النساء، ويخلب الحسان، وابن أبي ربيعة يجيد هذا النوع من السحر، ويحسن هذا الضرب من الحوار، وأي استدراك أبدع من قوله:
ويدخل في هذا الباب ما كان يرسله أحيانًا إلى الثريا من مثل قوله:
وقد خُدعت الثريا بهذه الأبيات فبكت عند قراءتها، وأنشدت:
وإنه لعجيب أن يملأ الدنيا فخرًا بإقبال النساء عليه، وتوددهن إليه، ثم يقول بعد ذلك:
نعم، وعجيب أن تقرأ له:
ثم تراه يتشبه بالعشاق المُبعَدين في قوله:
ولكن لا عجب، فإنما يلعب بقلوب النساء، فإن أجدى التيه والصلف، وإلا فهو جدير بأن يتكلَّف الحزن، ويتصنع الخشوع.
•••
أما الحيلة الثالثة — وهي أدهى الحيل، وأشدهن خطرًا على عفة النساء — فهي وصفه لأوقات التلاقي، وساعات التداني، فقد كان يُغرِب في ذلك إغرابًا لم يُسبق به، ويتهتك تهتكًا لم يعرفه الناس من قبل، اللهم إلا شذرات قلائل في شعر امرئ القيس وأمثاله من الخلعاء.
•••
أقول ذلك أيها السادة؛ لأني أرى الصفة الغالبة في شعره إنما هي ذلك القَصص الجميل، والحديث العذب المعسول، الذي يصف به لياليه البيض الحسان، مع أحبابه البيض الحسان؛ ولأني رأيت الناس في عصره، قد مُلئوا دهشةً واستغرابًا، من تلك الأحاديث النادرة الطريفة، وهاتيك القَصص الممتعة الشائقة، فكان من ذلك أن لقيه رجل من الطواف فقبض على يده، وقال: أكل ما قلته في شعرك فعلته؟ فقال: إليك عني! فقال: أسألك بالله، فقال: نعم، وأستغفر الله! بل وكان من ذلك أن فُتن الناس بمذهبه في القصص، وأسلوبه في الحديث، فقال الزبير بن بكار: لقد أدركت مشيخةً من قريش لا يزنون بعمر بن أبي ربيعة شاعرًا من أهل دهره في النسيب، ويستحسنون منه ما كانوا يستقبحونه من غيره، من مدح نفسه، والتحلِّي بمودته.
نعم فتن الناس بمذهبه حتى الشعراء منهم، فلقد حدثوا أن الفرزدق قدم المدينة وبها رجلان وُصفا له، يقال لأحدهما: صُرَيم، وللآخر: ابن أسماء، فقصدهما وكان عندهما قيان، ثم قال لهما بعد أن سلم عليهما: من أنتما؟ فقال أحدهما: أنا فرعون، وقال الآخر: أنا هامان، فقال: فأين منزلكما في النار حتى أقصدكما؟ فقالا: نحن جيران الفرزدق الشاعر! فضحك ونزل، فسلم عليهما وسلما عليه وتعاشروا مدَّةً، ثم سألهما أن يجمعا بينه وبين عمر بن أبي ربيعة ففعلا، فلما التقى الشاعران تحادثا، وتناشدا إلى أن أنشد عمر قصيدته التي يقول فيها:
فلما بلغ قوله:
صاح الفرزدق قائلًا: أنت والله يا أبا الخطاب أغزل الناس! لا يحسن الشعراء والله أن يقولوا مثل هذا الشعر، ولا أن يَرْقوا مثل هذه الرقية.
وكذلك فتن جميل بشعر ابن أبي ربيعة، فقد تناشدا الشعر، فأنشد جميل قصيدته التي يقول فيها:
ثم أنشد ابن أبي ربيعة قوله من قصيدة:
ويقتصر أكثر الرواة على البيت الأخير شاهدًا على إعجاب جميل به حين قال: هيهات يا أبا الخطاب! لا أقول مثل هذا سجيس الليالي، والله ما خاطب النساءَ مخاطبتك أحد! وأرى أن هذا ليس بيت القصيد، ولا هذا المعنى بالذي يستفز شاعرًا كجميل، بل هو معنًى عاديٌّ سبقه الشعراء به، فقد قال بعض الجاهلين:
وأرى أن الذي لفت نظر جميل، وجعله يحسد ابن أبي ربيعة على شعره، إنما هو قصصه الشائق، وحديثه العذب، وذلك قوله:
ثم يقول عن أترابها:
وهنا قال جميل: هيهات يا أبا الخطاب! لا أقول والله مثل هذا سجيس الليالي، والله ما خاطب النساء مخاطبتك أحد.
•••
ذكرت ما تقدم أيها السادة؛ تمهيدًا للحكم على شعر ابن أبي ربيعة، وبيانًا لإبداعه الذي عُرف به، فإني رأيت الأدباء السالفين إنما ينسبون إليه هذه البدعة، ويسندون إليه هذا الجرم؛ وهو: تزيين الفسق وتلطيفه، وتسهيله لدى النفوس الأبية، وتقريبه إلى القلوب العَصيَّة، ولقد ذكر شعره مع شعر الحارث بن خالد في مجلس ابن أبي عتيق، ففضل بعض الحاضرين شعر الحارث، فقال ابن أبي عتيق: بعضَ قولك يا أخي! فإنه ما عُصِي الله — عز وجل — بشعر أكثر مما عصي بشعر ابن أبي ربيعة، يريد أنه أبصر بمواقع الأهواء، ومواطن التأثير.
وإذا كان المؤلفون في الأدب لم يشرحوا طريقة ابن أبي ربيعة في القَصص، وكان منهجه فيه جديرًا بالبيان والإيضاح؛ فقد أردت أن أبين وجه الفتنة فيه، وموضع الحسن منه، حتى يتبين لكم ما ذهبت إليه من أنه في شعره محتال، وأنه بالنسيب صائد، وحسبكم هذا المثال، قال:
هنا يتمثل لكم وهو خافت الصوت، خافق القلب، لا يدري — وهو بين اليأس والأمل، والرجاء والقنوط — أيلتمس الحيلة إلى لقائها، ويبتغي الوسيلة إلى وصالها، أم ينصرف وهو شجيٌّ، ويرتحل وهو حزين، ثم بيَّن ما تمَّ له بقوله:
فما كان جوابه؟
فكان ماذا؟
فما الذي صنع؟
وكيف وصلت؟
فما الذي كان؟
ثم ماذا؟
ثم ماذا يا خبيث؟
قاتلك الله! ثم ماذا؟
فأي فتاة تسمع هذا القصص، ثم لا تبحث عن واضعه، وهو كما ترون يَردُّ شِرة الشباب جَذَعة؟ ومن عساها تسمع قوله:
ثم لا تنبهر منها الأنفاس، وتنفك منها الأزرار؟!
هذه إحدى قصائده القَصصية، وعلى نمطها طبع أغلب شعره، وهي كما ترون من موجبات الفتنة، وموقظات الشهوات!
وكذلك كان الناس يفهمون في شخص ابن أبي ربيعة محرضًا على الفسق مزينًا للفجور، عاقًّا للفضيلة، بارًّا بالرذيلة، وكذلك كان شعره عفا الله عنه. وأيُّ امرأة لا تفتنها تلك الأحاديث الفاتنة، وهاتيك القصص الخالية؟ أليس هو الذي يقول:
ومهما يكن من شيء، فإن الرجل لم يشأ أن تُختم حياته بالمجون، فما كاد يتجاوز الأربعين من عمره حتى أقبل على نفسه يحاسبها، وعلى ربه يستغفرهت؛ فهجر الشعر على حبه، وألف النُّسك على بغضه، لولا تلك الذكرى الموجعة التي كانت تعاوده من حين إلى حين، وذلك الشوق الدخيل الذي كان يهيجه في الفَيْنة بعد الفينة، فقد كان يحنُّ إلى شبابه حنينًا موجعًا، ويتطلَّع إلى ماضيه تطلع اليائس المتلهف، فيمدُّ يديه عله يرجع الدهر، ويلفت الزمن، ولكن هيهات هيهات، فقد خانه الأمل، وخلاه الشباب، وأخذ الشيب في هدِّ تلك القوى، وهدم ذلك الصرح، وأخذ النساء يتراجعن ضاحكاتٍ منه، ساخرات به، وبدأ الدهر يبني دولة جديدة للحب، ويشيِّد حصنًا ثانيًا للغرام، فأنشأ فتيانًا غير الفتيان، وعذارى غير العذارى، وأصبح ابن أبي ربيعة غريبًا والمشيب غربة، وقصيًّا والشيب شِبه النوى، وعاد الناس يقولون: هذا هو ابن أبي ربيعة الذي كانت تعضُّه النساء وهو بالبيت يطوف، وهذه هي الثريا التي كانت تحسدها الأزهار في الرياض والنجوم في السماء، وهذه معالم ابن أبي ربيعة ومعاهد شبابه، قد عادت صُمًّا خوالِد ما يبين كلامها.
أقول أيها السادة: إن ابن أبي ربيعة أخذ يحنُّ إلى أيامه الخوالى، ولياليه السوالف، ويتشوَّق إلى الشباب الراحل، والنعيم الذاهب ويزيده كلَفًا وأسفًا أن يرى الشباب في صعود نحو المستقبل المشرق، ويرى نفسه في هبوطٍ إلى الماضي المظلم، فما لقي فتى جميلًا أو شابًّا وسيمًا إلا أرسل بصره إليه يتأمل شكله، ويجتلي حسنه، ثم يمد يده إلى شعره فيعبث به، وإلى ذؤابته فيرسلها، ثم ينتحب ويقول: وا شباباه! وا شباباه!
حتى لقد مرَّ به فتيان وهو بالحِجْر يصلي، فلم يكد يفرغ من صلاته حتى لحق بهما فعرفهما، ثم قال: يا ابنَيْ أخي! لقد كنت موكلًا بالجمال أتبعه، وإني رأيتكما فراقني حسنكما وجمالكما، فاستمتعا بشبابكما قبل أن تندما عليه!
نعم، أقلع ابن أبي ربيعة عن غيِّه، وأصبح يستقبح من الفتيان وهو شيخ ما لم يستقبحه من نفسه وهو فتى، فما طاف بالبيت إلا تأمَّل علَّه يجد فتًى يحدِّث فتاة فينهاه، أو امرأة تتبع رجلًا فيردعها! ولقد كان من أمره أن نظر إلى رجل يكلِّم امرأةً في الطواف، فعاب ذلك عليه وأنكره، فقال له: إنها ابنة عمي، فقال: ذلك أشنع! فقال: إني خطبتها إِلى عمِّي فأبى عليَّ إلا بصداق لا أطيقه، ثم شكا إليه من حبه لها وكلفه بها ما جعله يسير معه إلى عمه يسترضيه، فقال له: إنه مُمْلِق وليس له ما يصلح به أمره.
فقال له عمر: وكم الذي تريده منه؟ فقال له: أربعمائة دينار، فقال له: هي عليَّ فزوِّجْه، ففعل.
قالوا: وكان عمر حلف لا يقول بيتًا من الشعر إلا أعتق رقبةً فانصرف يومئذٍ وهو حزين، فجعلت جارية له تكلمه فلا يرد عليها جوابًا، فقالت له: إن لك لأمرًا، وتريد أن تقول شعرًا، فقال:
ثم دعا تسعةً من رقيقه فأعتقهم، لكل بيت واحد.
•••
فسلام عليه يوم قال الشعر! وسلام عليه يوم ودَّعه! وعفا الله عمَّن فُتن بشعره، فأجاب داعي الشباب!