أخبار الملاح
(١) تمهيد
أيها القارئ! قد رأيت كيف كان عمر بن أبي ربيعة يحب، وكيف كان يسلك مذاهب النسيب،
فانظر الآن كيف كان يتصيد النساء، وكيف كانت تعيش معشوقاته في ذلك الزمان.
وإني لأرى من الخير أن أبين لك قبل كل شيء، كيف فكَّرت في كتابة هذه الفصول؟ فقد أخشى
أن ترميني بالإسراف في التغنِّي بالحب، والتحدث عن الجمال، وإني بذلك لمتَّهمٌ
ظَنِين!
ألا فلتعلم أن الناس يكثرون في هذا العصر من التجنِّي على الآداب العربية، ويتهمونها
بالفقر، والعُقم، والجفاف، والعجز عن مواتاة الغرائز والشهوات والعقول، وساعدهم على
ترديد هذه النغمة المنكرة ما تقدِّمه الآداب الأجنبية كلَّ يوم من الأدلة والبراهين على
صلاحيتها لتغذية المشاعر والعواطف والأحاسيس.
وإن قليلًا من الإنصاف لكافٍ للاقتناع بأن أدلة الاتهام قوية، وأن الآداب العربية
تبدو ضعيفة ضئيلة بجانب ذلك الدويِّ الهائل الذي تدمغنا به الآداب الغربية في كل يوم،
فهذه كتب المختارات والمحفوظات والدرس التي يتناولها طلبة المدارس الابتدائية والثانوية
وبعض المدارس العالية تُعدُّ من الكتب الجافة المقفرة التي تخاطب على الأغلب ناحية
واحدة من نواحي الطبع والإدراك.
والطائفة المستنيرة من مفتشي اللغة العربية وأساتذتها تعلم ذلك حق العلم، ولكنها
تكتفي بالألم الصامت ترسله في خِفية واستحياء، كلما رأت انصراف الطلبة عن آداب لغتهم
وفنائهم في آداب الفرنسيين والإنجليز، وفي الحق إن المادة التي تُقدَّم لطلبة المدارس
في اللغة والأدب لا تُمتع القلب، ولا توقظ الحس، ولا تثير الوجدان، فهي في الأكثر طائفة
من العظات والأوصاف تتحدث عن معانٍ موضعية طوتها الأيام، وأتت على رسومها الليالي،
يدرسها جماعة يعيشون في ظلمات القرون الأولى غير شاعرين بما أبدع العقل في هذا الجيل،
إن لم يكونوا أَمْسَاخًا خلَّفها عصر ما قبل التاريخ.
ولقد ثارت في الصيف الماضي ضجة عن تقدم النثر وتخلف الشعر، وكان من رأي أستاذنا
الدكتور طه حسين أن النثر تقدَّم؛ لأنَّ الكتَّاب يحيون حياةً عقليَّةً، وأن الشعر
تأخَّر؛ لأن الشعراء كسالى مُتبلِّدون، وعندي أن النثر والشعر في التأخر سواء، ولا عبرة
بهذه الثروة التي يطالعنا بها الكتاب في كل صباح، فهي على وفرتها تكريرٌ وترديد لأفكار
الفرنسيين والإنجليز والألمان، وليس فيها شخصية ولا ذاتية تحدث القارئ عن حياة أولئك
الكتاب، وإن شُعراءنا لأدلُّ من كتابنا على أنفسهم، فإنهم حين غفلوا عن أشعار الأمم
الأجنبية فرغوا لعواطفهم، فصاغوها خالصة من المحاكاة والتقليد، بغضِّ النظر عن متابعتهم
لشعراء العرب في المرمى والأسلوب.
ولننتهز هذه الفرصة لنعلن أنه لا حياةَ للآداب العربية، ما دام كتابها وشعراؤها
وخطباؤها لا يرون المرأة في حرية وصراحة، ولا يتأثرون بجبروتها في ميدان الحياة.
وما دام شبابنا يسمعون عن المرأة كما يسمعون عن الغول والعنقاء، ولا يرونها حين
يرونها إلا قذرة دنسة في بيوت الرِّجس والبغاء، فهيهات أن تتفتَّح أذهانهم، أو تزهر
قرائحهم، أو تظهر على آثارهم الأدبية مَسحة التيقظ والتفكير، وتلك الرءوس التي تتولَّى
هداية الشرق في هذا العصر لا تدري — مع الأسف الشديد — أن الصلة وثيقة بين الأدب وبين
الحياة، إن لم يكن الأدب روح الحياة، وأنه لا أمل في أن نرى لكاتب قصة جيدة، ما دام
الكتاب بعيدين كل البعد عن المرأة التي تلوِّن الوجود بشتى الألوان، فتُحيِلهُ تارة
جحيمًا يرمي بالفَزَع والهول، ثم تعيده حين تشاء جنة وارفة الظلال، وكيف تكون لنا آداب
قوية تمثل فضائلنا ورذائلنا، وحلمنا وجهلنا، وطيشنا ورزانتنا، وعقلنا وجنوننا، ونحن
نحرص على الطيبة والاستقامة في غير فهم ولا تبصُّر، أسوةً بغُلْف القلوب من سماسرة
الأديان وأدعياء الأخلاق؟!
إنه لا حياة للآداب إلا إذا شغلتنا بأنفسنا، وحدثتنا عن مطامعنا، وأهوائنا، وعيوبنا،
ومظانِّ الخير فينا، وأرتنا كيف نُحب وكيف نبغض، ومتى نُقْدِم، ومتي نحجِم، وعلمتنا كيف
نجدُّ، وكيف نلهو، ومتى نقسو، ومتى نلين، أما الأدب الذي يصدر عن رجل مشعوذ معتوه، كلُّ
إحساس في رأيه إثم، وكل إدراكٍ عنده فسوق، فهو أدب ميت سخيف لا يقوى به عقل، ولا يسمو
به خيال.
وإني لأخشى إن استمر أساتذة الأدب على الاكتفاء بلون واحد يقدمونه إلى الطلبة في كل
يوم، أخشى إن استمروا على ذلك أن يصارحهم الطلبة بالقطيعة والفراق!
•••
وبعدُ فهل يسمح القارئ بأن نتجنب تلك الخطة العوجاء، ونقبل على الأدب نتذوَّق أطايبه،
ونعرف حلوه ومره، وحُزونَه وسُهوله، كما كان يفعل القدماء من رجال اللغة العربية، وكما
يفعل أهل الغرب في أدبهم الحديث؟
إذ سمح القارئ بذلك شرعنا في بيان تلك الناحية الطريفة من حياة عمر بن أبي ربيعة؛
وهي: تصيُّده للنساء، وأخبار من كان يعرف من المِلاح، ومعاذ الله أن نريد بهذا البحث
أن
تشيع الفاحشة، أو تحلو في أعين الناس مذاهب الفجور.
إنما نريد أن نُقبل عامدين على الجوانب المرِحة التي تزخر بها الآداب العربية، حتى
لا
يسهُل رمْيُها بالفقر والجفاف، كلَّما حلت هذه الفِرية لخصومها الجاهلين.
نريد أن يكون لنا في دراسة الشعراء العشاق نصيبٌ ضئيلٌ من الحرية التي ينعم بها
الكتاب الفرنسيون وهم يدرسون ميسيه، والكُتَّاب الإنجليز وهم يدرسون بيرون، والكُتَّاب
الألمان وهم يدرسون جوتَ.
وإنا لمكتفون في الحديث عن معشوقات عمر بن أبي ربيعة بما استباحه المؤلفون القدماء،
أمثال: صاحب «الأغاني»، وصاحب «الأمالي»، وصاحب «زهر الآداب»، ومن إليهم مِمَّن ترجموا
هذا الشاعر الغَزِل، وتحدثوا عمن كان يهوى من ربات الحِجال.
١
ولن يكون ذلك من اللهو الصِّرف، فهو على طرافته جِدٌّ في جِدٍّ، إذ يكشف لنا عن نفسية
ذلك الشاعر، ويُرينا الفِتن التي أرهفت إحساسه، وألهبتْ روحه، حتى أُغرم بالحسن، وحبس
شعره على الحسان.
ولئن كان من موجبات الحزن أن انصرف كُتاب العرب عن تدوين الحوادث اليومية كما يفعل
أصحاب المذكرات في الغرب، ولم يعد في الإمكان تصوير معشوقات عمر بن أبي ربيعة كما
صُوِّرت مثلًا خليلات ألفريد دي ميسيه، فإنا نحمد الله على أن وفق أبا الفرج الأصبهاني
إلى الإفاضة في أخبار تلك الحور العين، إفاضةً شائقةً ممتعةً، لا ينقصها غير الترتيب
والتبويب، إذ ذكرها في أغانيه مبددة مبعثرة في أثناء الحديث عن كبار المغنين وفحول
الشعراء.
•••
وقد يكون من الحزم أن نلفت نظر القارئ إلى أننا لا نضمن صحةَ كلِّ ما نُقلَ عن ابن
أبي ربيعة ومعشوقاته من مختلف الأخبار، فتلك شخصيات جذابة محبوبة، لا يبعد أن يكون
الرواة أضافوا إليها ما شاءت أهواء السامرين من طريف الأحاديث.
فلنقبل ما نقل إلينا في جملته، مكتفين بهذه الملاحظة التي لم يكن منها بُدٌّ، ولنترك
للقارئ الحرية في أن يناقش ما شاء من تلك الأقاصيص، ثم لنمض في الكلام عن أولئك الحسان،
راضين بما حكاه الواقع، أو حاكه الخيال!
(٢) أيام الطواف
لا يدهشك أيها القارئ أن نضع لعبث ابن أبي ربيعة هذا العنوان الغريب، فقد كان يتخذ
أيام الحج موسمًا للهو والمجون، وإنه ليقول:
أيها الرائح المجدُّ ابتكارا
قد قضى من تِهامة الأوطارا
من يكن قلبه صحيحًا سليمًا
ففؤادي بالخيف أمسى مُعارا
ليت ذا الدهرَ كان حتمًا علينا
كلَّ يومين حِجةً واعتمارا
٢
وقد أنشد ابنَ أبي عتيق هذا الشعر، فقال له: الله أرحم بعباده أن يجعل عليهم ما سألته
ليتمَّ لك فِسقكَ! وأنشده عبدَ الله بنَ عمر، فقال: يا ابن أخي! أما اتقيت الله حيث
تقول:
ليت ذا الدهرَ كان حتمًا علينا
كلَّ يومين حِجَّةً واعتمارا
فقال له عمر: بأبي أنت وأمي! إني وضعت ليتًا حيث لا تغني.
بيد أنه لا يصح لنا أن ننسى أنه لم يكن يفوز في كل مرة بما يبغي شيطانه من زيارة تلك
المناسك والتعرض لكرائم النساء، فقد رُوي أن امرأةً جميلةً قدمت مكة، فنظر إليها وهو
يطوف فوقعت في قلبه، فدنا منها فكلمها فلم تلتفت إليه، فلما كان في الليلة الثانية جعل
يطلبها حتى أصابها، فقالت له: إليك عني يا هذا، فإنك في حرم الله وفي أيام عظيمة
الحرمة! فألحَّ عليها يكلمها حتى خافت أن يشهِّرها،
فلما كانت الليلة الأخرى قالت لأخيها: اخرج معي فأرني المناسك فإني لست أعرفها، فأقبلت
وهو معها، فلما رآها عمر أراد أن يعرض لها، فنظر إلى أخيها معها فعدل عنها، فتمثَّلت
المرأة بقول النابغة:
تعدو الذئاب على من لا كلابَ لهُ
وتتقي صولة المستْأسدِ الحامي
وقد قال المنصور حين حُدِّث بهذا الخبر: وددت أنه لم تبق فتاة من قريش في خِدرها إلا
سمعت بهذا الحديث.
•••
وقد وقع له مثل هذا مع أبي الأسود الدؤلي إذ حجَّ ومعه امرأته، وكانت جميلة، فبينما
هي تطوف بالبيت إذ عرض لها، فأتت أبا الأسود فأخبرته، فأتاه أبو الأسود فعاتبه، فقال
له
عمر: ما فعلت شيئًا. فلما عادت إلى المسجد عاد فكلمها، فأخبرت أبا الأسود فأتاه في
المسجد وهو مع قوم جالسٌ، فقال له:
وإني ليُثنيني عن الجهل والخنا
وعن شتم أقوامٍ خلائقُ أربعُ
حياءٌ وإسلامٌ وبُقْيا وأنني
كريمٌ ومثلي قد يضر وينفع
٣
فشتان ما بيني وبينك إنني
على كل حال أستقيم وتظلعُ
٤
فقال له عمر: لست أعود يا عم لكلامها بعد هذا اليوم، ثم عاود فكلمها، فأتت أبا الأسود
فأخبرته، فجاء إليه فقال له:
أنت الفتى وابن الفتى وأخو الفتى
وسيدنا لولا خلائق أربعُ
نُكُولٌ عن الجُلَّى وقرب من الخنا
وبُخلٌ عن الجدوى وأنك تُبَّع
٥
ثم خرجت وخرج معها أبو الأسود مشتملًا على سيف، فلما رآهما عمر أعرض عنها، فتمثل أبو
الأسود:
تعدو الذئاب على من لا كلاب له
وتتقي صولة المستأسد الحامي
وإن له لحوادث أشنع من هاتين في الضَّياع، فقد رأى امرأة من العراق وهو يطوف فأعجبه
جمالها، فمشى معها حتى عرف موضعها، ثم أتاها فحادثها وناشدها وناشدته، وخطبها فقالت:
إن
هذا لا يصلح ها هنا، ولكن إن جئتني إلى بلدي وخطبتني إلى أهلي تزوجتك، فلما ارتحلوا جاء
إلى صديق له من بني سهم، وقال له: إن لي إليك حاجةً أريد أن تساعدني عليها، فقال له:
نعم، فأخذ بيده ولم يذكر له ما هي، ثم أتى منزله فركب نجيبًا له وأركبه نجيبًا آخر،
وأخذ معه ما يصلحه، وسارا لا يشكُّ السهميُّ في أنه يريد سفر يوم أو يومين، فما زال
يسرع حتى لحق بالرفقة، ثم سار بسيرهم يحادث المرأة طول طريقه ويسايرها، وينزل عندها إذا
نزلت حتى ورد العراق، فأقام أيامًا ثم راسلها يتنجَّزها وعدها، فأعلمته أنها كانت
متزوجة ابن عم لها وولدت منه أولادًا، ثم مات وأوصى بهم وبماله إليها ما لم تتزوج،
وأنها تخاف فرقة أولادها وزوال النعمة، وبعثت إليه بخمسة آلاف درهم واعتذرت، فردها
عليها ورحل إلى مكة، وقال في ذلك:
نام صحبي ولم أنَمْ
من خيال بنا ألَمْ
قلت: يا عمرُو شفَّني
لاعجُ الحب والألم
ويظهر أن الخيبة التي رمته بها تلك السيدة العراقية، جعلته يتردد في متابعة المِلاح
إلى العراق، فقد تشهَّت فاطمة بنت محمد بن الأشعث الكندية أن يتبعها ليتزوجها هناك، ولم
نعلم أنه هشَّ لتلبية ذلك النداء، ومن قصته معها أنها حجت فراسلها ووعدها أن يتلقاها
مساء الغد، وجعل الآية بينه وبينها أن تسمع ناشدًا ينشُد بغلته في زقاق الحاج، إن لم
يمكنه أن يرسل رسولًا يُعْلِمُهَا بمصيره إلى المكان الذي وعدها.
فلما تلاقيا وتحادثا خطبها، فقالت: أما ها هنا فلا سبيل إلى ذلك، ولكن إن قدمت إلى
بلدي خاطبًا تزوجتك، وقد قال في وصف ما كان بينهما من التراسل والتواعد
والتَّلاق:
تشط غدًا دار جيراننا
ولَلدارُ بعد غدٍ أبعدُ
إذا سَلكت غَمْرَ ذي كندةٍ
مع الركب قَصدٌ لها الفرقد
١٠
عراقيةٌ وتهامي الهوى
يَغورُ بمكةَ أو يُنْجِدُ
١١
وحثَّ الحداة بها عِيرها
سِراعًا إذا ما وَنتْ تطردُ
١٢
هنالك إماَّ تعزِّي الفؤاد
وإما على إثْرها تكمدُ
وليست ببِدع إذا دارُها
نأتْ والعزاءُ إذن أجْلَدُ
صرمتُ وواصلت حتى علمـ
ـتُ أين المصادر والمورِدُ
وجربت من ذاك حتى عرفـ
ـتُ ما أتوقى وما أعمدُ
دعانيَ من بَعد شيب القذا
لِ رئمٌ له عُنُقٌ أغيدُ
١٣
وعَينٌ تُصابي وتدعو الفتى
لِما تركهُ للفتى أرشدُ
فتلك التي شيَّعتها الفتاة
إلى الخِدر قلبي بها مُقصَدُ
تقول وقد جدَّ من بينها
غداة غدٍ عاجلٌ مُوفدُ
ألست مشيِّعنا ليلةً
نُقضِّي اللبانة أو نعهدُ
فقلت: بلى قلَّ عندي لكم
كلال المطيِّ إذا تجهَدُ
فعودي إليها فقولي لها:
مساءَ غدٍ لكمُ موعدُ
وآية ذلك أن تسمعي
إذا جئتكم ناشدًا ينشُدُ
فرُحنا سراعًا وراح الهوى
إليها دليلًا بنا يقصدُ
فلما دنونا لجرس النُّبا
ح والضوءِ والحيُّ لم يرقدوا
١٤
نأينا عن الحي حتى إذا
تودَّع من نارها المَوْقِدُ
١٥
وناموا بعثنا لها ناشدًا
وفي الحيِّ بغية من ينشدُ
أتتنا تَهادَى على رقْبة
من الخوف أحشاؤها تُرْعَدُ
١٦
تقول وتظهر وجدًا بنا
ووجدي وإن أظهرت أوجدُ
لمما شقائي تعلقتكم
وقد كان لي عنكُم مَقْعَدُ
١٧
وكفَّتْ سوابق من عبرةٍ
على الخد جال بها الإِثمدُ
١٨
فإن التي شيعتنا الغداة
مع الفجر قلبي بها مُقصَدُ
١٩
وقد جاء في خبره مع فاطمة هذه أنه لما جاءها أرسلت بينها وبينه سترًا رقيقًا تراه
من
ورائه ولا يراها، فجعل يحدثها حتى استنشدته، فأنشدها هذه القصيدة، فاستخفَّها الشعر
فرفعت السِّجف، فرأى وجهًا حسنًا في جسم ناحل فخطبها، وأرسل إلى أمها وكانت معها
بخمسمائة دينار، فأبت وحجبته، وقالت للرسول: لا تعد إلينا، فغمَّ ذلك الفتاة، فقالت لها
أمها: قد قتلك الوجد به، فتزوجيه!
قالت: لا والله، لا يتحدث أهل العراق عني أني جئت ابن أبي ربيعة أخطبه، ولكن إن أتاني
إلى العراق تزوجته.
ويقال: إنها راسلته وأوعدته أن تزوره فأجمر بيته وأعطى المبشر مائة دينار، فأتته
وواعدته إذا صدر الناس أن يشيِّعها، وجعلت علامة ما بينهما أن يأتيها رسوله ينشدها ناقة
له ضلت، فلما صدر الناس فعل، وقد قال في وصف ذلك:
قال الخليط: غدًا تصدُّعُنا
أما الرحيل فدون بعد غدٍ
فمتى تقول الدار تجمعنا؟
٢١
لتشوقنا هندٌ وقد علمت
علمًا بأن البين يفزعنا
ومقالها: سِرْ ليلةً معنا
نَعهَد فإنَّ البين فاجعُنا
٢٣
قلتُ: العيون كثيرةٌ معكم
وأظن أن السير مانعنا
لا بل نزوركمُ بأرضكمُ
فيطاع قائلكم وشافعنا
قالت: أشيءٌ أنت فاعلهُ
هذا لعمرك أم تخادعنا
بالله حدِّث ما تؤملهُ
واصدق فإن الصدق واسعنا
اضرب لنا أجلًا نَعُدُّ لهُ
وإنا لنعجب حين نرى الرجال يقدرون مصيرَ الحسان من بناتهم، فيهجرون مكة فرارًا من
ذلك
الشاعر الخليع، فقد وُلِدَ لرجل من بني جُمح جارية لم يولد مثلها بالحجاز حسنًا، فقال:
كأني بها وقد كبِرَتْ فشبب بها عمر بن أبي ربيعة، وفضحها ونوَّه باسمها كما فعل بنساء
قريش، والله لا أقمت بمكة! فباع ضيعة له بالطائف ومكة ورحل بابنته إلى البصرة، فأقام
بها، وابتاع هناك ضيعة، ونشأت ابنته من أجمل نساء زمانها.
ومات أبوها فلم تر أحدًا من جُمَح حضر جنازته، ولا وجدت مُسِعدًا ولا مُواسيًا، فقالت
لمرضع لها سوداء: من نحن؟ ومن أي البلاد نحن؟ فخبرتها، فقالت: لا جرم، والله لا أقمت
في
هذا البلد الذي أنا فيه غريبة. فباعت الضيعة والدار وخرجت في أيام الحج، وكان عمر
يَقْدَم في ذي الحجة فيعتمر ويحلُّ، ويلبس ما شاء من الحلل والوشْي، ويركب النجائب
المخضوبة بالحناء عليها القُطوع والديباج ويرسل لمَّته، ويَلقى العراقيات فيما بينه
وبين ذات عرق مُحْرمَات، ويتلقى المدنيات إلى مرٍّ، ويتلقى الشاميات إلى الكديد، فخرج
يومًا للعراقيات فإذا قبَّة مكشوفة فيها جارية كأنها القمر تركب معها جارية سوداء، فقال
للسوداء: من أنت؟ ومن أين أتيت يا خالة؟ فقالت: لقد أطال الله تعبك إن كنت تسأل هذا
العالَم: من هم ومن أين هم؟ قال: فأخبريني عسى أن يكون لذلك شأن، قالت: نحن من العراق،
فأما الأصل والمنشأ فمكة، وقد رجعنا إلى الأصل ورحلنا إلى بلدنا، فضحك، فلما نظرت إلى
سواد ثَنِيَّتيْه قالت: قد عرفناك، قال: ومن أنا؟ قالت: عمر بن أبي ربيعة! قال: وبمَ
عرفتني؟ قالت: بسواد ثنيتيك وبهيئتك التي ليست إلا لقريش،
٢٥ فأنشأ يقول:
أصبح القلب في الحبال رهينًا
مُقصدًا يوم فارق الظاعنينا
عَجِلت حُمَّةُ الفراق علينا
لم يرعني إلا الفتاة وإلا
دمعها في الرداء سحًّا سنينا
٢٧
ولقد قلت يوم مكة سرًّا
قبل وَشْكٍ من بينكم: نوِّلينا
٢٨
أنت أهوى العبادِ قربًا ودلًّا
أو تنيلين عاشقًا محزونًا
قاده الطرف يوم مرَّ إلى الحَيْـ
ـن جهارًا ولم يخف أن يحينا
٢٩
فإذا نعجةٌ تراعي نعاجًا
ومَهًا بُهَّج المناظر عِينا
٣٠
قلت: من أنتمُ؟ فصدَّت وقالت:
أمُبِدٌّ سؤالك العالمينا؟
٣١
نحن من ساكني العراق وكنا
قبله قاطنين مكة حينا
قد صدقناك إذ سألت فمن أنـ
ـت عسى أن يجرَّ شأنٌ شئونا؟
ونرى أننا عرفناك بالنعـ
ـت بظنٍّ وما قتلنا يقينا
بسواد الثنيتين ونعتٍ
قد نراه لناظر مستبينا
ولم يزل بها عمر حتى تزوجها، وولدت له. ويقال: إنه أنشأ هذه القصيدة في التشبيب برملة
بنت عبد الله الخزاعية، وإن الثريا بنت عليٍّ لما سمعت بها هجرته، في حديث سنعود إليه
بعد فصول.
•••
ولقد نعلم أن مِلاح النساء كن يتحدَّثن عنه في مناسك الحج في لهفة وشوق، وكان يقدَّر
له أحيانًا أن يسمع ما يلهجن به من ارتقاب غزله، وانتظار لقياه، فيضطرم قلبه، وتلتهب
أحشاؤه؛ كلَفًا بمن يتساقين على ذكره كئوس النجوى والسِّرار، فقد روي أنه بَصُر في
منصرفه من المزدلفة بامرأة جميلة في هودج، وسمع عجوزًا معها تناديها: يا نَوار استتري،
لا يفضحك ابن أبي ربيعة، فاتَّبعها وقد شغلت قلبه حتى نزلت بمنًى في مضرب قد ضُرب لها،
فنزل إلى جانب المضرب، ولم يزل يتلطف حتى جلس معها وحادثها، وإذا أحسن الناس وجهًا
وأحلاهم منطقًا، فزاد ذلك في إعجاب عمر بها، ثم أراد معاودتها فتعذر ذلك عليه، وكان آخر
عهده، فقال فيها:
علق النوار فؤاده جهلا
وصبَا فلم تترك له عقلا
وتعرَّضت لي في المسير فما
أمسى الفؤاد يرى لها مِثْلا
بألذَّ منها إذ تقول لنا
وأردت كشف قِناعها: مهلا
دعنا فإنك لا مكارمةً
تجزى ولست بواصل حبلا
وعليك من تبل الفؤاد وإن
أمسى لقلبك ذكره شغلا
وفي الحق إن ابن أبي ربيعة لم يكن في حاجة إلى تصيُّد النساء، فقد كن عليه أحرص، وإلى
تصيُّده أحوج، وسنرى حين نعرض لأخباره مع هند بنت الحارث وسكينة بنت الحسين كيف كانت
تشقى الرُّسل في البحث عنه كلَّما حنت معشوقاته إلى وجهه المشرق، وحديثه الطريف، فلنكتف
الآن بالإشارة إلى تلك السيدة الأموية التي قدمت معتمرة قبل أوان الحج، فمرَّت عليه وهي
تطوف، وكان في نفر من بني مخزوم، يتحدثون وهم جلوس، وقد فَرَعَهم طولًا، وجَهَرَهم
جمالًا وبهرهم بيانًا، فمالت إليهم، ونزلت فأطالت معهم الحديث، ولم تنصرف حتى ظفرت بقلب
ذلك الشاعر الجميل، ولم يزل يتردد إليها إلى أن انقضت أيام الحج فرحلت إلى الشام، وفيها
يقول:
تأوَّب ليلي بنصب وَهَمْ
وعاودت ذكري لأُمِّ الحكمْ
٣٣
فبت أراقب ليل التما
م، من نام من عاشق لم أنم
فإما تريني على ما عرا
ضعيف القيام شديد السَّقم
كثير التقلُّب فوق الفرا
ش ما إن تُقل قيامي قدم
بآنسةٍ طيِّبٍ نشْرُها
هضيم الحشا عذبة المبتَسَم
٣٤
وفي هذه الحوادث التي سقناها غنًى لمن أراد أن يُقدِّر إلى أي حدٍّ كان ابن أبي ربيعة
يتلمَّس أسباب الهوى، ويترقَّب مواسم الجمال، وفي هذه الحياة المرِحة، الحافلة بفُرص
اللهو ومُتع الشباب، قال ذلك الشِّعر الحيَّ الذي يوقظ غافيات المنى وهاجعات الأهواء،
فلننتقل إلى الحديث عن طائفة من معشوقاته بشيءٍ من التفصيل ليتم لنا ما أردناه من عرض
الظروف، التي قضت بأن يقف حياته على الحب، وشعره على النساء.
٣٥
(٣) عائشة بنت طلحة
أهم قصيدة رُويت لعمر بن أبي ربيعة هي رائيته التي فضَّله بها القدماء على جميل، ومن
الواضح أن أَولى معشوقاته بالفضل عليه هي تلك الجميلة التي أوحت إليه بتلك القصيدة، وما
كانت تلك الحسناء فيما نظن إلا عائشة بنت طلحة، التي أجمع أهل عصرها على تفردها بروعة
الجمال، يدلُّ على ذلك ما أشرنا إليه فيما سلف من أنها سهرت ليلة لهمٍّ ألمَ بها،
فقالت: إن ابن أبي ربيعة لَجاهلٌ بليلتي هذه حيث يقول:
وأعجبها من عيشها ظل غرفة
وريَّان ملتف الحدائق أخضر
ووالٍ كفاها كلَّ شيء يهمها
فليست لشيء آخر الليل تسهر
ولو لم يعنها بهذه الإشارة لما رجَّعتها حين قهرها الحزن في هدأة الليل، فلنقف قليلًا
عند ذكرى هذه الفاتنة التي أثارت قلبه، وأضرمت إحساسه، ففتحت له باب الخلود.
٣٦
•••
وإنه ليكفي أن نتحدث عن جمالها، وأخلاقها، وعقلها، وجاهها، وأخبارها مع الحارث بن
خالد المخزومي، وحوادثها مع شاعرنا المحظوظ.
جمالها
أما جمالها فقد كان فتنةً لكلِّ من سمع بها أو رآها من أهل ذلك الزمان، وإنهم
ليذكرون أنها صارمت زوجها، وخرجت من دارها غَضْبى فمرَّت في المسجد وعليها ملحفة
تريد عائشة أم المؤمنين، فرآها أبو هريرة فقال: سبحان الله، كأنها من الحور العين!
ورُويَ أنها نازعت زوجها إليه، فوقع خمارها عن وجهها فقال: سبحان الله! ما أحسن ما
غذاك أهلك، لكأنما خرجت من الجنة! وقال لها يومًا: ما رأيت شيئًا أحسن منك إلا
معاوية أول يوم خطب على منبر رسول الله، فقالت: والله لأنا أحسن من النار في الليلة
القرة في عين المقرور! وقد حدثت إحدى الوصائف أنها زارتها، فرأت عجيزتها من خلفها
وهي جالسة كأنها غيرها، قالت: فوضعت إصبعي عليها لأعلم ما هي، فلما وجدت مسَّ إصبعي
قالت: ما هذا؟ قلت: جعلت فِداءَك لم أدر ما هو فجئت لأنظر! فضحكت وقالت: ما أكثر من
يعجب مما عجبت منه!
قال سالم بن قتيبة: رأيت عائشة بنت طلحة بمنًى أو مسجد الخيف فسألتني من أنت؟
قلت: سالم بن قتيبة، قالت: رحم الله مصعبًا، ثم ذهبت تقوم ومعها امرأتان تُنْهضانها
فأعجزتها أليتاها من عظمهما فقالت: إني بكما لَمُعنَّاة! فذكرت قول الحارث:
وتَنُوء تُثقلها عجيزتها
نهض الضعيف ينوء بالوسْق
٣٧
وروى صاحب «الأغاني» أنه كان بالمدينة امرأة حسناء، تسمى عزة الميلاء، يألفها
الأشراف وغيرهم من أهل المروءات، وكانت من أظرف الناس وأعلمهم بأمور النساء، فأتاها
مصعب بن الزبير وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر وسعيد بن العاص، فقالوا: إنا
خطبنا فانظري لنا، فقالت لمصعب: يا ابن أبي عبد الله، ومن خطبت؟ فقال عائشة بنت
طلحة. فقالت: وأين أنت يا ابن أبي أحيحة؟ قال: عائشة بنت عثمان؟ قالت: فأنت يا ابن
الصِّدِّيق؟ قال: أم القاسم بنت زكريا بن طلحة. قالت: يا جارية! هاتي منقليَّ،
تعني: خُفيها، فلبستهما وخرجت ومعها خادم لها، فإذا هي بجماعة يزحم بعضهم بعضًا،
فقالت: يا جارية انظري ما هذا، فنظرت ثم رجعت، فقالت: امرأةٌ أُخذت مع رجل، فقالت:
داء قديم! امضي ويلك! فبدأت بعائشة بنت طلحة فقالت: فديتك، كنا في مأدُبة أو مأتم
لقريش فتذاكروا جمال النساء وخلقهن، فذكروك فلم أدر كيف أصفك فديتك، فألقي ثيابك،
ففعلتْ، فأقبلتْ وأدبرتْ، فارتجَّ كل شيء منها، فقالت لها عزة: خذي ثوبك فديتك!
فقالت عائشة: قد قضيت حاجتك وبقيت حاجتي، قالت عزة: وما هي بنفسي أنت؟ قالت: تغنيني
صوتًا، فاندفعت تغني لحنها في شعر جميل:
خليليَّ عُوجا بالمحلة من جُمْلِ
وأترابها بين الأُصيفر والخبلِ
نقفْ بمغانٍ قد محا رسمها البِلى
تُعاقبُها الأيام بالريح والوْبلِ
٣٨
فلو درج النمل الصِّغار بجلدها
لأَندب أعلى جلدها مَدْرج النمل
٣٩
وأحسن خلق الله جيدًا ومقلةً
تُشبَّه في النسوان بالشادِن الطفل
فقامت عائشة فقبَّلت ما بين عينيها ودعت لها بعشرة أثواب، وبطرائف من أنواع الفضة
وغير ذلك، فدفعته إلى مولاتها فحملته، وأتت النسوة على مثل ذلك تقول ذلك لهن حتى
أتت القوم في السقيفة، فقالوا: ما صنعت؟ فقالت: يا ابن أبي عبد الله، أما عائشة فلا
والله إن رأيت مثلها مقبلةً ومدبرةً، محطوطة المتنين،
٤٠ عظيمة العجيزة، ممتلئة الترائب، نقية الثغر وصفحة الوجه، فرعاء الشعر،
لفاء الفخذين ممتلئة الصدر، خميصة البطن، ذات عُكَن،
٤١ ضخمة السُّرة، مَسْروُلَة الساق،
٤٢ يرتج ما بين أعلاها إلى قدميها، وفيها عيبان: أما أحدهما فيواريه
الخمار، وأما الآخر فيواريه الخف: عظم القدم والأذن، وكانت عائشة كذلك. ثم قالت
عزة: وأما أنت يا ابن أبي أحيحة فإني والله ما رأيت مثل خلق عائشة بنت عثمان لامرأة
قط، ليس فيها عيب، والله لكأنما أُفرغت إفراغًا،
٤٣ ولكن في الوجه ردة، وإن استشرتني أشرت عليك بوجه تستأنس به، وما أنت يا
ابن الصِّدِّيق فوالله ما رأيت مثل أم القاسم، كأنها خوط بانة، تتثنى وكأنها جَدْل
عنان، أو كأنها خَشف يتثنَّى على رمل، لو شئت أن تعقد أطرافها لفعلت، ولكنها شختة
الصدر
٤٤ وأنت عريض الصدر، فإذا كان ذلك قبيحًا، لا والله حتى يملأ كل شيء
مثله!
وقد آثرنا إثبات هذا الحديث لنُرِيَ القارئ صورةً من تلك الحياة اللينة التي كان
يحياها شباب الحجاز، ولنريه كيف كانت عائشة بنت طلحة في أعين الخبيرات من النساء،
فإن المرأة أعرف بالمرأة، وأبصر من الرجل بسرائر الحسن المكنون.
وعلى ذكر مصعب وعزة نقول: إن عائشة دعت يومًا نسوة من قريش، فلما جئنها أجلستهن
في مجلس قد نضد فيه الريحان والفواكه والطيب المجمَّر، وخلعت
على كلٍّ منهن خلعة تامة من الوشي والخز
ونحوهما، ودعت عزة الميلاء، ففعلت بها مثل ذلك وأضعفت، ثم قالت لعزة: هاتي يا عزة
فغنينا، فغنتهن في شعر امرئ القيس:
وثغرٌ أغرُّ شنيب النبات
لذيذ المقبَّل والمبتسَم
٤٥
وما ذقته غير ظنٍّ به
وبالظن يقضي عليك الحَكم
وكان مصعب قريبًا منهن ومعه إخوان له، فقام فانتقل حتى دنا منهن والستور
مُسبَلَة، فصاح: يا هذه، إنا قد ذقناه فوجدناه على ما وصفت، فبارك الله فيك يا عزة!
ثم أرسل إلى عائشة: أما أنت فلا سبيل لنا إليك مع من عندك، وأما عزة فتأذنين لها أن
تغنينا هذا الصوت، ثم تعود إليك، ففعلت وخرجت عزة إليه، فغنته هذا الصوت مرارًا،
وكاد مصعب أن يذهب عقله فرحًا، ثم قال لها: يا عزة! إنك لتحسنين القول
والوصف!
٤٦
وكانت عائشة بنت طلحة لا تستر وجهها من أحد، فعاتبها مصعب في ذلك، فقالت: إن الله
— تبارك وتعالى — وسَمَني بميسم جمال أحببت أن يراه الناس ويعرفوا فضله عليهم، فما
كنت لأستره، ووالله ما فيَّ وصمة يقدر أن يذكرني بها أحد.
وكانت بجمالها باغيةً ظالمة، تكْلَف بالكيد لأترابها من شهيرات النساء، فقد ذكروا
أن رملة بنت عبد الله قالت لمولاة لعائشة بنت طلحة: أريني عائشة متجردةً ولك ألفا
درهم، فأخبرت عائشة بذلك، قالت: فإني أتجرد فأعلميها ولا تعرِّفيها أني أعلم. فقامت
عائشة كأنها تغتسل، وأعلمتها، فأشرفت عليها مُقْبلةً ومُدْبرة، فأعطت رملةُ
لمولاتها ألفي درهم، وقالت: لوددت أني أعطيتك أربعة آلاف درهم ولم أرها! قال صاحب
الأغاني: وكانت رملة قد أسنَّت، وكانت حسنة الجسم، قبيحة الوجه، عظيمة الأنف، وفيها
وفي عائشة يقول الشاعر:
أَنْعم بعائش عيشًا غير ذي رَنَقِ
وانبذ برملةَ نبذَ الجورب الخلقِ
وكانت عائشة بنت طلحة تنافس بالحُسن سكينة بنت الحسين، قالت لها يومًا سكينة: أنا
أجمل منك، قالت عائشة: بل أنا! فاختصمتا إلى عمر بن أبي ربيعة، فقال: لأقضينَّ
بينكما، أما أنت يا سكينة فأملح منها، وأما أنت يا عائشة فأجمل منها، فقالت سكينة:
قضيت لي والله! ومن هنا نعرف أنهم كانوا يؤثرون الملاحة على الجمال.
أخلاقها
وأما أخلاقها فكان أظهرها العفة، والشراسة، واللؤم، وحدَّة الشهوة.
كانت عفيفةً فلم يستطع أحد من طغاة الفتيان والأمراء أن يطمع منها في كثير من
الإِثم أو قليل، ولم يجد أترابها مغمزًا ينلنها منه حين يجدُّ الشغَب ويطول اللجاج،
وكانت في عفتها وصيانتها خَنِثَة غَنِجَة تُوَاتي الزوج بأطيب ما تستطيع المرأة
العَروب من غرائب الدلال.
تموت وتحيا بالضجيع وتلتوي
بمضطرب المتنين منبتر الخصر
وهي التي تقول، وقد لامتها إحدى صواحباتها حين سمعتها تتقتَّل تحت عمر بن عبيد
الله: إنا نتشهَّى لهذه الفحول بكل ما حركها وكل ما قدرنا عليه!
وكانت شرسة لا يقدر عليها الزوج إلا بالتَّلاحي والضرب، ولها في هذا الباب أخبار
تُروى للتفكه والمزاح، فمن ذلك أنها قالت لمصعب: أنت عليَّ كظهر أمي، وقعدت في غرفة
وهيأت فيها ما يصلحها، فجهد مصعب أن تكلمه فأبت، فبعث إليها ابن قيس الرقيَّات
فسألها كلامه، فقالت: كيف بيميني؟ فقال هاهنا الشعبي فقيه أهل العراق، فاستفتيه!
فدخل عليها فأخبرته، فقال: ليس هذا بشيء. فقالت: أتُحِلُّني وتخرج خائبًا، وأمرت له
بأربعة آلاف درهم.
وغضبت يومًا على مصعب، وكانت من أحب الناس إليه، فشكا ذلك إلى أشعب، فقال: ما لي
إن رضِيَتْ؟ قال: حكمك! قال: عشرة ألاف درهم، قال: هي لك، فانطلق حتى أتى عائشة
فقال: جُعِلت فِداءَك! قد علمت حبي لك، وميلي قديمًا وحديثًا إليك، من غير منالة
ولا فائدة، وهذه حاجة قد عرضت تقضين بها حقي، وترتهنين بها شكري.
قالت: وما عَناكَ؟ قال: قد جعل لي الأمير عشرة آلاف درهم إن رضيت عنه، قالت:
ويحك! لا يمكنني ذلك.
قال: بأبي أنت فارضي عنه حتى يعطيني، ثم عودي إلى ما عوَّدك الله من سوء الخلق!
فضحكت منه ورضيت عن مصعب.
وروى صاحب «الأغاني» أن مصعبًا شكاها إلى ابن أبي فروة كاتبه، فقال له: أنا أكفيك
هذا إن أذنت لي، قال: نعم، افعل ما شئت فإنها أفضل شيء نلته من الدنيا، فأتاها
ليلًا ومعه أسودان، فاستأذن عليها، فقالت له: أفي مثل هذه الساعة؟ قال: نعم،
فأدخلته، فقال للأسودين: احفرا ها هنا بئرًا، فقالت له جاريتها: وما تصنع بالبئر؟
قال: شؤم مولاتك! أمرني هذا الفاجر أن أدفنها حيةً وهو أسْفَكُ خلق الله لدم حرام،
فقالت عائشة: فأنظرني أذهب إليه، قال: هيهات لا سبيل إلى ذلك! وقال للأسودين:
احفرا، فلما رأت الجِدَّ منه بكت، ثم قالت: يا ابن أبي فروة، إنك لقاتلي ما منه
بدٌّ؟ قال: نعم، وإني لأعلم أن الله سيجزيه بعدك، ولكنه قد غضب، وهو كافر الغضب،
قالت: وفي أي شيء غضبه؟ قال: في امتناعك عنه، وقد ظن أنك تبغضينه وتتطلَّعين إلى
غيره، فقد جُنَّ، فقالت: أنشدك الله إلا عاودته! قال: إني أخاف أن يقتلني، فبكت
وبكى جواريها، فقال: قد رققت لك، وحلف أن يغرِّر بنفسه، ثم قال لها: فما أقول؟
قالت: تضمن عني ألَّا أعود أبدًا! قال: فما لي عندك؟ قالت: قيام بحقك ما عشت، قال:
فأعطيني المواثيق، فأعطته، فقال للأسودين: مكانكما وأتى مصعبًا فأخبره، فقال له:
استوثق منها بالأيمان، ففعلت، وصلحت بعد ذلك لمصعب بفضل ذلك الدرس البديع!
وكان لها مع هذه الشراسة لحظات تصفو فيها وتطيب، فقد صارمت مصعبًا مرة وطالت
مصارمتها له حتى شق عليها وعليه، وكانت لمصعب حرب فخرج إليها ثم عاد وقد ظفر، فشكت
عائشة مصارمته إلى مولاة لها، فقالت: الآن يصلح أن تخرجي إليه، فخرجت تمسح التراب
عن وجهه، فقال لها مصعب: إني أشفق عليك من رائحة الحديد، فقالت: لَهو والله عندي
أطيب من ريح المسك الأذفر!
ومن أظرف اللحظات التي طابت فيها نفس تلك الحسناء الظلوم ما حدَّث به ابن سلَّام
إذ قال: حجَّت عائشة بنت طلحة، فجاءتها الثريا وأخواتها ونساء أهل مكة القرشيات
وغيرهن، وكان الغريض فيمن جاء، فدخل النسوة عليها فأمرت لهن بكسوة وألطاف كانت قد
أعدتها لمن يجيئها، فجعلت تخرج كل واحدة ومعها جاريتها، ومعها ما أمرت لها به
عائشة، والغريض بالباب حتى خرج مولياته مع جواريهن الخِلع والألطاف، فقال الغريض:
فأين نصيبي من عائشة، فقلن له: أغفلناك وذهبت عن قلوبنا، فقال: ما أنا ببارح من
بابها أو آخذ بحظي منها، فإنها كريمة بنت كرام، واندفع يغني بشعر جميل:
تذكرت ليلى فالفؤاد عميدُ
وشطَّت نواها فالمزار بعيدُ
فقالت: ويلكم! هذا مولى العَبَلات بالباب يذكر بنفسه،
٤٧ هاتوه، فدخل، فلما رأته ضحكت وقالت: لم أعلم بمكانك، ثم دعت له بأشياء
أمرت له بها، ثم قالت له: إن أنت غنيتي صوتًا في نفسي فلك كذا وكذا، شيء سمته له
ذهب عن ابن سلام، قال: فغناها في شعر كُثيِّر.
وما زلت من ليلَى لدُنْ طَرَّ شاربي
إلى اليوم أُخفي حبها وأُداجنُ
٤٨
وأحمل في ليلَى لقوم ضغينةً
وتُحمَلُ في ليلَى عليَّ الضغائن
فقالت له: ما عدوت ما في نفسي، ووصلته فأجزلت. ولهذين البيتين حديث ذكره الشعبي
إذ قال: دخلت المسجد، فإذا أنا بمصعب بن الزبير على سرير جالس والناس عنده، فسلمت
ثم ذهبت لأنصرف، فقال لي: ادْنُ، فدنوت حتى وضعت يدي على مرافقه، ثم قال: إذا قمت
فاتبعني، فجلس قليلًا ثم نهض، فتوجه نحو دار موسى بن طلحة فتبعته، فلما طعن في
الدار التفت إليَّ فقال: ادخل. فدخلت معه ومضى نحو حجرته وتبعته، فالتفت إليَّ
فقال: ادخل، فدخلت معه فإذا حَجَلة، وإنها لأول حجلة رأيتها لأمير
٤٩ فقام ودخل الحجلة، فسمعت حركة، فكرهت الجلوس، ولم يأمرني بالانصراف،
فإذا جارية قد خرجت فقالت: يا شعبي إن الأمير يأمرك أن تجلس، فجلست على وسادة،
ورُفع سجف الحجلة فإذا أنا بمصعب بن الزبير، ورفع السجف الآخر فإذا أنا بعائشة بنت
طلحة، قال: فلم أر زوجًا قط كان أجمل منهما؛ مصعب وعائشة، فقال مصعب: يا شعبي هل
تعرف هذه؟ فقلت: نعم، أصلح الله الأمير، قال: ومن هي؟ قلت: سيدة نساء المسلمين
عائشة بنت طلحة، قال: لا، ولكن هذه ليلى الذي يقول فيها الشاعر:
وما زلت من ليلى لدن طرَّ شاربي
وذكر البيتين، ثم قال: إذ شئت فقم، فلما كان العَشِيُّ رحت وإذا هو جالس على
سريره في المسجد، فسلمت فلما رآني قال لي: ادْنُ، فدنوت حتى وضعت يدي على مرافقه،
فأصغى إليَّ فقال: هل رأيت مثل ذلك الإنسان قط؟ قلت: لا والله! قال: أفتدري لِمَ
أدخلناك؟ قلت: لا! قال: لتحدِّث بما رأيت! ثم التفت إلى عبد الله بن أبي فروة،
فقال: أعطه عشرة آلاف درهم، وثلاثين ثوبًا، قال: فما انصرف أحد بمثل ما انصرفت به:
بعشرة آلاف درهم، وبمثل كارة القصاب ثيابًا، وبنظرة من عائشة بنت طلحة!
وهذه النظرة من عائشة بنت طلحة لها موقعها الخاص، فسنرى كيف يقول الغريض مثل هذا
أيضًا حين يحمل إليها كتاب الحارث بن خالد المخزومي، وما كان أحرصهم على انتهاب ذلك
الوجه المشرق الفصيح!
وكانت لئيمةً تُصِرُّ على العنف، وتبيِّت العدوان، يؤيد هذا ما كان بينها وبين
زوجها الأول، إذ مات وهي عنده فلم تفتح فاها عليه بالرغم من أنه كان ابن خالها،
وأنها تزوجته برأي خالتها عائشة أم المؤمنين، فقد كانت أم عائشة بنت طلحة أم كلثوم
بنت أبي بكر الصديق، وزوجها هذا هو عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر، وكان صاحب
الفضل عليها إذ لم تلد من أحد من أزواجها سواه: ولدت له عمران وبه كانت
تكنى،
٥٠ وعبد الرحمن وأبا بكر وطلحة ونفيسة، وكان ابنها طلحة من أجواد قريش،
وله يقول الحزين الدُّؤلي:
فإن تك يا طلح أعطيتني
عُذَافرةً تستخف العفارا
٥١
فما كان نفعك لي مرةً
ولا مرتين ولكن مرارا
أبوك الذي صدق المصطفى
وسار مع المصطفى حيث سارا
وأمك بيضاءُ تيميةٌ
إذا نسب الناس كانوا نُضارا
٥٢
وكان ذلك الزوج المنجب يضارُّها وتضارُّه، لولا أنه كان أطيب منها قلبًا وأكرم
نحيزة،
٥٣ قيل له: طلقها، فقال:
يقولون: طلقها لأصبح ثاويًا
مقيمًا عليَّ الهم أحلام نائم
وإن فراقي أهل بيت أحبهم
لهم زُلْفةٌ عندي لإحدى العظائم
ومن حديث لؤمها أن مصعبًا دخل عليها مرة، وهي نائمة متصبِّحة ومعه ثمان لؤلؤات
قيمتها عشرون ألف دينار، فأنبهها ونثر اللؤلؤ في حجرها، فقالت له: نومتي كانت أحب
إليَّ من هذا اللؤلؤ.
وتزوَّجت بعد مصعب عمر بن عبيد الله، وكان من أشد الناس غيرة، فكانت تسرف في
الحديث عن مصعب وعن جماله لتغيظه بذلك، دخل عليها يومًا وقد ناله حر شديد وغبار،
فقال لها: انفضي التراب عني، فأخذت منديلًا تنفض به عنه التراب، ثم قالت له: ما
رأيت الغبار على وجه أحد قط كان أحسن منه على وجه مصعب! فكاد عمر يموت
غيظًا.
وكانت تكون لمن يجيء يحدثها في رقيق الثياب، فإذا قالوا: قد جاء الأمير، ضمَّت
عليها مطرفها وقطبت، عِنادًا ولؤمًا، وكذلك نساء بني تميم فيما قيل: هُنَّ أشرس خلق
الله وأحظى عند أزواجهن، وكانت عند الحسين بن علي أم إسحق بنت طلحة، فكان يقول:
والله لربما حملت ووضعت وهي مصارمة لي لا تكلمني.
وكانت حادة الشهوة يتقدَّم إليها خاطبوها تصريحًا وتلميحًا بما عندهم في ذلك من
غَناءٍ، ولها في هذا الباب أخبار لا نرى من الخير أن نُبدئ فيها ونعيد، إذ كانت لا
تخرج عمَّا هو معروف من شَرَه الطبائع النسائية، وحرصها على ما في أصلاب
الرجال.
وهنا لا نرى بُدًّا من الإشارة إلى ما يَبْدَه المولع بتاريخ ذلك العصر من فحولة
الرجال، وأنوثة النساء، وذلك عندي هو سِرُّ تلك القوة التي استطاع بها العرب أن
يسودوا العالم، وأن يخضعوه لسلطانهم في زمن قليل، وفحولة الرجال ظاهرة غالبة في عهد
بني أمية، والصدر الأول من عهد بني العباس، فلا تكاد ترى رجلًا ظاهرًا إلا مصحوبًا
بسيرة مِلؤها الفتك وقوامها الإسراف.
ويكاد يكون عصر بني أمية هو العصر الذي قَوِي فيه سلطان المرأة، وذلَّ الرجل على
بطشه وبأسه لما في ضعفها من القوة والجبروت، ويندر أن تجد شاعرًا يحس خطر المرأة
ويلمسه كما فعل ابن قيس الرقيَّات، إذ يقول في خطاب عائشة بنت طلحة:
عجبًا لمثلك لا يكون لهُ
خَرْج العراق ومِنبر المُلْكِ
عقلها
كانت عائشة بنت طلحة حاضرة البديهة رائعة
النكتة، في مكر وخبث، أصاب منها عمر بن عبيد الله يومًا طِيب نفس، فقال: ما مر بي
مثل يوم أبي فُدَيْك!
٥٤ فقالت له: اُعدد أيامك واذكر أفضلها، فعدَّ يوم سجستان ويوم قطرى بفارس
ونحو ذلك، فقالت عائشة: قد تركت يومًا لم تكن في أيامك أشجع منك فيه! قال: وأي يوم؟
قالت: يوم أرخت عليها وعليك رملة السِّتر!
٥٥ ترميها بقبح الوجه، وروي أنها حجَّت فوفدت على هشام فقال لها: ما
أوفدكِ؟ قالت: حبست السماء المطر، ومنع السلطان الحق، قال: فإني أصل رحمك وأعرف
حقك. ثم بعث إلى مشايخ بني أمية، فقال: إن عائشة عندي، فاسمروا عندي الليلة فحضروا،
فما تذاكروا شيئًا من أخبار العرب وأشعارها وأيامها إلا أفاضت معهم فيه، وما طلع
نجم ولا غار إلا سمَّته، فقال لها هشام: أما الأول فلا أنكره، وأما النجوم فمن أين
لك؟ قالت: أخذتها عن خالتي عائشة، فأمر لها بمائة ألف درهم، وردها إلى
المدينة.
جاهها
وكانت عائشة بنت طلحة في بسطة من المال يحسب حسابها الأمراء، ونساء الطبقة
العالية من قريش، حجَّت مرة مع سكينة بنت الحسين، وكانت عائشة أحسن آلة وثقلًا،
فقال حاديها:
عائش يا ذات البغال الستين
لا زلت ما عشت كذا تحجين
فشقَّ ذلك على سكينة ونزل حاديها، فقال:
عائش هذه ضرةٌ تشكوكِ
لولا أبوها ما اهتدى أبوكِ
فأمرت عائشة حاديها أن يكف، فكف. واستأذنت عاتكةُ بنتُ يزيد بن معاوية عبدَ الملك
في الحج، فأذن لها وقال: ارفعي حوائجك واستظهري فإن عائشة بنت طلحة تحج، ففعلت
وجاءت بهيئة جهدت فيها، فلما كانت بين مكة والمدينة إذا موكب قد جاء فضغطها وفرَّق
جماعتها، فقالت: أرى هذه عائشة بنت طلحة! فسألت عنها فقالوا: هذه خازنتها، ثم جاء
موكب آخر أعظم من ذلك، فقالوا: عائشة! عائشة! فضغطهم فسألت عنه فقالوا: هذه
ماشطتها! ثم جاءت مواكب على هذا السنن، ثم أقبلت كوكبة فيها ثلاثمائة راحلة عليها
القباب والهوادج، فقالت عاتكة: ما عند الله خيرٌ وأبقى!
ومن دلائل جاهها وعقلها ما ذكروا أنها لما
تأيَّمت كانت تقيم بمكة سنة، وبالمدينة سنة، وتخرج إلى مال لها عظيم بالطائف، وقصر
كان لها هناك، فتتنزه فيه وتجلس بالعشيات، فيتناضل بين يديها الرماة، فمر بها
النميريُّ الشاعر فسألت عنه فنُسب لها، فقالت: ائتوني به، فأتوها به، فقالت له:
أنشدني مما قلت في زينب، فامتنع عليها وقال: تلك ابنة عمي وقد صارت عظامًا بالية،
قالت: أقسمت عليك بالله إلا فعلت. فأنشدها قوله:
تضوَّع طِيبًا بطن نَعمان إذ مشت
به زينبٌ في نسوة عطراتِ
٥٦
فأصبح ما بين الهماءِ فصاعدًا
إلى الجزع جزع الماء ذي العشراتِ
٥٧
له أرجٌ من مُجْمر الهند ساطعٌ
تَطَلَّع ريَّاه من الكفراتِ
٥٨
أعان الذي فوق السموات عرشه
يُخبِّئن أطراف البنان من التقى
ويقتلن بالألحاظ معتذرات
تقسَّمن لبِّي يوم نعمان إنني
رأيت فؤادي عادم النظرات
جلون وجوهًا لم تُلحها سمائمٌ
حرورٌ ولم يُسعفن بالسبرَات
٦١
فقلت: يعافيرُ الظباء تناولت
يَنَاع غصون الورد مهتصِرات
٦٢
ولما رأت ركب النميري أعرضت
دعت نسوة شُمَّ العرانين بُزَّلًا
نواعم لا شعثًا ولا غبرات
٦٤
فأدنين حتى جاوز الركب دونها
حجابًا من القَسِّي والحبرات
٦٥
فكدت اشتياقًا نحوها وصبابة
تقطَّع نفسي إثرها حسرات
فراجعت نفسي والحفيظة بعدما
بللت رداء العصب بالعبرات
٦٦
فقالت: والله ما قلت إلا جميلًا، ولا ذكرت إلا كرمًا وطيبًا، ولا وصفت إلا دينًا
وتقى، أعطوه ألف درهم، فلما كانت الجمعة الأخرى تعرَّض لها، فقالت: عليَّ به،
فأُحضر، فقالت له: أنشدني من شعرك في زينب، فقال لها: أو أنشدك من شعر الحارث بن
خالد فيك، فوثب مواليها إليه، فقالت: دعوه فإنه أراد أن يستقيد لبنت عمه:
٦٧ هات مما قال الحارث فيَّ، فأنشدها قوله:
ظعن الأمير بأحسن الخَلْقِ
وغدوا بلبك مطلعَ الشرق
وتنوء تُثقلها عجيزتها
نهْض الضعيفِ يَنُوءُ بالوسْق
٦٨
ما صبَّحت زوجًا بطلعتها
إلا غدا بكواكب الطلق
قرشيَّةٌ عبق العبير بها
عَبق الدِّهان بجانب الحُقِّ
بيضاءُ من تيم كَلِفتُ بها
هذا الجنون وليس بالعشق
فقالت: والله ما ذكر إلا جميلًا، ذكر أني إذا صبحت زوجًا بوجهي غدا بكواكب الطلق،
وإني غدوت مع أمير تزوجني إلى الشرق، أعطوه ألف درهم، واكسوه حلتين، ولا تعد
لإتياننا بعد هذا يا نميري!
٦٩
أخبارها مع الحارث بن خالد المخزومي
كان الحارث المخزومي — كما قال أبو الفرج الأصبهاني: في الجزء الثالث من «أغانيه»
— أحد شعراء قريش المعدودين الغَزِلين، وكان يذهب مذهب عمر بن أبي ربيعة «رضي الله
عنه!» لا يتجاوز الغزل إلى المديح ولا الهجاء، وكان يهوى عائشة بنت طلحة ويشبب
بها،
٧٠ ولَّاه عبد الملك بن مروان مكة، وكان ذا قدر وخطر ومنظر في قريش، وسبب
توليه مكة أن قومه بني مخزوم كانوا كلهم زبيرية إلا هو فإنه كان مروانيًّا، فلما
ولي عبد الملك الخلافة وفد عليه في دَين كان عليه سنة ٧٥، وقيل: بل حج عبد الملك في
تلك السنة، فلما انصرف رحل معه إلى دمشق، فظهرت له منه جفوة، وأقام ببابه شهرًا لا
يصل إليه فانصرف عنه، وقال فيه:
صحِبتُك إذ عيني عليها غشاوةٌ
فلما انجلت قطَّعتُ نفسي ألومُها
وما بي وإن أقصيتني من ضراعةٍ
ولا افتقرت نفسي إلى من يضيمها
عطفتْ عليك النفسُ حتى كأنما
بكفَّيك بؤسي أو عليك نعيمها
وبلغ عبد الملك خبره وأنشد الشعر فأرسل إليه من رَدَّ طريقه، فلما دخل عليه قال
له: حارِ! أخبرني عنك، هل رأيت عليك في المقام ببابي غضاضة، أو في قصدي دناءة؟ قال:
لا والله يا أمير المؤمنين! قال: فما حملك على ما قلت وفعلت؟ قال: جفوةٌ ظهرت لي،
كنت حقيقًا بغير هذا! قال: فاختر: فإن شئت أعطيتك ألف درهم، أو قضيت دينك، أو وليتك
مكة سنةً فولَّاه إياها، فحج بالناس وحجَّت عائشة بنت طلحة عامئذٍ، وكان يهواها
فأرسلت إليه: أخِّر الصلاة حتى أفرغ من طوافي! فأمر المؤذنين فأخروا الصلاة حتى
فرغت من طوافها، ثم أقيمت الصلاة فصلى بالناس، وأنكر أهل الموسم ذلك من فعله
وأعظموه، فعزله وكتب إليه يؤنبه فيما فعل، فقال: ما أهون والله غضبه إذا رضيتْ!
والله لو لم تفرغ من طوافها إلى الليل لأخَّرت الصلاة إلى الليل!
فلما قضت حجَّها أرسل إليها: يا ابنة عمي! ألِمِّي بنا وعدينا مجلسًا نتحدث فيه،
فقالت: في غد أفعل ذلك، ثم رحلت من ليلتها ولم تلم به، فقال:
ما ضرَّكم لو قلتمُ سَدَدًا
إن المطايا عاجلٌ غدُها
ولها علينا نعمةٌ سلفتْ
لسنا على الأيام نجحدها
لو تمَّمت أسباب نعمتها
تمَّت بذلك عندنا يدها
وقد حمل الغريض إليها هذه الأبيات في كتاب، فلما قرأته قالت: ما يدع الحارث
باطله! ثم قالت للغريض: هل أحدثت شيئًا؟ قال: نعم، فاسمعي، ثم اندفع يغني الأبيات،
فقالت عائشة: والله ما قلنا إلا سددًا، ولا أردنا إلا أن نشتري لسانه، وأتى على
الشعر كله، فاستحسنته عائشة وأمرت له بخمسة آلاف درهم وأثواب، وقالت: زدني! فغناها
في قول الحارث بن خالد أيضًا:
زعموا بأن البين بعد غدٍ
فالقلب مما أحدثوا يَجفُ
والعين منذ أجدَّ بينهمُ
مثل الجُمان دموعها تكِف
ومقالها ودموعها سُجُمٌ:
أقلل حنينك حين تنصرف
فقالت له عائشة: يا غريض! بحقي عليك: أَهو أمرك أن تغنيني في هذا الشعر؟
فقال: لا، وحياتك يا سيدتي! فأمرت له بخمسة آلاف درهم. ثم قالت له: غنني في شعر
غيره، فغناها بقول عمر بن أبي ربيعة:
أجمعتْ خُلَّتي مع الفجر بيْنا
جلَّل الله ذلك الوجه زيْنا
أجمعت بينها ولم نك منها
لذة العيش والشباب قضينا
فتولَّت حمُولها واستقلَّت
لم ننل طائلًا ولم نقض دينا
٧٣
ولقد قلت يوم مكة لما
أرسلت تقرأ السلام علينا:
أنْعَم الله بالرسول الذي أُر
سل والمُرسِل الرسالةَ عَينا
فضحكت ثم قالت: وأنت يا غريض، فأنعم الله بك عينا، وأنعم ابن أبي ربيعة عينا! لقد
تلطَّفت حتى أدَّيت رسالته، وإن وفاؤك له لمما يزيدنا رغبة فيك، وثقة بك.
وقد كان عمر سأل الغريض أن يغنيها هذا الصوت؛ لأنه قد كان ترك ذكرها لما غضبت بنو
تميم من ذلك، فلم يحب التصريح بها، وكره إغفال ذكرها، وقال له عمر: إن أبلغتها هذه
الأبيات في غناء فلك خمسة آلاف درهم، فوفى له بذلك وأمرت له عائشة بخمسة آلاف
أخرى.
ثم انصرف الغريض من عندها، فلقي عاتكة بنت
يزيد بن معاوية امرأة عبد الملك بن مروان، وكانت قد حجَّت في تلك السنة فقال لها
جواريها: هذا الغريض! فقالت لهن: عليَّ به! فجئن به إليها، قال الغريض: فلما دخلت
سلَّمت، فردَّت عليَّ وسألتني عن الخبر فقصصته عليها، فقالت: غنني بما غنيتها به،
ففعلت، فلم أرها تهش لذلك، فغنيتها معرضًا لها ومذكرًا بنفسي في شعر مرة بن محكان
يخاطب امرأته، وقد نزل به أضياف:
أقول والضيف مخشِيٌّ ذَمَامتُه
على الكريم وحق الضيف قد وجبا:
٧٤
يا ربة البيت قومي غير صاغرةٍ
ضمِّي إليك رحال القوم والقُرُبا
٧٥
في ليلة من جمادى ذات أنديةٍ
لا يبصر الكلب في ظلمائها الطُّنُبا
٧٦
لا ينبح الكلب فيها غير واحدةٍ
حتى يلفَّ على خيشومه الذَّنبا
فقالت وهي مبتسمة: قد وجب حقك يا غريض، فغنني، فغنيتها:
يا دهر قد أكثرت فجعتنا
بِسَرَاتنا ووقَرْت في العظْم
وسلَبتنا ما لست مُخْلِفَهُ
يا دهرُ ما أنصفت في الحكم
لو كان لي قِرنٌ أُناضلهُ
ما طاش عند حفيظةٍ سَهمي
لو كان يعطي النصف قلت لهُ:
أحرزت سهمك فالْهُ عن سهمي
فقالت: نعطيك النصف، ولا نضيع سهمك عندنا، ونجزل لك قسمك، وأمرت لي بخمسة آلاف
درهم وثياب عدنية، وغير ذلك من الألطاف، وأتيت الحارث بن خالد فأخبرته الخبر، وقصصت
عليه القصة، فأمر لي بمثل ما أمرتا لي به جميعًا، فأتيت ابن أبي ربيعة فأعلمته بما
جرى فأمر لي بمثل ذلك، فما انصرف أحد من ذلك الموسم بمثل ما انصرفت به؛ بنظرة من
عائشة، ونظرة من عاتكة، وهما من أجمل نساء عالمهما، وبما أمرتا لي به، وبالمنزلة
عند الحارث وابن أبي ربيعة وما أجازاني به جميعًا من المال.
وقدم المدينة قادمٌ من مكة، فدخل على عائشة بنت طلحة، فقالت له: من أين أقبل
الرجل؟ قال: من مكة، قالت: فما فعل الأعرابي؟
فلم يفهم ما أرادت، فلما عاد إلى مكة دخل على الحارث، فقال له: من أين؟ قال: من
المدينة، قال: فهل دخلت على عائشة بنت طلحة؟ قال: نعم، قال: فماذا سألتك؟ قال: قالت
لي: ما فعل الأعرابي؟ قال الحارث: فعُد إليها ولك هذه الراحلة والحلة ونفقتك
لطريقك، وادفع إليها هذه الرقعة، وكتب إليها فيها:
من كان يسأل عنا أين منزلنا
فالأقحوانة منا منزلٌ قَمِنُ
إذ نلبس العيش صفوًا ما يكدرهُ
طعن الوشاة ولا ينبو بنا الزمن
ليت الهوى لم يقربني إليك ولم
أعرفك إذ كان حظي منكم الحزَن
وكان لعائشة بنت طلحة أمة يقال لها: بَشْرة، كان يذكرها الحارث في شعره يكنى بها
عن سيدتها، من ذلك قوله:
يا ربع بشرة بالجنان تكلَّمِ
وأبِنْ لنا خبرًا ولا تستعْجمِ
ما لي رأيتك بعد أهلك موحشًا
خلَقًا كحوض الدَّارة المتهدِّم
تسقى الضجيع إذا النجوم تغورت
طوع الضجيع أَنيقة المتوسَّم
وقوله:
لبشرة أسرى الطيف والخَبتُ دونها
وما بيننا من حَزْن أرض وبيدها
وقرَّت بها عيني وقد كنت قبلها
كثيرًا بكائي مشفقًا من صدودها
وبشرة خَودٌ مثل تمثال بيعةٍ
تظلُّ النصارى حولها يوم عيدها
وقوله:
يا ربع بشرة إن أضرَّ بك البلى
فلقد عهدتك آهلًا معمورا
إن يمس حبلك بعد طول تواصل
خلقًا ويصبح بيتكم مهجورا
فلقد أراني، والجديد إلى بلى،
زمنًا بوصلك قانعًا مسرورا
جَذِلًا بما لي عندكم لا أبتغي
للنفس غيرك خلة وعشيرا
كنت المنى وأعزَّ من وطئ الحصى
عندي وكنت بذاك منك جديرا
ولما مات عمر بن عبيد الله عن عائشة بنت طلحة،
٧٧ وكانت قبله عند مصعب بن الزبير قيل للحارث بن خالد: ما يمنعك الآن
منها؟ قال: لا يتحدث والله رجال من قريش أن نسيبي بها كان لشيء من الباطل.
٧٨
وما أدري كيف رأى ذلك الشاعر الفحل أن النسيب لا يكون للحق إلا إذا خلا من مطامح
القلب، ومطامع النفس، إن هي إلا كلمة رمى بها ليبرِّر صدوفه عن تلك الجنة العالية،
حين خبا وجده، وتقطَّعت بضلاله الأسباب!
ما كان بينها وبين عمر
رأى القارئ أن عائشة بنت طلحة كانت رفيقة بابن أبي ربيعة، وأنها أنِست بالغريض
لوفائه له، وحرصه على تبليغ رسالته، فلنذكر الآن أن عمر رآها لأوَّل مرَّةٍ في
الطواف، وهي تريد الركن تستلمه، فبهت لما رآها، وكانت من أجمل من أظلَّت سماء
الحجاز، فلما علمت أنها وقعت في نفسه بعثت إليه بجارية لها، وقالت له: اتق الله ولا
تقل هُجرا، فإن هذا مقام لا بدَّ فيه مما رأيت، فقال للجارية: أقرئيها السلام،
وقولي لها: إن ابن عمِّك لا يقول إلا خيرًا، وقال فيها:
لعائشة ابنة التيميِّ عندي
حِمًى في القلب لا يُرعى حماها
يذكِّرني ابنةَ التيميِّ ظبيٌ
يرود بروضة سهلٍ رُباها
فقلت له وكاد يراع قلبي:
فلم أر قط كاليوم اشتباها
وأنك عاطل عارٍ وليست
بعارية ولا عطل يداها
وأنك غير أفرع وهي تُدلي
على المتنين أسحم قد كساها
٨٠
ولو قعدت ولم تكلف بودٍّ
سوى ما قد كلفت به كفاها
أظل إذا أكلمها كأني
أكلم حيَّةً غلبت رُقاها
تبيت إليَّ بعد النوم تسري
وقد أمسيت لا أخشى سُراها
وقال فيها أشعارًا كثيرة، فبلغ ذلك فتيان بني تميم، أبلغهم إياه فتًى منهم، وقال
لهم: يا بني تيم بن مرة! ليقذفنَّ بنو مخزوم بناتنا بالعظائم، فمشى ولد أبي بكر،
وولد طلحة بن عبيد الله إلى عمر بن أبي ربيعة فأعلموه بذلك، وأخبروه بما بلغهم،
فقال لهم: والله لا أذكرها في شعر أبدًا، ثم أخذ يُكنِّي عن اسمها في قصائده،
ويتلطف في تبليغها ما يريد على أعواد المغنين وبأصوات الغناء، فمن ذلك قصيدته التي
مطلعها:
يا أم طلحة إن البين قد أَفِدا
قل الثواء لئن كان الرحيل غدا
٨١
أمسى العراقيُّ لا يدري إذا برزت
من ذا تطوَّف بالأركان أو سجدا
ولم يزل ينسب بها أيام الحج ويطوف حولها، ويتعرض لها وهي تكره أن يرى وجهها حتى
وافقها وهي ترمي الجمار سافرة فنظر إليها، فقالت: أما والله لقد كنت لهذا منك كارهة
يا فاسق! فقال:
إني وأول ما كلفت بحبها
عجبٌ وهل في الحب من متعجب؟!
نُعت النساء فقلت: لستُ بمبصرٍ
شبهًا لها أبدًا ولا بمقرِّب
فمكثن حينًا ثم قلن: توجَّهت
للحج موعدها لِقاء الأخشب
٨٢
أقبلت أنظر ما زعمن وقلن لي
والقلب بين مصدق ومكذب
فلقيتها تمشي بها بغلاتُها
ترمي الجمار عشيةً في موكب
غراء يُعشي الناظرين بياضها
حوراء في غُلَوَاءِ عيش مُعجب
٨٣
إن التي من أرضها وسمائها
جُلِبت لحَينك ليتها لم تجلب
وروي أن ابن أبي ربيعة لقي عائشة بنت طلحة بمكة، وهي تسير على بغلة لها، فقال:
قفي حتى أُسمعك ما قلت فيك، فقالت: أوقد فعلت يا فاسق! قال: نعم، فوقفت
فأنشدها:
يا ربَّة البغلة الشهباء هل لكمُ
أن ترحمي عمرًا لا تُرهقي حَرَجا
قالت: بدائك مُت أو عش تعالجه
فما نرى لك فيما عندنا فرجا
قد كنت حمَّلتنا غيظًا نعالجهُ
فإن تُقِدْنا فقد عنَّيتنا حِججا
٨٤
حتى لو اسطيع مما قد فعلت بنا
أكلت لحمك من غيظ وما نضجا
فقلت: لا والذي حج الحجيج له
ما محَّ حبك في قلبي ولا نهجا
٨٥
ولا رأى القلب من شيء يُسَرُّ به
مذ بان منزلكم منا ولا ثلجا
ضنَّت بنائلها عنه فقد تركت
في غير ذنب أبا الخطاب مُختلِجا
فلم تزل تداريه وترفق به؛ خوفًا من أن يتعرض لها حتى قضت حجها، وانصرفت إلى
المدينة، فقال في ذلك:
إن من تهوى مع الفجر ظعنْ
للهوى والقلب مِتباعُ الوطنْ
بانت الشمس وكانت كلما
ذكرت للقلب عاودتُ الدَّدن
٨٦
نظرت عيني إليها نظرةً
مَهبِطَ الحُجاج من بطن يَمَنْ
موهِنًا تمشي بها بغلتها
في عثانينَ من الحج ثُكَن
٨٧
قلت: قد صدَّت فماذا عندكم
أحسنَ الناس لقلبٍ مرتهن
ولئن أمست نواها غربةً
لا تواتيني وليست من وطن
٨٨
فَلَقِدمًا قرَّبتني نظرتي
لعناءٍ آخرَ الدهر مُعَنِّ
ثم قالت: بل لِمن أبغضكم
شِقوة العيش وتكليف الحزن
سوف آتي زائرًا أرضكمُ
بيقين فاعلميه غير ظن
فأجابت: هذه أمنيةٌ
ليت أنَّا نشتريها بثمن
وقال فيها أيضًا هذه القصيدة:
مَنْ لقلبٍ أمسى رهينًا مُعنَّى
مستكينًا قد شفَّه ما أجنَّا
إثر شخص نفسي فدت ذاك شخصًا
نازح الدار بالمدينة عنَّا
أن أراه والله يعلم يومًا
منتهى رغبتي وما أتمنى
ليت حظي كطرفة العين منها
وكثيرٌ منها القليل المهنَّا
أو حديثٍ على خلاءٍ يسلِّي
ما أجنَّ الضمير منها ومنا
أنرى نعمةً نراها علينا
منك يومًا قبل الممات ومَنَّا
خبرِّينا بما كتبت إلينا
أهو الحق أم تهزَّأتِ منَّا؟
ما نرى راكبًا يخبِّر عنكم
أو يريد الحجاز إلَّا حَزِنَّا
ثم ما نمت بعدكم من منام
منذُ فارقت أرضكم مطمئنَّا
ثم ما تُذكرين للقلب إلَّا
زِيدَ شوقًا إليكمُ واستُجِناَّ
ويرجح أنه قال فيها القطعة الآتية:
يا أبا الحارث قلبي هائمٌ
فأْتمر أمر رشيد مؤتَمن
عُلِّق القلب غزالًا شادنًا
اطلُبَنْ لي صاح وصلًا عندها
إن خير الوصل ما ليس يمنَّ
إن حبي آل ليلى قاتلي
ظهر الحب بجسمي وبطن
ليس حبٌّ فوق ما أحببته
غير أن أقتل نفسي أو أُجن
جعلت للقلب مني حبها
شجنًا زاد على كل شجن
فإذا ما شحطت هام بها
وإذا راعت إلى الدار سكن
ولنلاحظ أن شعر ابن أبي ربيعة في عائشة بنت طلحة لا يُستطاع تعيينه عند الرجوع
إلى ديوانه، فقد رأينا أنه أُرغم على السكوت عنها، وأنه اكتفى بالتلميح في أكثر ما
أوحت إليه من الشعر البليغ.
وعندما نلاحظ ذلك يصحُّ لدينا أن كثيرًا من الأسماء التي وردت في شعره لم يكنَّ
إلا أداة لستر حبه، وصرف الناس عن الكيد لمن يهوى من كرائم الملاح.
٩٠
(٤) سكينة بنت الحسين
أشرنا في كتاب «الأخلاق عند الغزالي» عند الكلام عن الباطنية إلى أن أكثر ما يحتل
رءوس المسلمين من الأفكار والعقائد، ليس إلا أثرًا للدعوات المتعددة التي قام بها
العباسيون في الشرق، والفاطميون في الغرب، وأن الدعاة نجحوا في حشو تلك الرءوس الجوفاء
بالخرافات والوساوس والأضاليل، وضربنا المثل بالمعبودات الصغيرة التي تسكن سماء القاهرة
من عِترة سيدنا الحسين!
واليوم نجرِّد القلم لتصوير السيدة سُكينة، لا لنُقنع من لا يقتنع بأنه لا خير في
الطواف حول القبور، ولا لنجرِّح سيدة هي منذ أزمان موضع التقديس، ولا لنكبت قومًا لا
همَّ لهم إلا أن يتصيدوا لنا الهفوات على حساب الدين، إنما نكتب اليوم، كما كتبنا من
قبل، متأثرين بفكرة واحدة كانت ولا تزال محور ما نُبْدِئ فيه وما نعيد، وهي أن الإنسان
مظهر من مظاهر الحياة، لا مفرَّ له من أن يكون مصدرًا للخير والشر، والظلمات والنور،
والهدى والضلال.
والحياة تريده كذلك، فلو قد أراد أن يَحُور ملكًا مسكنه في السماء، أو يصير شيطانًا
دأبُه البغيُ والإغواء، لما استطاع إلى ذلك سبيلًا. إنما هو أداة لهذه الحياة الغوية،
الرشيدة، التي تطيب حين تشاء، وتخبت حين تريد، بلا رقيب ولا حسيب!
والسيدة سكينة كانت بنت الطبيعة قبل أن تكون بنت الحسين، كما كان أبوها غَذِيَّ
الفطرة، قبل أن يكون سِبط الرسول، فلا يغضب قوم إن ذكرنا أنها كانت في عفافها نزقةً
طائشة، تؤثر الخفة على الوقار، وتهوى أن يخلَّد حسنها في قصائد الشعراء، فقد قضت
الطبيعة أن تكون المرأة كذلك، إلا إن قدر لها المسخ فعادت شُرْطيًّا
٩١ يلبس أثواب النساء.
وهذه محاولة نحتاج إليها في مصر لنسوِّغ ما نكتبه عن السيدة سكينة في مثل هذا العصر،
الذي يفيض بأخبار التردد والإِشفاق، أما صورة تلك السيدة كما رسمها الأولون فهي صورة
طبيعية لا غرابة فيها ولا شذوذ، ولو كتب عنها فصل في مجلة فرنسية أو إنجليزية أو
ألمانية لتلقَّاه أهل الغرب بالقبول، وعدوا حياتها المرحة دليلًا على تأصُّل الحضارة
في
تلك الأسرة التي سادت الشرق زمنًا غير قليل.
ويا ليتني أعرف متى يتفق الناس على أصول الأخلاق؟ ففي بعض ما ننكر اليوم صور من
الحياة الاجتماعية كانت في العصور الماضية من السائغ المألوف، وفي بعض ما نألفه ونرضاه
أنماطٌ من العادات والتقاليد كانت مما يكره الأقدمون، حتى الألفاظ والتعابير يُديلها
العرف، وتُحيلها الأوضاع، وأشدنا حرصًا على الأدب المكشوف يندى وجهه أمام طائفة من
الكلمات لم يكن يتحرج منها المتجملون المهذَّبون في الزمن القديم، فلا يظنَّ ناس أن ما
ينكرونه على السيدة سكينة كان يقاس في عصرها بنفس ما عندهم من المقاييس، وإن كانت عناصر
التحرُّج والتزمُّت غير جديدة في البيئات الإسلامية، فما أظن هذه السيدة سلمت في صلتها
بابن أبي ربيعة من متورِّع يرميها على طُهرها بالخلاعة والمجون.
وأعود فأقول: إني أكتب هذا الفصل وأنا أضمر الحب والإجلال لتلك السيدة النبيلة، التي
قدرت نعمة الله عليها، فدلَّت وتاهت بما وُسِمت به من الملاحة والجمال، وعاشت في رعاية
الحسن والحب غير حافلة بأوضاع الاجتماع، وكان فيها بلا ريب ما يَنهَى مثلها عن التبذل
في مخالطة المغنين وملابسة الشعراء.
حياتها الأدبية
كانت السيدة سكينة حريصةً على أن تعيش عيشة نابهة مِلؤها الزهو والإعجاب، ويظهر
مما نقل عنها من شتى الأحاديث أنها كانت سليمة الذوق في اختيار الوصائف، وكان بيتها
لذلك خفيف الظل على الأدباء والشعراء، وكانت ترعى الحياة الأدبية رعاية لا تخلو من
قسوة وعنف، فتفاضل بين المعاني والأغراض، وتجبه من تشاء من الشعراء بلاذع النقد
وموجع التجريح، وكانت تهتم بنوع خاص بالمعاني الوجدانية التي تقال في وصف المرأة،
وفي الخضوع لما لها من السطوة والجبروت، ولها حديث ممتع في نقد جرير والفرزدق وجميل
وكثِّير ونصيب، أثبتناه في البحث الأول من كتاب «الموازنة بين الشعراء» وناقشناه
هناك، فلا نعود إليه الآن، ونكتفي بإيراد حديثها مع راوية جرير وراوية كُثيِّر
وراوية الأحوص، حين اجتمعوا بالمدينة وافتخر كل رجل منهم بصاحبه، وذهبوا إليها
يحكِّمونها لما كانوا يعرفون من بصرها بالمعاني الجيدة، فقد قالت لراوية جرير بعد
أن استأذنوا عليها، فأذنت لهم وعرفت ما كان من أمرهم: أليس صاحبك الذي يقول:
طرقتك صائدة القلوب وليس ذا
وقت الزيارة فارجعي بسلام
وأي ساعة أحلى من الطُّروق؟
٩٢ قبَّح الله صاحبك وقبَّح شعره! ثم قالت لراوية الأحوص: أليس صاحبك الذي
يقول:
يقر بعيني ما يقرُّ بعينها
وأحسن شيء ما به العين قرَّتِ؟
فليس شيء أقرَّ لعينها من النكاح، أفيحب صاحبك أن يُنكَح؟ قبح الله صاحبك وقبح
شعره! ثم قالت لراوية جميل: أليس صاحبك الذي يقول:
فلو تركت عقلي معي ما طلبتها
ولكن طِلابيها لما فات من عقلي؟
فما أرى بصاحبك من هوى، إنما يطلب عقله، قبح الله صاحبك وقبح شعره! ثم قالت
لراوية نصيب: أليس صاحبك الذي يقول:
أهيم بدعد ما حييت فإن أمت
فوا حزنًا من ذا يهيم بها بعدي؟
فما أرى له همة إلا فيمن يتعشقها بعده، قبَّحه الله، وقبح شعره! ألا قال:
أهيم بدعد ما حييت فإن أمت
فلا صلحت دعدٌ لذي خُلة بعدي
ثم قالت لراوية الأحوص: أليس صاحبك الذي يقول:
من عاشقين تراسلا وتواعدا
ليلًا إذا نجم الثريا حلّقا
باتا بأنعم ليلة وألذِّها
حتى إذا وَضَح الصباح تفرقا؟
قال: نعم، قالت: قبحه الله وقبح شعره، ألا قال: تعانقا.
فهي كما يرى القارئ قاسية عنيفة تتلمس الهفوات، وتعد السيئات، وتخاطب الرواة
بلهجة خشنة جافية لا رفق فيها ولا إيناس، وما كانوا ليحتملوها لولا جمالها وسيطرتها
على ناحية من الحياة الأدبية في ذلك العصر؛ هي تقدير الشعر الذي قيل خاصة في
التشبيب بالنساء. ومن ذا الذي لا يرضى بأن تظلمه سيدة يلوذ بجمالها النُّبل والجاه
والجمال؟ فما كل ظالم بغيض، ولا كل مظلوم مغبون!
ومن مظاهر عنفها الذي كان يتلقاه الشعراء بالقبول حديثها مع الفرزدق، وقد خرج
حاجًّا، فلما قضى حجه خرج إلى المدينة فدخل مُسلِّما، فقالت له: يا فرزدق! من أشعر
الناس؟ قال: أنا، قالت: كذبت! أشعر منك الذي يقول:
بنفسي من تجنُّبهُ عزيزٌ
عليَّ ومن زيارته لِمامُ
ومن أُمسي وأُصبح لا أراهُ
ويطرقني إذا هجع النيام
قال: والله لئن أذنت لي لأسمعنك أحسن منه، قالت: لا أحب! فاخرج عني! ثم عاد إليها
من الغد فدخل عليها، فقالت: يا فرزدق! من أشعر الناس؟ قال: أنا! قالت: كذبت! صاحبك
أشعر منك حيث يقول:
لولا الحياء لهاجني استعبارُ
ولزرت قبركِ والحبيب يُزارُ
كانت إذا هجر الضجيعُ فراشَها
كُتم الحديث وعفَّت الأسرار
لا يلبث القرناء أن يتفرقوا
ليلٌ يكرُّ عليهمُ ونهار
فقال: والله لئن أذنت لي لأسمعنك أحسن منه، فأمرت به فأُخرج، ثم عاد إليها في
اليوم الثالث وحولها مُوَلَّدَات كأنهن التماثيل، فنظر الفرزدق إلى واحدة منهن
فأعجب بها، فقالت: يا فرزدق! من أشعر الناس؟ فقال: أنا! فقالت: كذبت! صاحبك أشعر
منك حيث يقول:
إن العيون التي في طرفها حَوَرٌ
قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
يصرعن ذا اللب حتى لا حراكَ به
وهنَّ أضعف خلق الله أركانا
أتبعتهم مقلةً إنسانُها غَرِقٌ
هل ما ترى تارك للعين إنسانا؟!
فقال: يا بنت رسول الله! إن لي عليك حقًّا عظيمًا، ضربت إليكِ من مكة إرادة
السلام عليك، فكان جزائي منك تكذيبي ومنعي من أن أُسمعك، وبي ما قد عيل معه صبري،
وهذه المنايا تغدو وتروح، ولعلي لا أفارق المدينة حتى أموت، فإن أنا مت فأْمُري أن
أدرج في كفني وأدفن في حِرِ تلك الجارية، يعني الجارية التي أعجبته، فضحكت سكينة
وأمرت له بالجارية، فخرج بها آخذًا بريطتها، وأمرت الجواري أن يضربن الدفوف تهنئةً
لهما، ثم قالت: يا فرزدق أحسن صحبتها فإني آثرتك بها على نفسي.
فلو صحَّت هذه القصة لكانت دليلًا على تسامح تلك السيدة وغَفْرِها تهافُت الشعراء
على ما كانت تملك من المولِّدات الحسان، والشاعر لم يُخلق إلا ليشقى بالحسن
ويُعذَّب بالجمال، وبقدر إحساس السيدة سكينة لمحنة الشعراء المسرفين، وعلمها بما
كتب عليهم من سفَه المنى وطيش الأحلام، كانت ترق وتلين كلما شهدت إخلاصهم لما
خُلقوا له من عبادة الطرف الساحر والقد الرشيق، ويمكن الحكم بأن في توفُّرها على
نقد النواحي الغزلية دليلًا على أنها كانت تحيا حياة وجدانية معقدة، وكانت تجد في
تفقد الصلات بين أرواح الشعراء، وقلوب النساء مفرًّا من لوعة الوجد المكتوم، ووقدة
الحزن الدفين.
عنايتها بالغناء
وكانت سكينة تُعنى بنقد الغناء عنايتها بنقد الشعر، وكان المغنون يقصدونها لذلك،
فقد ذكر صاحب «الأغاني» أنها حجَّت فدخل إليها ابن سُرَيج والغريض، وقد استعار ابن
سريج حلة لامرأة من قريش فلبسها، فقال لها ابن سريج: يا سيدتي! إني كنت صنعت صوتًا
وحسَّنته، وتنوَّقت فيه، وخبأته لك في حريرة في درج مملوء مسكًا فنازعنيه هذا
الفاسق، يعني الغريض، فأردنا أن نتحاكم إليك فيه، فأينا قدمته فيه تقدم، قالت:
هاته! فغناها:
عوجي علينا ربة الهودج
إنك إلَّا تفعلي تَحْرَجي
٩٣
إني أُتيحت لي يمانيَّةٌ
إحدى بني الحارث من مَذحِج
في الحج إن حجت وماذا مِنًى
وغيره إن هي لم تحجُجِ
فقالت سكينة: ما أشبهكما إلا باللؤلؤ والياقوت في أعناق الجواري الحسان لا يُدرى
أيهما أحسن.
وكان بيتها مألفًا للمغنين، وكانت تؤثر ترفيه الناس بما تستطيع تقديمه إليهم من
متع الغناء، حدث عبيد بن حنين الحيري قال: كان المغنون في عصر جدي أربعة نفر؛ ثلاثة
بالحجاز، وهو وحدَه بالعراق، والذين بالحجاز ابن سريج والغريض ومعبد، فكان يبلغهم
أن جدي حنينا قد غنَّى في هذا الشعر:
هلا بكيت على الشباب الذاهب
وكففت عن ذم المشيب الآيب
هذا ورُبَّ مسوفين سقيتهم
من خمر بابل لذة للشارب
بكروا عليَّ بسُحرةٍ فصَبَحْتُهم
من ذات كَرْنِيبٍ كقَعْب الحالب
٩٥
بزجاجة مِلء اليدين كأنها
قنديل صبح في كنيسة راهب
فاجتمعوا فتذاكروا أمر جدي، وقالو: ما في الدنيا أهل صناعة شر منا، لنا أخ
بالعراق ونحن بالحجاز لا نزوره ولا نستزيره، فكتبوا إليه، ووجهوا له نفقة، وكتبوا
يقولون: نحن ثلاثة وأنت وحدك فأنت أولى بزيارتنا، فشخص إليهم، فلما كان على مرحلة
من المدينة بلغهم خبره، فخرجوا يتلقونه، فلم يُرَ يوم كان أكثر حشرًا ولا جمعًا من
يومئذٍ، ودخلوا فلما صاروا في بعض الطريق قال لهم معبد: صيروا إليَّ، فقال له ابن
سريج: إن كان لك من الشرف والمروءة مثل ما لمولاتي سكينة بنت الحسين عطفنا إليك،
فقال: ما لي من ذلك شيء، وعدلوا إلى منزل سكينة، فلما دخلوا إليها أذنت للناس إذنًا
عامًّا فغصَّت الدار بهم وصعدوا فوق السطح، وأمرت لهم بالأطعمة فأكلوا منها، ثم
إنهم سألوا جدي حنينًا أن يغنيهم صوته الذي أوله:
هلا بكيت على الشباب الذاهب
وكففت عن ذم المشيب الآيب
فغناهم إياه بعد أن قال لهم: ابدءوا أنتم، فقالوا: ما كنا لنتقدمك، ولا لنغني
قبلك حتى نسمع هذا الصوت، فغناهم إياه، وكان من أحسن الناس صوتًا، فازدحم الناس على
السطح وكثروا ليسمعوه، فسقط الرواق على من تحته، فسلموا جميعًا وأُخرجوا أصحاء،
ومات حنين تحت الهدم، فقالت سكينة: لقد كدر علينا حنين سرورنا، انتظرناه مدة طويلة،
كأنا والله كنا نسوقه إلى منيته.
٩٦
ولها مع ابن سريج أخبار رأينا أن نضرب عنها صفحًا لما في مقدماتها من مآثم تقف
عندها حدود الأدب المكشوف.
أزواجها
تزوجت السيدة سكينة عدة أزواج، أشهرهم مصعب بن الزبير، وقد رأينا أن نكتب عنه هنا
كلمة وجيزة لأمرين؛ الأول: أنه جمع بينها وبين عائشة بنت طلحة، فهو وثيق الصلة بما
عنينا به من ترجمة هاتين المليحتين، الثاني: أنه يمثل الفتوة العربية أصدق تمثيل،
ولا أعرف شيئًا أحب إلى النفس من الحديث عن أولئك الفتيان الغطاريف، الذين ملئوا
الدنيا بأخبار البأس والجود.
ويكفي في الإشادة بذكر ذلك الفتى أن يعرف القارئ أنه أعيا عبد الملك بن مروان
وعنَّاه، وأن عبد الملك كان يوجه إليه جيشًا بعد جيش فيهزمون، فلما طال ذلك عليه
واشتدَّ غمُّه أمر الناس فعسكروا، ودعا بسلاحه فلبسه، فلما أراد الركوب قامت إليه
أم يزيد ابنه، وهي: عاتكة بنت يزيد بن معاوية، فقالت: يا أمير المؤمنين لو أقمت
وبعثت إليه لكان الرأي، فقال: ما إلى ذلك من سبيل! فلم تزل تمشي معه وتكلمه حتى قرب
من الباب، فلما علا الصوت رجع إليها عبد الملك، فقال: وأنت ممن يبكي! قاتل الله
كُثيِّرًا، كأنه كان يرى يومنا هذا حيث يقول:
إذا ما أراد الغزو لم تثن همهُ
حَصانٌ عليها نظم دُرٍّ يَزينُها
نهته فلما لم تر النهي عاقهُ
بكت فبكى مما شجاها قَطِينها
ثم عزم عليها بالسكوت وخرج.
٩٧ وقال عبد الملك يومًا لجلسائه: من أشجع الناس؟ فأكثروا في هذا المعنى،
فقال: أشجع الناس مصعب بن الزبير، جمع بين عائشة بنت طلحة وسكينة بنت الحسين وابنة
الحميد بنت عبد الله بن عباس؛ وولي العراقين، ثم زحف إلى الحرب فبذلت له الأمان
والحِباء والولاية، والعفو عمَّا خلص في يده فأبى قبول ذلك، واطَّرح كل ماكان
مشغوفًا به من ماله وأهله وراء ظهره، وأقبل بسيفه قَرْمًا يقاتل، ما بقي معه إلا
سبعة نفر، حتى قُتل كريمًا.
٩٨
وكانت سكينة تخفي ما في قلبها من مصعب، وتكاتمه وجدها به، وعطفها عليه، دخل إليها
في حربه مع عبد الملك وقد نزع عنه ثيابه، ولبس غلالة، وتوشح بثوب، وأخذ سيفه، فعلمت
أنه لا يريد أن يرجع، فصاحت من خلفه: وا حزناه عليك يا مصعب! فالتفت إليها وقال:
أوكل هذا لي في قلبك؟ فقالت: إي والله! وما كنت أخفي أكثر! فقال: لو كنت أعلم أن
هذا كله لي عندك لكانت لي ولك حال، ثم خرج ولم يرجع.
ولما دخلت سكينة الكوفة بعد قتل مصعب خطبها عبد الملك، فقالت: والله لا يتزوجني
بعده قاتله أبدًا! وفي رثاء مصعب يقول رجل من بني أسد بن عبد العزى:
لعمرك إن الموت منا لَمولَعٌ
بكل فتًى رحب الذراع أريبِ
فإن يك أمسى مصعب نال حتفه
لقد كان صلب العود غير هيوب
جميل المحيا يوهن القِرن غَربهُ
وإن عضه دهر فغير رهوب
أتاه حمام الموت وسط جنوده
فطاروا سلالًا واستقى بذنوب
٩٩
ولو صبروا نالوا حِبًا وكرامة
ولكنهم ولوا بغير قلوب
وقالت سكينة ترثيه:
فإن تقتلوه تقتلوا الماجد الذي
يرى الموت إلا بالسيوف حراما
وقبلك ما خاض الحسين منية
إلى القوم حتى أوردوه حماما
جمالها
كانت السيدة سكينة إحدى نوادر الجمال في العصر الذي ظهرت فيه، وكانت تنافس عائشة
بنت طلحة معبودة العيون والقلوب في ذلك الحين، وكانت حريصةً مُسرفةً في الحرص على
جمالها، حتى ليذكر صاحب «الأغاني» أنه خرجت بها سِلعة
١٠٠ في أسفل عينها حتى كبرت، ثم أخذت وجهها وعينها، وكان درافيس منقطعًا
إليها وفي خدمتها، فقالت له: ألا ترى ما قد وقعت فيه؟ فقال لها: أتصبرين على ما
يَمسَّك من الألم حتى أعالجك؟ قالت: نعم! فأضجعها وشق جلد وجهها أجمع، وسلخ اللحم
من تحتها، حتى ظهرت عروقها، وكان منها شيء تحت الحدقة فرفع الحدقة عنها حتى جعلها
ناحية، ثم سلَّ عروق السلعة من تحتها فأخرجها أجمع، وردَّ العين إلى موضعها وسكينة
مضطجعة لا تتحرك ولا تئن، حتى فرغ مما أراد، وزال ذلك عنها وبرئت منه، وبقي أثر تلك
الحزازة في مؤخر عينها، فكان أحسن شيء في وجهها من كل حلي وزينة، ولم يؤثر ذلك في
نظرها ولا في عينها.
وكانت تحدث عن نفسها فتقول: أُدخلت على مصعب وأنا أحسن من النار الموقدة، وكانت
ابنتها من مصعب جِدَّ جميلة، فكانت تثقلها بالحليِّ واللؤلؤ وتقول: ما ألبستها إياه
إلا لتفضحه.
وكانت سكينة أحسن الناس شَعرًا، وكانت تصفِّف جُمَّتها تصفيفًا لم يُر أحسن منه،
حتى عُرف ذلك، وكانت تلك الجمة تسمى «السكينيْة»، وكان عمر بن عبد العزيز إذا وجد
رجلًا يصفف جمته السكينية جلده وحلقه، وفي هذا دليل على أنها صاحبة بدعة Mode في تصفيف الشعر وتنسيقه، وكان تقليدها في تلك
البدعة مما يقدح في أخلاق الرجال، ولولا تحرُّج المسلمين الأولين من التصوير لرأينا
كيف كانت الفتنة في ذلك التصفيف، ولعرفنا بُعد ما بين تلك البدعة وبدعة الشعر
المقصوص في هذا الجيل.
أخلاقها
كانت السيدة سكينة تميل إلى الفكاهة والمزاح، تخالط الأجلة من قريش، ويجتمع إليها
الشعراء، فتمزج الجِدَّ بالهزل، وتخلط الوقار بالمجون، ولها في الدعابة أحاديث
طريفة، لسعتها يومًا دَبْرة،
١٠١ فقالت لها أمها: ما لك يا سيدتي؟ فضحكت وقالت: لسعتني دُبيرة، مثل
الأُبيرة، أوجعتني قُطيرة! وبعثت مرة إلى صاحب الشرطة: إنه دخل علينا شاميٌّ، فابعث
إلينا بالشُرَط، فلما أتى إلى الباب أمرت ففتح له، وأمرت جارية من جواريها فأخرجت
إليه برغوثًا، ثم قالت: هذا الشاميُّ الذي شكوناه!
وقيل لها يومًا: أمك فاطمة يا سكينة وأنت تمزحين كثيرًا وأختك لا تمزح! فقالت:
لأنكم سميتموها باسم جدتها المؤمنة، تعني: فاطمة، وسميتموني باسم جدتي التي لم تدرك
الإسلام، تعني: آمنة بنت وهب أم الرسول، وكانت سكينة تسمى: آمنة، وسكينة
لقب.
وكانت مع ميلها المفرط إلى الدعابة عفيفة نقية العرض، لا يؤخذ عليها غير العبث
البريء، واللهو المباح.
وكانت لا تخلو من الخيلاء: فقد رآها سفيان بن حرب ترمي الجمار، فسقطت من يدها
الحصاة السابعة فرمت بخاتمها، وكانت فيما يظهر ضيقة الصدر في معاملة الأزواج، ويرجع
ذلك إلى غيرتها الشديدة وعنفها في مراقبة العشير؛ فقد روى أبو الفرج الأصبهاني أن
زيد بن عمرو بن عثمان خرج إلى مال له مغاضبًا لسكينة، وعمر بن عبد العزيز يومئذٍ
والي المدينة، فأقام سبعة أشهر، فاستعدته سكينة على زيد وذكرت غيبته مع ولائده سبعة
أشهر، وأنها شرطت عليه أنه إن مسَّ امرأة، أو حال بينها وبين شيء من ماله، أو منعها
مخرجًا تريده، فهي خليَّة، فبعث إليه عمر فأحضره، وأمر ابن حزم أن ينظر بينهما،
فجاءت سكينة وزيد جالس عند ابن حزم وفاطمة امرأة ابن حزم جالسة في الحجلة، فقال ابن
حزم: أدخلوا سكينة وحدها، فقالت: والله لا أدخل إلا ومعي ولائدي: فأدخلن معها، فلما
دخلت قالت: يا جارية! اثني لي هذه الوسادة، ففعلت، وجلست عليها، ولصق زيد بالسرير
حتى كاد يدخل في جوفه خوفًا منها. فقال لها ابن حزم: يا ابنة الحسين! إن الله يحب
القصد في كل شيء، فقالت له: وما أنكرت مني؟ إني والله وإياك كالذي يرى الشعرة في
عين صاحبه، ولا يرى الخشبة في عينه! فقال لها: أما والله لو كنتِ رجلًا لسطوت بك!
فقالت له: يا ابن فرتنَى! لا تزال تتوعدني! وشتمته وشتمها، فلما بلغا ذلك قال ابن
أبي الجهم العدويُّ: ما بهذا أُمرنا، فأمض الحكم ولا نُشاتم، فقالت لمولاة لها: من
هذا؟ قالت: أبو بكر بن عبد الله بن أبي الجهم، فقالت: لا أراك هاهنا وأنا أُشتم
بحضرتك، ثم هتفت برجال قريش فغضب ابن أبي الجهم، وقالت: أما والله لو كان أصحابي في
الحِيرة أحياءً لكفُّوا والله العبد اليهودي عن شتمه إياي، عدو الله! تشتمني وأبوك
الخارج مع يهود ضنانة بدينهم لما أخرجهم رسول الله إلى أريحاء! فلما كلمها زيد وخضع
لها قالت: ما أعرفني بك يا زيد! والله لا تراني أبدًا! أتراك تمكث مع جواريك سبعة
أشهر ثم أعود إليك! والله لا تراني بعد الليلة أبدًا!
وأظرف ما كان يجري بينها وبين زوجها هذا تكليفها أشعب بمراقبته وترسُّم خُطاه
لتعلم ما كان يجترح من وصل الولائد المِلاح.
صلتها بابن أبي ربيعة
ذكر صاحب «الأغاني»
١٠٢ أنه اجتمع نسوة من أهل المدينة من أهل الشرف، فتذاكرن عمر بن أبي ربيعة
وشعره وظرفه، وحسن حديثه فتشوَّقن إليه وتمنَّينه، فقالت سكينة بنت الحسين: أنا
لكنَّ به! فأرسلت إليه رسولًا وواعدته الصَّورين وسمَّت له الليلةَ والوقت، وواعدت
صواحباتها، فوافاهنَّ عمر على راحلته، فحدثهن حتى أضاء الفجر وحان انصرافهن، فقال
لهن: والله إني لمحتاج إلى زيارة قبر رسول الله والصلاة في مسجده، ولكن لا أخلط
بزيارتكن شيئًا، ثم انصرف إلى مكة وقال:
قالت سكينة والدموع ذوارف
منها على الخدين والجلباب
ليت المغيريَّ الذي لم أجزه
فيما أطال تصيُّدي وطِلابي
كانت ترد لنا المنى أيامنا
إذ لا نُلامُ على هوًى وتصابي
خُبِّرت ما قالت فبتُّ كأنما
يرمي الحشا بنوافذ النُّشابِ
١٠٣
أَسُكين ما ماء الفرات وطيبهُ
مني على ظمأ وفقد شراب
بألذَّ منك وإن نأيت وقلَّما
ترعى النساء أمانة الغُيَّاب
إن تبذلي لي نائلًا أشفي به
داء الفؤاد فقد أطلت عذابي
وعصيت فيك أقاربي وتقطعت
بيني وبينهمُ عُرى الأسباب
فتركتنِي لا بالوصال مُمتعًا
منهم ولا أسعفتني بثواب
فقعدت كالمهريق فضلة مائهِ
في حر هاجرة لِلَمْعِ سراب
وقال فيها:
أحب لحبك من لم يكن
صفيًّا لنفسي ولا صاحبا
وأبذل نفسي لمرضاتكم
وأُعتب من جاءكم عاتبا
وأرغب في ود من لم أكن
إلى وده قبلكم راغبا
ولو سلك الناس في جانب
من الأرض واعتزلت جانبا
ليمَّمت طِيتها إنني
أرى قربها العجب العاجبا
١٠٤
فما ظبية من ظباء الأرا
ك تقرو دميث الرُّبى عاشبا
١٠٥
بأحسن منها غداة الغميم
وقد أبدتِ الخد والحاجبا
غداة تقول على رِقبةٍ
لخادمها: يا احبسي الراكبا
فقالت لهم: فيمَ هذا الكلام؟
وأبدت لها عابسًا قاطبا
فقالت: كريمٌ أتى زائرًا
يمرُّ بكم هكذا جانبا
شريف أتى ربعنا زائرًا
فأكره رجعته خائبا
وذكر صاحب «الأغاني» قصة أولئك النسوة مع عمر بصورة أخرى في أخبار الغريض، فحدثنا
أنه وافاهن على رواحله والغريض معه، وأنه قال عند انصرافه إلى مكة:
ألمم بزينب إن البين قد أفِدا
قلَّ الثواء لئن كان الرحيل غدا
فلما كان بمكة قال: يا غريض! إني أريد أن أخبرك بشيء يتعجل لك نفعه، ويبقى لك
ذكره، فهل لك فيه؟ قال: افعل من ذلك ما شئت وما أنت أهله، قال: إني قلت في هذه
الليلة التي كنا فيها شعرًا فامض به إلى النسوة، فأنشدهن ذلك وأخبرهن أني وجهت بك
فيه قاصدًا، قال: نعم، فحمل الغريض الشعر ورجع إلى المدينة فقصد سكينة، وقال لها:
جُعلت فداك يا سيدتي ومولاتي! إن أبا الخطاب أبقاه الله وجهني إليك قاصدًا، قالت:
أوَليس في خير وسرور تركته؟ قال: نعم، قالت: وفيمَ وجَّهك أبو الخطاب حفظه الله؟
قال: جُعلت فداك! إن ابن أبي ربيعة حمَّلني شعرًا وأمرني أن أنشدك إياه، قالت:
فهاته، فأنشدها:
ألمم بزينب إن البين قد أفدا
قلَّ الثواء لئن كان الرحيل غدا
قد حلفت ليلة الصَّورين جاهدةً
وما على الحر إلا الصبر مجتهدا
لِتربها ولأخرى من مناصفها
لقد وجدت به فوق الذي وجدا
لو جُمِّع الناس ثم اختير صفوتهم
شخصًا من الناس لم أعدل به أحدا
فقالت سكينة: يا ويحه! فما كان عليه ألَّا يرحل في غده! ووجهت إلى النسوة فجمعتهن
وأنشدتهن الشعر، وقالت للغريض: هل عملت فيه شيئًا؟ قال: قد غنيته ابن أبي ربيعة،
قالت: فهاته! فغنَّاه الغريض فقالت سكينة: أحسنت والله وأحسن ابن أبي ربيعة! لولا
أنك سبقت فغنيته عمر قبلنا لأحسنَّا جائزتك، يا بنانة؟ أعطه بكل بيت ألف درهم،
فأخرجت بنانة أربعة آلاف درهم فدفعتها إليه. وقالت سكينة: لو زادنا عمر
لزدناك.
هذا، وأحب أن لا ينسى القارئ أننا اعتمدنا في هذه الأخبار على «الأغاني»
و«الأمالي» و«زهر الآداب»، وقد لاحظنا من قبل أنه لا يبعد أن يكون بعض هذه الأخبار
غير صحيح، فقد ذكر صاحب «الأغاني» في موطن آخر
١٠٦ أن البيت: «قالت سكينة» رُوي: «قالت سعيدة»، وأن المراد: سعدى بنت عبد
الرحمن بن عوف، وإنما غيره المغنون فجعلوا سكينة مكان سعيدة، وأن إسحق الموصلي
غنَّى الرشيد يومًا:
فوضع القدح من يده وغضب غضبًا شديدًا، وقال: لعن الله الفاسق ولعنك معه! فسُقِطَ
في يد إسحق، فعرف الرشيد ما به فسكَّن ثم قال: ويحك أتغنيني بأحاديث الفاسق ابن أبي
ربيعة في بنت عمي وبنت رسول الله! ألا تتحفَّظ في غنائك وتدري ما يخرج من رأسك! عد
إلى غنائك الآن وانظر بين يديك! قال إسحق: فتركت هذا الصوت حتى نسيته، فما سمعه مني
أحد بعده.
١٠٧
وفيما ذكرناه عن السيدة سكينة غُنية لمن يريد أن يعرف كيف تمَثَّلها الأدباء
الأقدمون، أما صورتها في رءوس الصوفية فهي صورة القديسة التي تسيطر على الأرض
والسماء، وكل حزب بما لديهم فرحون!
(٥) الثريا بنت علي
شُغِل صاحب «الأغاني» بتحقيق نسب هذه الثريا، فليرجع إليه من شاء، ولنمض نحن في
الحديث عن فتنتها لعمر بن أبي ربيعة، وذكر ما أوحت إليه من الشعر الجيد البليغ.
كانت الثريا أعجوبة من أعاجيب الجمال، وقد وصفها معاصروها بمثل ما وصفوا به عائشة
بنت
طلحة، فذكروا أنها كانت خصبة الجسم، وثيرة الردف، قال بعض المكيين: كانت الثريا تصب
عليها جرة ماء وهي قائمة فلا يصيب ظاهر فخذيها منه شيء من عظم عجيزتها، وقال مَسْلَمة
بن إبراهيم: قلت لأيوب بن مَسْلَمة: أكانت الثريا كما يصف عمر بن أبي ربيعة؟ فقال: وفوق
الصفة! كانت والله كما قال عبد الله بن قيس:
حبَّذا الحجُّ والثريا ومن بالـ
ـخَيْف من أجلها ومُلقَى الرحال
١٠٨
يا سليمانُ إن تلاقِ الثريا
تلق عيش الخلود قبل الهلالِ
درةٌ من عَقائل البحر بِكرٌ
لم تنلْها مَثَاقِب اللّالِ
١٠٩
وكانت تصيف بالطائف، وكان عمر يغدو عليها كل غداة إذا كانت بالطائف على فرسه، فيسائل
الركبان الذين يحملون الفاكهة من الطائف عن الأخبار قِبَلهم، فلقي يومًا بعضهم فسأله
عن
أخبارهم، فقال: ما استطرفنا خبرًا، إلا أنني سمعت عند رحيلنا صوتًا وصياحًا عاليًا على
امرأة من قريش اسمها اسم نجم السماء، وقد ذهب عني اسمه، فقال عمر: الثريا؟ قال: نعم،
وقد بلغ عمر قبل ذلك أنها عليلة، فوجَّه فرسه على وجهه إلى الطائف يركضه مِلْءَ فُروجه
وسلك طريق كَدَاء، وهي أخشن الطرق وأقربها، حتى انتهى إلى الثريا وقد توقعته وهي
تتشوَّف له فوجدها سليمة ومعها أختاها رُضيَّا وأم عثمان، فأخبرها الخبر فضحكت وقالت:
أنا والله أمرتهم لأختبر ما لي عندك، فقال عمر في ذلك:
تشكَّى الكُميتُ الجريَ لما جَهَدتهُ
وبيَّن لو يَسْطيع أن يتكلما
١١٠
فقلت له: إن ألقَ للعين قُرَّةً
فهان عليَّ أن تكلَّ وتسأما
لِذلك أُدني دون خيلي رِباطَهُ
وأُصي به أن لا يُهان ويكرما
عدمت إذن وَفْري وفارقت مهجتي
لئن لم أَقِل قَرْنا إنِ الله سلَّما
١١١
فما راعها إلَّا الأغرُّ كأنه
عُقابٌ هَوَت مُنقضَّةً قد رأت دما
فقلت لهم: كيف الثريا هَبِلْتمُ؟
فقالوا: ستدري ما مكرنا وتعلما
هنالك فانزل فاسترح فإذا بدتْ
ثُرياك في أترابها الحور كالدُّمى
يُردن احتياز السِّر منك فلا تُبحْ
بما لم تكن عنه لدينا مُجَمْجِما
١١٢
وكانت الثريا تغار على عمر غيرةً شديدة، وتكاد تَجنُّ حين تقف على بعض أخباره مع
ظِراف النساء، بلَّغتها أم نوفل أنه قال في رملة بنت عبد الله:
أصبح القلب في الحبال رهينا
مُقْصدًا يوم فارق الظاعنينا
فقالت: إنه لوَقاحٌ صَنَعٌ بلسانه
١١٣ ولئن سَلِمت له لأردن من شَأْوه
١١٤ ولأُثنينَّ من عِنانه، ولأعرفنه نفسه: فلما بلغت إلى قوله:
قلتُ: من أنتمُ فصدَّت وقالت:
أمُبِدٌّ سؤالُك العالمينا؟!
قالت: أنه لسَأَلٌ مُلحٌّ قبحًا له! ولقد أَجابته إن وفت، فلما بلغت إلى قوله:
نحن من ساكني العراق وكنَّا
قبله قاطنين مكَّة حينا
قالت: غمزته الجَهْمة
١١٥ فلما بلغت إلى قوله:
قد صدقناك إذ سألت فمن أنـ
ـت عسى أن يجر شأنٌ شئونا؟
قالت: رمته الوَرْهاء بآخر ما عندها في مقام واحد.
١١٦ وروي أن الثريا لم سمعت قول ابن أبي ربيعة في رملة:
وجلا بُردُها وقد حسرتهُ
نور بدرٍ يُضيء للناظرينا
قالت: أفٍّ له ما أكذبه! أوَترتفع حسناء بصفته لها بعد رملة.
١١٧
ظرف ابن أبي عتيق
لما هجرت الثريا عمر قال فيها:
قال لي صاحبي ليعلم ما بي
أتحب القَتول أخت الربابِ؟
قلت: وجدي بها كوجدك بالعذ
ب إذا ما مُنِعت برد الشراب
مَن رسولي إلى الثريا، فإني
ضِقتُ ذرعًا بهجرها والكتابِ؟
غَصَبتْني مجَّاجةُ المسك عقلي
فسلوها: ماذا أحلَّ اغتصابي؟
أبرزوها مثل المهاة تَهادى
بين خمْسٍ كواعبٍ أتراب
وهي مكنونةٌ تحيَّر منها
في أَدِيم الخدَّين ماء الشباب
ثم قالوا: تحبها؟ قلت: بهرًا
عدد الرمل والحصى والتراب
قال بلال مولى ابن أبي عتيق: أُنشد ابنُ أبي عتيق قولَ عمر:
من رسولي إلى الثريا، فإني
ضِقت ذرعًا بهجرها والكتاب
فقال: إيايَ أراد، وبي نَوَّه! لا جَرَم، والله لا أذوق أُكلًا حتى أشخص فأصلح
بينهما، ونهض ونهضت معه، فجاء إلى قوم من بني الدِّيل بن بكر لم تكن تفارقهم نجائبُ
لهم فُرْهٌ يُكرونها، فاكترى منهم راحلتين وأغلى لهم، فقلت له: استوضِعْهم، أو دعني
أُماكسهم فقد اشتطُوا عليك، فقال: ويحك! أما علمت أن المِكاس ليس من أخلاق الكرام!
ثم ركب إحداها وركبت الأخرى فسار سيرًا شديدًا، فقلت: أَبق على نفسك! فإن ما تريد
ليس يفوتك، فقال: ويحك!
أُبادر حبل الود أن يتقضَّبا
١١٨
وما حلاوة الدنيا إن تمَّ الصَّدع بين عمر والثريا! فقدمنا مكة ليلًا غير محرمين،
فدقَّ على عمر بابه فخرج إليه وسلم عليه ولم ينزل عن راحلته، فقال له: اركب أُصلح
بينك وبين الثريا فأنا رسولك الذي سألت عنه، فركب معنا وقدمنا الطائف، وقد كان عمر
أرضى أم نوفل فكانت تطلب له الحيل لإصلاحها فلا يمكنها، فقال ابن أبي عتيق للثريا:
هذا عمر قد جشَّمني السفر من المدينة إليك، فجئتك به معترفًا لك بذنب لم يجنه،
معتذرًا إليك من إساءته إليك، فدعيني من التعداد والترداد، فإنه من الشعراء الذين
يقولون ما لا يفعلون، فصالحته أحسن صلح وأتمه وأجمله، وكرَرْنا إلى مكة فلم ينزلها
ابن أبي عتيق حتى رحل، وزاد عمر في أبياته:
أزهقت أم نوفل إذ دعتْها
مهجتي، ما لقاتلي من متاب
١١٩
حين قالت لها: أجيبي! فقالت:
من دعاني؟ قالت: أبو الخطاب
١٢٠
فاستجابت عند الدعاء كما لبَّى
رجالٌ يرجون حسن الثواب
١٢١
الثريا وسهيل
كان مسعدة بن عَمرٍو أخرَج عمر بن أبي ربيعة إلى اليمن في أمر عرض له، وتزوجت
الثريا وهو غائب، تزوجها سهيل بن عبد العزيز، فبلغه تزويجها وخروجها إلى مصر،
فقال:
أيها المنكحُ الثريا سُهيلًا
عَمرَك الله كيف يلتقيان؟
هي شامية إذا ما استقلَّتْ
ثم حمله الشوق على أن سار إلى المدينة، فكتب إليها:
كتبت إليك من بلدي
كتاب مولَّهٍ كَمِدِ
كئيب واكف العينـ
ـين بالحسرات منفرد
يؤرِّقه لهيب الشو
ق بين السَّحر والكبد
فيمسك قلبه بيدٍ
ويمسح عينه بيد
فلما وصلتها هذه الأبيات وقرأتها بكت بكاءً شديدًا، ثم تمثلت:
بنفسيَ من لا يستقلُّ بنفسه
ومن هو إن لم يحفظ اللهُ ضائعُ
وروى صاحب «الأغاني» من طريق آخر
١٢٣ أن سهيل بن عبد العزيز لما تزوَّج الثريا نقلها إلى الشام، وأن عمر بن
أبي ربيعة لما بلغه الخبر أتى المنزل الذي كانت الثريا تنزله، فوجدها قد رحلت منه
يومئذٍ، فخرج في أثرها فلحقها على مرحلتين، وكانت قبل ذلك مُهاجرته لأمر أنكرته
عليه، فلما أدركهم نزل عن فرسه ودفعه إلى غلامه، ومشى متنكرًا حتى مرَّ بالخيمة،
فعرفته الثريا وأثبتت حركته ومِشيته، فقالت لحاضنتها:
١٢٤ كلميه، فسلمت عليه وسألته عن حاله وعاتبته على ما بلغ الثريا عنه،
فاعتذر وبكى، فبكت الثريا، فقالت: ليس هذا وقت العتاب مع وشك الرحيل، فحادثها إلى
طلوع الفجر، ثم ودعها وبكيا طويلًا وقام فركب فرسه، ووقف ينظر إليهم وهم يرحلون، ثم
أتبعهم بصره حتى غابوا، وأنشأ يقول:
يا صاحبيَّ قِفا نستخبر الطَّلَلا
عن حال من حلَّه بالأمس ما فعلا
فقال لي الربع لما أن وقفت به:
إن الخليط أجدَّ البين فاحتملا
١٢٥
وخادعتك النوى حتى رأيتهمُ
في الفجر يحْتثُّ حادي عيسهم زَجِلا
١٢٦
لما وقفنا نحيِّيهم وقد صرختْ
هواتف البين واستولت بهم أُصُلا
١٢٧
صدَّت بعادًا وقالت للتي معها
بالله لوميه في بعض الذي فعلا
وحدثيه بما حُدِّثت واستمعي
ماذا يقول ولا تعيَيْ به جدلا
حتى يرى أنَّ ما قال الوشاة له
فينا لديه إلينا كلُّه نُقلا
وعَرِّفيه به كالهزل واحتفظي
في غير مَعْتبة أن تُغضبي الرجلا
فإن عهدي به والله يحفظهُ
وإن أتى الذنب ممن يكره العَذَلا
لوعندنا اغْتيب أو نِيلت نقيصتُه
ما آبَ مغتابه من عندنا جَذِلا
قلت: اسمعي فلقد أَبلغت في لَطفٍ
وليس يخفى على ذي اللب مَن هزلا
هذا أرادت به بخلا لأعذرها
وقد أرى أنها لن تعدم العللا
ما سُمِّي القلب إلا من تقلُّبه
ولا الفؤاد فؤادًا غير أن عقلا
أما الحديث الذي قالت: أُتيت بهِ
فما عبأَتُ به إذ جاءني حِوَلا
١٢٨
ما إن أطعت بها بالغيب قد علمتْ
مقالةَ الكاشح الواشي إذا مَحلا
١٢٩
إني لأرجعه فيها بسخطته
وقد يرى أنه قد غرَّني زللا
١٣٠
وهي قصيدة طويلة اقتطفنا بعضها في المحاضرة الأولى عند الكلام عن إمعانه في
التِّيه وإغرابه في الصلف.
الثريا عند الوليد بن عبد الملك
لما مات سهيل عن الثريا، أو طلقها، خرجت إلى الوليد بن عبد الملك وهو خليفة بدمشق
في دَين عليها، فبينما هي عند أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان إذ دخل عليها
الوليد، فقال: من هذه؟ فقالت: الثريا، جاءتني تطلب إليك في قضاء دَين عليها وحوائج
لها، فأقبل عليها الوليد فقال: أتروين من شعر عمر بن أبي ربيعة شيئًا؟ قالت: نعم،
أما إنه يرحمه الله كان عفيفًا عفيف الشعر، أروي قوله:
ما على الرسم بالبُلَيَّين لو بيَّـ
ـن رَجع السلام أو لو أجابا
١٣١
فإلى قصر ذي العشيرة فالصا
ئف أمسى من الأنيس يبابا
١٣٢
موحشًا بعد ما أراه أنيسًا
من أناس يبنون فيه القبابا
أصبح الربع قد تغير منهم
وأجالت به الرياح الترابا
فتعفَّى من الرباب فأمسى الـ
ـقلب في إثرها عميدًا مصابا
وبما قد أرى به حيَّ صدقٍ
ظاهِري العيش نعمةً وشبابًا
وحسانًا جواريًّا خفراتٍ
حافظات عند الهوى الأحسابا
لا يُكثِّرن في الحديث ولا يتْـ
ـبَعْن ينعَقْن بالبهام الظِّرابا
١٣٣
طيِّبات الأردان والنشر عِينًا
كمها الرمل بُدَّنًا أترابا
إذ فؤادي يهوى الرباب ويأبى الد
هرَ حتى الممات ينسى الربابا
ضربت دونيَ الحجاب وقالت
في خفاءٍ فما عييتُ جوابًا:
قد تنكَّرت للصديق وأظهرْ
ت لنا اليوم هجرةً واجتنابا
قلت: لا بل عَداك واشٍ فأصبحـ
ـت نَوَارًا ما تقبلين عتابا
١٣٤
فقضى حوائجها وانصرفت بما أرادت منه، فلما خلا الوليد بأم البنين قال لها: لله
دَرُّ الثريا! أتدرين ما أرادت بإنشادها ما أنشدتني من شعر عمر؟ قالت: لا، قال: إني
لما عرَّضتُ لها به عرَّضتْ لي بأن أمي أعرابية.
١٣٥
شعر عمر في الثريا
قال عمر في الثريا طائفةً من القصائد مرَّ بعضها في هذا الحديث، ومرَّت مختارات
منها في المحاضرة الأولى والثالثة، فلنضف إليها هذه البائية:
شاق قلبي تذكر الأحباب
واعترتني نوائب الأَطراب
يا خليليَّ فاعلما أن قلبي
عَلِقَ القلبُ من قريش ثقالًا
ذات دَلٍّ نقية الأثواب
ربةٌ للنساء في بيت مَلْك
جَدُّها حلَّ ذروة الأحساب
شفَّ عنها محقَّقٌ جَنَدِيٌّ
فهي كالشمس من خلال السحاب
١٣٧
فتراءت حتى إذا جنَّ قلبي
سترتها ولائدٌ بالثياب
قلت لما ضربن بالستر دوني
ليس هذا لعاشق بثواب
فأجابت من القطين فتاة
ذاتُ دَلٍّ رقيقةٌ بعتاب:
أرسلي نحوه الوليدة تسعى
قد فعلنا رضا أبي الخطاب
افعلي بالأسير إحدى ثلاثٍ
فافهميهنَّ ثم ردِّي جوابي
اقتليه قتلًا سريحًا مُريحًا
لا تكوني عليه سوط عذاب
١٣٨
أو أقيدي فإنما النفس بالنفـ
ـس قضاءً مفصلًا في الكتاب
١٣٩
أو صليه وصلًا يقرُّ عليهِ
إن شر الوصال وصل الكِذَاب
وهذه اللامية:
يا خليليَّ سائِلا الأطلالا
بالبُلَيَّيْن إن أَجزن سؤالا
وسفاهٌ لولا الصبابةُ حَبْسى
في رسوم الديار ركبا عِجَالا
بعدما أوحشت من آل الثريا
وأجدَّت فيها النعاج الظلالا
يفرح القلب إن رآك وتستعـ
ـبر عيني إذا أردت احتمالا
وقد مر باقي هذه القصيدة البديعة في المحاضرة الثالثة عند الكلام عن تلطفه في
مخاطبة الغواني، وتودده إليهن بحسن الحديث.
جناية الثريا على ثنايا عمر
زار عمر الثريا يومًا ومعه صديق له كان يصاحبه، ويتوصل بذكره في الشعر، فلما كشفت
الثريا الستر وأرادت الخروج إليه رأت صاحبه فرجعت، فقال لها: إنه ليس ممن أحتشمه،
ولا أخفي عنه شيئًا واستلقى فضحك، فخرجت إليه فضربته بظاهر كفها، وكان النساء إذ
ذاك يتختَّمن في أصابعهن العشْر، فأصابت الخواتيم ثنيَّتيه العُلْيين فنَغَضَتا
وكادتا تسقطان، فقدم البصرة فَعُولجتا له، فثبتتا واسودَّتا، فقال الحزين
الكناني
١٤٠ يعيره بذلك:
ما بال سِنيك أم ما بالُ كسرهما
أهكذا كُسِرَا في غير ما باسِ
أم نفحةٌ من فتاةٍ كنتَ تألفها
أم نالها وسْط شَرْبٍ صَدْمة الكاس
ولقيه الحزين يومًا فأنشده هذين البيتين، فقال له عمر: اذهب، اذهب، ويلك! فإنك لا
تحسن أن تقول:
ليت هندًا أنجزتنا ما تَعِد
وشفت أنفسنا مما تجد
واستبدَّت مرَّةً واحدةً
إنما العاجز من لا يستبد
بكاء الثريا
لما ماتت الثريا طلب الغريض من بعض الشعراء أن يقول أبياتًا ينوح بها عليها،
فقال:
ألا يا عين ما لك تدمعينا
أمن رمد بكيت فتُكحَلينا
أم انت حزينةٌ تبكين شجوًا
فشجوك مثله أبكى العيونا
وكانت والله أهلًا لأن تُبكى بغير هذا الشعر الضعيف، لو عرف معاصروها أنهم يوم
دفنوها إنما غيَّبوا الثريا في التراب!
(٦) زينب بنت موسى
كان سبب شغف ابن أبي ربيعة بزينب بنت موسى كما قال صاحب «الأغاني»: أن ابن أبي عتيق
ذكرها عنده يومًا فأطراها، ووصف من عقلها وأدبها وجمالها ما شغل قلبه وأماله إليها،
فقال فيها الشعر وشبَّب بها، فمن ذلك هذه النونية:
يا خليليَّ من ملام دعاني
وألمَّا الغداةَ بالأظعانِ
لا تلوما في آل زينب إن الـ
ـقلب رهنٌ بآل زينب عاني
ما أرى ما بقيت أن أذكر المو
قف منها بالخَيْفِ إلا شجاني
١٤١
لم تَدع للنساء عندي نصيبًا
غير ما قلت مازحًا بلساني
١٤٢
هي أهل الصفاء والود مني
وإليها الهوى فلا تعذلاني
حين قالت لأختها ولأخرى
من قطينٍ مُوَلَّدٍ: حدِّثاني
١٤٣
كيف لي اليوم أن أرى عمر المُر
سلَ سرًّا في القول أن يلقاني؟
قالتا: نبتغي رسولًا إليه
ونميت الحديث بالكتمان
إن قلبي بعد الذي نلت منها
كالمعنَّى عن سائر النسوان
١٤٤
فلما بلغ ذلك ابن أبي عتيق لامه وقال له: أتنطق الشعر في ابنة عمي؟ فقال:
وتذكرت ظبية أُم رئمٍ
هاج لي الشوق ذكرها فشجاني
١٤٦
لا تلمني عتيق حسبي الذي بي
إن بي يا عتيق ما قد كفاني
لا تلمني وأنت زينتها لي
أنت مثل الشيطان للإنسان
إن بي داخلًا من الحب قد أبـ
ـلى عظامي مكنونُه وبراني
لو بعينيك يا عتيق نظرنا
ليلة السفح قرَّتِ العينان
إذ بدا الكشح والوشاح من الدرْ
رِ وفصلٌ فيه من المرجان
١٤٧
قد قَلَى قلبي النساء سواها
بعدما كان مغرمًا بالغواني
إن دهرًا يلُفُّ شملي بسُعْدى
لزمانٌ يهمُّ بالإحسانِ
ليتني أشتري لنفسيَ منها
مثل ودي بساعدي وبناني
خَلَجَتْ عينيَ اليمين بخير
تلك عينٌ مأمونة الخلجانِ
قال قُدَامة بن موسى: خرجت بأختي زينب إلى العمرة، فلما كانت بسرف
١٤٨ لقيني عمر بن أبي ربيعة على فرس فسلم عليَّ، فقلت له: إلى أين أراك متوجهًا
يا أبا الخطاب؟ فقال: ذكرت لي امرأة من قومي بَرْزة الجمال
١٤٩ فأردت الحديث معها، فقلت: هل علمت أنها أختي؟ فقال: لا، واستحيا وثنى عنق
فرسه راجعًا إلى مكة.
١٥٠
وخرج ابن أبي ربيعة يريد المسجد وخرجت زينب تريده، فالتقيا فاتَّعدا لبعض الشِّعاب
فلما توسَّطا الشِّعب
١٥١ أخذتهما السماء، فكره أن يُرى بثيابها بَلَل المطر، فيقال لها: ألا استترت
بسقائف المسجد إن كنت فيه؟ فأمر غلمانه فستروهما بكساء خز كان عليه، وفي ذلك
يقول:
ومن لسقيمٍ يكتم الناسَ ما به
لزينبَ نجوى صدره والوساوِسُ
أقول لمن يبغي الشفاء: متى تجئْ
بزينب تُدْرِكْ بعض ما أنت لامس
فإنك إن لم تشف من سقَمي بها
فإني من طب الأطباءِ لآيسُ
ولست بناس ليلَة الدار مجلسًا
لزينب حتى يعلوَ الرأس رامس
١٥٢
خلاءً بدت قمراؤُهُ وتكشَّفتْ
دُجُنَّته وغاب من هو حارسُ
وما نلت منها محرمًا غير أننا
كلانا من الثوب المورَّدِ لابس
نجيِّيْنِ نقضي اللهوَ في غير مأثمٍ
وإن رغمتْ مِ الكاشحين المعاطس
١٥٣
ومن شعره في زينب قوله:
طال من آل زينب الإعراض
للتعدِّي وما بها الإبغاضُ
ووليدين كان عُلِّقها القلـ
ـبُ إلى أن علا الرءوس بياضُ
حبلها عندنا متينٌ وحبلى
عندها واهن القُوَى أنقاض
١٥٤
حين قالت لموكب كمها الرمـ
ـل أطاعت له النباتَ الرياضُ
عُجْنَ نحو الفتى البغال نحيِّيـ
ـه بما تكتم القلوب المِراضُ
وأُحدِّثه ما تضمَّنت منهُ
إذ خلا اليوم للمسير المرَاض
١٥٦
وقوله:
تصابى القلب وادَّكرا
صباه ولم يكن ذكرا
لزينب إذ تُجدُّ لنا
صفاءً لم يكن كدرا
أليست بالتي قالت
لمولاةٍ لها ظُهرا
أشيري بالسلام له
إذا هو نحونا خطرا
لقد أرسلت جاريتي
وقلت لها: خذي حذرا
وقولي في ملاطفةٍ
لزينب نوِّلي عمرا
فهزَّت رأسها عجبًا
وقالت: من بذا أمرا؟
أهذا سِحرك النسوا
ن قد خبَّرنني الخبرا
وقوله:
أيها الكاشح المعيِّر بالصَّرْ
مِ تزحزحْ فما لها الهجرانُ
لا مُطاعٌ في آل زينب فارجع
أو تكلَّم حتى يملَّ اللسان
تجعل الليل موعدًا حين تُمسي
ثم يُخفي حديثنا الكتمان
كيف صبري عن بعض نفسي وهل يصـ
ـبر عن بعض نفسه الإنسان
ولقد أشهد المحدَّث عند الـ
في زمان من المعيشة لَدْنٍ
قد مضى عصره وهذا زمانُ
ومن شعره فيها هذه الرائية الغزلة التي عدُّوها من هفواته، ورأوه ينسب فيها بنفسه،
وهي لو يعلمون من أظرف ما يقوله شاعر حُلو الشمائل في حِسان يتلمَّسن أسباب
هواه:
ما زال طرفي يحار إذ برزت
حتى رأيت النقصان في بصري
أبصرتها ليلةً ونسوتها
يمشين بين المقام والحجر
ما إن طمعنا بها ولا طمعت
حتى التقينا ليلًا على قَدَرِ
١٥٨
بيضًا حسانًا خرائدًا قُطُفًا
يمشين هَوْنًا كمشية البقر
١٥٩
قد فزن بالحسن والجمال معًا
وفزن رِسلًا بالدَّلِّ والخَفر
١٦٠
قالت لترب لها تحدِّثُها:
لنفسدنَّ الطواف في عمر
قومي تصدَّيْ له ليعرفنا
ثم اغمزيه يا أخت في خفرِ
قالت لها: قد غمزته فأبى
ثم اسبطرَّت تسعى على أثري
١٦١
من يُسق بعد المنام ريقتها
يُسق بمسك وباردٍ خَصِرِ
١٦٢
وقد لاحظت أنه يُفيض فيما يُسبغ على زينب هذه من الأوصاف الحسِية، كقوله:
تمشي الهوينا إذا مشت فُضُلًا
وهي كمثل العُسْلوج في الشجر
١٦٤
وقوله من كلمة أخرى:
وساقًا تملأ الخلخا
ل فيه تراه مختنقا
(٧) فاطمة بنت عبد الملك
ربما كان حديث ابن أبي ربيعة مع فاطمة بنت عبد الملك بن مروان أظرف ما مر بنا من
الأحاديث، لما فيه من المفاجآت التي تمثل دهاء ربات القصور في ذلك الحين، فقد روى صاحب
«الأغاني» أنها حجت فكتب الحَجاج إلى عمر بن أبي ربيعة يتوعده إن ذكرها في شعره بكل
مكروه، وكانت تحب أن يقول فيها شيئًا وتتعرض لذلك، فلم يفعل خوفًا من الحجاج، فلما قضت
حجها خرجت فمرَّ بها رجل فقالت له: من أنت؟ قال: من أهل مكة، قالت: عليك وعلى أهل بلدك
لعنة الله! قال: ولم ذاك؟ قالت: حججت فدخلت مكة ومعي من الجواري ما لم تر الأعين مثلهن،
فلم يستطع الفاسق ابن أبي ربيعة أن يزوِّدنا من شعره أبياتًا نلهو بها في الطريق في
سفرنا، قال: فإني لا أراه إلا قد فعل، قالت: فأتنا
بشيء إن كان قاله ولك به عشرة دنانير، فمضى إليه فأخبره، فقال: لقد فعلت، ولكن أحب أن
تكتم عليَّ، قال: أفعل، فأنشده:
راع الفؤاد تفرق الأحباب
يوم الرحيل فهاج لي أطرابي
فظللت مكتئبًا أكفكف عبرةً
سحًّا تفيض كوابل الأسراب
لما تنادوا للرحيل وقرَّبوا
بُزْل الجمال لِطيةٍ وذهاب
كاد الأسى يقضي عليك صبابة
والوجه منك لِبَيْنِ إِلْفِكَ كابِ
وأنشده:
هاج قلبي تذكر الأحباب
واعترتني نوائب الأطراب
وهي قصيدة طويلة ذكر صاحب «الأغاني» في أخبار حنين أن ابن أبي ربيعة قالها في فاطمة
بنت عبد الملك، وذكر في أخبار الشاعر نفسه أنه قالها في الثريا بنت عليِّ، فلنقيد ذلك
فإنه يؤيد ما أشرنا إليه من أن ابن أبي ربيعة غير صادق الحب، وأنه ينقل شعره من جميلة
إلى جميلة وَفقًا لمقتضيات الظروف، وأن الرواة وضعوا من أقاصيص عشقه ما شاء لهم الخيال؛
ترويحًا لأنفس السامرين من الخلفاء والأمراء.
حسابها لعمر على هتك الحرائر
ولنذكر تلك القصة الطريفة التي رواها صاحب «الأغاني» في أخبار ابن أبي ربيعة، إذ
نقل أنه كان جالسًا بمنًى في فِناءِ مضربه وغلمانه حوله، فأقبلت امرأة برزة عليها
أثر النعمة، فسلمت فرد عليها السلام، فقالت له: أنت عمر بن أبي ربيعة؟ فقال لها:
أنا هو، فما حاجتك؟ قالت له: حياك الله وقرَّبك هل لك في محادثة أحسن الناس وجهًا،
وأتمهم خلقًا، وأكملهم أدبًا، وأشرفهم حسبًا؟ قال: ما أحبَّ إليَّ ذلك! قالت: على
شرط، قال: قولي، قالت: تمكِّنني من عينيك فأشدُّهما وأقودُك حتى إذا توسطت الموضع
الذي أريد حللت الشدَّ، ثم أفعل ذلك بك عند إخراجك حتى أنتهي بك إلى مضربك، قال:
شأنك، ففعلت ذلك به، فلما انتهت به إلى المضرب الذي أرادت، كشفت عن وجهه، فرأى
امرأة على كرسي لم ير مثلها قط جمالًا وكمالًا،
فسلم وجلس، فقالت: أنت عمر بن أبي ربيعة؟ قال: أنا عمر، قالت: أنت الفاضح للحرائر؟
قال: وما ذاك، جعلني الله فداك! قالت: ألست القائل:
قالت: وعيش أبي وحرمة والدي
لأنَبِّهن الحيَّ إن لم تخرجِ
فخرجت خوف يمينها فتبسَّمت
فعلمت أن يمينها لم تَحْرَج
١٦٦
فتناولتْ رأسي لتعرف مسَّهُ
بمخضَّب الأطراف غيرِ مُشنَّج
١٦٧
فلثمت فاها آخذًا بقرونها
شرب النزيف ببرد ماء الحشرج
١٦٨
ثم قالت: قم فاخرج عني! ثم قامت من مجلسها، وجاءت المرأة فشدَّت عينيه وقد دخله
الكآبة والحزن ما لا طاقة له به، وبات ليلته، فلما أصبح إذا هو بها، فقالت: هل لك
في العَود؟ فقال: شأنك، ففعلت به مثل فعلها بالأمس حتى انتهت به إلى الموضع، فلما
دخل إذا بتلك الفتاة على كرسي، فقالت: إيهِ يا فضَّاحَ الحرائر! قال: بماذا؟ جعلني
الله فداك! قالت: بقولك:
وناهدة الثديين قلت لها: اتكي
على الرمل من جبَّانة لم توسَّدِ
فقالت: على اسم الله أمرك طاعةٌ
وإن كنت قد كُلِّفتُ ما لم أُعوَّدِ
فلما دنا الإصباح قالت: فضحتني
فقم غير مطرود وإن شئت فازدد
ثم قالت: قم فاخرج عني! فقام فخرج ثم رُدَّ، فقالت له: لولا وَشْكُ الرحيل، وخوف
الفَوْت، ومحبَّتي لمناجاتاك والاستكثار من محادثتك، لأقصيتك، هات الآن كلِّمني
وحدِّثني وأنشدني، فكلم آدب الناس وأعلمهم بكل شيء، ثم نهضت وأبطأت العجوز وخلا له
البيت، فأخذ ينظر فإذا هو بتَوْر فيه خلوق،
١٦٩ فأدخل يده فيه ثم خبأها في رُدنه،
١٧٠ وجاءت تلك العجوز فشدَّت عينيه، ونهضت به تقوده حتى إذا صار على باب
المِضرب أخرج يده، فضرب بها على المِضرب، ثم صار إلى مضربه فدعا غلمانه فقال: أيكم
يقفني على باب مضرب عليه خلوق كأنه أثر كف فهو حر، وله خمسمائة درهم، فلم يلبث أن
جاء بعضهم فقال: قم، فنهض معه فإذا هو بالكفِّ طَرِيةً، وإذا المِضرب مِضرب فاطمة
بنت عبد الملك بن مروان، فأخذت في أُهبة الرحيل، فلما نفرتْ نفر معها، فَبصُرت في
طريقها بقباب ومِضرب وهيئة جميلة، فسألت عن ذلك فقيل لها: هذا عمر بن أبي ربيعة،
فساءها الأمر، وقالت للعجوز التي كانت ترسلها إليه: قولي له: نشدتك الله والرحم أن
تصحبني، ويحك! ما شأنك وما الذي تريد؟ انصرف ولا تفضحني وتُشيطَ بدمِك،
١٧١ فسارت العجوز إليه فأدت ما قالت لها فاطمة، فقال: لست بمنصرف أو توجِّه
إليَّ بقميصها الذي يلي جلدها، فأخبرتها ففعلت ووجهت إليه بقميص من ثيابها فزاده
ذلك شغفًا، ولم يزل يتبعهم لا يخالطهم حتى إذا صاروا على أميال من دمشق انصرف، وقال
في ذلك:
ضاق الغداة بحاجتي صدري
ويئست بعد تقارب الأمر
وذكرت فاطمة التي عُلِّقتها
عَرَضًا فيا لحوادث الدهر
ممكورةٌ رَدْع العبير بها
جمُّ العظام لطيفة الخصر
١٧٢
وكأن فاها عند رَقْدتها
تجري عليه سُلافة الخمر
شَرِقًا بذَوْب الشهد يخلطهُ
بالزنجبيل وفأرة التجرْ
١٧٣
عرضت لنا بالخَيْف في بقرٍ
تَقْرو الكَباثَ وناضِر السِّدر
١٧٤
وجَلَت أسيلًا يومَ ذي خُشُبٍ
ريَّان مثل فُجَاءَة البدرِ
١٧٥
فسبَتْ فؤاديَ إذ عرضتُ لها
يوم الرحيل بساحة القصر
بمُزيَّنٍ رَدْع العبير بهِ
حَسَن الترائب واضح النحر
١٧٦
وبجيدِ آدم شادنٍ خرقٍ
يرعى الرياض ببلدةٍ قَفْرِ
١٧٧
لما رأيت مَطيَّها حِزَقًا
خَفق الفؤاد وكنت ذا صبر
١٧٨
وتبادرت عينايَ بعدهمُ
وانهلَّ دمعهما على الصدرِ
ومن شعره فيها وقد جدَّ بها الرحيل:
كدتُ يوم الرحيل أقضي حياتي
ليتني متُّ قبل يوم الرحيلِ
لا أطيق الكلام من شدة الوجْـ
ـد ودمعي يسيل كل مسيلِ
ذرفت عينها ففاضت دموعي
وكلانا يلقى بلُبٍّ أصيل
لو خَلَت خلتي أصبتُ نوالًا
وحديثًا يشفي مع التنويلِ
ولظَلَّ الخلخال فوق الحشايا
ولقد قالت الحبيبة: لولا
كثرة الناس جُدت بالتقبيل
ليس طعم الكافور والمسكِ شيِبا
ثم عُلَّا بالراح والزنجبيل
١٨٠
حين تَنْتَابُها بأطيبَ من فيـ
ـها طُروقًا إن شئت أو بالمقيل
١٨١
ذاك ظني ولم أذق طعم فيها
لا وما في الكتاب من تنزيل
رَبعةٌ أو فُويق ذاك قليلًا
ونئوم الضحى وحَقُّ كسولِ
١٨٢
وقال فيها أيضًا هذه الرائية:
يا خليلي شفَّني الذِّكَرُ
وحُمول الحيِّ إذ صدروا
ضربوا حُمر القباب لها
وأديرت حولها الحُجَرُ
لو سُقي الأموات ريقتها
بعد كأس الموت لانتشروا
أخيام البئر منزلهم
أم هُم بالعمرة ائتمروا
١٨٥
سلكوا شِعب النِّقاب بها
زُمَرًا تحتثُّها زُمَرُ
١٨٧
حوله الأحراس ترقبه
نُوَّمٌ من طول ما سهروا
فدعت بالويل آونة
حين أدناني لها النظر
ثم قالت للتي معها:
ويح نفسي قد أتي عُمر
ما له قد جاء يطرقنا
ويرى الأعداء قد حضروا
أزواجها
كانت فاطمة بنت عبد الملك تحت عمر بن عبد العزيز، فلما مات عنها تزوجها داود بن
سليمان بن مروان، وكان قبيح الوجه، فقال في ذلك موسى شهوات:
أبعد الأغر ابن عبد العزيز
قَريع قريش إذا يُذكرُ
تزوجتِ داود مختارةً
ألا ذلك الخلف الأعور
فكانت إذا سخطت عليه تقول: صدق والله موسى، إنك لأنت الخلف الأعور! فيشتمه
داود.
ولفاطمة بنت عبد الملك أحاديث في فتنة من عاصرها من الشعراء، كنا نود ذكرها لولا
إيثار الإيجاز.
(٨) هند بنت الحارث
هي إحدى جميلات ذلك العصر، وهي التي أوحت إلى عمر عينيته التي قرنها القدماء إلى
رائيته وفضلوه بهما على جميل، ولنترك ابن أبي ربيعة يتكلم هذه المرة إذ كان حديثه عن
هند يشبه ما يعرف بالاعتراف.
حدث مصعب بن عبد الله عن عثمان بن إبراهيم الخاطبي، قال:
١٩٥ أتيت عمر بن أبي ربيعة بعد أن نسك بسنين وهو في مجلس قومه من بني مخزوم،
فانتظرت حتى تفرق القوم، ثم دنوت منه ومعي صاحب لي ظريف، فقال: تعال حتى نهيجه على
الغزل، فننظر هل بقي في نفسه منه شيء؟ فقلت: دونك! فقال: يا أبا الخطاب! لقد أحسن
العذري وأجاد فيما قال، فنظر عمر إليه ثم قال له: وماذا قال؟ قال: حيث يقول:
لو جُذَّ بالسيف رأسي في مودتها
لمرَّ يهوي سريعًا نحوها راسي
١٩٦
ولو بَلِي تحت أطباق الثرى جسدي
لكنت أبلَى وما قلبي لكم ناس
أو يقبض الله روحي صار ذكركُم
روحًا أعيش به ما عشت في الناس
لولا نسيمٌ لذكراكم يروِّحني
لكنت محترقًا من حرِّ أنفاسي
فارتاح عمر إلى هذه الأبيات، ثم قال: يا ويحه! أبعدما يُجذُّ رأسه يميل إليها! فقلت:
ولله دَرُّ جُنادة العذري! فقال عمر: حيث يقول ماذا ويحك! فقلت: حيث يقول:
سرت لعينك سلمى بعد مغفاها
فبت مستنبهًا من بعد مسراها
١٩٧
فقلت: أهلًا وسهلًا من هداك لنا
إن كنت تمثالها أو كنت إياها
تأتي الرياح التي من نحو بلدتكم
حتى أقول: دنت منا برياَّها
وقد تراخت بنا عنها نوًى قَذَفٌ
هيهات مُصْبَحها من بعد مُمْساها
١٩٨
من حبها أتمنى أن يلاقيني
من نحو بلدتها ناع فينعاها
كيما أقول: فراقٌ لا لقاء له
وتضمر النفس يأسًا ثم تسلاها
ولو تموت لراعتني وقلت لها:
يا بُؤْس للدهر ليت الموت أبقاها
فضحك عمر ثم قال: وأبيك لقد أحسن وأجاد وما أبقى
١٩٩ ولقد هيجتما عليَّ ساكنًا، وذكرتماني ما كان عني غائبًا، ولأحدثنكما حديثًا
حلوًا:
بينما أنا منذ أعوام جالس إذ أتاني خالد الخِرِّيت
٢٠٠ فقال لي: يا أبا الخطاب، مرَّت بي أربع نسوة قبيل العشاء يُردِنَ موضع كذا
وكذا لم أر مثلهن في بدو ولا في حضر، فيهن هند بنت الحارث المرية، فهل لك أن تأتيهن
متنكرًا فتسمع من حديثهن، وتتمتع بالنظر إليهن، ولا يعلمن من أنت؟ فقلت له: ويحك! وكيف
لي أن أخفي نفسي؟ قال: تلبَس لبسة أعرابي ثم تجلس على قَعود، فلا يشعرن إلا بك قد هجمت
عليهن، ففعلت ما قال، وجلست على قعود فسلمت عليهن ثم وقفت بقربهن، فسألنني أن أنشدهن
وأحدثهن، فأنشدتهن لكثير وجميل، والأحوص ونصيب وغيرهم، فقلن لي: ويحك يا أعرابي! ما
أملحك وأظرفك! لو نزلت فتحدثت معنا يومنا هذا فإذا أمسيت انصرفت في حفظ الله! فأنخت
بعيري ثم تحدثت معهن، وأنشدتهن، فسُرِرن بي وجَذِلن بقربي وأعجبهن حديثي، ثم تغامزن
وجعل بعضهن يقول لبعض: كأنا نعرف هذا الأعرابي! ما أشبهه بعمر بن أبي ربيعة! فقالت
إحداهن: هو والله عمر! فمدت هند يدها فانتزعت عمامتي فألقتها عن رأسي، ثم قالت: هِيهِ
يا عمر: أتُراك خدعتنا منذ اليوم! بل نحن والله خدعناك، واحتلنا عليك بخالد فأرسلناه
إليك لتأتينا في أسوأ هيئة ونحن كما ترى، ثم أخذنا في الحديث. فقالت هند: ويحك يا عمر!
اسمع مني، لو رأيتني منذ أيام وأصبحت عند أهلي، فأدخلت رأسي في جيبي، فلما نظرتُ إلى
كَعْثَبي فرأيته ملء العين وأمنية المتمنِّي ناديت: يا عمراه! يا عمراه! فصِحْتُ: يا
لَبَّيْكاه! يا لَبَّيْكاه! ثلاثًا، ومددت في الثالثة صوتي، فضحكت، وحادثتهن ساعة ثم
ودعتهن وانصرفت، فذلك حيث أقول:
ألم تسأل الأطلال والمتَربَّعا
ببطن حُلَيَّاتٍ دوارس بلقعا
٢٠١
إلى السَّرح من وادي المغمَّس بُدِّلتْ
معالمهُ وبلًا ونكباء زَعْزَعا
٢٠٢
فيبخلن أو يخبرن بالعلم بعدما
نكأْن فؤادًا كان قِدمًا مفجَّعا
٢٠٣
لهند وأتراب لهند إذ الهوى
جميعٌ وإذ لم نخش أن يتصدعا
٢٠٤
وإذ نحن مثلُ الماء كان مِزاجهُ
كما صفَّق الساقي الرحيق المُشَعْشَعا
٢٠٥
وإذ لا نطيع الكاشحين ولا نرى
لواشٍ لدينا يطلب الصَّرْم موضعا
٢٠٦
تُنُوعِتْن حتى عاود القلبَ سُقمهُ
وحتى تذكرت الحديث المودَّعا
٢٠٧
فقلت لِمُطْريهن بالحسن: إنما
ضررت فهل تسطيعُ نفعًا فتنفعا
٢٠٨
وأَشْرَيتَ فاستشرى وقد كان قد صحا
فؤادٌ بأمثال المَهَا كان مُوزعا
٢٠٩
وهيَّجت قلبًا كان قد ودَّع الصِّبا
وأشياعه فاشفع عسى أن تُشفَّعا
٢١٠
لئن كان ما حَدَّثتَ حقًّا فما أرى
كمثل الأُلَى أطريت في الناس أربعا
فقال: تعال انظر فقلت: وكيف لي؟
أخاف مقامًا أن يشيع فيشنُعا
٢١١
فقال: اكتفل ثم التثم وأت باغيًا
فسلِّم ولا تُكثر بأن تتورَّعا
٢١٢
فإني سأخفي العين عنك فلا تُرى
مخافة أن يفشو الحديث فيُسمعا
فأقبلت أهوى مثل ما قال صاحبي
لموعده أُزْجي قَعودًا مُوَقِّعا
٢١٣
فلما تواقفنا وسلمت أشرقت
وجوهٌ زهاها الحسن أن تتقنَّعا
٢١٤
تبالهن بالعِرفانِ لما عرفنني
وقلن: امرؤٌ باغٍ أضلَّ فأوضعا
٢١٥
وقرَّبن أسباب الهوى لمتيَّم
يقيس ذراعًا كلما قِسْن إصبعا
فلما تنازعنا الأحاديث قلن لي:
أخِفتَ علينا أن نُغرَّ ونُخْدَعَا؟
لَبالأمس أرسلنا بذلك خالدًا
إليك وبيَّنَّا له الشأن أجمعا
فما جئتنا إلا على وَفْق موعدٍ
على ملأٍ منَّا خرجنا لهُ معا
رأينا خلاءً من عيون ومجلسًا
دميث الرُّبى سهل المحلة ممرعا
٢١٦
وقلنا: كريم نال وصل كرائم
فحقَّ له في اليوم أن يتمتعا
٢١٧
ولعمر في هند شعر كثير، منه هذه الرائية:
يا صاحبيَّ قِفا نستخبر الدارا
أقوت وهاجت لنا بالنعف تذكارا
٢١٨
تبدَّل الربع ممن كان يسكنهُ
أُدم الظباء به يمشين أسطارا
٢١٩
وقد أرى مرةً سربًا به حسنًا
مثل الجآذر لم يُمسَسْن أبكارا
٢٢٠
فيهن هندٌ وهندٌ لا شبيه لها
فيمن أقام من الأحياء أو سارا
هيفاء مقبلةً عجزاء مُدبرةً
تخالها في ثياب العَصب دينارا
٢٢١
تفترُّ عن ذي غُروبٍ طعمه ضَرَبٌ
تخاله بردًا من مزنةٍ مارا
٢٢٢
كأن عِقد وشاحيها على رشأٍ
يقرو من الروض؛ روض الحزن أثمارا
٢٢٣
قامت تهادى وأترابٌ لها معها
هوْنًا تَدافُعَ سيل الزُّل إذ مارا
٢٢٤
يمَّمن مُورقة الأفنان دانيةً
وفي الخلاء فما يؤنسن ديَّارا
٢٢٥
تقول: ليت أبا الخطاب وافقنا
كي نلهو اليوم أو ننشد أشعارا
٢٢٦
فلم يَرُعهنَّ إلا العيسُ طالعةً
يحملن بالنَّعف رُكَّابًا وأكوارا
٢٢٧
وفارسٌ يحمل البازي فقلن لها:
هاهم أولاء وما أكثرن إكثارا
٢٢٨
لما وقفنا وعَنَّنا ركائبنا
بُدِّلن بالعُرف بعد الرَّجع إنكارا
٢٢٩
قلن: انزلوا نَعِمتْ دارٌ بقربكمُ
أهلًا وسهلًا بكم من زائر زارا
لمَّا ألَمَّت بأصحابي وقد هجعوا
حسبتُ وسط رحال القوم عطارا
من طيب نشر التي تامتك إذ طرقت
ونفحة المسك والكافور إذ ثارا
فقلت: من ذا المحيِّي وانتبهت لهُ
ومَن محدِّثنا هذا الذي زارا
٢٣٠
قالت: محبٌّ رماه الحب آونةً
وهيَّجته دواعي الحب إذ ثارا
حُلِّي إزارك سُكنَى غيرَ صاغرة
إن شئت واجزي محبًّا بالذي سارا
فقد تجشَّمتُ من طول السُّرى تعبًا
وفي الزيارة قد أبلغت أعذارا
إن الكواكب لا يشبهن صورتها
وهنَّ أسوأ منها بعدُ أخبارا
٢٣١
وفيها أيضًا يقول:
هاج القريض الذِّكَرُ
لما غدوْا فابتكروا
ومن شعره في هند تلك الدالية التي استطال بها على الحزين الكناني، وقد أشرنا إلى ذلك
في أخبار الثريا، والتي كانت فيما بعد سببًا لثورة الرشيد بالبرامكة، وتمزيقهم كلَّ
ممزق، حين دسَّ إليه خصومهم من غناه:
ليت هندًا أنجزتنا ما تعد
وشفت أنفسنا مما تجد
واستبدَّت مرة واحدةً
إنما العاجز من لا يستبد
فلنذكرها هنا كاملة لأهميتها في الأدب والتاريخ، قال:
أكما ينعتني تبصرنني
عمركنَّ الله أم لا يتئد
فتضاحكن وقد قلن لها:
حسنٌ في كل عين من تود
حسدًا حُمِّلنه من أجلها
وقديمًا كان في الناس الحسد
غادة تفتر عن أشنبها
حين تجلوه أقاح أو بَرَد
٢٣٦
ولها عينان في طرفيهما
حَوَرٌ منها وفي الجيد غَيد
٢٣٧
طَفْلَةٌ باردة القيظ إذا
معمعان الصيف أضحى يتقد
٢٣٨
سُخنة المشتى لحافٌ للفتى
تحت ليل حين يغشاه الصَّرَد
٢٣٩
ولقد أذكر إذ قلت لها:
ودموعي فوق خدي تطَّرد
قلت: من أنتِ؟ فقالت: أنا من
شفَّه الوجد وأبلاه الكمد
نحن أهل الخيف من أهل منى
ما لمقتول قتلناه قَوَد
٢٤٠
قلت: أهلًا أنتم بغيتنا
فتسمِّين فقالت: أنا هند
إنما ضُلِّل قلبي فاحتوى
صعدةً في سابريٍّ تطَّرد
٢٤١
إنما أهلك جيران لنا
إنما نحن وهم شيءٌ أحد
كلما: قلت متى ميعادنا؟
ضحكت هندٌ وقالت: بعد غد
وبمناسبة ما كان من سعي عمر إلى أتراب هند، نذكر ما نقله صاحب «الأغاني» عن الحارث
بن
خالد إذ قال:
٢٤٣
بلغني أن الغريض خرج مع نسوة من أهل الشرف ليلًا إلى بعض المتحدَّثات من
نواحي مكة وكانت ليلة مقمرة، فاشتقت إليهن وإلى مجالستهن، وإلى حديثهن، وخفت
على نفسي لجناية كنت أُطالَب بها، وكان عمر مهيبًا معظمًا لا يقدم عليه سلطان
ولا غيره، وكان مني قريبًا، فأتيته فقلت له: إن فلانة وفلانة وفلانة، حتى
سميتهن كلهن، قد بعثنني، وهن يقرأن عليك السلام، وقد تشوقنا إليك في ليلتنا هذه
لصوت أنشدناه فُوَيْسِقُك الغريض، وكان الغريض يغني هذا الصوت فيجيده، وكان ابن
أبي ربيعة به معجبًا، وكان كثيرًا ما يسأل الغريض أن يغنيه، وهو:
أمسى بأسماء هذا القلب معمودا
إذا أقول: صحا، يعتاده عِيدا
٢٤٤
كأن أحور من غزلان ذي بقر
أهدى لها شَبَه العينين والجِيدا
٢٤٥
قامت تَراءَى وقد جدَّ الرحيل بنا
لتنكأ القرح من قلب قد اصطِيدا
كأنني يوم أُمسي لا تكلمني
ذو بغية يبتغي ما ليس موجودا
٢٤٦
أجري على موعد منها فتخلفني
فما أملُّ وما توفي المواعيدا
قد طال مَطلي لو ان اليأس ينفعني
أو أن أصادف من تلقائها جودا
فلما أخبرته الخبر قال: لقد أزعجتني في وقت كانت الدعة أحب فيه إليَّ ولكن
صوت الغريض، وحديث النسوة ليس له مَتْرك، ولا عنه محيص، فدعا بثيابه فلبسها
وقال: امض! فمضينا نمشي العَجَل حتى قربنا منهن، فقال لي عمر: خَفِّض عليك
مشيك، ففعلت، حتى وقفنا عليهن، وهن في أطيب حديث وأحسن مجلس، فسلمنا،
فتهيَّبننا وتخفَّرن منا، فقال الغريض: لا عليكن! هذا ابن أبي ربيعة والحارث بن
خالد جاءا متشوِّقين إلى حديثكن وغنائي، فقالت فلانة: وعليك السلام يا ابن أبي
ربيعة! والله ما تم مجلسنا إلا بك، اجلسا، فجلسنا غير بعيد، وأخذن عليهن
جلابيبهن وتقنعن بأخمرتهن وأقبلن علينا بوجوههن وقلن لعمر: كيف أحسست بنا وقد
أخفينا أمرنا؟ فقال: هذا الفاسق جاءني برسالتكن، وكنت وقيذًا من علة
وجدتها،
٢٤٧ فأسرعت الإجابة، ورجوت منكن على ذلك حسن الإثابة، فرددن عليه: قد
وجب أجرك، ولم يخب سعيك، ووافق منا الحارث إرادة، فحدثهن بما قلت له من قصة
غناء الغريض، فقال النسوة: والله ما كان ذلك كذلك، ولقد نبهتنا على صوت حسن، يا
غريض! هاته! فاندفع الغريض يغني ويقول:
أمسى بأسماء هذا القلب معمودا
إذا أقول: صحا، يعتاده عيدا
حتى أتى الشعر كله إلى آخره، فكلٌّ استحسنه، وأقبل عليَّ ابن أبي ربيعة
فجزاني الخير، وكذلك النسوة، فلم نزل بأنعم ليلة وأطيبها حتى بدا القمر يغيب،
فقمنا جميعًا، وأخذ النسوة طريقًا، ونحن طريقًا، وأخذ الغريض معنا، وقال عمر في
ذلك:
هل عند رسم برامةٍ خبرُ
أم لا؟ فأي الأشياء تنتظر؟
وقفت في رسمها أسائله
والدمع مثل الجُمان مُنْحدر
قد ذكرتني الديار إذ درست
والشوق مما يهيجه الذِّكَرُ
لا أنس طول الحياة ما بقيت
بطيبةٍ روضة لها شجر
ممشى فتاة إليَّ تخبرني
عنهم عشاءً ببعض ما ائتمروا
ومجلس النسوة الثلاث لدى الـ
ـخيمات حتى تبلَّج السَّحَر
فيهن هند والهم ذِكرتها
تلك التي لا يُرى لها خَطَر
٢٤٨
ثم انطلقنا وعندنا ولنا
فيهن لو طال ليلنا وطر
وقولها للفتاة إذ أزف الـ
ـبين أغادٍ أم رائحٌ عمر
عجلان لم يقض بعض حاجته
ألا تأنَّى يومًا فينتظر
الله جارٌ له وإن نزحت
دار به أو بدا له سفر
وإلى هنا نكتفي بما قدمنا للقارئ من أخبار الملاح، وإن يكن للحديث بقايا أطيب من عبث
الشباب على ضِفاف النيل!
(٩) رائية ابن أبي ربيعة
لقد بحثنا لنعرف فيمن قيلت هذه القصيدة، ولكننا لم نصل بعد إلا إلى فروض بعضها يشبه
اليقين، فمن الممكن أن تكون قيلت في عائشة بنت طلحة كما أشرنا إلى ذلك من قبل، فقد سهرت
ليلة لهمٍّ ألم بها فقالت: إن ابن أبي ربيعة لجاهل بليلتي هذه حيث يقول:
وأعجبها من عيشها ظلُّ غرفة
وريَّان ملتف الحدائق أخضر
ووالٍ كفاها كلَّ شيء يهمها
فليست لشيء آخر الليل تسهر
وقد قلنا: إنه لو لم يعنها بهذه الإشارة لما رجَّعتها حين قهرها الحزن في هَدْأة
الليل.
ولكن أستاذنا الدكتور طه يرى أنها إنما تمثلت بهذا الشعر لا أكثر ولا أقل، وفي الحق
أن ما في القصيدة من الحوادث يُبعد أن تكون قيلت في عائشة بنت طلحة، وإن لم يبعد أن
يكون الشاعر عناها ببعض أطراف الحديث، فقد نهاه قومها عن ذكرها في شعره وحمله وعيدهم
على الاكتفاء بالتلميح.
وقد ذكر صاحب «الأغاني» أن عمر بن أبي ربيعة أنشد عبد الله بن عباس شعره في الثريا،
فلما عدنا إلى حديث عمر مع ابن عباس وجدناه لم ينشده إلا قصيدتين؛ أولاهما
داليته:
تشط غدًا دار جيراننا
ولَلدار بعد غدٍ أبعدُ
وأخراهما رائيته:
أمن آل نعم أنت غاد فمبْكرِ
غداة غد أم رائح فمهجِّر
أما الدالية فقد ذكر أنه قالها في فاطمة بنت محمد بن الأشعث الكندية، ولم يقل فيمن
قال الرائية: أفنحسبه قالها في الثريا؟ المقدمات ترجح ذلك ولكنها لا تفيد
اليقين.
وقد نص صاحب «الأغاني» في الجزء الرابع
٢٤٩ أنه قالها في امرأة من قريش يقال لها: نُعم كان كثيرًا لذكرها في شعره،
وكانت تُكنَّى: أمَّ بكر، وهي من بني جُمح، ويؤيد هذا أن الشاعر ذكر نُعْما هذه في
القصيدة، وإن لم يبعد أن يكون عَنى غيرها في أثناء القصيد.
•••
وقد حاولنا التثبت من نُعْم التي قيلت فيها هذه الرائية فلم نجد غير أخبار مقتضبة:
منها أن ابن أبي ربيعة وابن أبي عتيق كانا جالسين بفِناء الكعبة، فمرت بهما امرأة من
آل
أبي سفيان فدعا عمر بكتاب، فكتب إليها وكنَّى عن اسمها:
ألِمَّا بذات الخال فاستطلعا لنا
على العهد باقٍ ودُّها أم تصرَّما
وقولا لها: إن النوى أجنبيَّةٌ
بنا وبكم قد خفت أن تتيمَّما
٢٥٠
فقال له ابن أبي عتيق: سبحان الله! ما تريد إلى امرأة مسلمة مُحرِمة أن تكتب إليها
مثل هذا! قال: فكيف بما قد سيَّرته في الناس من قولي:
لقد حبَّبت نُعْمٌ إلينا بوجهها
مساكن ما بين الوتائر والنَّقْع
٢٥١
ومن أجل ذات الخال أعملت ناقتي
أكلِّفها سير الكَلال مع الظلع
٢٥٢
ومن أجل ذات الخال يوم لقيتها
بمندفع الأَخباب أخضلني دمعي
٢٥٣
ومن أجل ذات الخال آلف منزلًا
أحل به لا ذا صديق ولا زرع
ومن أجل ذات الخال عدت كأنني
مخامر داءٍ داخل أو أخو رِبع
٢٥٤
ألما بذات الخال إن مقامها
لدى الباب زاد القلب صدعًا على صدع
وأخرى لدى البيت العتيق نظرتها
إليها تمشَّت في عظامي وفي سمعي
وحدَّث مصعب بن عبد الله أن عمر وافقها وهي تستلم الركن، فقرب منها، فلما رأته تأخرت
وبعثت إليه جاريتها، فقالت له: تقول لك ابنة عمك: إن هذا مقام لا بد منه كما ترى، وأنا
أعلم أنك ستقول في موقفنا هذا، فلا تقولنَّ هُجرا،
٢٥٥ فأرسل إليها: لست أقول إلا خيرًا، ثم تعرَّض لها وهي ترمي الجمار فأعرضت
عنه واستترت، فقال:
دِين هذا القلب من نُعم
بسقام ليس كالسُّقْمِ
إن نُعما أقصدت رجلًا
آمنًا بالخيف إذ ترمي
وحدث مصعب أيضًا أنه قيل لعمر بن أبي ربيعة: ما أحبَّ شيء أصبته إليك؟ قال: بينا أنا
في منزلي ذات ليلة إذ طرقني رسول مصعب بن الزبير بكتابه يقول: إنه قد وقعت عندنا أثواب
مما يشبهك، وقد بعثت بها إليك وبدنانير ومسك وطيب وبغلة، قال: فإذا بثياب من وشي وخزِّ
العراق لم أر مثلها قط، وأربعمائة دينار ومسك وطيب كثير وبغلة، فلما أصبحت لبست بعض تلك
الثياب، وتطيبت، وأحرزت الدنانير وركبت البغلة وأنا نشيط لا همَّ لي قد أحرزت نفقة
سنتي، فما أفدت فائدة كانت أحبَّ إليَّ منها، وقلت في ذلك:
ألا أرسلت نعمٌ إلينا أن ائتنا
فأحببْ بها من مُرسل متعصِّب
٢٥٦
فأرسلتُ أن لا أستطيع فأرسلت
توكِّد أيمان الحبيب المؤنِّب
فقلت لجنَّادٍ: خذ السيف واشتمل
عليه بحزم وانظر الشمس تغرب
وأسْرج ليَ الدَّهماء واعْجل بممطري
ولا يعلمن خَلقٌ من الناس مذهبي
٢٥٧
وموعدنا البطحاء أو بطن يأجج
أو الشِّعب ذو المسروح من بطن مغرب
٢٥٨
فلما التقينا سلَّمتْ وتبسَّمتْ
وقالت مقال المعرض المتجنِّب:
أمن أجل واشٍ كاشحٍ بنميمة
مشى بيننا صدقته لم تكذِّبِ
قطعت حبال الوصل منا ومن يطع
بذي وده قول المحرِّش يعتب
٢٥٩
فبات وسادي ثِنْيَ كفٍّ مخَّضَّبٍ
معاودَ عذب لم يكدَّر بمشرب
إذا مِلت مالت كالكثيب رخيمةً
منعَّمةً حُسَّانة المتجلْبَبِ
٢٦٠
وحدث أيضًا أن عمر بن أبي ربيعة بلغه أن نُعما اغتسلت في غدير، فنزل عليه ولم يزل
يشرب منه حتى نضب، ولعل هذا الحديث من أظرف ما صاغ الخيال!
وقد روي أنها استقبلت عمر في المسجد الحرام، وفي يدها خَلوق من خلوق المسجد،
٢٦١ فمسحت به ثوبه ومضت وهي تضحك، فقال:
أدخل الله ربُّ موسى وعيسى
جنةَ الخلد من ملاني خَلوقا
مسحته من كفها في قميصي
حين طافت بالبيت مسحًا رفيقا
غضبتْ إن نظرتُ نحو نساءٍ
ليس يعرفنني سلكن طريقا
وأرى بينها وبين نساءٍ
كنت أهذي بهن بَونًا سحيقا
٢٦٢
ومن جيد شعره في نعم هذه الأبيات:
أيها القلب لا أراك تُفيقُ
طالما قد تعلقتك العَلوق
هل لك اليوم إن نأتْ أمُّ بكر
وتولَّت إلى عزاءٍ طريقُ
من يكن مِن هَوَى حبيبٍ قريبًا
فأنا النازح البعيد السحيقُ
٢٦٣
قُدِّر الحب بيننا فالتقينا
وكلانا إلى اللقاء مشوق
فالتقينا ولم نخف ما لقينا
ليلة الخيف والمنى قد تسوق
وجرى بيننا فجدَّد وصلًا
حُوَّلٌ قُلَّب اللسان رفيق
لا تظني أن التراسل والبذ
لَ لكل النساء عندي يليق
إن منهن للكرامة أهلًا
والذي بينهن بَوْنٌ سحيق
أسلفنا أن عمر أنشد ابن عباس رائيته، فلنذكر ما رواه صاحب «الأغاني» في ذلك، قال:
بينا ابن عباس في المسجد الحرام، وعنده نافع بن الأزرق وناس من الخوارج
يسألونه، إذ أقبل عمر بن أبي ربيعة في ثوبين مصبوغين مورَّدين حتى دخل وجلس،
فأقبل عليه ابن عباس، فقال: أنشدنا فأنشده:
أمن آل نعم أنت غادٍ فمبكر
غداة غدٍ أم رائح فمهجِّر؟
حتى أتى على آخرها، فأقبل عليع نافع بن الأزرق، فقال: الله يا ابن عباس، إنا
نضرب إليك أكباد الإبل من أقاصي البلاد نسألك عن الحلال والحرام فتتثاقل عنا،
ويأتيك غلام مترف من مترفي قريش فينشدك:
رأت رجلًا أما إذا الشمس عارضت
فيخزى وأما بالعشي فيخسَرُ
فقال: ليس هكذا قال. قال: فكيف قال؟ فقال: قال:
رأت رجلًا أما إذا الشمس عارضت
فيضحى وأما بالعشيِّ فيخصَر
فقال: ما أراك إلا وقد حفظت البيت! قال: أجل! وإن شئت أن أنشدك القصيدة
أنشدتك إياها، قال: فإني أشاء، فأنشده القصيدة حتى أتى على آخرها. ولامه بعض
أصحابه في حفظ هذه القصيدة، فقال: إنا نستجيدها.
وكان بعد ذلك كثيرًا ما يقول: هل أحدث هذا المغيريُّ شيئًا بعدنا؟
٢٦٤
ولم يقف أثر هذه القصيدة عند إعجاب ابن عباس، فقد أنشدها عمرُ طلحةَ بنَ عبد الله
بن
عوف الزهريَّ وهو راكب فوقف وما زال شانقًا بغلته حتى كُتبت له، وكان جرير إذا أنشد شعر
عمر بن أبي ربيعة قال: هذا شعرٌ تهاميٌّ إذا أنجد وجد البرد، حتى أنشد أبياتًا من هذه
القصيدة فقال: ما زال هذا القرشي يهذي حتى قال الشعر.
وقال الرشيد للأصمعي: أنشدني أحسن ما قيل في رجل قد لوَّحه السفر، فأنشده:
رأت رجلًا أمَّا إذا الشمس عارضت
فيضحى وأمَّا بالعشيِّ فيخصرُ
أخا سفرٍ جوَّاب أرض تقاذفت
به فَلَواتٌ فهو أشعث أغبر
قليلًا على ظهر المطية رحلهُ
سوى ما نفى عنه الرداء المحبَّر
فقال الرشيد: أنا والله ذلك الرجل، وكان هذا بعقب قدومه من بلاد الروم. فهذا دليل
على
أن أولئك الرجال كانوا يرون أنفسهم وحوادثهم مصورة في هذه القصيدة.
وكان ابن أبي ربيعة نفسه يراها في خير شعره، فقد حجَّ في سنة من السنين، فلما انصرف
من الحج لقي الوليد بن عبد الملك، وقد فُرش له في ظهر الكعبة وجلس، فجاءه فسلم عليه،
وجلس إليه، فقال له: أنشدني شيئًا من شعرك، فقال: يا أمير المؤمنين، أنا شيخ كبير وقد
تركت الشعر، ولي غلامان هما عندي بمنزلة الولد، وهما يرويان كلَّ ما قلت وهما لك، قال:
ائتني بهما ففعل، فأنشداه هذه الرائية، فطرب الوليد واهتز لذلك، ولم يزالا ينشدانه حتى
قام، فأجزل صلته ورد الغلامين إليه.
ونحسب أن ما أسلفناه يكفي للتمهيد لهذه القصة، فلنقدمها للقارئ مصحوبة بالشرح
والتفسير، قال:
أمن آل نُعْمٍ أنت غاد فمبكر
غداةَ غدٍ أم رائحٌ فمهجِّرُ
٢٦٥
بحاجة نفس لم تقل في جوابها
فتُبلغ عذرًا والمقالة تُعذرُ
٢٦٦
تهيم إلى نعم فلا الشمل جامعٌ
ولا الحبل موصول ولا القلب مُقصر
ولا قرب نُعْم إن دنت لك نافع
ولا نأيها يسْلي ولا أنت تصبر
وأخرى أتت من دون نعم ومثلُها
نهى ذا النُّهى لو ترعوي أو تفكِّر
٢٦٧
إذا زرت نعما لم يزل ذو قرابة
لها كلما لاقيتها يتنمَّرُ
٢٦٨
عزيزٌ عليه أن أُلِمَّ ببيتها
يُسرُّ ليَ الشحناءَ والبغض مظهر
٢٦٩
أَلِكْني إليها بالسلام فإنه
يُشهَّر إلمامي بها وينكَّر
٢٧٠
بآية ما قالت غداة لقيتها
بمدفع أكنانٍ أهذا المشهَّر
٢٧١
أشارت بمدراها وقالت لأختها:
أهذا المغيريُّ الذي كان يُذكر
٢٧٢
أهذا الذي أطريتِ نعتًا؟ فلم أكن
وعيشك أنساه إلى يوم أُقْبَرُ
٢٧٣
فقالت: نعم لا شكَّ غيَّرَ لونَهُ
سُرَى الليل يحيي نصه والتهجُّر
٢٧٤
لئن كان إياه لقد حال بعدنا
عن العهد والإنسان قد يتغيَّرُ
رأت رجلًا أما إذا الشمس عارضتْ
فيضْحَى وأَما بالعشيِّ فيخصَر
٢٧٥
أخا سفر جواب أرض تقاذفت
به فلواتٌ فهو أشعث أغبر
٢٧٦
قليلٌ على ظهر المطية ظلُّهُ
سوى ما نفى عنه الرداء المحبَّر
٢٧٧
وأعجبها من عيشها ظل غُرفةٍ
وريَّان ملتف الحدائق أخضرُ
ووَالٍ كفاها كلَّ شيء يهمها
فليست لشيء آخر الليل تسهر
•••
وليلة ذي دَوران جَشَّمِتني السُّرَى
وقد يجشم الهول المحب المغرَّرُ
٢٧٨
فبت رقيبًا للرفاق على شفًا
أحاذر منهم من يطوف وأنظر
٢٧٩
إليهم متى يستمكن النوم منهمُ
ولي مجلسٌ لولا اللُّبانة أوعر
٢٨٠
وباتت قلوصى بالعَراء ورحلها
لطارق ليل أو لمن جاء مُعوِر
٢٨١
وبت أناجي النفس أين خِباؤها
وكيف لما آتي من الأمر مصدر
٢٨٢
فدَّل عليها القلبَ ريَّا عرفتها
لها وهوى النفس الذي كاد يظهر
٢٨٣
فلما فقدت الصوتَ منهم وأُطفئت
مصابيحُ شبَّتْ بالعشاء وأنؤر
٢٨٤
وغاب قُميرٌ كنت أهوى غُيُوبهُ
وروَّح رُعيانٌ ونوَّم سُمَّرُ
٢٨٥
وخُفِّضَ عني الصوت أقبلت مِشية الـ
ـحُبابِ وشخصي خشية الحيِّ أزور
٢٨٦
فحييت إذ فاجأتها فتولَّهتْ
وكادت بمخفوض التحية تجهر
٢٨٧
وقالت وعضت بالبنان: فضحتني
وأنت امرؤٌ ميسور أمرك أعسر
٢٨٨
أريتَك إذ هُنَّا عليك ألم تخف
وُقيِت وحولي من عدوك حُضَّر؟
فوالله ما أدري أتعجيل حاجةٍ
سرت بك أم قد نام من كنت تحذر؟
فقلت لها: بل قادني الشوق والهوى
إليك وما نفسٌ من الناس تشعر
فقالت وقد لانت وأَفرخ روعها
كَلَاكَ بحفظٍ ربك المتكبِّر
٢٨٩
فأنت أبا الخطاب غير مُدافعٍ
عليَّ أميرٌ ما مكثت مُؤَمَّرُ
فيا لك من ليل تقاصر طولهُ
وما كان ليلي قبل ذلك يقْصُرُ
ويا لَكَ من ملهًى هناك ومجلسٍ
لنا لم يكدره علينا مكدِّرُ
يَمُجُّ ذكيَّ المسك منها مفَلَّجٌ
نقيُّ الثنايا ذو غُرُوبٍ مؤشِّرُ
٢٩٠
تراه إذا ما افترَّ عنه كأنهُ
حَصَى بَرَدٍ أو أُقحوان منوِّرُ
٢٩١
وترنو بعينيها إليَّ كما رنا
إلى ظبية وسْط الخميلة جُؤذَرُ
٢٩٢
•••
فلما تقضَّى الليل إلا أقلَّهُ
وكادت توالي نجمه تتغوَّرُ
٢٩٣
أشارت بأن الحيَّ قد حان منهمُ
هُبُوبٌ ولكن مَوْعِدٌ لك عزْوَرُ
٢٩٤
فما راعني إلا مُنادٍ: ترحَّلوُا
وقد لاح معروفٌ من الصبح أشقر
٢٩٥
فلما رأت من قد تنبَّه منهمُ
وأيقاظَهم قالت: أشِرْ كيف تأمر؟
فقلت: أُباديهم فإما أفُوتُهمْ
وإما ينال السيف ثأرًا فيثأر
٢٩٦
فقالت: أتحقيقًا لما قال كاشحٌ
علينا وتصديقًا لما كان يُؤْثَر
٢٩٧
فإن كان ما لا بد منه فغيرُهُ
من الأمر أدنى للخفاء وأستر
أقصُّ على أختيَّ بدء حديثنا
وما ليَ مِن أن تعلما مُتأَخَّر
٢٩٨
لعلهما أن تطلبا لك مخرجا
وأن ترحُبا سَرْبا بما كنت أَحْصَر
٢٩٩
فقامت كئيبًا ليس في وجهها دمٌ
من الحزن تذري عبرةً تتحدَّرُ
٣٠٠
فقامت إليها حُرتان عليهما
كساءان من خزٍّ دِمقْسٌ وأخضر
٣٠١
فقالت لأختيها: أعينا عليَّ فتًى
أتى زائرًا والأمر للأمر يُقدرُ
فأقبلتا فارتاعتا ثم قالتا:
أقِلِّي عليك اللومَ فالخطبُ أيسَرُ
يقوم فيمشي بيننا متنكرًا
فلا سرُّنا يفشو ولا هو يظهرُ
٣٠٢
فكان مَجِنِّي دونَ من كنت أتقيِ
ثلاثُ شخوص كاعبانِ ومُعْصرُ
٣٠٣
•••
فلما أجزنا ساحةَ الحيِّ قلن لي:
أَلم تتق الأعداء والليلُ مقمرُ؟
٣٠٤
وقلن: أَهذا دأبك الدهرَ سادرًا
أَما تستحي أَو ترعوي أو تفكِّرُ؟
٣٠٥
إذا جئت فامنح طرف عينيك غيرنا
لكي يحسبوا أن الهوى حيث تنظرُ
٣٠٦
فآخر عهدٍ لي بها حين أعرضت
ولاح لها خدٌّ نقيٌّ ومَحجِرُ
سوى أنني قد قلت يا نعم قولةً
لها والعِتاق الأرحبيات تُزجَرُ
٣٠٧
هنيئًا لأهل العامرية نشْرها اللَّـ
ـذيذ وريَّاها التي أتذكر
٣٠٨
فقمت إلى عَنْسٍ تخوَّن نَيَّها
سُرى الليل حتى لحمها متحسِّرُ
٣٠٩
وحبسي على الحاجات حتى كأنها
بقيَّة لوح أو شِجار مؤشرُ
٣١٠
•••
وماءٍ بموماةٍ قليلٍ أنيسُهُ
بسابس لم يحدث به الصيف محضرُ
٣١١
به مُبتَنًى للعنكبوت كأنه
على طَرَف الأرجاء خامٌ منشَّرُ
٣١٢
ورَدْتُ وما أدري أما بعد موردي
من الليل أم ما قد مضى منه أكثر
فقمت إلى مغلاة أرض كأنها
إذا التفتت مجنونة حين تنظر
٣١٣
تنازعني حرصًا على الماء رأسها
ومن دون ما تهوى قليبٌ مُعوَّرُ
٣١٤
محاولة للماء لولا زمامها
وجذبي لها كادت مرارًا تكسَّرُ
فلما رأيت الضرَّ منها وأنني
ببلدةِ أرض ليس فيها مُعصَّرُ
٣١٥
قصرت لها من جانب الحوض منشأً
جديدًا كقاب الشبر أو هو أصغر
٣١٦
إذا شرعت فيه فليس لملتقى
مشافرها منه قِدَى الكف مسْأَرُ
٣١٧
ولا دَلْو إلا القَعب كان رشاءَهُ
إلى الماء نِسْعٌ والأديم المضفَّرُ
٣١٨
فسافت وما عافت وما ردَّ شربها
عن الريِّ مطروق من الماء أكدرُ
٣١٩
(١٠) لامية جميل
مرَّت الإشارة إلى هذه القصيدة في المحاضرة الثالثة، ولكنا رأينا أن نثبتها هنا بجانب
رائية عمر؛ ليرى القارئ إلى أيِّ حدٍ صدق من قال: إن عمر أشعر من جميل في الرائية، وأن
جميلًا أشعر منه في اللامية، وقد بحثنا عن نسخة كاملة لهذه القصيدة، فلم نجد غير ما
أثبته صاحب «الأغاني» في ترجمة جميل، ثم حاولنا الموازنة بين القصيدتين فلم نجد ما يبرر
وضعهما في الميزان، إذ كانت رائية عمر أَجمل بلا مراء، وجاء في «الأغاني» في أخبار
الغريض: قال الزبير فيما أخبرني به الحرمي بن أبي العلاء عنه: من الناس من يفضل قصيدةَ
جميل مختلفةً غيرَ مؤتلفةٍ، فيها طوالع النجد، وخوالد المهد، وقصيدةَ عمر بين أبي ربيعة
ملساءَ المتون مستويةَ الأبيات، آخذ بعضها بأذناب بعض، ولو أنَّ جميلًا خاطب في قصيدته
مخاطبة عمر لأُرتِج عليه، وعثر كلامه به. قال جميل:
لقد فرح الواشون أن صرمت حبلي
بثينة أو أبدت لنا جانب البخل
يقولون: مهلًا يا جميلُ وإنني
لأُقسمُ ما لي عن بُثيْنة من مهل
أحِلمًا؟! فقبل اليوم كان أوانه
أم اخشى؟! فقبلَ اليوم أُوعدت بالقتل
لقد أنكحوا جهلًا «نبيهًا» ظعينةً
لطيفة طيِّ الكشح ذات شوًى خَدل
٣٢٠
وكم قد رأينا ساعيًا بنميمةٍ
لآخرَ لم يعمد بكفٍّ ولا رجل
•••
ألا أيها البيت الذي حيل دونه
بنا أنت من بيت وأهلك من أهل
ثلاثة أبيات؛ فبيتٌ أُحبه
وبيتان ليسا من هوايَ ولا شكلي
إذا ما تراجعنا الذي كان بيننا
جرى الدمْع من عَيْنَيْ بثيْنة بالكحل
كلانا بكى أو كاد يبكي صبابة
إلى إلْفه واستعجلت عبرةً قبلي
أبيت مع الهُلَّاك ضيفًا لأهلها
وأهلي قريب موسعون ذوو فضل
٣٢١
فلو تركت عقلي معي ما طلبتها
ولكن طِلابيها لما فات من عقلي
فيا ويح نفسي حسب نفسي الذي بها
ويا ويح أهلي ما أُصيب به أهلي
وقالت لأتراب لها لا زعانف
قصار ولا كُسِّ الثنايا ولا ثُعل
٣٢٢
إذا حميت شمس النهار اتقينها
بأكسية الديباج والخز ذي الخمل
٣٢٣
تداعين فاستجمعن مشيًا بذي الغضا
دبيب القَطَا الكُدْريِّ في الدمث السهل
٣٢٤
إذا ارتعْنَ أو فُزِّعن أو قمن حولها
قيام بنات الماء في جانب الضحل
٣٢٥
أجَدِّىَ لا ألقى بثينة مرةً
من الدهر إلا خائفًا أو على رحل
خليليَّ فيما عشتما هل رأيتما
قتيلًا بكى من حب قاتله قبلي؟
على أن من الحق أن نكرر ما أشرنا إليه فيما سلف من أن عمر أَقلُّ صدقًا في الصبابة
من
جميل، فإن لم تشهد هذه اللامية على سبقه، فله قصائد ومقطوعات تجعله في الطراز الأول بين
أصحاب العواطف والقلوب، أليس هو الذي يقول:
لما دنا البين؛ بينُ الحي واقتسموا
حبل النوى فهو في أيديهمُ قِطَعُ
جادت بأدمعها ليلى وأعجلني
وَشْك الفراق فما أُبقي وما أدعُ
يا قلب ويحك ما عيشي بذي سَلَم
ولا الزمان الذي قد مرَّ مُرتجعُ
أكلما بان حيٌّ لا تلائمهم
ولا يبالون أن يشتاق من فجعوا
علَّقتني بهوًى مُرْدٍ فقد جعلت
من الفراق حصاة القلب تنصدع؟
بلى! وهو الذي يقول:
وما زلتمُ يا بَثْنَ حتى لو انَّني
من الشوق أستبكي الحمام بكى ليا
إذا خدرت رجلي وقيل: شفاؤها
دعاء حبيب كنت أنتِ دعائيا
وما زادني النأي المفرِّق بعدكم
سلُوًّا ولا طول التلاقي تقاليا
ولا زادني الواشون إلا صبابةً
ولا كثرة الناهين إلا تماديا
لقد خِفت أن يغتالني الموت عنوةً
وفي النفس حاجات إليك كما هيا
وإني لتثنيني الحفيظة كلما
لقيتك يومًا أن أبثك ما بيا
ألم تعلمي يا عذبة الريق أنني
أظلُّ إذا لم أسق ريقك صاديا
هوامش