تأثير ابن أبي ربيعة في شعراء اللغة العربية
عرف القارئ كيف أثَّر عمر بن أبي ربيعة في شعراء عصره، وكيف حملهم على الاعتراف بتفوقه عليهم في مذاهب النسيب، فمن الخير أن نعرف كيف أثر فيمن خلَفه من الشعراء.
وإنما عيَّنا من خَلف من بعده؛ لأنه غلب على شعراء عصره، فأضاف إليه الرواة أكثر القصائد التي وُسِمَت بميسمه، وطُبِعَتْ بطابعه، في حوار المِلاح.
وكان طبيعيًّا أن نحاول معرفة من تأثر به ابن أبي ربيعة من القدماء، وإن كنا قد ألمعنا إلى ذلك في المحاضرة الثالثة، فلنذكر الآن أنه تأثر بامرئ القيس؛ فجاراه في الحديث عن حوادث الليل، ومدافعة الأحراس، ومطاوعة الصبا والحب في هَصر أعواد الحسان.
وفي الحق أن أكثر ما مرَّ من شعر ابن أبي ربيعة يذكرنا في الغرض والأسلوب بقول امرئ القيس:
ولنرجع فنذكر أننا بحثنا طويلًا عن شاعر سَلَك مسلك عمر بن أبي ربيعة في مخاطبة النساء، فلم نجد من يقاربه غير بشار بن برد، الذي شهد آخر أيام بني أمية وصدر دولة بني العباس، ففي شعر بشار قرب من منهج ابن أبي ربيعة في محاورة الغواني والتودد إلى المِلاح، وفيه كذلك تأنُّق في وصف الجوانب الحِسِّية من المرأة المجدولة الخلْق، المشرقة الجبين، وهو الذي يقول:
وفي هذا الشعر على يُسْره وسهولته نفحة من عبادة الجمال، وهو يذكرنا بقوله من كلمة ثانية:
وقوله من كلمة أخرى يتحدث فيها عن ليلة وصل:
وذكر صاحب «زهر الآداب» أن بشارًا لما قال:
بلغ ذلك المهديَّ فغاظه، وقال: يحرِّض النساء على الفجور، ويسهِّل السبيل إليه! فقال له خاله يزيد بن منصور الحميري: يا أمير المؤمنين، قد فتن النساء بشعره، وأي امرأة لا تصبو إلى مثل قوله:
فأمره المهدي ألا يتغزل، فقال أشعارًا في ذلك، منها هذه التائية:
وفي الحق أننا نجد في القصيدة الأولى شبهًا قويًّا بشعر عمر بن أبي ربيعة، وإنه ليحاكيه حتى في التغزل بنفسه والتحدث عن أسْره لقلوب النساء، ولو بقي شعر بشار لاستطعنا التثبُّت مما نراه من التشابه بين شعر هذين الشاعرين، ولكن شعر بشار ضاع فلم يبق إلا الاعتماد على تلك الشواهد الضئيلة في تأييد ما ذهبنا إليه، وإن كنا على يقين من أن لهذا الرأي حظًّا من الصحة غير قليل.
والخلاصة أننا لا نجد شاعرًا بعد عمر بن أبي ربيعة وقف حياته وشعره على التشبيب بالنساء، وإن كنا لا ننكر أن كثيرًا من الشعراء نحوا منحاه في القصص الغرامي، وإن لم يعرفوا بذلك، فإنَّا لا نشك في أن الأبيوردي حاكاه حين قال:
ويمكن الحكم بأن أبا نواس جارى ابن أبي ربيعة في النسيب، لولا أنه غيَّر مجرى الحديث، فنقله من النساء إلى الغلمان، وجارى أبا نواس فريق من شعراء الأندلس، أشهرهم ابن خفاجة الذي يقول في وصف ليلة قضاها بين ضلال الهوى وجنون الصهباء:
(١) مصعب بن عبد الله الزبيري
مصعب الزبيري هو ابن عبد الله بن مصعب أحد الشعراء المجيدين والخطباء المفوَّهين، الذين نادموا أوائل الخلفاء من بني العباس، وتولوا لهم أعمالًا، وكان خرج مع محمد بن عبد الله بن الحسن بالمدينة على أبي جعفر المنصور فيمن خرج من آل الزبير، فلما قتل محمد استتر إلى أن حج أبو جعفر المنصور، وأمَّن الناس جميعًا فظهر، وكان يُلقب «عائد الكلب» لقوله:
وذكر الربيع بن يونس أنه دخل على المهدي، وإذا هو يكتب على الأرض بفحمة قول عبد الله بن مصعب:
ونعود إلى مصعب بن عبد الله، فنذكر أننا لم نَصِلْ إلى الوقوف على تفاصيل حياته الأدبية، وإنما عرفنا مما ينقل عنه صاحب «الأغاني» أنه كان من كبار الكتاب في القرن الثالث، وإليه يرجع الفضل في تدوين أكثر أخبار المغنين والشعراء، وعبارته نقية واضحة سليمة لا يشوبها تكلُّف ولا غموض، وله شعر جيد لم يبق منه إلا القليل، وفيه على نزارته دليل على أنه كان من المبدعين.
ويظهر مما قرأناه من أخباره المتفرقة أنه كان يعيش في جماعة لها حظ من المال والجاه والجمال، فكانت حياته لذلك فيها نفحة وجدانية لا يظفر بها إلا من استظلَّ بأعطاف الحسن الجامح والدَّلِّ الغَضُوب، كان متصلًا بأحمد بن هشام أخي علي بن هشام الذي كتب إليه إسحق الموصلي: جُعلت فداك، بعث إليَّ أبو نصر مولاك بكتاب منك إليَّ يرتفع عن قدري، ويقصر عنه شكري، فلولا ما أعرف من معانيه، لظننت أن الرسول غلط بي فيه، فما لنا ولك يا أبا عبد الله تَدَعُنا حتى إذا نسينا الدنيا وأبغضناها ورجونا السلامة من شرها، أفسدتَ قلوبنا، وعلقتَ أنفسنا، فلا أنت تريدنا، ولا أنت تتركنا، فبأي شيء تستحل هذا؟ أما ما ذكرته من شوقك إليَّ، فلولا أنك حلفت عليه لقلت:
وقد تورط مصعب في صحبة هذه الجماعة ولحقه من تقلُّبها بعض الشر والسوء، حين وقعت الجفوة بين أحمد بن هشام وإسحق بن إبراهيم، فقد لقي أحمدُ مصعبًا فقال له: أما تستحي أنت وصباح بن خاقان المنقري، وأنتما شيخان من مشايخ المروءة والعلم والأدب أن يشيد بذكركما إسحق في شعره فيقول:
فقال له مصعب: إن كان قد فعل فما قال إلا خيرًا، إنما ذكر أننا نهيناه عن خمر شربها، أو امرأة عشقها، وقد أشاد باسمك في الشعر بأشد من هذا، قال: بماذا؟ قال بقوله:
وكان صباح بن خاقان نديمًا لمصعب بن عبد الله، فقال عبد الرحمن بن أبي عبد الرحمن، وكان خليعًا من أهل البصرة:
وقد ظل مصعب وفيًّا لإسحق الموصلي إلى أن مات، فرثاه بقصيدة بليغة نقتطف منها الكلمة الآتية:
•••
•••
آراء مصعب في النقد
كان مصعب من الكتاب والنقاد الممتازين، ولكن نقده لم يصل إلينا بطريقة تُفصِّل ما كان له من قواعد وأصول، فلم يبق إلا الاستئناس بما تفرق من آرائه؛ لنرى كيف كان يفهم الشعر، وكيف كان يحكم على الشعراء.
رأيناه يقضي في شعر العباس بن الأحنف وعمرو العراف، فيقرر أنهما «ما ابتذلا شعرهما رغبة أو رهبة، ولكن فيما أحباه، فلزما فنًّا واحدًا لو لزمه غيرهما ممكن يكثر إكثارهما لضعف فيه.»
وهذا نظر بعيد من مصعب، فإن الشاعر الذي يكثر في فن واحد، ويجيد مع الإكثار أولى بالتقدمة ممن يجيد في طائفة من الفنون، وفي كلامه تقدير لصدق العاطفة التي تعد أساسًا لجودة الشعر البليغ.
وقيل له: إن الناس يستبردون شعر العباس بن الأحنف، فقال: لقد ظلموه! أليس هو الذي يقول:
وهو في هذا يذكرنا بكثير من القدماء الذين كانوا يحكمون للشعراء، أو عليهم بشواهد من شعرهم من غير أن يبينوا مواطن الضعف ومواقع القوة، وكذلك كان يرى أبا العتاهية أشعر الناس إذ قال:
ولعل أظهر آثار مصعب في النقد هو كلمته المطولة في خصائص شعر عمر بن أبي ربيعة، وقد تكلمنا عنها في المحاضرة الثانية، وأشار أستاذنا الدكتور طه في «حديث الأربعاء» إلى أننا أسرفنا في نقده، وأن مصدر هذا الإسراف أننا لم نقدر كما ينبغي اختلاف المُثل الأدبية باختلاف العصور والأجيال.
وهذا حق، إذ كان النقد يتأثر باختلاف الأذواق، وأنه لا يجب أن يرضينا ما كان يرضي أسلافنا من قبل، ولكن أليس في كلام مصعب بعد نقدنا له شيءٌ يستحق التقدير؟
لقد بحثت في ذلك طويلًا، فرأيت في كلمة مصعب ناحية لها حظ عظيم من الأهمية، وذلك أنه أراد التنويه بما أبدع ابن أبي ربيعة من التعابير، وأحدث من الصُّور؛ من ذلك تحيير ماء الشباب في قوله:
وغم الطير في قوله:
ومحالفته بسمعه وطرفه في قوله:
وإغلاقه رهن منًى وإهداره قتلاه في قوله:
وجنيه الحديث في قوله:
وقياسه الهوى في قوله:
وتشكِّيه الذي أشجى فيه إذ يقول:
وكلمة مصعب مثبتة في الجزء الأول من «الأغاني»، فليرجع إليها القارئ فقد يرى غير ما نراه.
(٢) الجوانب الجدية في حياة عمر بن أبي ربيعة
لقد أسلفنا القول في حب ابن أبي ربيعة وشعره، وقدمناه للقارئ في صورته التي ألفها الناس في حياته، وتمثلوها بعد مماته، فلم يبق إلا أن نقف قليلًا عند الجوانب الجدية من حياة ذلك الشاعر الغَزل الذي لم يره الناس إلا تِبْعَ نساء.
ولنُعِد مرة ثانية ما أشرنا إليه من قبل؛ فقد قلنا: إن كثيرًا من حوادثه الغرامية من صُنع الخيال، وقد قبلناه على علاته، واكتفينا بتلك الإشارة عند التمهيد لأخبار الملاح، إذ كانت حوادث ابن أبي ربيعة التي أضيفت إليه تدلنا على شيئين: فهي أولًا علامة على أن المتقدمين أَنِسُوا بروحه، وأسلموا قلوبهم لوحيه، فأبدعوا في ظِلال ذكراه ما شاء الخيال من أحاديث الحب الظافر، والهوى الغلاب. وهي ثانيًا دليلٌ على أنه كان للمتقدمين مَيلٌ إلى القَصَص الغرامي وحظ من الإجادة فيه، فكان من الخير أن نستغِلَّ تلك الباكورة القَصصية، ونحن نتحدث عمن هَوى هذا الشاعر من حسان النساء.
ومن العجيب أنه لم يلتفت أحد من القدماء ولا المُحدَثين إلى حياة هذا الشاعر الجدية، ولم يخطر ببال باحث منهم أن الدنيا في أحداثها وتصاريفها وأعاجيبها قد تكون ألأم من أن تسمح لشاعر بأن يظل عمره يمرح ويلعب في ميادين الحب، وملاعب الجمال.
لقد عاش ابن أبي ربيعة سبعين سنة، وقد حدثونا أنه ودَّع لهوه وهواه بعد الأربعين، فيا ليت شعري كيف قضى الثلاثين الباقية، على فرض أنه أمضى أربعينه الأولى ناعم القلب، وادع الروح؟ ثلاثون سنة بلا لهو ولا عبث، ولا تذكُّر ولا الْتِياع!
هذا والله كثير على شاعر روَّى شبابه بصهباء الرُّضاب، وقضى فوق ترائب المِلاح ليالِيَ وأيامًا كانت كل لحظةٍ فيها خيرًا من ألف سنة مما تعدون!
أصحيح أن ابن أبي ربيعة لم يقل كلمة واحدة في بكاء شبابه، والتوجُّع من مشيبه، وأنه ودَّع الشعر وداعًا أبديًّا بعد الأربعين؟ أم كانت له مواقف شعرية لها لونٌ غير اللون المشرق، وأن الرواة نسوها أو تناسوها؛ لأن هواهم كان يقضي ببقاء تلك الشخصية الجذابة في مرَحها ولهوها؛ لِتظل متعة بين نكت السمر، وأطايب الحديث؟
نحن إذن لا نعرف شيئًا عن الفصل الأخير من تلك الرواية؛ لأنهم أسدلوا الستار بعد انقضاء الفصل الثاني حين حلف الشاعر لا يقول بيتًا إلا أعتق رقبة، فلنبحث أكان الفصل الأول الذي مثَّل لنا الشاعر وهو يعبث في مناسك الحج صحيحًا في جملته، أم كان فصلًا غير محكم الوضع، ولا متقَن التصوير، أراد واضعه أن يبرز ما فيه من الجوانب الغرامية، وأن يغفل الجوانب الجدية، لحاجة في نفس يعقوب؟!
•••
أكتب هذا وأنا أذكر كلمة الثريا، وقد توسل إليها رسول عمر أن تعطف عليه، فقد قالت: ابن أبي ربيعة فارغٌ ونحن في شُغل.
وهي كلمة نقرؤها باسمين؛ لأنها كلمة نسائية مألوفة من ربات الحِجال، فإنه إذا فرغ عمر وشغلت الثريا فقد حق لنا أن نرتاب فيما نُسب إليه من الفراغ!
ومن العجيب أن هذا الشاعر الذي اتفق القدماء والمحدثون على فراغه وبطالته هو صاحب هذا البيت:
وهو بيت عميق الأثر في النفوس العربية، وطالما كان لهبًا تَقْبِسُ منه عزائم الثائرين. وهو كذلك صاحب هذين البيتين:
والقارئ يعلم أن خصوم البرامكة دسُّوا إلى الرشيد من غنَّاه بهذا الشعر فثار بالبرامكة، ومزَّقهم كلَّ ممزق، بفضل روح عمر بن أبي ربيعة الذي ظنوا شعره بردًا وسلامًا، وفيه لو يعلمون أنفاس السَّعير!
وأن القصيدة سارت حتى سمعها أخوه الحارث، فقال: هذا والله شعر عمر، قد فتك وغدر!
وأنا لا أصدق أن ابن أبي ربيعة ذهب إلى أخواله باليمن ليفر من نساء الحجاز، ولا أقبل أن يكون ابن أبي ربيعة قَبِل الرشوة من أخيه؛ ليتوب يومًا أو يومين قبل أن يموت!
فلا بد إذن أن يكون قد ذهب إلى اليمن في شأن من الشئون الجدية، ولكن ما هو هذا الشأن؟ نحن لا نعرفه لأن الرواة لم يحدثونا عنه، إذ كان من هواهم أن يخترعوا لهذه القصيدة سببًا طريفًا يضاف إلى ما له من شهيِّ الأقاصيص.
وقد حدثنا صاحب «الأغاني» أن مسعدة بن عمرو أخرج عمر بن أبي ربيعة إلى اليمن في أمر عرض له، وتزوجت الثريا وهو غائب، فليتنا نعلم أي غرض هذا الذي أخرج من أجله عمر بن أبي ربيعة إلى اليمن؟
فقد يكون أنشأ هذه النونية في هذه السَّفْرة، إن لم يكن ذهب إلى اليمن مرتين لغرضين مختلفين.
على أن صاحب «الأغاني» ذكر في أخبار جميلة أنها لما قضت حجها سألها المكيون أن تجعل لهم مجلسًا، فقالت: للغناء أم للحديث؟ قالوا: لهما جميعًا، فقالت: ما كنت لأخلط جِدًّا بهزل، وأبت أن تجلس للغناء، فقال عمر بن أبي ربيعة: أقسمت على من كان في قلبه حبٌّ لاستماع غنائها إلا خرج معها إلى المدينة، فإني خارج، فعزم جماعة من الأشراف والشعراء على الخروج، فلما قدمت المدينة تلقاها أهلها وأشرافها من الرجال والنساء، فلما دخلت منزلها وتفرق الجمع إلى منازلهم، ونزل أهل مكة على أقاربهم وإخوانهم أتاها الناس مسلِّمين، فلما مضى لمقدمها عشرة أيام جلست للغناء، وقالت لعمر بن أبي ربيعة: إني جالسة لك ولأصحابك، وإذا شئت قعد الناس لذلك اليوم، فغصَّتِ الدار بالأشراف من الرجال والنساء، فابتدأت جميلة فغنَّت:
فضج القوم من حسن ما سمعوا، ودمعت عينا عمر حتى جرى الدمع على ثيابه ولحيته، وما رأوه كذلك من قبل.
وهذه القصة تدلنا على أن ابن أبي ربيعة كان لا يزال يلهو، ويتبع النساء بعد قصيدته التي قالها في اليمن شوقًا إلى الحجاز، فلم يكن إذن بالرجل الذي يقبل الرشوة من أخيه ليودع قرة عينه في الحياة!
•••
قد عرفت عمر والأحوص بالخبث والشر، فإذا أتاك كتابي هذا فاشددهما واحملهما إليَّ.
فلما أتاه الكتاب حملهما إليه فأقبل على عمر فقال له: هِيهِ!
فإذا لم يفلت الناس منك في هذه الأيام فمتى يُفلتون؟ أما والله لو اهتممت بأمر حجك لم تنظر إلى شيء غيرك، ثم أمر بنفيه، فقال: يا أمير المؤمنين، أو خير من ذلك، قال: وما هو؟ قال: أعاهد الله أن لا أعود إلى مثل هذا الشعر، ولا أذكر النساء في شعر أبدًا، وأجدد توبةً على يديك، قال: أوتفعل؟ قال: نعم، فعاهد الله على التوبة وخلاه.
ولم تقف قصة هذا الشعر عند عمر بن عبد العزيز، فقد ذكروا أيضًا أن سليمان بن عبد الملك حج وهو خليفة، فأرسل إلى عمر بن أبي ربيعة فقال له: ألست القائل:
قال: نعم، فقال: لا جَرَم، والله لا تحضر الحج مع الناس هذا العام، وأخرجه إلى الطائف.
أفكان هذا الشعر بعينه شُؤمًا على صاحبه إلى هذا الحد؛ فَيُمنع من الحج مرة، وينفى مرة؟!
وهذا ليس بغريب في بابه؛ فقد اخترع أشياع عمر بن الخطاب حكايةً جازت على الناس إلى اليوم، حتى أدخلها شاعرنا حافظ بك إبراهيم في قصيدته العمرية، وهي حكاية نصر بن حجاج، إذ زعموا أن عمر سمع امرأة تتغنى في هدأة الليل:
فغضب وطلب نصر بن حجاج، فإذا هو فتى وسيم الوجه، أجمل ما فيه شَعره، فأمرَ أن يُحلق لتُتَّقى فتنته، ولكنه نظر فإذا هو أفتن الناس وهو حليق، فأمر بنفيه من المدينة!
وأنا لا أشك في أن هذا من حديث خرافة، فما كنت لأصدق أن عمر بن الخطاب يفرغُ لهذه السفاسف، أو ينفي فتًى لا ذنب له إلا أنه جميل، وهو يعلم أنه ينقل فتنته إلى غير المدينة من أمصار المسلمين.
•••
وقد مرت بالقارئ إشارات إلى مواقفه مع جميل والفرزدق ونُصيب وكُثيِّر، وله معهم حديث آخر سيجيء في باب المُلح والفكاهات، فلنذكر هنا حديثه مع مالك بن أسماء، فقد كان مفتونًا بشعره، وكان يتشوق إليه منذ سمع قوله:
فلما تلاقيا وتعارفا وتناشدا قال له عمر: ما أحسن شعرك لولا أسماء القرى التي تذكرها فيه، قال: مثل ماذا؟ قال: مثل قولك:
ومثل قولك:
فقال له مالك: هي قرى البلد الذي أنا فيه، وهو مثل ما تذكره في شعرك من أرض بلادك: قال: مثل ماذا؟ قال: مثل قولك:
ومثل قولك:
وفي هذا الحديث نحوٌ من الجد في نقد الشعر، ونظن أنه كانت له اتجاهات أدبية في النقد لم يدونها الرواة، إذ صرفوا همهم إلى حياته الغرامية.
قلت: إنه تزوج غير مرة، وكان له بنون وبنات، فلأذكر أني لم أستطع التثبت من عدد زوجاته ولا أبنائه؛ لأن الرواة أغفلوا الإفاضة في هذا الجانب من حياته الجدية، فلم يبينوا كيف كان يعامل زوجاته، ولا كيف كان يربي أولاده، ولا كيف كان يتصرف في تثمير أمواله، وتقويم عبيده وإمائه، ولم يعينوا «الحوائج» التي ذكروا في غير موطن أنه كان يعتمد في قضائها على الخلفاء.
ومع أن الرواة حدثونا أنه هجر الشعر بعد الأربعين، فقد حدثونا أيضًا أنه نظر في الطواف إلى امرأة شريفة، فرأى أحسن خلق الله صورة، فذهب عقله عليها وكلمها فلم تجبه، فقال فيها شعرًا جزعت منه فقيل لها: اذكريه لزوجك فإنه سينكر عليه قوله، فقالت: كلا والله، لا أشكوه إلا إلى الله، ثم قالت: اللهم إن كان نوه باسمي ظالمًا فاجعله طعامًا للريح، فاستجيبت دعوتها إذ غدا يومًا على فرس فهبت ريح فنزل فاستتر بسلمة، فعصفت الريح فخدشه غصن منها فدمِيَ وورم به ومات من ذلك، والاختلاق ظاهر في هذا الحديث.
ومن الرواة من حدَّث أنه مات في غزوة، والعجيب أن تدون حوادثه الغرامية بما رأى القارئ من التفصيل، ولا يتفق الرواة في حديثهم عن وفاته. أفنراهم أنصفوا يوم رأوا الموت غير خليق بعناية الأحياء؟!
هوامش
وله مع عبد الملك موقف آخر أشرنا إليه في المحاضرة الثالثة، وفي كلا الموقفين يتنكر عبد الملك ويقف من الشاعر موقف المسيطر الغضبان، ولهذا النحو من الحديث دلالته على حرص أشياع بني أمية في تصوير خلفائهم بصورة الجد والوقار في معاملة الغَزِلين من الشعراء.