الملح والفكاهات
رأينا أن نختم هذا الكتاب بطائفة من المُلَح والفكاهات التي تتصل بعمر بن أبي ربيعة؛ ليرى القارئ كيف كانت تجري النادرة على ألسنة الحجازيين في ذلك الزمان.
١
أنشد عمرُ بن أبي ربيعة ابنَ عتيق قوله:
فلما بلغ إلى قوله:
قال: أما والله ما قضيتها ذهبًا ولا فضة ولا اقتضيتها إياه، فلا عرَّفكما الله قبيحًا.
فلما بلغ إلى قوله:
قال: إن ظاهر أمرك ليدل على باطنه، فأورد التفسير، ولئن مت لأموتن معك، أُفٍّ للدنيا بعدك يا أبا الخطاب! فقال له عمر: بل عليها بعدك العفاء يا أبا محمد!
٢
فجعلت تمسح عينها من الدموع وتقول: الحمد لله الذي لم يضيِّع حَرَمه!
فتسلَّت وقالت: هذا أجلُّ عوض، وأفضل خلف، فالحمد لله الذي خلَّف على حرمه وأُمته مثل هذا.
وفي هذا الاختلاف بين رواية القصة كما ذكرها صاحب «الأغاني» وصاحب «زهر الآداب»، دليل على أن فيها أثرًا للوضع، أو التحريف، وهي تدلنا على أنه كان معروفًا في ذلك العصر أن في شعر الحارث بن خالد، وفي شعر العرجي، مشابهةً بينة لشعر عمر بن أبي ربيعة، وقربًا لِمَنْحاه في التشبيب بالنساء.
وقد ذكر موريس دونيه في حياة ألفريد دي ميسيه الغرامية أنه رؤيت سيدة تنتحب في القطار، فسألها الناس عن سبب بكائها فقالت: يا ويحكم! ألم تعلموا أن ألفريد دي ميسيه قد مات!
وكذلك تتشابه الحياة الوجدانية على اختلاف البقاع والأجيال.
٣
قال عبد الملك بن مروان لعمر بن أبي ربيعة: أنت القائل:
فقال: نعم! فقال: بئس المحب أنت، تركتها وبينها وبينك غدوة! فقال: يا أمير المؤمنين، إنها من غدوات سليمان، غدوُّها شهر، ورواحها شهر!
٤
قدم عمر بن أبي ربيعة المدينة من أجل امرأة من أهلها فأقام بها شهرًا، فذلك قوله:
أتراك لو وصفت بهذا هِرة أهلك، ألم تكن قد قبَّحت وأسأت، وقلت الهجر؟ إنما توصف الحرة بالحياء والإباء، والبخل والامتناع، كما قال هذا، وأشار إلى الأحوص:
فدخلت الأحوص أبهة، وعُرفت الخيلاء فيه، فلما استبان ذلك كُثير قال: أبطل آخرك أولك، أخبرني عن قولك:
أما والله لو كنت فحلًا لما باليت ولو كسرت أنفك! ألا قلت كما قال هذا الأسود وأشار إلى نصيب:
فانكسر الأحوص، ودخلت النُّصَيب أبهة، فلما نظر أن الكبرياء قد دخلته قال له: وأنت يا ابن السوداء فأخبرني عن قولك:
أهمك من ينيكها بعدك؟
٥
واعدت الثريا عمر بن أبي ربيعة أن تزوره، فلما جاءت في الوقت الذي ذكرته صادفت أخاه الحارث قد زاره فأقام عنده ووجه به في حاجة له، ونام مكانه وغطى وجهه بثوبه، فلم يشعر إلا بالثريا قد ألقت نفسها عليه تقبله، فانتبه وجعل يقول: اعزبي عني فلست بالفاسق أخزاكما الله!
فلما علمت بالقصة انصرفت وجاء عمر فأخبره الحارث بخبرها، فاغتمَّ لما فاته منها، وقال: أما والله لا تمسك النار أبدًا وقد ألقت نفسها عليك! فقال الحارث: عليك وعليها لعنة الله!
٦
كان لابن أبي ربيعة ابن صالح يقال له: «جوان» وفيه يقول العرجي:
وقد جاء جوان هذا إلى زياد بن عبد الله الحارثي، وهو إذ ذاك أمير على الحجاز فشهد عنده بشهادة، فتمثل:
ثم قال: قد أجزنا شهادتك. وقد غضب جوان من هذا الشعر وجاء إلى العرجي، فقال له: يا هذا، ما لي ولك تشهِّرني في شعرك! متى أشهدتني على صاحبتك هذه! ومتى كنت أنا أشهد في مثل هذا!
٧
عرض يزيد بن معاوية جيش أهل الحرة، فمر به رجل من أهل الشام معه تُرسٌ خَلَق سَمْج، فنظر إليه يزيد وضحك، وقال له: ويحك! تُرس عمر بن أبي ربيعة كان أحسن من ترسك! يريد قول عمر:
٨
حدث بُدَيح قال: حجت بنت محمد بن الأشعث الكندية، فراسلها عمر بن أبي ربيعة ووعدها أن يتلقاها مساء الغد، وجعل الآية بينه وبينها أن تسمع ناشدًا ينشُد يعلمها بمصيره إلى المكان الذي وعدها، قال بديح: فلم أشعر به إلا متلثمًا فقال لي: يا بديح، ائت بنت محمد بن الأشعث فأخبرها أني قد جئت لموعدها، فأبيت أن أذهب وقلت: مثلي لا يعين على مثل هذا، فغيَّب بغلته عني ثم جاءني فقال لي: قد أضللت بغلتي فانشُدها لي في زقاق الحاج، فذهبت فنشدتها، فخرجت عليَّ بنت محمد بن الأشعث وقد فهمت الآية، فأتته لموعده، وذلك قوله:
قال بديح: فلما رأيتها مقبلة عرفت أنه قد خدعني بنَشْدي البغلة، فقلت له: يا عمر! لقد صدقت التي قالت لك:
قد سَحَرْتني وأنا رجل! فكيف برقة قلوب النساء وضعف رأيهن! وما آمنك بعدها، ولو دخلت الطواف ظننت أنك دخلته لبلية، قال: وحدثها بحديثي فما زالا ليلتهما يفصلان حديثهما بالضحك مني.
٩
أنشد ابن أبي ربيعة قوله:
فبلغ ذلك أبا وَدَاعة السَّهمي فأنكره وغضب، وبلغ ذلك ابن أبي عتيق وقيل له: إن أبا وداعة قد اعترض لابن أبي ربيعة دون زينب بنت موسى، وقال: لا أُقر لابن أبي ربيعة أن يذكر امرأة من بني هُصَيْص في شعره، فقال ابن أبي عتيق: لا تلوموا أبا وداعة أن يُنعِظ من سَمَرْقنْد على أهل عَدَن!
١٠
قال ابن أبي عتيق لابن أبي ربيعة: يا عمر! ألم تخبرني أنك ما أتيت حرامًا قط؟ قال: بلى، قال: فأخبرني عن قولك:
ما معناه؟ فقال: والله لأخبرنك: خرجت أريد المسجد وخرجت زينب تريده، فالتقينا فاتعدنا لبعض الشعاب، فلما توسطنا الشِّعب أخذتنا السماء، فكرهت أن يُرى بثيابها بلل المطر فيقال لها: ألا استترت بسقائف المسجد إن كنت فيه! فأمرت غلماني فسترونا بكساء خز كان عليَّ، فذلك حين أقول:
فقال له ابن عتيق: يا عاهر! هذا البيت يحتاج إلى حاضنة!
١١
خرج عمر بن أبي ربيعة والحارث بن خالد وأبو ربيعة المصطلقي ورجل من بني مخزوم يشيعون بعض خلفاء بني أمية، فلما انصرفوا نزلوا بسَرِفَ فلاح لهم برق، فقال الحارث: كلنا شاعر، فهلمُّوا نصف البرق، فقال أبو ربيعة:
فقال الحارث:
فقال المخزومي:
فقال عمر:
ثم قال: ما لي وللبرق والشوك!
١٢
لقي عمر ليلى بنت الحارث وهي تسير على بغلة لها، وكان قد شبب بها فقال: جعلني الله فداك! عرِّجي ها هنا أسمعك بعض ما قلته فيك. فقالت: أوَقد فعلت؟ قال: نعم، فوقفت وقالت: هات، فأنشدها:
فقالت: آمرك بتقوى الله وإيثار طاعته، وترك ما أنت عليه! ثم صاحت ببغلتها ومضت.
١٣
حدث سفيان بن عيينة قال: بينا أنا ومِسعر بن كِدام مع إسماعيل بن أمية بفناء الكعبة، وإذا بعجوز قد طلعت علينا عوراء متكئة على عصا يصفق أحد لَحييها على الآخر، فوقفتْ على إسماعيل فسلمت عليه، فرد عليها السلام، وسألها فأحفى المسألة، ثم انصرفت، فقال إسماعيل: لا إله إلا الله! ماذا تفعل الدنيا بأهلها! ثم أقبل علينا فقال: أتعرفان هذه؟ قلنا: لا والله، ومن هي؟ قال: هذه «بَغوم» ابن أبي ربيعة التي يقول فيها:
انظرا كيف صارت، وما كان بمكة امرأةٌ أجمل منها! فقال له مسعر: لا ورب هذه البَنِية، ما أرى أنه كان عند هذه خير قط!
١٤
حدثت ذُهيبة مولاة محمد بن مصعب بن الزبير قالت: كنت عند أمة الحميد بنت عمر بن أبي ربيعة في الجُنيد الذي في بيت سكينة بنت خالد بن مصعب، أنا وأبوها عمر وجاريتان له تغنيان، يقال لإحداهما: البغوم، والأخرى: أسماء، وكانت أمة الحميد بنت عمر تحت محمد بن مصعب بن الزبير، فقال عمر بن أبي ربيعة وهو معهم في الجنيد:
فلما انتهى إلى قوله:
•••
أما بعد؛ فهذا كتابٌ أشعر بأن خَيرهُ نِفايةُ شره، وأن ما فيه من هُدًى أسير ما فيه من ضلال، وإني لأقول:
وسبحان مَن لو شاء لعجَّل التَّوب، وعفا عما تسلَّف من ذنوب.