المنظر
يزاح الستار عن رحبة قصر الأمير فخر الدين يوسف ابن شيخ الشيوخ في المنصورة، والرحبة
يكتنفها جدار سور عال يرى في مواجهة الناظر وإلى يساره، وفي الجزء الأيسر من هذا السور
بالقرب من الركن الأعلى باب كبير هو الباب العام للقصر، وهناك بناء منزل إلى اليمين
عربي الطراز يصعد إلى مدخله بدرج طويل من الرخام يبتدئ من مؤخر المرزح بحيث يكون بينه
وبين السور مسافة كبيرة، ويبنتهي الدرج بشرفة مربعة ذات قبة محمولة على أعمدة من
الرخام، وباب المنزل ظاهر من تحتها، وهناك باب صغير إلى الجانب الأدنى من الدار يفتح
على الرحبة، وأمام البيت شجرة تحتها مقعد، يرى صبيح الحبشي جالسًا على المقعد، وهو لابس
قميصا من الصوف الأبيض قصيرا تمنطق عليه، وفي المنطقة سيف وعلى ظهره عباءة من
الصوف.
صبيح
:
ترى أتظل المنصورة عامرة بأهلها، أم ينتاب هذه الدولة ما انتاب
الفواطم من قبل؟ ما للمدينة هادئة ساكنة كأنما هاجر منها أهلُها؟ أيتها
المنصورة الحبيبة إلى نفسي لم يمض عليك في الدنيا ثلاثون عامًا كنت فيها جنة
الجنات، يخطر في رحابك الملوك وتفخر بجناتك السلاطين، أين سيدك الذي ابتناك؟
أين السلطان الكامل؟ أين موساك وأين عيساك، ترى أتمضي بك الهزيمة أم أن نجمك
مشرق في السماء؟ لكأنني والله في بيداء تتجاوب فيها الأصداء، رب لا أسألك رد
القضاء ولكني أسألك اللطف فيه.
(يدخل سهيل من باب الجدار).
سهيل
:
صبيح!
صبيح
(يلتفت)
:
من هذا؟ سهيل؟ مرحبا، ماذا جاء بك في هذه الساعة؟
سهيل
:
كيف حال السيدة صفية؟ (يسلم
عليه).
صبيح
:
بخير، لعلها الآن نائمة، ولكني لا أدري لماذا أمر الأمير بيبرس
بنقلها إلى هذي الدار هي ووصيفتها القبطية؟ إنه لم يبن عليها بعد حتى يكون له
كل هذا.
سهيل
:
هي له على كل حال يا صبيح بإذن مولاك السلطان الصالح ورضاه.
صبيح
:
أعرف ذلك، ولكن العادة عندنا …
سهيل
:
أية عادة يا صبيح! أسبقت مولاك من كيفا لتقول لنا هذا الكلام؟
لو كانت سيدتنا صفية بنتا للسلطان نفسه ما أباها عليه، إنه زعيم هذه الدولة ولا
مراء، هوّن عليك. لعمري لو أنني خُيرتُ …
صبيح
(يقاطعه)
:
أجل أجل. ولكن أما كان أولى أن يبقيها في جوار أختها في مثل هذه
الآونة؟
سهيل
:
إن أختها آتية إلى هذه الدار.
صبيح
:
آتية إلى هذه الدار؟
سهيل
:
أجل.
صبيح
:
ولماذا تترك قصرها؟
سهيل
:
كذلك رأي محسن وبيبرس وستعرف السر في ذلك حين يحضرون بها.
صبيح
:
ومتى تحضر؟
سهيل
:
الآن، إني خليت القصر وهي تركب محملها الصغير، ولعلها لا تبعد
الآن عن هذي الدار كثيرا (يذهب ويطل من
الباب) انظر (يشير إليه
بالتقدم) أترى هؤلاء المشاعلية والضوية.
صبيح
:
مرحبًا مرحبًا بشجرة الدر، ما رأيت في النساء مثل هذه المرأة
تقًى وحزمًا.
سهيل
:
ولا في الرجال والله يا صبيح.
(هنا تدخل المشاعلية والضوية يتقدمون شجرة الدر في هودج صغير
على شكل محمل مصر، وإلى جوارها بيبرس وفخر الدين ومحسن سائرين على الأقدام وهم في
عدة القتال من خوذ ودروع وسيوف، ويكون لباس الضوية لباس صبيح تمامًا).
محسن
:
أنزلوا المحمل عن الأعناق يا رجال. (يضعون المحمل وتنزل منه شجرة الدر ملثمة ثم يسترسل محسن موجهًا الخطاب
إلى صبيح) وأنت يا صبيح خذ المحمل إلى مكان من حظيرة هذا القصر،
وليقف من يبقى منكم على مقربة من مدخله.
صبيح
:
سمعا يا مولاي (يأخذون المحمل ومعهم
صبيح ويسيرون به وراء الدار من أعلى المرزح) من هنا، إلى اليمين
(ويخرجون وتتمشى شجرة الدر حتى تجلس على
المقعد).
شجرة
:
أترى هذا المكان آمن يا ركن الدين؟
بيبرس
:
أجل يا سيدتي، إن الفرنسيين يحاولون أن يعبروا مخاضة في أهداب
بحر أشموم دلهم عليها خوان ممن تتكشف نفوسهم عن فطرتها في مثل هذه الأيام. ولكن
عز الدين وقطز وقلاون ولبان وتنكز قاعدون لهم على الماء بالمرصاد.
شجرة
:
فلماذا حملتوني على مغادرة قصري؟
محسن
:
إنما الحازم من تدبر يا مولاتي، إنا وإن كنا نثق بأخواتنا ونعلم
أنه لن يفلت منهم خيال فرنسي إنما نتخذ الحيطة ولا بأس بها في مثل هذه الأيام.
بيبرس
:
إنا قليلون في هذه البقاع، ونخشى أن يؤثر العدو قتل بعض رجاله
في هذا العبور على أن يظل يتفيأ نيراننا الإغريقية وبئس الظلال، كم من فارس
قتلناه، وكوند١ من أقرباء الملك أسرناه، وبرج لهم أحرقناه، وكم مركب أغرقناه وجسر
هدمناه، وكم طلعنا عليهم بكل حيلة، فهل تعجبين أن يقدموا على العبور مستيئسين،
وإذا قدر لهم دخول المنصورة كان أول همهم أن يدهموا القصر ويأسروا مولاتنا، فما
هم هؤلاء إلا أكبر حرماتنا: الدِّين والعِرض.
محسن
:
أجل فإنهم يعلمون أننا نجد المرأة شرفا ماثلًا.
بيبرس
:
وفد اجتمع لمولاتنا أدامها الله آيات ديننا وجلال سلطاننا؛ لذلك
رأينا نقلك إلى دار الأمير فخر الدين هذه، حتى إذا قدر لهم أن يدهموا القصر كنت
في مأمن من أذاهم وأعملنا نحن السيوف في رقابهم.
شجرة
:
شكرا لكم لقد أصبتم.
فخر
:
ولكن ماذا فعلتم بالجواري؟
محسن
:
أشْخَصَتْهُنَّ صبيحة اليوم إلى سمنود يحرسهن بعض جندي.
فخر
:
وماذا فعلتم بأوراق سلطاننا؟
سهيل
:
هي في حراستي يا سيدي الأتابك.
فخر
:
أهي في المنصورة؟
سهيل
:
هي في حمى السلطان أيها الأمير.
فخر
:
حسنا ولكن (يلتفت إلى شجرة
الدر) أما كان أولى أن تكون مولاتنا (يلتفت إلى بيبرس) على رأس خاصتها في سمنود؟ إنها آَمَنُ من
المنصورة على كل حال.
شجرة
(تنهض)
:
إذا لم تكن هذه المنصورة دارة أمن ونصر فما سمنود إلا القطيعة
والشر، إن خاصتي اليوم الرجال لا النساء يا فخر الدين، وقد ألقيتم إليّ زمام
الدولة، ووكلتم إليّ جمع أمركم حتى يأتي سلطانكم، فمن الخطل أن أترككم في حومة
الوغي ثم أمضي. بل هل يصيب الأذى شجرة الدر ودون دارها بطل منكم؟ كلا والله،
ألا إني إذا تلفت فلم أجده قريبا مني جعلت من هذا الخنجر بديلا منه (تجرده)، فإذا خطا إليّ باغ بعدكم بأذى كان
الخنجر أسرع منه خطوا إلى قلبي، لا افتداء لشجرة الدر، ولكن عصمة لأميرة في
المسلمين أن تقع في أيدي الصليبيين.
بيبرس
:
مرحى لسيدة النساء.
شجرة
:
فإذا مت إلى جوار رجالي وسال دمي خليطا بدماء أبطالي، زُففت يوم
الحشر إلى الجنة شهيدة في الشهداء، تحف من حولي الملائكة الأطهار ولنعم عقبى
الدار.
محسن
:
طوبى لك يا سيدتي.
سهيل
:
يقل في الناس مثل هذا التقى، لقد والله صدق أقطاي.
شجرة
:
والآن أيها الأمراء ليست الدولة بسلطانها إنما هي برجالها، كذلك
أجمع رأيكم ليلة النوبة، والساعة آتية لا ريب فيها فأما نصر يطمئن به مضطرب
الأمر، وإلا فإثمها عليكم، هذه ساعة لها ما بعدها، فمن قضي في ذمتها شهيدًا
تفتحت له أبواب الجنة مشكورًا، ومن عاش بعدها كريمًا أزلفت إليه طيبات الدنيا
مأجورًا، ولثواب الآخرة خير وأبقى.
بيبرس
:
أيتها الأميرة ما دامت هذه السيوف في أيدينا، وهذا الإيمان في
قلوبنا، والحق في جانبنا، والله بعينه يرقبنا فالنصر بإذن الله لنا.
محسن
:
أما أنا (متمثلا).
فلست أبالي حين أقتل مسلمًا
على أي جنب كان في الله مصرعي
فخر
(متمثلا)
:
لي ذلة إليكم فأعتذر
سوف أكيس بعدها وانشمر
وأجمع الأمر الشتيت المنتشر
شجرة
:
الآن أستودعكم الله أيها الأمراء، سيروا على بركة الله، وأقرئوا
الأجناد مني السلام (تصعد درج الدار حتى تختفي وسهيل
وراءها).
بيبرس
:
السلام على مولاتنا ورحمة الله.
فخر
:
أين تذهب الآن يا بيبرس.
بيبرس
:
سأرابط بجيشي عند القصر حتى إذا جاءوا إليه حكمتُ السيف بيني
وبينهم.
فخر
:
وأنت يا جمال الدين؟
محسن
:
لا يهمني من هذه الملحمة إلا أن أظفر بملكهم حيا أو ميتا،
وسأتربص بهم.
فخر
:
ألا تخشى أن يبصرك ناظورهم فيأخذوا عليك الطريق؟
محسن
:
سأسير بجندي جنوبا ثم ألتف على عقيصة البحر، فإذا سار الملك
بجنده عندها ضربت في ساقته إذ ذاك، وتناولت رأسه وانضممت بعد ذلك إلى قطز.
بيبرس
:
لا بأس بذلك، ولكني أخشى أن يطول بك المسير.
فخر
:
لا خوف من ذلك، إني حشدت رجالي على الجانب الغربي من النيل،
وحملت شواني وسفني مفككة على ظهور الجمال إلى بحر المحلة، وسينزل بها رجالي حتى
إذا ساروا بها إلى البحر الكبير دفعوا شواني الفرنسيس إليك يا بيبرس امض فيما
أنت فيه يا جمال الدين.
محسن
:
توكلت على الله (ينادي)
صبيح.
صبيح
(يدخل)
:
مولاي.
محسن
:
هيِّئ جيادنا.
صبيح
:
سمعًا يا مولاي (يخرج من الباب
الكبير).
محسن
:
استودعكم الله (يعانق فخر
الدين) في ذمة الله يا فخر الدين.
فخر
:
في ذمة الله يا محسن.
محسن
(يعانق بيبرس)
:
في ذمة الله يا بيبرس (يخرج محسن من
باب الرحمة).
بيبرس
:
في ذمة الله، (يعانقه ويخرج
محسن) وأنت يا فخر الدين أرى أن تبقى الساعة بدارك ريثما تنفض عنك
غبار الجهاد، إن الفرنجة لا يستطيعون الآن فكاكًا.
فخر
:
كلا كلا. ليس هذا أوان الراحة والعدو ملح علينا، ولكنا الآن في
ساعة لا نعرف أنجوزها إلى الدنيا أم إلى الآخرة، فلا بد لي من التوضؤ والصلاة
لله، حتى إذا توفاني إليه لقيته طاهرًا، أستودعك الله (يهم بعناقه).
بيبرس
:
أستودعك الله يا فخر الدين (يتعانقان
ثم يخرج فخر الدين مارا من وراء الدار فيسترسل بيبرس متأثرا)
يالله! لماذا ضمني فخر الدين هذه الضمة! لعمري ما شعرت بمثلها إلا في صدر أبي،
أفراقا يا فخر الدين؟ اللهم لا تفرق بيننا، فإن كنت كتبت له دارك قبلي فأشفعه
بي، إن الحياة لا تطيب لي من بعده.
صفية
(هنا تبدو صفية تحت القبة وتنزل الدرج، فإذا ما وصلت إلى
آخره قالت)
:
ألا تطيب معي يا ركن الدين؟
بيبرس
(يلتفت إليها)
:
سيدتي (يتقدم إليها
ويحتضنها). أجل، أيتها الحبيبة، أنت كل الحياة عندي، أم رابك
وداعي لفخر الدين؟
صفية
:
لقد حسبت كل فؤادك لي يا بيبرس؟
بيبرس
:
هو كذلك يا كل مناي.
صفية
:
فلماذا أبيتَ أن تعقد لنا أختي يوم عدتَ بي إليها؟ حتى لا
تفارقني لحظة.
بيبرس
:
آه يا صفية، أتظنين أني كنت أستطيع البقاء في جوارك.
صفية
:
لم لا؟
بيبرس
:
هل رأيتني جئت القصر منذ عدت إلا مرات معدودة؟
صفية
:
لقد جئت خمس مرات، لم أجتمع بك فيها إلا مرة واحدة وكانت فواقا
ثم لم تبعث إلي فيما بقي منها بسلام.
بيبرس
:
وي! ألم تحمل إليك أختك عني شيئا أبدا؟
صفية
:
إنها لم تحادثني منذ جئت إلا قليلا، كلما حاولت أن أخلو بها
رأيتها بين أوراق ورسائل وقصص، ثم لا تخلو لحظة حتى يتقدم إليها فارس من قبلكم
في شورى أو في نبأ من نائب السلطنة في القاهرة.
بيبرس
:
وماذا في ذلك يا صفية؟ (ينظر إليها
نظرة العاشق الطروب).
صفية
:
إنكم أفسدتم أختي يا بيبرس بما عهدتم إليها، إن النساء لم تخلق
لهذا العناء، أما ترى ورد وجنتيها قد ذبل وهي في ريعان الشباب.
بيبرس
:
حسبي ورد هذي الخدود يا صفية.
صفية
:
دع عنك هذا، لماذا لم تتول الأمر عنها؟
بيبرس
(يضحك بلطف)
:
وي! أأنت تؤثرين …
صفية
:
كلا، ولكنك كنت تبقى قريبا مني.
بيبرس
:
ومصر يا صفية؟ من ذا ينقذ مصر والعدو ملح علينا؟
صفية
:
كنت تذهب لقتاله من حين إلى حين.
بيبرس
:
كذلك فعلت يا أحب الناس إليّ، فلم أستطع أن أزور القصر إلا خمس
مرات في ثلاثة أشهر، أفتبين لك عذري؟
صفية
:
كلا.
بيبرس
:
إذن فاصفحي عني، الله يعلم لم يطل بقاء هؤلاء القوم بديارنا
غيرك أيتها الحبيبة.
صفية
:
غيري؟
بيبرس
:
أجل، لم أجد لي من زماني ساعة للتفكير في مساومة القوم عن
أنفسهم حتى يبدو لي طيف صفية ماثلًا فيشغلني بهاؤه عن القيام إلى الأعداء،
وكأنما أوثر أن تنقضى الحياة في مثل هذا الحلم الشهي فلا ينصرف عنك خاطري حتى
يصرف الطيف عني ناشدٌ من أمرائي، فالذنب ذنبك يا صفية.
صفية
:
إذن فابغضني يا ركن الدين حتى تنقضي الحرب، وتكون مني قريبا كما
نحن الآن، ابغضني.
بيبرس
:
كيف يبغض الإنسان بملكه كل هذا يا صفية؟ (هنا يسمع نفير مذعر مستمر، يلتفت بيبرس يتسمع)
وي! (وتبدو عليه علائم الاهتمام الشديد
فينهض).
صفية
(مذعورة)
:
ما هذا؟
بيبرس
:
هذا النفير يا صفية. دارك أيتها الحبيبة!
صفية
(مذعورة)
:
ماذا جرى؟
بيبرس
:
إن الفرنسيس قد دهموا المنصورة! الوداع.
صفية
:
أتتركني؟
بيبرس
:
سأعود إليك عما قريب، لا تجزعي، خدرك يا كل المنى، إني ذاهب
الآن إلى القصر فلا يفوتني أن أرقبك، روحي لك فداء يا صفية، ولكن اليوم يومي
فإن كان عليّ فهو على مصر كلها الوداع، زوديني بدعواتك.
صفية
:
الوداع يا ركن الدين، الله معك. ردَّك الله إليّ سالما منصورًا
(يتعانقان) في ذمة الله يا بيبرس.
بيبرس
:
في ذمة الله (يخرج بيبرس مهرولًا وقد
شهر السيف في يده وتجلس صفية على المقعد ويداها ممدودتان ومعقودتان بين
ركبتيها).
صفية
:
اللهم لا تفرق بيننا ولا تزد حرقتي عليه نارًا، رده إليّ سالما
(تفكر مطرقة) لا، إنه لا يفجعني فيه،
ويلاه. (تصرخ) بيبرس (تضع وجهها بين يديها وتبكي. وهنا تأتي مريم فترى صفية
جالسة على المقعد).
مريم
:
سيدتي صفية! أين أنت؟
صفية
:
هنا يا مريم، تعالي.
مريم
(تنزل إليها)
:
ما لكِ باكية، أنت بخير يا سيدتي.
صفية
:
كيف أكون بخير يا مريم والعدو قد دهمنا وركن الدين قد سار وحده
إلى القصر؟
مريم
:
أأنت تخشين بأسًا على الأمير يا سيدتي؟
صفية
:
كيف لا يا مريم؟ إن العدو لا يقصد إلا القصر، وقد سار الأمير
إليه وحده.
مريم
:
الله حافظه من كل سوء، لو أريد له أذى لكان ذلك ليلة فارسكور،
اطمئني يا سيدتي، لا يليق بعروس عنترة المصريين أن تكون إلا عبلة، هذا يوم
بيبرس يا سيدتي، سيلتقي بهم فيفني جموعهم، وتضع الحرب أوزارها ويعود إليك
باسمًا، هيا يا سيدتي تهيئي لعرسك، وتوكلي على الله هلم إلى الدار (تتناول يدها).
صفية
(تنهض وتميل صوب عتبة الدار هي ومريم)
:
إني توكلت على الله.
(وإذا بهبة الله يدخل، وتكون صفية على وشك صعود السلم، وتلتفت
مريم، ويكون قد غير ثيابه فهو لابس بوغلطاق
٢ أحمر على قفطان، ومعمم بعمامة صفراء على كلوته من الصوف).
مريم
:
وي! من أنت أيها الرجل. ويحي! فيليب؟
صفية
(تعود)
:
هذا هبة الله الطبيب يا مريم، لا تذعري.
مريم
:
وحق الله يا سيدتي …
هبة
(مقاطعا)
:
سلام أيتها الأميرة.
صفية
:
مرحبًا بهبة الله.
مريم
:
هذا فيليب الذي كان يلم بنا في فارسكور.
هبة
(يتقدم)
:
كيف لا تعرفين هبة الله طبيب السلطان وامرأته وطبيب مولاتي هذه
منذ أعوام؟ ألا تتذكرين تلك الأيام أيتها الأميرة؟
صفية
:
بل أذكرها، في حلب على ما أظن.
هبة
:
أجل في حلب، في حلب.
صفية
:
ماذا جاء بك يا هبة الله؟ (تعود إلى
المقعد وتجلس، ويأتي هبة الله وراءها).
هبة
:
لا أدري، ولكني خرجت من الصلاة قبل أداء السنة فبحثت عن الأمير
فخر الدين لأمر يهمه الوقوف عليه من حركات الفرنسيس فلم أجده، فجئت أنشده في
داره أم ترينني أخطأت؟
صفية
:
كيف هذا؟ هذي دار الأمير فخر الدين ولكنه هجرها بأهله منذ أسبوع
وجيء بنا إليها ليلة أمس، أفلا تدري ذلك؟
هبة
:
كلا، أتراه عسكر على الشاطئ؟
صفية
:
ولا تدري هذا أيضًا، إن الشاطئ قريب تلمحه العين أفتكون من رجال
القصر ولا تدري؟ أين كنت هذه الأيام؟
هبة
:
نحن الأطباء لا يعنينا إلا تولي المرضى بالعناية أعداء كانوا أو
أصدقاء.
صفية
:
يا عجبي منك يا هبة الله، ليس الطب إلا عرضا، ولو لم تكن طبيبًا
لكنت كاتبًا أو أميرًا، ولست أظن أحدًا من هؤلاء يجهل مكانه الآن من هذه الحرب
الضروس، بل ألم تجيء الآن تنهي إلى فخر الدين أمرًا يهمه الوقوف عليه من حركات
الفرنسيس؟
هبة
:
صدقت يا سيدتي، ولكن لعلها هموم تنسي الإنسان نفسه فلا يدري
ماذا يقول، أين الأمير بيبرس الآن؟
صفية
:
ذهب إلى القصر لحراسته ثم يعود إلينا إن شاء الله سالما، كذلك
وعدني ولن يخلف الله وعده.
هبة
:
كتب الله له السلامة.
صفية
:
آمين.
هبة
(يبلع ريقه)
:
هل من شربة ماء؟ (يتلفت)
ليكاد الظمأ يقتلني.
صفية
:
عليّ بكوبة ماء يا مريم، إن هذا اليوم كأيام الصيف، وإن كنا في
أذيال طوبه.٣
مريم
(تذهب وهي تتمتم)
:
فيليب بعينه، إني لا أستغش عيني.
هبة
:
الآن أستطيع الكلام.
صفية
:
وماذا كان يمنعك منه؟ أنت تخشى مريم؟
هبة
:
مريم؟ فتاة فارسكور؟ كلا، ولكن خبريني يا سيدتي، ألا ترين أني
أتلعثم ولا أدري ماذا أقول؟
صفية
(تضحك متهكمة)
:
لعله حر الشتاء قد آذاك أيها الطبيب!
هبة
:
أجل يا سيدتي ولكنه حر الشوق إلى ساعة قضيتها في حلب منذ عامين.
لقد كنت أجالس يومئذ فتاة ساحرة العينين تصغر عنك سنتين، وكانت أختها مريضة،
وصهرها مشغولًا بالقتال، وهي قلقة البال عليها، فوعدتني هذي الفتاة الرائعة
الحسن إن أنا شفيت لها أختها أن تجزيني خيرًا فاستوثقت مما وعدت، فآلت على ذلك
حلفة ولست أدري أتذكر الحسناء وعدها أم لا؟
صفية
:
بلى.
هبة
:
أتعرفينها؟
صفية
(ضاحكة في أدب)
:
كأني لا أجهلها.
هبة
:
وقد جعل الله شفاء أختها على يدي والحمد لله، ولكنها لم تف لي
بما وعدت.
صفية
:
لبعد الشقة يا هبة الله.
هبة
:
الحمد الله على ذلك.
صفية
:
لماذا؟
هبة
:
كأن الله لم يجدني أحوج إلى برها بالوعد مني إليه اليوم،
فأرجأني حتى ساق قدمي إلى هذا المكان، ترى أتصدق الحسناء وعدها؟
صفية
:
أجل يا هبة الله إن استطعت.
هبة
:
إذن فحاجتي إليك أن تخبئيني في هذا القصر يومًا كاملًا.
صفية
:
أخبئك في هذا القصر؟
هبة
:
أجل يا سيدتي.
صفية
:
ولماذا؟
هبة
:
لأني نظرت في أسطرلابي فعلمت أن يوم الثلاثاء هذا عصيب عليّ،
وإذا جاء الليل وقد علم بمكاني أحد غير أحب الناس إلي فإني هالك.
صفية
:
أنا أحب الناس إليك؟ شكرا لك يا هبة الله، إنك موضع ثقة أهل
القصر جميعا، فلا غرو أن نراك فيمن نعز ونكرم.
هبة
:
شكرًا لك يا سيدتي، ولكن حبي إياك حب يعلم الله وحده نجواه،
وهذا القلب وهذي العين، رأيتك في حلب فكأنما رأيت الحور، فلما بقيت بها وجئت
مضطرا في ركاب السلطان إلى مصر كدت أزل بنفسي سرفا.
صفية
:
وي! لماذا؟
هبة
(حائرًا)
:
لأنك كنت يومئذ مريضة، وقد كنت أرجو …
صفية
(تتنفس)
:
شكرا لك.
هبة
:
ولقد قاسيت من أجلك ما يقاسي المحب اليائس راضيًا بذلك
مستسلمًا.
صفية
:
المحب اليأس!
هبة
:
أجل يا سيدتي، حتى علمت أنك وقعت في يد الكونت دارتوا فكدت أقضي
حزنًا؛ لأني أيقنت أن قد ضاعت بقية الأمل الذي كنت أحيا به في هذه الدنيا.
صفية
(تتنفس ذعرًا)
:
أي أمل تعني أيها الطبيب؟
هبة
:
آه. أنا. أنا. لا شيء. أريد. أجل (يتكلم وهو ينظر إليها متفرسًا على مهل ويطرق من آن لآن) أعني
أنك إذا ظللت في يد الكونت وجاء يوم الثلاثاء هذا ولم أجدك (تبدو على صفية علامة النفور من الرجل في نظرتها فيسرع هو
في حديثه وكأنما قد وجد حيلة تنطلي عليها فسرّ بها) وأنت أحب
الناس إليّ، حتى تجدي لي مكانًا خفيًّا عن العيون فقدت أملي في البقاء.
صفية
(كأنما سُرّي عنها)
:
ها، فهمت. إني سأجيبك إلى طلبك (تنهض) لماذا تأخرت يا مريم؟ مريم! (تمشي خطوة) سأستعجلها وأبحث لك عن المكان اللائق.
هبة
:
شكرًا لك يا سيدتي (يميل على يدها
لتقبيلها فتسير صفية ولا يدركها وهي لا تلاحظ ذلك، وتدخل القصر ويقف هبة
الله ناظرًا إليها نظرة العاشق الأبله اليائس) لقد منيت نفسي قبلة
من يدها فأبت عليّ ذلك، واتعسي وخيبة رجائي! لماذا لا تكون هذه الفتاة لي
عروسًا؟ أفأنا أدنى منها محتدًا ونسبًا؟ لماذا لا يكون لي في هذه الدولة فوق ما
طغت! أأنا أقل من قومها فضلًا وحسبًا؟ (يسكت ويعود
إلى المقعد ويقعد) لابد منها، إني أحبها، أريدها لنفسي، هذه أول
المنى وآخرها. (يسكت ويطرق ثم يقهقه) ما
عجبت لشئ في الدنيا عجبي لآمال نفسي، ولكن لا بد من الظفر بها على كل حال وها
نحن أولاء في سبيل النجاح، لقد دللتهم على المخاضة في آخر البحر فدخلوا
المنصورة، ولم يبق إلا أن أتم ما عزمت عليه، هذا دارتوا آت هنا، وهذا بيبرس؛
أحدهما قاتل أخاه فأخلص منه. ولكني أفعل بالقاتل من ورائه ما أريد. ولكن ماري
«لعنة الله عليها» لقد عرفتني وستفضح أمري إذا أنا توانيت (هنا تأتي، مريم فينظر إليها هبة الله شزرًا ويكلمها
مغضبًا) عجلي بالماء يا ماري، لماذا غبت عني؟ لقد كاد يقتلني
الظمأ.
مريم
(فزعة)
:
لم أعرف مكان الكوب ولا الماء حتى دلتني عليه مولاتي، إنا لم
نهبط هذا القصر إلا طليعة اليوم.
هبة
:
ها! شكرًا لها (ينظر في الماء بعد
أخذه الكوب منها) أخشى أن يكون آسنًا كمياه دمياط يا ماري. ألا
تذكرينها (يرمي بالماء على الأرض فترتعد فرائص
مريم).
مريم
:
ما طرقت دمياط في حياتي أبدا.
هبة
(يضحك ساخرًا)
:
لقد طرقتها لأول مرة على ما أظن منذ سبعة أشهر أنت وشيخ مسن
يسكن فارسكور، أجل. أرسلك إلى بعض الأمراء في مهمة كنت فيها أبليس بعينه،
وتعرفين طعم الماء فيها حقًّا (ينظر إليها نظرة
الظافر المتفرس).
مريم
:
ويلاه.
هبة
:
إليس الأمر كذلك؟
مريم
:
كلا، إني ما ذهبت إلى دمياط بتة.
هبة
:
لا تكذبي، إنك أرسلت من قبل برنار صاحب النجع إلى الأمير فخر
الدين صاحب هذه الدار بذاتها، أتظنين أني أجهل من أمرك شيئا يا ماري؟ (يقهقه).
مريم
:
وماذا في ذلك؟
هبة
:
إذا لم يكن فيه بأس عليك فلماذا ذعرت؟ ألا يحدثك القلب بشيء؟
مريم
:
أتظن أنهم يجزونني على ما فعلت فيما مضى؟
هبة
:
كيف لا؟ إنهم لا ينسون للمسيء إساءته، انظري ماذا سببت لهم:
ضياع مدينة بمالها ورجالها، وقتل خمسين من أمرائها، وأنت أحق أن تقتلي.
مريم
:
أتظنهم الآن يقتلونني؟
هبة
:
أفي ذلك شك؟
مريم
:
ولكن من ذا يخبرهم بجرمي وقد قتل برنار؟
هبة
:
برنار قتل؟
مريم
:
كذلك خبرت.
هبة
:
لست أظن ذلك، على أنه إن كان قتل فإن أخي فيليب حيٌّ يرزق.
مريم
:
أهو أخوك يا سيدي؟
هبة
:
أجل إننا توأمان، ولكنه بقي على ملة قومه هو وبرنار، ودخلت أنا
في الملة السمحة، ولكن هذا لم يفرّق بيننا فقد كان يزورني كثيرًا ويفضي إليّ
بما في نفسه وقد أخبرني بجميع أمرك يا ماري.
مريم
(تتنفس حسرة)
:
آه.
هبة
:
لا تذعري، إنه سرّ لن يفارق شفتيّ.
مريم
(تجثو)
:
شكرًا لك سيدي، إنك لذو مروءة، استر عليّ وارحمني إني مسكينة
يتيمة من أبويّ.
هبة
(يبتسم في نفسه)
:
لا تخشي بأسًا، إني لا أريد بك أذى، إكرامًا لأخي.
مريم
(تقبل يده)
:
شكرًا لك يا سيدي شكرًا، لقد ضاقت الحياة في وجهي فلا أنا أعرف
لي أبا أفزع إليه ولا أخا ألقي حملي عليه، إن بقيت هنا فأنا في خطر من فضيحة
أمري، وإن هربت إلى ملك فرنسا انتقم مني على مخالفة أمره ليلة فارسكور، رباه!
ارحمني! ارحمني! إني أنيب إليك.
هبة
:
روّحي عنك لا تجزعي، سأكون لك منذ الآن أبا.
مريم
:
شكرًا لك يا سيدي، (تنهض).
هبة
:
ابقي بجوار مولاتك الأميرة صفية لا تفارقيها، هذا آمن لك، ولكن
حذار أن تذكري صلتي بفيليب أخي أو تتحدثي عن تشابه وجوهنا لئلا يقتلوني خطأ.
مريم
:
لك ذلك يا سيدي.
هبة
:
وإذا طلبت إليك عملا تستطيعينه في الليل أو النهار فأنجزيه على
الفور.
مريم
:
سمعًا وطاعة يا مولاي.
هبة
:
هذا عقد بيني وبينك، لأسبوع فقط ثم اردك بعد انقضاء الحرب إلى
أبيك وأمك.
مريم
(باستغراب)
:
أبي وأمي؟ إلى أب وأم؟ (تجثو
أمامه).
هبة
:
أجل، كذلك خبرني فيليب وهو يعرفهما، ولكنه لم يشأ إخبارك بالأمر
لئلا تتركي خدمة عمه الشيخ برنار، أما وقد تركتها فأنا أعدك بردك إليهما.
مريم
:
إذن فإني لك جارية بل دوين الجارية، ردني إلى أبي وأمي إني
لأحسّ الآن دبيب الحياة في قلبي.
هبة
:
سأردك إلى أبيك وأمك، فاطمئني ولكن إياك أن تكاشفي بهذا الخبر
إنسانًا.
مريم
:
محال. محال. لن أكاشف به أحدًا. إني طوع أمرك.
هبة
:
انهضي (تنهض مريم وهنا تلوح صفية عند
الباب الذي بالدور الأسفل على الرحبة).
مريم
:
مولاتي آتية (يقدم لها
الكوب) هنيئا لك يا سيدي (تأخذه وتخرج
صاعدة الدرج).
هبة
:
شكرا لك.
صفية
(منادية وهي لدى باب الغرفة)
:
هبة الله (تتقدم نحو
المقعد).
هبة
:
سيدتي (ينهض).
صفية
:
لم أجد في القصر غرفة أليق من هذه (تشير إلى باب الغرفة التي جاءت منها) وكأن حظك اليوم موفور فإن
لها بابين مفتاحهما واحد.
هبة
:
ما أسعد الحظ يا سيدتي، نعم الوفاء.
صفية
:
وقد أعددتها لك على عجل وأعددت لك ما تحتاج إليه من طعام ليلة
وشرابها، أراني وفيت لك بنذري يا هبة الله؟
هبة
:
فوق ما منيت نفسي يا مولاتي.
صفية
:
إذن فادخلها الآن إذا شئت، ولكن إياك أن يبدو من أمرك شيء لئلا
يتهموني بسوء، ثم إذا جاء الصباح فتحت لك الباب.
هبة
:
حَذَرِي أعظم من حذرك يا مولاتي، إنها حياة لا يعبث بها يا
سيدتي فاطمئني، ولكني أرى أن تعطيني المفتاح أقفل به الباب من باطنه حتى إذا
جاء الصباح خرجت بنفسي دون أن يراني إذ ذاك أحد.
صفية
:
أليس في ذلك بأس؟
هبة
:
إني طبيب القصر وكلهم يعرفون أني ادخل حيث تكون مولاتي بلا
استئذان.
صفية
:
صدقت ها هو ذا المفتاح. ادخل الآن …
هبة
:
شكرا لسيدتي، (يميل يقبل يدها ثم يدخل
الغرفة ويقفلها ثم تأتي مريم من القصر مذعورة).
مريم
:
سيدتي! سيدتي (تنزل على الدرج
وتنعطف).
صفية
(تذهب إليها لتلاقيها)
:
مريم! ماذا بك؟
مريم
:
أطللت الآن من النافذة فرأيت فرسان الفرنجة قد دخلوا الأزقة
والشوارع حتى بلغوا دار الفارس أقطاي وسيوفهم تلمع في الفضاء وتهوي على الناس
رجالًا ونساء وأطفالا لا تبقي ولا تذر٤ كأنما جاءوا ليقتلوا الشيوخ والأمهات ويحاربوا الرضع على الأكتاف.
صفية
:
ويلاه، ألم تري جنودنا؟ (هنا يسمع صوت
نفير المصريين إعلانا بهجمة العدو).
مريم
:
لم أشهد جنديا واحدا يا سيدتي، وكأنهم لم يعلموا بما وقع ولكنهم
سيعلمون وشيكا، هذا هو النفير يا سيدتي، إنهم مشغولون في غير هذا المكان، لقد
خُدعوا وربي، غير إني رأيت جناحًا من رجال القصر ترفرف على هذه البقعة.
صفية
:
ويلاه! اللهم انصره ونجه وارحمنا (طبول ونفير) لقد التحموا (صراخ من
الخارج وعويل).
مريم
:
نحن في مأمن يا سيدتي (جلبة مستمرة
ونفير وطبول) إن هذي الدار بعيدة عن الأذى، فقد رأيت الناس يلقون
المقاعد والأسرة والأخشاب والأحجار في الشوارع والأزقة من نوافذ منازلهم حتى
يسدوا الطرق على الصليبيين، وأخذت خيولهم تتعثر وتسقط بمن عليها ورأيت بعض
الشبان قد ركبوا النوافذ وأخذوا يطلقون قسيهم على الصليبيين، وهم على تلك الحال
فيوردونهم موارد الحتف العاجل.٥
صفية
:
وأين أختي الآن؟
مريم
:
لقد كانت نائمة في الشقة الغربية من هذا القصر، والكاتب سهيل
راقدٌ كذلك، ثم أفاقت الآن وأخذت تطل من النافذة، علمت أنها لم تنم ليلة الأمس
إلا فواقًا.
صفية
:
خير لنا أن ندخل الدار، هلم يا مريم (يهمان بالصعود على الدرج وفي أثناء ذلك يلوح برنار عند الباب متنكرًا،
وهو محني الظهر وفي يده عكازة يتوكأ عليها).
برنار
:
يا أهل المروءة والخيرات! (تلتقت
صفية) هل من مأوى لشريد! إحسانكم يا أولي الإحسان! أنقذوني،
ارحموا شيبتي وضعفي يرحمكم الله، سيدتي!
مريم
:
ويلاه! هل كان الباب مفتوحًا؟
صفية
:
تقدير ربك يا مريم، مسكين هذا السائل، (ترجع صوبه قليلًا) تعال أيها الشيخ تعال، ادخل.
برنار
:
شكرًا لك يا سيدتي (يحاول الدخول على
مهل كأنه لا يستطيع الحراك ومريم تنظر إليه فينظر إليها فتذعر).
مريم
:
من هذا يا سيدتي؟ ألا تذكرين صوته؟ (هنا يسمع النفير ودق الدفوف النحاسية).
صفية
:
كأنه صوت برنار، لكنه قتل.
برنار
(يعثر بعتبة الباب)
:
وامصيبتاه! جرحت رجلي (يقع)
خذي بيدي يا ابنتي.
صفية
:
مسكين هذا الرجل، لقد كاد يقتله الذعر (تدنو وهو يلتفت إلى الوراء، فإذا قربت مدت يدها إليه فأمسك بها
ونادى).
برنار
:
دارتوا! دارتوا! (فتصرخ
صفية).
صفية
:
أواه، بيبرس! بيبرس!
مريم
(تجري صارخة في القصر)
:
النجدة! (ويأتي دارتوا ومعه رجال
فينقضون عليها يريدون تكميمها).
دارتوا
:
لقد ظفرت بك يا صفية بعد طول الشقاء، من أجلك خالفت أخي وعاندت
الهيكليين، ودخلت المنصورة برجالي وحدي.
صفية
:
آه يا نذل الرجال! أنقذوني! أنقذوني (ثم يغشى عليها فتسقط).
فخر
(من الداخل)
:
لبيك (وينزل من القصر إلى رحبته عاري
الجسم ليس على رأسه ولا صدره شيء،٦ وإنما هو «متفوط» والسيف في يده ويجري بينهم وبينه قتال يسقط
فيه رجلان من جنود دارتوا، ويخرج هبة الله من الغرفة متلثما والخنجر في يده
فيطعن الأمير فخر الدين من الوراء).
هبة
:
إلى جهنم يا بيبرس.
فخر
:
آهٍ يا خائن، أهكذا يكون القتال!
برنار
:
مرحى فيليب.
(يظل فخر الدين يحارب، ويده اليسرى على خاصرته الجريحة ويجفلون
أول الأمر من الضربة، ثم يركع ولا يرمي السيف بل يحارب مسطوحًا، وإذ يراه الجميع
خارًّا على الأرض يتركونه، يجري هبة الله إلى صفية وهي لا تزال مغشيًّا عليها ويضع
على أنفها مشموما من جيبه فتسترخي أعصابها، وهنا يقول فخر الدين محتضرًا).
فخر
:
في ذمة الله سيفي إذ تفارقه
كفي وفى صوته مصر وأهلوها
(يموت).
هبة
:
عاونِّي يا برنار.
دارتوا
:
إلى أين؟
هبة
:
إلى هذه الغرفة (مشيرًا إلى حيث
كان) حتى تنتهي الملحمة إني خدرتها بهذا العقار الذي صنعته لي في
فارسكور.
دارتوا
:
أحسنت، سيروا (يسير بها برنار وجندي
وهبة الله ويخرجون بها إلى الغرفة مكممة مغطاة الوجه، وهنا يدخل بواتيه
ومعه رجلان).
بواتيه
:
أين أنت يا دارتوا؟ (يكلمه وهو في
حالة غضب شديد).
دارتوا
:
هنا، انظر: هذا فخر الدين كبير الجند مجندلا٧ ألا تذكره؟
بواتيه
:
ويحك، أذكره، ولكنك قتلته وحده، ولم تدر أنك أهلكت من رجالنا
ألفين! إنك لم تنتظر حتى يتم عبور أخيك الملك، وسبقت الهيكليين فأهنتهم بما
فعلت، وكذلك استطاع بيبرس أن يعمل السيف في جندك جميعًا حتى لم يبق منهم من
يحدث عنهم إلا خمسة رجال فقط، وضرب اللعين محسن في ساقه الملك على غرة فقتل كل
رجاله إلا مئة، وأسر منا حتى الآن ألف وخمس مئة فارس وكند وبارون.٨
دارتوا
:
وامصيبتاه!
بواتيه
:
وكاد يضرب رأس الملك ذاته لولا أنه ركض لأنقاذك.
دارتوا
:
ويحي! ويحي! وامصيبتاه! أين هو الآن؟
بواتيه
:
ذهب إلى القصر برجالي ورجال جوانفيل ظنًّا منه أنك هناك فلم
يجدك، فعاد أدراجه فتلقاه بيبرس بجيوشه، وقطعوا الطريق عليه وأخذوا جميع رجالك
أسرى، ولولا أنه لبس بردة أحد هؤلاء الأعراب واختفى في بعض الخرائب لكان اليوم
في الهالكين،٩(يعود برنار والجند ويقفل هبة الله الباب وراءهم
ويبقى في الغرفة).
دارتوا
:
وامصيبتاه! ومصيبتاه! (الطبل والصنوج
تدق علانية إلى آخر الفصل).
بواتيه
:
هلم إليه. هلم. لقد خبرت أنك جئت إلى هذا المكان تنشد تلك
الفتاة اللعينة، أهذا وقته يا دارتوا؟ هلم اجمع ما بقي من الرجال لحماية الملك
قبل أن يكشفوا مخبأه، ويل لنا إن اليوم علينا.
دارتوا
:
يالله! كيف ألاقي أخي!
بواتيه
:
اقتل البندقاري إن استطعت، لا يكفر عن ذنبك إلا هذا وإلا فأغمد
السيف في فؤادك، إنني سأكون إلى جانبك، فإنْ قتلته وهبتك شرف قتله، هلم يا
رجال.
(يحاولون الخروج، وهنا يأتي بيبرس ومحسن في عدة القتال ومعهما
جنود مسلحة، وفي يد أحدهم علم ويكون من بينهم صبيح ومسعود عبد بيبرس).
بيبرس
(صارخًا ومتقدما إلى دارتوا والسيف في يده)
:
ويحكم يا عبيد الشهوات وأنذال الرجال وحثالة بني الإنسان!
محسن
(ينظر فيرى فخر الدين مجندلًا)
:
فخر الدين! مجندلًا!
بيبرس
:
ويلكم يا خونة (دارتوا وبواتيه يذعران
ويشهران السيف باضطراب).
دارتوا
:
ليست شيمة الرجال قتل المطمئن، دونك سيفي (يقدم سيفه لبيبرس فيرفض أخذه).
بيبرس
:
ويحك! وهذا الأمير، أما كان يتوضأ لربه فأذعرتم أمنه، أما والله
لن أفلتكم اليوم منها. محسن، أَعْمِل السيف «ينازل دارتوا ويتقاتلون جميعا
قتالا شديدًا والطبل والصنوج لا تنقطع فيقع بعض الجنود من الطرفين، ويقع دارتوا
قتيلا بضربة سيف من بيبرس، ومحسن يصرع برنار وبواتيه يفر أثناء القتال، وتظهر
شجرة الدر تحت قبة الدرج فوق الصدفة، وهي في عدة القتال من خوذة ودرع، وفي يدها
خنجر مشهور، وسهيل شاهرًا سيفه استعدادًا للطوارئ، ورافعًا علمًا فوق رأسها
فإذا انتهت الموقعة نادى بيبرس ومحسن: «مرحى»، والجنود من وراءهما والسيوف في
أيديهم مواجهين شجرة الدر» مرحى! مرحى! «ويدخل أثر ذلك جماعة من الجنود
والأمراء المصريين في عدة القتال والطبول والرايات والأعلام وهم يهللون: مرحى
مرحى!)
محسن
:
سلام على عصمة الدين … وسيدة نساء المسلمين.
شجرة
:
وعليكم سلامٌ من الله ورحمة.
بيبرس
:
لقد انتصرنا بإذن الله.
شجرة
:
مرحى للرجال، مرحى لأبطال المنصورة.
(تهليل ودق طبول)