المنظر
يزاح الستار عن إيوان في دهليز «فسطاط كبير له أبراج» السلطان طورانشاه
بفارسكور
١ له باب واسع في صدر المزرح، ترى من ورائه سوار وشرع وشوان وبطس «سفن حربية»
مصرية في النيل، وبعد الباب صدفة واسعة ينزل منها إلى رحبة هذا القصر الخشبي العجيب،
والإيوان مغطى الجدران بالأستار الديبقية البيضاء إيذانا بمقدم الصيف؛ إذ نحن في أواخر
إبريل سنة ١٢٥٠ ميلادية، وفي الإيوان فرش سلطانية وبسط طبرستانية، وهناك إلى يمين
المتفرج دكة مفروشة مائلة الوضع إلى خمس مقدم المرزح، عليها كرسي عال مكفت بالذهب بنقوش
عربية، وعليه وسائد من الحرير بديعة الصنع وإلى يمين الدكة كرسي آخر أصغر من الأول، إلا
أنه كريم فهو مفروش بالوسائد مثله ويرى إلى الجانب الأيسر مقعد آخر من الأبنوس المكفت
وكرسي مثله، وللإيوان منفذان جانبيان؛ أحدهما إلى اليمين، وهذا يضرب إلى دار السلطان،
والآخر إلى اليسار، ويضرب إلى حلقة المشورة.
تدخل شجرة الدر من المنفذ الأيمن يتبعها سهيل، وكأنما تتم حديثا، ثم تذهب إلى المقعد
الأيسر وتجلس ويظل سهيل واقفا بجوار الكرسي الثاني.
سهيل
:
إني لم أر الأمير بيبرس منذ أيام يا مولاتي، لعله ذهب لمفاوضة
أسيرنا ري رديفرانس في دار ابن لقمان بعد أن أخفق مسعى الأمير بلبان.
شجرة
:
ولكنه أطال غيبته عني، أتعلم أنت شيئا من أمر الأميرة صفية
ومريم؟
سهيل
:
كلا يا سيدتي.
شجرة
:
هل فتشتم شواني الفرنجة؟
سهيل
:
لقد نزل الأمير بيبرس بنفسه يفتش عنها كلَّ شقٍّ في تلك
المراكب، ولكن لعلها فيما لم تصل إليه يدنا بعد، وكأن الأمير بيبرس قد خال ذلك
فذهب إلى الملك في الأمر.
شجرة
:
لست أظن الملك يعرف عنهما شيئا، ويخيل إليّ أن الأمير الذي قُضي
في دار فخر الدين إذ رآهما في رحبتهما أسلمهما إلي بعض رجاله، فعادوا بهما إلى
حيث يخفونهما عن عيون الملك، لقد نقم الملك من أخيه إيداعها دار شيخ النجع، فلا
غرو أن يخفي أخوه عنه الآن ذلك، ولكن لماذا يأخذون مريم أيضًا إلا أن تكون
لصاحب نجع فارسكور يد في ذلك؟ ألا ترى أن تستفسر منه؟ إنه الآن أسيرنا، وقد يرى
في أن يدلنا عليها سبيلًا لنجاته.
سهيل
:
صدقتِ يا سيدتي، ولكن صاحب النجع قضي بالأمس، قتله ابن الطوري
فيمن قتل من الأسرى.
شجرة
:
قتله! ألم أرسل هبة الله الطبيب إليه ليكف يده عنه حتى أراه!
سهيل
:
بلى، ولكنه قتل بأمر هبة الله نفسه يا مولاتي.
شجرة
:
وي! كيف ذلك؟
سهيل
:
لا أدري ولكن صبيحًا خبرني أن برنار لفقَّ له عن هبة الله هذا
خبرًا عجيبا، فسمعه هبة الله فأهدر دمه على الفور.
شجرة
:
وما يكون هذا الخبر يا ترى؟ ألم يخبرك به صبيح؟
سهيل
:
لم يكن ثمة سبيل للكلام، فقد دعاه الملك إليه فلباه وتركني، قد
يكون له بأمر اختفاء الأميرة علاقة، وإلا فلماذا آثر قتله على إطاعة أمر
مولاتنا؟ إني أستريب هذا الطبيب يا مولاتي من زمن بعيد.
شجرة
:
ترى أين هبة الله الآن؟
سهيل
:
إني رأيته الآن يتمشى مع مولاي السلطان على الشاطئ (يشير إلى البحر)، فإذا رأيت أن أدعوه إليك بعد
عودة مولاي …
شجرة
:
أجل. أجل. اذهب على الفور (يهم سهيل
بالذهاب والخروج)، ولكن قف لا فائدة من ذلك، إذا كان برنار يتهم
هبة الله في شيء من أمرها فهل ترى ينفضه هو إلينا؟ خير لنا أن ننتظر حتى يعود
صبيح من المنصورة.
سهيل
:
حسن يا مولاتي، ولكن لا بأس أن تستفسري منه عن سبب مخالفته
أمرك، لعل في ذلك ما يفيد حين نرى صبيحًا أبلغ بزعانف الناس أن …؟
شجرة
(بعد صمت)
:
لا بأس، اذهب في طلبه.
سهيل
:
سمعًا يا مولاتي (يخرج من الباب
الأكبر).
(يدخل الأمير بيبرس من المنفذ الأيسر تائه الفكر مشردًا، كما
يفعل من يمشون في نومهم، تكون عيناه صوب منفذ قصر السلطان، وهو غارق في تأمله،
ويتقدم نحوه وشجرة الدر ناظرة إليه باستغراب، فإذا حادثته تنبه كأنه أفاق فيلتفت
إلى جهة الصوت، وتناديه شجرة الدر بصوت غير عال كي لا ينزعج).
شجرة
:
مرحبا بركن الدين.
بيبرس
(يتنبه ويلتفت)
:
من ذا يناديني؟
شجرة
(على المقعد)
:
أنا يا ركن الدين.
بيبرس
(يتقدم منها بسرعة ويجثو على ركبتيه)
:
معذرة يا أختاه معذرة، لا يسؤك طروقي بلا استئذان، لقد والله
أردت أن أخرج إلى الشاطئ من باب حلقة الأمراء … فأخطأته وجئت إليك … فإن كنت …
شجرة
(بصوت هادئ)
:
يا مرحبا بك يا ركن الدين.
بيبرس
:
لمثل هذا الصوت فزعت نفسي، إلى مثل هذا الحنان تطلع قلبي، إلى
مثل هذه النظرة المشفقة ظمئت روحي، املكي عني أساي، املكي عني دمعة عيني
(يضع وجهه بين راحتيه) إني أكاد أجن يا
أختاه (تخنقه العبرات).
شجرة
:
روِّح عنك يا ركن الدين، أتيأس من رحمة الله؟
بيبرس
:
آه يا مولاتي! لقد بحثت عن صفية في كل مكان لكني لم أوفق إلى
خبر عنها، سألت البوادي والقفار، وفتشت الخرائب والديار، فلم تحر جوابًا، ولقد
طالما تمثلتها في سفرتي تستصرخ فأصرخ من أعماق قلبي: لبيك! لبيك! ثم أنتبه فلا
يجيبني إلا الصدى حتى تغشاني غاشية جنون فأهيم على وجهي في البراري، وأخوض
رقراق البردي المطمئن ثم أصرخ: هأنذا، لبيك! إلى أن أذعرت طير قلبي المسكين
بصراخي، وترينني الآن كالطفل لا يخفف حزني إلا دمعة أذرفها أو أم آوي إليها،
إني أكاد أجن، أجن، أواه.
شجرة
:
بيبرس، بيبرس، ترفَّق بنفسك، أكذا عزيمة الرجال؟ أهذا فتى
النجع؟ أهذا فارس المنصورة؟ لقد والله حسبت أني أجد لنفسي في صبرك عزاء، فإذا
أنت أحوج مني إلى العزاء، لعلها ذهبت إلى دمياط وقد عزمت أن أرسل إلى الملكة
رسالة، لماذا تزل بنفسك يا بيبرس؟
بيبرس
:
لقد ذهبتُ إلى دمياط.
شجرة
(تؤخذ دهشة)
:
وي!
بيبرس
:
وقابلت الملكة نفسها وسألتها عنها، ولكنها أقسمت أنها لا تدري
من أمرها شيئًا منذ أرسلتها إليك.
شجرة
:
ما هذا الجنون يا بيبرس؟ أتذهب بنفسك إلى عرين الأسد الذي جندلت
أشباله؟ كيف تخاطر بنفسك كل هذه المخاطره يا ركن الدين؟ إننا لا نزال في حاجة
إليك.
بيبرس
:
كلا يا سيدتي، لم يعد لكم بي حاجة، لقد كتب الله لنا السلامة
فقهرنا عدونا، وأسرنا ملكهم وأمراءهم، وأخذنا كل جنودهم ومراكبهم وأدواتهم
وعدتهم، وقضي الأمر، فإذا أنا متُّ بعد ذلك فليس في ذلك كبير بأس إلا أن تكون
صفية في الأحياء.
شجرة
:
إنها كذلك يا ركن الدين، أترى الله يفجعنا فيها، كيف يضيع الله
أجر المحسنين؟ ولكن قل لي كيف دخلت على الملكة؟
بيبرس
:
دخلت عليها كأني رسول من قبل بيبرس، وكنت أعددت معي رسالة، ولقد
وجدتها مريضة هزيلة وفي عينها أثر البكاء والنحيب، لم تر أن يحادثني ناظر من
خاصتها بل نهضت من فراشها تستنشق خيرًا عن زوجها، وهي أول مرة نهضت من الفراش
بعد أن وضعت ولدها الذي سمته بالحزين،٢ وقد قدمته إليّ مستصرخة بك وبمواليك أن تردي إليها زوجها، فوعدتها
أن أكون واسطة خير بينك وبينها.
شجرة
:
آه يا بيبرس، لقد أحسنت، أقسم لقد تمزق قلبي لحديثها، ولكن ترى
طوران يرضى بذلك؟
بيبرس
(يستفيق شيئًا فشيئًا)
:
الرأي شورى يا سيدتي، وإذ كانت الملكة قد رضيت أن تدفع فدية عن
زوجها، فقد عدت إلى المنصورة على الفور واتفقت مع الأمراء على صيغة إطلاق سراح
الملك، وأما أنت فلا أظنك تأبين إجابة سؤال الملكة، ولا أظن مولانا السلطان
يأبى ذلك.
شجرة
:
إني سأحادثه في الأمر حين يرجع إلى القصر، ولكن هل سألت الملك
لويس عن صفية؟
بيبرس
:
أجل، ولكنه لا يعرف من أمرها بعد يوم النجع شيئًا، ولا أخوه
بواتيه، ولا أميره الذي أسره محسن مع الملك في بيت أبي عبد الله؛ لأنه كان أقرب
أصدقاء دارتوا إليه، ولكن الملك وعدني أن يبحث عنها يوم يعود إلى دمياط، وهذا
هو الأمل الباقي، والآن فلتأذن لي عصمة الدين أن أنصرف لعلي أفي آخر حق بلادي
عليّ.
شجرة
:
هذا أنت يا بيبرس، هذا ركن الدين، هذا عين أبطال مصر.
بيبرس
:
لقد عاد إليّ الآن شيء من الطمأنينة بلقائك، كأنما كنت لنفسي
كعبة الرجاء التي تفرج فيها أزمات الأمور، على أنك إن رأيتني قد انتفضت
كأورقاء، فإنما أضم الآن تحت جناحي جرحًا راش سهمه القدر، ثم أخفاه في طيات
الخوافي، السلام على مولاتي ورحمة الله.
شجرة
:
في ذمة الله يا بيبرس (يخرج بيبرس من
المنفذ الأيسر، وتهم شجرة الدر بالخروج من المنفذ الأيمن ثم تسترسل في
كلامها وهي خارجة) يالله! كيف يقلم الوجد مخلب الأسد، اللهم لا
تفرق بينهما يا من يجزي المحسنين بما عملوا.
(يدخل السلطان طوران شاه من الباب الكبير لابسًا جبة سوداء
مزركشة بالذهب على قتبها وعاتقها، ولها أزرار كبيرة دائرة حول السجف، وهي موشحة
بفرو السنجاب، وعلى رأسه عمامة بيضاء مفرعة ذات أقماع مخيطة بأعلاها تقليدًا لعمامة
صلاح الدين، وتحت جبته قفطان من الحرير الأخضر الإسكندري المجوخ عليه منطقة من
الذهب … وظاهر طوران شاه يدل على الرعونة، وأنه سكير، فهو منتفخ الأوداج، جاحظ
العينين قليلًا، إذا دخل وقف يتأمل ثم سار إلى حيث كانت شجرة الدر، ثم وقف وأخذ
يفكر، ثم عاد إلى السير ذهابًا وجيئة أخرى).
طوران
:
تخفيها عني وتهزأ بي! تؤثر عبدًا من عبيدي عليّ، عليّ أنا،
سلطان مصر والشام وابن الملوك العظام، أم أنها تجهل قدري؟
شجرة
(تدخل)
:
من هذه التي تجهل قدرك يا بني؟
طوران
(على حدة)
:
ويل لها! أكانت تتسمع؟ (وبصوت
مسموع) هي أنت يا امرأة أبي الكريم.
شجرة
(تشده)
:
ما عوّدتني مثل هذا النداء يا بني، أم استكثرت عليّ لقب
الأمومة؟
طوران
:
ليس للإنسان في دنياه إلا أم واحدة، وقد أفقدتها منذ زمن طويل.
شجرة
:
فمن ذكرك اليوم بها؟ ما أشد وفاء الأبناء!
طوران
:
ويحك، ماذا تعنين؟
شجرة
:
أسبابًا واعتداء.
طوران
:
خبريني أين صفية؟
شجرة
:
لقد طالما خبرتك أني لا أعلم عنها شيئًا (يقف طوران أثناء ذلك ينظر إليها مهتاجا يضع يده مرة على
خاصرته، وأخرى على صدره) منذ موقعة المنصورة، وإني لا أدعو الله
في صلاتي إلا أن يوفق من أقمتهم للبحث عنها للعثور عليها ويجمعني بها، فما بالك
اليوم تسألني عنها خبرا؟
طوران
:
إنك تخفينها عني.
شجرة
:
أخفيها عنك؟ أتراني كنت أخاتل الله في صلاتي؟
طوران
:
إنما كنت تخاتلينني أنا (يتمشى).
شجرة
:
ماعهدي بك كذلك يا بنيّ، لا تخفيها عنك إلا إحدى امرأتين: زوجة
لك، أو عاشقة تغار عليك، وما أنا كذلك وما ينبغي لي، أو ناقمة تريد الثأر منك،
وليس بيني وبينك عداء.
طوران
:
بل إنما أنت الثانية أيتها المراة.
شجرة
:
وي! لماذا؟ (هنا يبدو سهيل على
الصدفة، وإذ يسمع هذا اللجاج يتراجع ولكنه لا يغيب).
طوران
:
لا أدري (يتمشى ثم يقف ينظر
إليها).
شجرة
:
كيف أريد بك سوءا يا بنيّ وأنا التي وليتك الملك بعد أبيك بلا
وصاية؟
طوران
:
إذن فقد خنت أبي إذ زوّرت خاتمه على الناس بولاية العهد لي.
شجرة
:
قد أكون خنته يا بنيّ، ولكني لم أخنك أنت ولا خنت ربي.
طوران
:
من يخون أبي يخونني (يتمشى ثم يقف
ينظر إليها).
شجرة
:
إذن فمعذرة إليك، ولكني إنما فعلت ذلك حسن ظن بالله، وأمانة لك.
طوران
:
ألم تعدي بها خادمك بيبرس.
شجرة
:
بلى (هنا يبدو سهيل ثم
يتراجع).
طوران
:
اتؤثرينه عليّ؟
شجرة
:
كيف أوثر خادم السلطان على السلطان نفسه؟ ولكن سبق الوعد بها من
أبيك لأميره وهو في حلب قبل أن يجيء إلى مصر بعام، وجددت له الوعد قبل أن تجيء
أنت بأشهر، ولقد هممت أن أبرّ له بوعد أبيك ووعدي وأجزيه عن المعروف فيما فعل
فأبت عليه همته العالية إلا أن يرجئ الأمر حتى تنتهي الحرب، وها نحن أولاء قد
فقدناها ولا ندري أفي الأموات هي أم في الأحياء؟ فلماذا تحادثني اليوم في
شأنها؟ بل لعمري لئن كانت في يديك ثم طلبها بيبرس إليك لكان حقًّا عليك أن تجود
بها عليه اعترافًا بجميله على بيتك، إنه هو الذي حمى بيت بني أيوب ذلة الأسر
والهوان.
طوران
:
ويحك يا شقية (يبدو سهيل ثم
يتراجع).
شجرة
:
آه يا طوران، لقد كان بيبرس وصحبه أبناء ملوك مثلك، اتق الله يا
طوران … ألا تخشى أن يصيبك ما أصابهم فتقتل أو تباع كما بيعوا لأبيك؟ ثم لا تجد
سيدًا كسيدهم، لقد كان أوشك أن يصيبكم من الفرنجة ما أصابهم من المغول لولا همة
بيبرس وصحبه.
طوران
:
فَلَّيتِ يا فاجرة (يقبض على
ذراعها) أبمثل هذا تجيبين؟ (هنا يبدو
ويقف ينظر ثم لا يتكلم).
شجرة
:
دعني أيها السلطان وإلا ندمت.
طوران
(يتركها)
:
أين أموال أبي؟
شجرة
:
إنك تعلم أني أودعتها بيت مال المسلمين.
طوران
:
لم أجد في بيت المال إلا قليلًا، خبريني أين المال؟
شجرة
:
إن كنت لا تجد إلا قليلًا فقد أنفق على الجند، والعشور لم تجب
حتى يومنا هذا لاشتغال الناس بالحروب، وليس عندي من مال أبيك إلا قليل لا أزال
أنفق منه في طعامك وشرابك، فإن شئت أن تتولاه أفلتني مشكورًا ثم أذنت لي في
مغادرة قصرك مأجورًا، لم يعد لي في جوارك مقام.
طوران
:
لن يكون ذلك حتى تنزلي عن حقائب الدر الأسود والياقوت التي
أهداها إليك أبي.
شجرة
:
إن كان أبوك قد أهداها إليّ فهي ملكي بشرع الله، ليس لأحد عليها
من سبيل، على أني قد رصعت بها كسوة المحمل الذي نذرت أن أجعله هودجا للأمير
الذي يسافر بالحجيج إلى مكة المكرمة وقبر رسول الله هذا العام. ووهبت ما بقى
منها لمقصورة النبي عليه السلام اغتباطا بنجاة مصر وخفوق راية الإسلام، وهي
الآن في قلعة الجبل فإن شئت إلا أن تأخذ مال الله فأنت وشأنك.
طوران
:
أهي في مقصورتك؟
شجرة
:
كلا بل في مقصورة أبيك، والآن إذ جئت بي إلى فارسكور فأذن لي أن
أرحل عن دهليزك هذا لا آخذ معي إلا ثيابي التي جئت بها، ولن أعدم قوت يومي بما
تكسب يدي.
طوران
:
أنتركك تهرعين إلى ندمان خلوتك؟ اذهبي إلى غرفتك ولا تبرحيها
إلا بإذني.
سهيل
(يدخل)
:
الأمراء بالباب يلتمسون المثول بين يديك يا مولاي.
طوران
(يلتفت مذعورا)
:
ويحك! من الذي أذن لك بالدخول؟
سهيل
:
تلك عادتي يا مولاي.
شجرة
:
هذا كاتب يدي أيها السلطان.
طوران
(لسهيل)
:
قبّح الله صورتك، اذهب، قف، عليّ بابن الطوري.
سهيل
:
لم يجئ معهم من المنصورة يا مولاي.
طوران
:
وي! لماذا تأخر؟
سهيل
:
رأى الأمير محسن أن يستبقيه بالمنصورة في غيبته.
طوران
(يصك أنيابه)
:
عليّ بهم، (وتحاول شجرة الدر أن تذهب
من الباب الأيسر فيستوقفها) قفي، أين تذهبين؟
شجرة
:
إلى رسول الله أشكوك إليه.
طوران
:
إلى حجرتك أيتها المرأة، لا يدخل عليك أحد إلا بأذني، ولا يكن
لك كاتب ولا بريد، أفهمت؟
شجرة
(تنظر إليه منتظرة ساكنة ثم تتكلم)
:
سأذهب كما تشاء، وسأكون عند أمرك، ولكن اعلم أيها السلطان أنك
فقدت نصيرك في هذه الحياة.
(تخرج من حيث جاءت).
طوران
:
أتراهم أوجسوا المخبوء؟ ما لابن الطوري قد خالف أمري؟ أجل، إنهم
زعماء الجند والناس في مصر (هنا يبدو سهيل)
عباد القوة، سأريهم قوتي فلا يستعجلون.
سهيل
:
حضر الأمراء يا مولاي.
(يدخل الأمراء يتقدمهم محسن، ويتلوه أقطاي يتبعهما بيبرس، وبعض
أمراء أُخر ويظل سهيل عند الباب).
محسن
:
سلام على الملك المعظم طوران شاه سلطان مصر والشام وحامي حمى
الإسلام.
طوران
:
على أبطال مصر السلام (يجلس على
المقعد العالي وهو غضب) ما وراءكم؟
محسن
:
ما وراءنا إلا الخير أيها السلطان، ولكنا جئنا نستفتيك في أمر
من أمورنا ونستنير برأيك الثاقب.
طوران
:
إن كان أمرًا من أمور الدولة فليس لأحد منكم أن يستفتي وإنما لي
الرأي وما عليكم إلا البلاغ، فما هو هذا الأمر؟
محسن
(يلتفت دهشًا)
:
أمر ريدافرانس أسيرنا …
طوران
:
ما خطبه؟
محسن
:
لقد بقي من جنده في دمياط عديد اعتصموا وراء أسوارها المنيعة
واستعدوا لجيوشنا استعدادًا كبيرًا.
طوران
:
وهل يعز عليكم فتحها؟
محسن
:
لن تعزّ المعاقل على فارس مصري في يمينه حسام وفي قلبه إيمان،
وإنما نخشى أن يبطئ الفتح علينا، وقد زرنا دار ابن لقمان بالأمس حيث أودعنا ملك
فرنسا وأخاه وباروناته أجمعين، فعرض الملك علينا أن يخلي دمياط لنا، ويدفع لنا
عن نفسه ومن بقي من قومه دية ونطلق سراحه وسراحهم، وننزل الألوف من رءوس القتلى
من قومه الذين قلدنا بجماجمهم أسوار المنصورة، ونحفظ له أقواته التي بدمياط حتى
يرسل في طلبها،٣ قد رأينا الأمر أجدى علينا وأحفظ لرجالنا فجئنا نطلب إلى سدتك
الإذن بإمضائه.
طوران
:
لقد كان يجدر بكم أن تتريثوا حتى تبلغوا الأمر إليّ، إني أنا
سلطان مصر وحدي لا أنتم، وسواء كان فيما عرض نفع أو غير نفع فإني لا آذن
بإمضائه.
أقطاي
:
يشاء مولاي أن يقول الساعة هذا المقال بعد أن اتفقنا معه
بالنيابة عن البحرية أجمعين على ما يجب أن يكون لنا من الأمر في تدبير الشئون،
وقد كنت عَالَنْتَنَا بأنك لا تأبى على الملك أن يفتدي نفسه، فلما عرض علينا
الدية تشاورنا في أمرها وارتضيناها فيما بيننا، ثم جئنا نلقي عليك جملتها لتعلم
بما يجب لك العلم به.
طوران
:
ما كان من حقكم أن تتشاوروا في أمر من أمور دولتي ولو سبق مني
إقراره حتى أنظر فيه، فإن شئتم أن تسلبوني حقِّي الذي وهبه الله لي فإنما أنتم
باغون، وإن شئتم أن تكونوا مخلصين لي عاملين على مكانتكم مني لم تزيدوا على
إبلاغي الأمر ولي فيه شأني، قبلت أم رفضت.
بيبرس
:
أيها السلطان إنا لم نخرج بالأمر عن حد المباحثة، وتقرير شرائط
الاتفاق بيننا وبين عدو قديم، لم تكن لك يد في أمره ولا هزيمته، ولقد كنا في
حلٍّ من إمضائه عنك عملا بما اتفقنا عليه من قبل، ولكنا أردنا أن نبلغك الأمر
رعيًا لكرامة ذي السلطان، ولنشهد الله أننا وَفَيْنَا لبيتك الكريم ولبلادنا
ولأبيك عليه الرحمة والرضوان.
الجميع
:
رحم الله الملك الصالح.
بيبرس
:
فإما أننا مخلصون لك فهذا ما لا شك فيه؛ إذ إنك سلطان مصر الذي
أقمناه باختيارنا لجمع أمرنا، ولعنة الله على الخائنين.
الجميع
:
لعنة الله على الخائنين.
بيبرس
:
وإما أننا نجهل مكاننا منك فمغالطة ساقك إليها ما وقر في نفسك
من أننا، نحن مماليك أبيك الجليل، نطمع في تراثك فلم تزل تغض منا وتصغر من
شأننا.
الجميع
:
رحم الله الملك الصالح.
بيبرس
:
لقد كان لنا أن نجلس في حضرة أبيك جلسة الولد البار من أبيه،
فأما أنت فأبقيتنا على الأقدام في هذه الدار التي يجلس فيها الغلمان والندامى،
وفي مثلها قضي أمرنا بتوليتك سلطانًا علينا بلا عهد ولا كتاب (يضطرب طوران).
طوران
:
اجلسوا بالله أيها الأمراء ولا تذكروا إلا الخير، إني نسيت
(يجلس محسن وأقطاي وبعض الأمراء).
بيبرس
:
بل تناسيت لتزري بنا وتحط من كرامتنا ونحن أمراء الدولة وكبار
جندها وأساطين دولة الإسلام، وكان فرضًا عليك ألا تفرِّط في كرامة هذه المنزلة
حتى لا يراها خلفك من السلاطين هنة بين الهنات.
طوران
:
معاذ الله يا بيبرس! معاذ الله!
بيبرس
:
لم تزل منذ جئنا بك من كيفا تستريب كل أمر من أمورنا، لماذا؟
ألأنا حفظنا لك الملك أن يدعيه أربابه من أعمامك الذين غلبهم أبوك عليه؟ وما
برحت تستصغر كل عمل من أعمالنا، لماذا؟ ألأنا استطعنا أن نبرهن للعالم أجمع أن
في مصر رجالا، وأن امرأة مصرية خير من رجال كثيرين؟
الجميع
:
بوركتْ، بوركتْ فضلى النساء.
طوران
:
وي! وي! كذلك تخاطب مولاك يا ركن الدين؟
بيبرس
:
لقد كان للناس أن يقوّموا عمر بحدِّ السيف، فبأي حدٍّ نقوّمك
أنت؟
طوران
:
لو تركتموني وشأني لصنعت ما يستوجبه الدين.
بيبرس
:
استمع لي يا طوران، إذا شئت أن تعيش بيننا سلطانًا علينا فليس
لك إلا الشورى والرأي للجماعة.
طوران
:
لقد عولت على ذلك منذ حين.
بيبرس
:
هكذا علمنا فما ردك اليوم عنه؟ وما دعاك إلى أن تبيتنا وتتآمر
علينا وتعمل على قتلنا؟
طوران
(دهشًا مذعورًا)
:
أنا أبيتكم وأعمل على قتلكم!
بيبرس
:
كفى أيها السلطان، إنك تزعم أن مصر اليوم كعهدها بالأمس؛ إذ كان
أهلها أنعامًا يساقون، كلا يا طوران! لقد عشت في ديار بكر بعيدًا عن هذه الدنيا
فلم تدر أنهم اليوم أمة أخرى، لقد عرفوا اليوم أن لهم في هذي الحياة الدنيا
نصيبًا فوق نصيبكم منها؛ لأنكم بها وهي ليست بكم، إنهم الأعلون وأنتم الأدنون،
بَيْدَ أنهم رجالي ورجال صحبي، فصن فؤادك عن التفكير في قتلنا، ولا تضن نفسك
بالاحتيال، فإني إن أمت غيلة أو يمت محسن صبرًا، أو أقطاي، أو قطز أو بلبان أو
تنكز، قام غيرهم يطالبونك بدمائهم، وإذا أنا فصلت الآن عنقك بسيفي هذا جزاء
جنايتك علينا، ولغ الناس في دمك وكان ولي عهدك أول المغتبطين، انظر: هذا أميرك
ابن الطوري الذي جئت به من كيفا، والذي عليه تعتمد وبه تستعين قد عالننا بأمرك،
فارشد أيها السلطان ولا تكن من الجاهلين.
طوران
:
معذرة يا بيبرس، معذرة أيها الأمراء، لقد خبروني أنكم أردتم بي
سوءًا فصدقت والكريم يُخدع، على أن لكل امرئ من دهره ما تعود، وقد اعتدت في
كيفا ما لم أجده هنا، فكبر الأمر على نفسي، ووجدت للوشاية سبيلا إلى قلبي، أما
وأنتم لا يرضيكم إلا هذه الخطة على أن نعيش عليها بعد اليوم إخوانًا في الله،
فعهد الله بيني وبينكم عليها، قسمًا تلزمني عليه إن حنثت لعنة المنتقم الجبار.
بيبرس
:
شكرًا للسلطان، ولكنا لا نرضى بهذا العهد حتى تسترضي مولاتنا
شجرة الدر على ما لقيت منك من صنوف الإهانة قبل مقدمنا.
طوران
:
اتقوا الله أيها الأمراء! ماذا جرى؟ إن هذا افتراء.
بيبرس
:
إنه لصدق أيها السلطان (لسهيل) سهيل.
سهيل
:
مولاي.
بيبرس
:
استمح مولاتنا في التجلي علينا.
طوران
:
لن يكون هذا، كيف تبدو امرأة السلطان عليكم؟
محسن
:
هون عليك يا مولاي إننا عبيدها المخلصون، وما هذه بأول مرة
نستأذنها، فقد كان لنا ذلك أيام أبيك عليه الرحمة والرضوان.
بيبرس
:
والآن فاعلم أيها السلطان أننا جئنا بملك الفرنسيس من المنصورة
نردعه، واتفقنا معه أن تكون الدية خمس مئة ألف دينار نصفها بِرَهْنِ أخيه
بواتيه، حتى يصل إلى دمياط والنصف الآخر بوعد منه، فاقبله وإذا دخل عليك فأذن
له بالجلوس، هذا أليق بكرامتنا، وإذا ذكرت الدية فانقص منها، نحن قوم لا يهمنا
إلا الثناء، ثم ودعه وداع الملوك (يلتفت)
أقطاي، مر للملك بالقدوم علينا (ينهض أقطاي ويقف بباب
الردهة فوق الممشى ويشير بيده إشارة من يستدعي).
أقطاي
:
علينا بري ديفرانس.
صبيح
(من الخارج)
:
سمعًا يا مولاي. (يعود
أقطاي)، (ويأتي سهيل من القصر يتقدم
شجرة الدر).
سهيل
(معلنا)
:
مولاتي شجرة الدر، (يقف الجميع ما عدا
السلطان).
شجرة
:
سلام على أبطال المنصورة.
محسن
:
وعلى حامية مصر السلام، (تجلس على
الكرسي الذي إلى يمين عرش الملك).
شجرة
:
لم أظفر بعد فَقْدِ مولاي الملك الصالح بشيء من طمأنينة النفس
إلا اليوم أيها الأمراء الكرام؛ إذ اجتمعتم بولدي السلطان المعظم طوران شاه
(هنا يتنفس السلطان تنفس الفرح) بعد طول
نواه، وحميتم مصر أذى عدوها ثم استقتم زعيمهم في رحابه أسيرًا، أفلا نشكر الله؟
أقطاي
:
ألفُ حمد لله على نعمته يا مولاتي وألف شكر لك، لقد كان النصر
كله على يديك، فأنت أنت التي دبرت أمر الدولة في غيبته حتى لا يشغل الأمراء إلا
بمدافعة القوم، كما صنعت في غيبة أبيه ومرضه، ولعمري لئن كان لهم في نصرة الحق
ثواب عند الله، لثوابك أرجح وأعظم (للسلطان)، أليس كذلك يامولاي؟
طوران
(سكوت)
:
بلى.
بيبرس
:
لو أخلصت النية أيها السلطان لوقفت إجلالا لمن دعتك ولدها بعد
أن أسأتْ إليها، ولعرفت لها إقصارها عن الشكوى، واعتذرت إليها مما فرط منك.
طوران
(ينهض)
:
معذرة يا أماه.
شجرة
:
عفا الله عنك يا ولدي، إن هي إلا مغاضبة مما يحدث بين الوالدة
وابنها، شكرا لكم أيها الأمراء، ألهذا دعوتموني؟
محسن
:
أردنا أن نطمئن عليك يا سيدتي ونخبرك أنا لا نرضى أن يبدل لك
حال بعد مولانا، وأنا نفديك من كل شر بنفوسنا.
شجرة
:
شكرا لكم، إني بخير ما دمتم، انظروا لأنفسكم (تنهض)، والآن أيها الأمراء إذ جئتم بملك
الفرنسيس فعسى أن ينصرف شاكرا، لا تجعلوا الحرب مذهبة للمروءة، فإنا قوم لا
نبتغي إلا وجه الله، ولقد أعددت له ولقومه خلعًا يأمر بها ولدي السلطان.
أقطاي
:
وأين هي الآن يا مولاتي؟
شجرة
:
في حراسة بعض المماليك.
بيبرس
:
أحسنت يا عصمة الدين.
شجرة
:
والآن أيها الأمراء إذ انتهت الحرب بعد العداء، وأنقذ الله مصر
من الذلة والهوان، وأراني بررت بقسمي لله ووعدي لمن قضي، فاشهدوا أيها الأمراء
… اشهدوا أني وفيت.
الجميع
:
نشهد على ذلك.
شجرة
:
ولتشهد مصر أيها الأمراء أنكم حماتها، لن تضام ما دام رجالها
على ما أنتم عليه من الإخلاص لله في العمل، وابتغاء وجهه في السر والعلانية،
لقد كان في تناصركم وتآزركم آية؛ إن الدولة برجالها، طلح السلطان أم صلح، ولئن
كنتم على غير ما عرفت لكنت اليوم أتلمسكم فلا أجدكم إلا بين جدث أو مأسرة، فإذا
عيني حاسرة، وإذا شفتي كاسفة، أما الآن فالعين من بشرها دامعة، والسن من فرحها
مشرقة، سلام عليكم ورحمة الله (تخرج).
الجميع
:
وعلى عصمة الدين السلام (يردون ما عدا
السلطان).
بيبرس
(للسلطان)
:
لماذا لم ترد السلام أيها السلطان.
طوران
:
وي! ما هذه المذلة! أما كفاكم ما مضى! إني لا أطيق هذا (ينهض) أكذا تُذل الملوك؟ ويحكم! اذهبوا عني
(يتحرك عن العرش) لن أنتظر حتى يأتي من
بعثتم في طلبه (يهم بالذهاب).
بيبرس
:
سيوفكم يا رجال (يجردون السيوف
ويلزمون الأبواب) إنك لا تملك الآن شيئًا، بقاؤك وذهابك ملك للأمة
ووقف على منفعتها، فإذا أنت لم تقف حتى تلاقي من لا بد من ملاقاته باسمها،
فكأنما نزلت عن العرش، ولن تعدم مصر من رجالها ملكا.
طوران
:
لا أريد سلطنتكم، دعوني أرجع إلى كيفا.٤
صبيح
(يطل)
:
جاء ري دوفرانس.
بيبرس
:
خذوا هذا الأمير (مشيرا إلى
السلطان) إلى غرفة الحلقة حتى حين … (لسهيل): سهيل!
سهيل
:
مولاي.
بيبرس
:
اصعد العرش (يشير بيده إلى
العرش).
طوران
(ينظر إلى العرش وإلى الجميع)
:
سهيل!
بيبرس
(لطوران)
:
اصعد عرشك ولا تقم، وأرني جلال بني أيوب، لقد كانوا قومًا
كابرين (يصعد طوران العرش).
(يدخل ملك فرنسا وعدة من البارونات والملك في ملابس غير ملابسه
الأولى لأنها أخذت منه وأرسلت هدايا إلى جند الشام
٥ يتبعه صبيح ومسعود).
الملك
:
السلام على الملك المعظم طوران شاه، سلطان مصر والشام وحامي حمى
الإسلام.
طوران
(بتلطف)
:
وعليك السلام يا ملك فرنسا المعظم.
الملك
(يجلس على الكرسي الذي كانت عليه شجرة الدر ويظل الآخرون
واقفين)
:
شكرًا للسلطان.
طوران
:
إنك آذنتنا بالفراق فلا تذكر ما أسأنا به إليك، إنك إن تغلب في
بلادنا، ففرانسا باقية، أما نحن فإن نقهر هنا ضاعت بلادنا فإن نكن قد أرهقناك
في أسرك فالعذر واضح.
الملك
:
أيها الملك العظيم الشأن هنيئا لك أمراؤك، لو كان في الفرنجة
مثلهم لعلموا أوروبا مكارم الأخلاق وكرائم الشيم، والملك منا أيها السلطان إن
كان سعيدًا وفقه الله إلى وزراء راشدين وأمراء باسلين، وإذ كان لك من هؤلاء
عديد كالدر في لبة الحسناء، فهنيئا لك اسمك الخالد وسلطنتك العظيمة، وإذا وجب
عليّ أن أذكر للمحسن إحسانه فإني أخصُّ به الأمير بيبرس البندقداري، والأمير
العظيم محسن الذي أسرني بسيفه وإحسانه معًا، والفارس المعلم أقطاي، وهذا الكاتب
الأمين (مشيرًا إلى سهيل) وذلك الحارس البار
الكريم (مشيرًا إلى صبيح، وصبيح يسلم بكلتا
يديه)٦ وإخوانهم أعلام البحرية الذين حموا رقابنا أن يضربها الواجدون
علينا.
الجميع
:
شكرًا للملك.
الملك
:
لقد أروني إني خدعت فيما بلغت عن القوم، ولو بصَّرني ربي بأمركم
من قبل ووفقني إلى سر دينكم ما ألقيت بقومي في مقاتلتكم، ولكني زعمت إني أزدلف
إلى الرب، ولولا حسن نيتي لكنت اليوم في الهالكين.
طوران
:
نحمد الله على ذلك، لا نريد فوق ذلك شيئًا إلا أن تَعدَنا أيها
الملك ألاّ تغامر بقومك في قتالنا بعد اليوم.
الملك
:
لك عهد مني أيها السلطان.
طوران
:
شكرًا للملك، والآن ما قدر الدية؟
الملك
:
ألف ألف بيزانطي أيها السلطان، هكذا اتفقنا.
طوران
:
إنك كبير النفس أيها الملك، كيف رضيت بهذا القدر؟
الملك
:
رضيت به فداء لقومي.
طوران
:
إذن فإني أنزل لك عن مئتي ألف منها إعجابا بعلو نفسك أيها الملك
العظيم.
الملك
:
شكرًا للسلطان.
طوران
:
ألا ينزل لي الملك عن حصني الإسبطاريين والهيكليين بالشام؟
الملك
:
لا أملك ذلك أيها السلطان، إني أملك دمياط وقد نزلت لك عنها.
طوران
:
وكيف تدفعون الدية؟
الملك
:
نصفها يوم وصولي إلى دمياط وسأترك أخي هذا (مشيرًا إلى بواتيه) رهينة عندكم حتى يأتيكم
المال.
طوران
:
وكيف يدفع النصف الباقي؟
الملك
:
يوم أصل إلى عكاء، إني لا أملك الآن شيئًا، ولا تملك الملكة إلا
قدر ذلك النصف.
طوران
:
ولكنا لا نرضى أن يكون بيننا وبينكم بعد رحيلكم إلا المودة التي
نرجوها، وفي انتظار المال شيء من الريبة وقد تذكرون لنا أمرًا لم يكن في
الحسبان.
الملك
:
ألا يكفي السلطان وعدي؟
طوران
:
أعذرت أيها الملك.
الملك
:
إذن فليضمني الأمير بيبرس.
بيبرس
(يتقدم)
:
على ضمان الملك يا مولاي، إن للأبطال في قلوب الرجال ذمة
نحن قوم لا يملك العطف منا
قلبنا في قتال من عادانا
وإذا ما قضى الحسام من الها
م مناه بكى الحسام حنانا
الملك
:
شكرًا لبيبرس.
طوران
(حائرًا)
:
حسبي منه القسم صونًا لضمانك يا بيبرس.
الملك
:
إذن فأقسم بالله أنْ أفي لكم بنصف الدين الباقي إذا أنتم أطلقتم
سراحي وسراح قومي الأسارى، ثم حفظتم لي أقواتي التي في دمياط حتى آخذها، ولم
تقتلوا من بها من المرضى.٧
طوران
:
لا يكون القسم كذلك أيها الملك.
الملك
:
فكيف يكون إذن؟
طوران
:
علينا بهبة الله الطبيب، إنه كان في ملة القوم فهو أدرى باليمين
الغموس.
الملك
:
اعفني من رؤية هذا الرجل أيها السلطان، قل ما تشاء وعليّ
تلاوته، إني أكره رؤية المرتد … المعذرة.
طوران
:
إنه كان يتردد على الملك من قبلي معالجًا في دار ابن لقمان،
فكيف أطقت رؤيته يومئذ؟
الملك
:
لم أره وحقك منذ ليلة النجع.
بيبرس
:
ليلة النجع!!
طوران
:
ولكنه كان يخبرني عنك شيئًا كثيرًا.
الملك
:
لقد كان كاذبًا.
طوران
:
ياللعجب! (مفكرًا) قبلت
بقسمك أيها الملك، والآن إذ قضي الأمر فعليّ بالخلع يا سهيل، (ينهض لويس ويسير سهيل إلى الباب الأيمن فيتناول الخلع من
مملوك ويقدمها، والخلع موضوعة في ربطة مغطاة بالمخمل المطرز
بالذهب) عاطها لصبيح (يعطيها
لصبيح) تقبل هذه الملابس لسفرتك أيها الملك، إن برد البحر شديد،
وسأبعث إليك بفراش لشوانيك التي سنردها إليك.
الملك
:
شكرًا للسلطان، لقد قلّدني منة لا أنساها أبدًا، الوداع.
طوران
(ينهض نصف نهوض)
:
في سلامة الله.
(يخرج ملك فرنسا وصبيح وسهيل).
محسن
:
كذا تكون شيم الملوك يا مولاي.
أقطاي
:
لقد أصبح النصر بما فعلت نصرين أيها السلطان.
طوران
(ينزل عن العرش)
:
شكرًا لكم أيها الأمراء، والآن إذ انتهى أمر الملك فلعلكم ناسون
ما قد مضى ذاكرون أني عند ظنكم.
بيبرس
:
أطال الله بقاء مولانا الملك المعظم طوران شاه، سلطان مصر
والشام وحامي حمى الإسلام.
طوران
:
سلام عليكم.
الجميع
:
وعلى مولانا السلام.
(يخرج السلطان من الباب الأيمن ويهم بيبرس بالخروج من الباب
الأيسر).
محسن
:
أين تذهب يا بيبرس؟
بيبرس
:
أبحث عن هبة الله، لقد كان يتمشى مع السلطان.
محسن
:
ولماذا؟ أتستريبه؟
بيبرس
:
أجل.
محسن
:
ولكنك عفوت عن طوران وقلنا أنصف، أفلا يشمل العفو صحبه؟
بيبرس
:
لا أريده لهذا اليوم. إني سمعت الملك لويس يذكر أنه رآه ليلة
نجع فارسكور، ماذا كان يصنع هناك؟ (يعود أقطاي من
الممشى قائلًا).
أقطاي
:
من؟
محسن
:
هبة الله.
أقطاي
:
وي! بيبرس! أسمعت ما قال الملك؟
بيبرس
:
أجل.
أقطاي
:
وقد سمعت بعض الأسرى يقولون: إنه أخذ من برنار صاحب النجع
أوراقًا ذات شأن ثمنًا لحياته، فلما أخذها أغرى به السياف فقتله فيمن قتل منذ
ليلتين.
بيبرس
:
سأبعث في طلبه كل رجالي، هلم.
الجميع
:
حسنًا (يخرجون من الباب الأيسر ويدخل
هبة الله من الباب الأوسط ينظر في المكان).
هبة
:
أين السلطان يا ترى؟ أين الأمراء؟ ترى دس لهم السم في الطعام؟
الظاهر كذلك، مرحى إذن فلا حاجة إلى الرحيل بها عن هذه الديار، إني سأقبحها له
الليلة، وهو كالطفل سريع التصديق، فإن أبى سرت بها في ركاب الملك إلى عكاء، ولن
أعدم عفوه عني، كيف أبلغ رسالة ابن يغمور؟ (يخرجها من
جيبه) ولكم ما فائدة جيش الشام وقد قضي الأمر؟ (يدخل أقطاي فلا يراه هبة الله، وإذ يدنو منه يتنبه
ويحاول وضع الرسالة في جيبه، ويلتفت أقطاي إلى الوراء مشيرًا بيده فيلتفت
هبة الله) ألا يزالون في الأحياء! (بصوت
عال لأقطاي) سلام أيها الفارس.
أقطاي
:
ما تلك بيمينك؟
هبة
:
لا شيء (يضعها في جيبه)
رسالة جاءتني اليوم.
أقطاي
:
ممن؟
هبة
:
من …
أقطاي
:
ممن؟ أجب.
هبة
:
من … من صديق لي (هنا يدخل
بيبرس).
بيبرس
(يتقدم من هبة الله)
:
أكنت بنجع فارسكور ليلة جئت بالأميرة صفية؟
هبة
(صارخا)
:
أنا؟
بيبرس
:
أي أوراق أعطاكها برنار؟
هبة
(متجاهلًا)
:
من برنار هذا؟
بيبرس
:
فتشه يا أقطاي، أخرج من جيبه ما تجده من الأوراق.
هبة
:
إنها رسالة خاصة بي أيها الأمير، كيف تطلع على أسراري؟
أقطاي
:
هاتها.
هبة
:
إليكها (يخرج من جيبه ورقة ويمزقها ثم
يرميها على الأرض).
بيبرس
:
آه يا شقي.
أقطاي
:
ويل لك يا لعين (يميل فيجمع قطع
الأوراق ويضعها جنبًا إلى جنب على أحد الكراسي ويحاول أن يقرأها، ويقف
بيبرس ينظر إليه متفرسا مدة ثم يصرخ في وجهه قائلًا).
بيبرس
(صارخا)
:
ويحك يا لعين، أين صفية؟
هبة
(يصفر وجهه)
:
صفية! من ذا يدريني أين هي؟
بيبرس
:
قل لي أين هي؟ إني أشم ريحها في ردنك، وأرى شبحها في عينك، قل
لي. وإلا قتلتك، إن قلبي لا يخدعني.
هبة
:
ما عهدي بك ظالمًا يا بيبرس، أتأخذ البريء بالشبهات.
بيبرس
:
يا رباه.
أقطاي
(يصرخ فرحًا)
:
بيبرس، تعال، اقرأ (يذهب بيبرس
إليه).
هبة
:
دعوني أذهب، إنكم قوم لا تطاقون.
بيبرس
:
مكانك!
أقطاي
(ينهض)
:
ويحك، قف (يهجم عليه) أين
ابنتي عائشة؟ أين التي سميتها مريم (يأخذ
بخناقه).
هبة
:
وي! لقد أخطأت الرسالة! قضي الأمر.
أقطاي
:
أين هي؟ قل لي أين هي؟
هبة
:
إنك أحرقت قلبي على أمها وهي جارية، ولن تراها.
بيبرس
(ينهض)
:
ويحك! أين صفية؟ لقد كانت معها.
أقطاي
:
يالله!
هبة
:
ولن تراها أنت أيضًا، بعدي الطوفان، اقتلني تؤجر.
بيبرس
(يصرخ صرخة يأس وجزع)
:
يا رحمة الله! (هنا تأتي مريم وصفية
من الباب الكبير هارعتين إلى الإيوان ووراءهما سهيل).
صفية
:
بيبرس!
مريم
:
بيبرس!
بيبرس
:
لبيك (وإذ يلمح صفية يجري إليها
ويحتضنها وتتعلق مريم بردنه) يا مالكة اللب إن ربي لرحيم كريم.
مريم
(ترى هبة الله فتجري إليه تضربه على كتفه)
:
أين أبي يا قاسي الفؤاد؟ قل لي: أين أبي؟
أقطاي
(يفتح ذراعيه لمريم)
:
أنا أبوك يا مريم! تعالي يا عائشة، تعالي! تعالي (يتهدج صوته ويبكي).
مريم
:
أنت أبي؟
بيبرس
:
أجل أبوك يا مريم، أبوك!
مريم
(تجري إلى أقطاي)
:
أبي! (تحتضنه) وافرحتاه!
أقطاي
:
تعالي يا بنيتي (يأخذها إلى المقعد
ويجلس فرحًا بها).
بيبرس
:
أين كنت يا صفية؟
صفية
:
سل هذا الخائن، سل هذا اللعين (مشيرة
إلى هبة الله).
بيبرس
(مشيرًا إليه)
:
إلى النطع يا سهيل.
سهيل
(يجري إليه فيأخذه قسرًا)
:
هلم.
صفية
:
كنا على وشك الرحيل إلى عكاء في سفينة أعدها لنا هذا الخائن منذ
الصباح.
بيبرس
:
كيف؟
صفية
:
لقد اختطفني مخدرة من منزل الأمير فخر الدين.
بيبرس
(يلتفت فيرى هبة الله على وشك النزول من الباب الأيسر فيجري
مهتاجا إليه)
:
إذن فلأختطفن روحه بيدي (يقتله عند
الباب).
هبة
(صارخا ألمًا واحتضارًا)
:
آه … آه.
أقطاي
(للأميرة)
:
كيف جئت يا سيدتي؟
صفية
:
رأتْ مريم الملك على الشاطئ فنادته فجاءنا وردنا إلى رحمة الله!
بيبرس
:
بل ردك الله إليّ يا صفية.
(يدخل ملك فرنسا من الباب الأكبر، ومحسن من الباب الأيسر يتبعه
سهيل وإذ يراه الجميع يصيحون).
الجميع
:
يعيش ري دوفرانس.
الملك
:
يعيش حماة النيل.