المستنير والمعتدل والإرهابي
أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ
«الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع.»
ضمن حملتها على الإرهاب الدولي، اكتشفت الولايات المتحدة الأمريكية فوادح سياستها الخارجية التي أفرزت لها هذا الإرهاب، بعد أن أسهمت بباعٍ وافر في تنشئته وتربيته وتدريبه وتطويره، منذ دعمها بالمال والسلاح وخبرات المخابرات الأمريكية لمقاتلي الحرية (أيام كانت تسميهم كذلك في حربهم ضد الوجود السوفييتي في بلاد الأفغان)، إلى بذل الأموال السخية لدعم الصحوة الإسلامية وإقامة مؤتمرات العلوم الإسلامية (!) على صنوفها في حسابات مخابراتها المعلنة. ناهيك عن الجريمة التأسيسية المتمثلة في تحالفها مع أشد الأنظمة رجعية في العالم، وأكثرها فسادًا واستبدادًا في البلاد الإسلامية، بغرض تحقيق أسرع وأقل كلفة للأهداف الأمريكية في الخارج بغض النظر عن البشر وحقوق الإنسان في تلك البلدان. وهو ما قطع بين تلك الشعوب وبين المناهج الغربية في الحريات والحقوق والمعارف العلمية التي أدت إلى تفوق الغرب الهائل الفارق.
وكان واضحًا أن غرض كل مؤتمرات الصحوة هو العزف على أوتار الماضي والانكفاء عليه، بتغذية الخصوصية الثقافية والتخويف من ثقافة التقدم الغربي حرصًا على الموروث الأصيل. وهو ما يعني أنها كانت تستثمر فينا إسلامنا ووفاءنا له لإبقائنا خارج التاريخ المتحرك، لنبقى في حال ثبات عند عشرة قرون ماضية برضًا منا ورغبة، وامتنان من الأنظمة الحاكمة التي تقاطعت مصالحها لمزيد من طول العمر مع مصالح الحليفة الكبرى. ومن هنا أمكن لصامويل هانتنجتون أن يقول: «إن الصحوة قد أثبتت أن الإسلام هو الحل لمشكلات الأخلاق والهوية والاعتقاد، لكن ليس لمشكلات الظلم الاجتماعي والقمع السياسي والتخلف السياسي والضعف العسكري» (١). وكان قادة الغرب يعلمون ذلك يقينًا، لكنهم كانوا في الوقت ذاته «يدركون أن العلميات الديمقراطية في المجتمعات غير الغربية غالبًا ما تأتي بحكومات غير صديقة» (٢). لذلك — وبتعبير هانتنجتون — كانت «ورطة التعامل مع جماعات العسكر والطغاة الذين كانوا معادين للشيوعية» (٣). ومن ثم رصد في كتابه من الوثائق ما يؤكد أن «أكبر مقاومة لجهود التحول الديمقراطي جاءت من الإسلام» (٤).
حتى جاء ١١ سبتمبر ٢٠٠١م المهول …
وأدركت أمريكا أي مارد ربته وغذته وسمنته، لتجد نفسها في مواجهة خطر عظيم يصعب تحديده أو الإمساك به للقضاء عليه، منتشر عبر أكثر من سبعين دولة يتناسخ ويتكاثر حشريًّا في أي مكان، حتى في بلاد الغرب القوي، ويتلبس أي شكل. تُغذيه وتقف من ورائه أيديولوجيا عقيديةٌ متكاملة، تضمن لمقاتليها الخلود في جنات النعيم، في كرامة لا ترقى إليها رتبة أخرى. وهو الفارق الثقافي الهائل في فهم قيمة الفرد الإنسان في منظومة الغرب الليبرالية وفي منظومة المجاهدين المسلمين، فارق يجعل أحدهما دومًا غير مفهوم للآخر، ولا حتى معقولًا.
واكتشفت الحرب الجديدة ضد الإرهاب أنه ليس بآلة القتل وحدها يمكن محاربة الإرهاب، إنما الحل الناجح هو بتجفيف منابعه، وأُولاها وأهمها المنابع الثقافية، وهو ما يعني أن الحرب دخلتها معانٍ جديدة وبحاجة لأدوات مناسبة لميدان جديد، وهي المساحة التي لا يمكن تحقيق النصر فيها بصواريخ كروز والقنابل الذكية، إلا كعوامل تمكينية مساعدة، كما هو متوقع بشأن العراق، التي لا بد ستنتقل فيها الحرب من بعد تنظيف الأرض عسكريًّا إلى مساحة العقل والضمير.
هكذا جنت أمريكا ما زرعت في مفاجأة مِيلودرامية فاجعة. أما الإنسان في بلادنا فكان دومًا هو الضحية لتلك السياسات دونما ذنبٍ جناه سوى حظه النكد ونصيبه بالميلاد في شرقنا التليد. حيث أمكن استثمار الخط النظري لجماهير المسلمين، باستخدام أجهزة الإعلام الحديثة، ليتحول تاريخنا عن الاستبداد الشرقي الشهير إلى استبداد من لون جديد تمت رعايته بالمؤسسة الدينية الرسمية الباذخة، عبر أجهزة التثقيف المملوكة للحاكم أو للدولة … لا فرق … استبداد اجتماعي يخضع فيه الفرد كليًّا في تفاصيل حياته الدقيقة لإرادة المجتمع وتقاليده التي هي بالأساس مقدسات دينية. ليتشابه كل الأفراد في تميز خاص عن البشر اليوم، كالتشابه في الزي واللحية للرجل والخمار للمرأة، وفي لغة خطاب خاص مميز بمعجم مفرداته واصطلاحاته ومفاهيمه وأحكامه، وفي سلوكيات وشعارات واحدة متطابقة. ومثل هذا التشابه الشديد والتقارب بين الأفراد هو سمة بدائية حدث فيها نكوص نحو الشكل القبلي، حيث تنعدم شخصية الفرد وتذوب في الجماعة حتى تغيب عنه حقوقه ويتنازل عنها طائعًا وراغبًا بحسبان ذلك شأنًا قدسيًّا، وحفاظًا على الهوية القبلية المتماسكة. وعندما يصبح الوجدان المشترك مطابقًا للوجدان الفردي تكون العودة إلى البداوة قد تمت بنجاح، أيام كان الفرد والقبيلة شخصًا واحدًا. وهو الأمر الذي التقت عنده خبرات رجال الدين المحترفين والدولة القامعة والمتطرفين في جماعات الإسلام السياسي، معًا، بوفاق وتناغم عظيمين. وأمكن تدعيمه بظرف استثنائي دولي تمثل في الصراع العربي الإسرائيلي الذي تم استخدامه انتهازيًّا طوال الوقت لتأجيل قضية الديمقراطية وحقوق الإنسان؛ لأن الذئب يقف للجميع على الحدود، فارضًا على المواطنين الانكماش والتماثل القبلي والتماهي في القبيلة وشيخها بوجود الطوارئ الدائمة. وهي ليست مجرد طوارئ اعتيادية إزاء عدو يحتل أرضًا، لأن لهذه الأرض سمات مميزة تمامًا؛ ففيها المسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين، ومن ثم كان بالإمكان العمل دومًا بقاعدة: «لا صوت يعلو …»
وتلخص د. هالة مصطفى الموقف على طريقتها بقولها: «فإذا أخذنا بالتعريف الغربي للثقافة الديمقراطية، والتي تتمثل بشكل أساسي في الليبرالية الفكرية، والإعلاء من الحرية الفردية، والاعتقاد في حكم القانون والعلمانية؛ أي تنظيم العلاقة بين المجال الديني والسياسي وقوة المجتمع. سنجد أن كثيرًا من التجارِب التي تشهد عمليات التحول الديمقراطي، سواء في آسيا أو أفريقيا أو الشرق الأوسط تحديدًا، لا تعرف بالضرورة هذه الثقافة، أو أنها تعرف بعض عناصرها ولكنها لا تتوافر فيها مجتمعة. كما أن الخصائص العامة للمجتمع المدني فيها تختلف، ربما جوهريًّا، عن مثيلاتها في التجارب الغربية … إن كثيرًا من المحددات الثقافية ما زالت تشكل تحديًا أساسيًّا أمام عمليات التحول الديمقراطي» (٥).
وحول المبادرة الأمريكية لدعم الديمقراطية في بلادنا، ضمن عمليات إصلاح سياسات أمريكا الخارجية بعد سبتمبر ٢٠٠١م، تعقب د. هالة قائلة: «إن التطور الديمقراطي لأي مجتمع يصعب اختزاله في مجرد إجراءات أو تشريعات ومؤسسات تُنقل من مجتمع لآخر بشكل تحكمي، ولكنه يرتبط ارتباطًا وثيقًا بثقافة المجتمع وعاداته وتقاليده وأنماط سلوكياته … إن استعداد المجتمعات العربية لدفع التطور الديمقراطي بها لا يعتمد فقط على قبولها بمبدأ توسيع المشاركة السياسية والتنوير الثقافي … فإن متطلبات معينة مثل: ترسيخ الحريات الفردية، أو تمكين المرأة، والتسامح، وضمان حرية الفكر والتعبير واكتساب المعرفة، وتطوير التعليم … وغيرها، سيصعب تحقيقها بحكم المتغيرات الثقافية المرتبطة ببعض عناصر التراث القديم والعادات والتقاليد» (٦).
وما تقصده د. هالة بالمحددات الثقافية التي تعوق الديمقراطية، وثقافتنا الخاصة التي تبني مواقفها على عناصر التراث القديم، ربما يشرحه لنا لون من الخطاب الإسلامي واضح القسمات صريح لا يلجأ للخداع والمراوغة، كما في قول محمد مندورة الأستاذ بجامعة الملك سعود (وهو مصري الجنسية فحاز الحسنيين!): «إن الأسس التي تقوم عليها الديمقراطية هي؛ أولًا: فصل الدين عن الحياة. وثانيًا: أن الأمة هي مصدر التشريع والسلطات، وهي التي تضع الأنظمة والتشريعات بحكم الأكثرية. وثالثًا: تقديس الحريات الفردية وضمانها مثل: حرية العقيدة، وحرية الرأي، وحرية الملكية، والحرية الشخصية. وهذا كله يخالف الإسلام جملة وتفصيلًا، فليس في الإسلام فصل للدين عن الحياة، والحاكمية لله وحده، ومصادر التشريع فيه معروفة. وليس في الإسلام تقديس للحرية بمفهومها الموجود في الديمقراطية، فلا يستطيع المسلم أن يغير دينه مثلًا. وليس في الإسلام الحرية الشخصية بمفهومها الديمقراطي. والخلاصة أن الديمقراطية ليست من الإسلام في شيء، وأنها تخالف الإسلام مخالفة صريحة لا يشك فيها أحد، وأن مفهوم الديمقراطية وجميع ما ينبني عليه من أحكام ودساتير، وما ينبثق عنه من أنظمة، تتنافى تمامًا مع الفكر الإسلامي» (٧).
ولأن الإسلام يتميز بين سائر الأديان أنه كان يقيم دولة بالمعنى السياسي للعرب، فقد اختلط فيه العقيدي بالسياسي اختلاطًا شديدًا، بل وارتبط به في أدق تفاصيله، حتى غدا النموذج النبوي المحمدي هو أفضل نماذج الحكم في تاريخ الإنسانية السابق واللاحق؛ لأنه كان الحاكم العدل الخالص لدولة إسلامية مركزية توحدت فيه جزيرة العرب جميعًا. ومثل هذا الاعتقاد وحده في فرادة النموذج المحمدي للحاكم، كمطلب لخيال طوباوي لدولة يرأسها زعيم كالنبي، يشكل النقيض الكامل للديمقراطية. وانتظار مثل هذا النموذج اليوم هو رغبة نفسية عبدة في الخضوع لديكتاتورية كاملة تامة؛ فالنبي بالنبوة وحدها جاز له أن يكون صاحب الأمر كله، فكان هو الحاكم، وهو مفسر الآيات، وهو منفذ أحكام الشريعة، وهو القاضي بين الناس، وهو القائد الأعلى للجيوش، وهو مدبر الغزوات وقائدها أحيانًا، وهو من يقوم بتوزيع الدخل القومي (الغنائم) على أفراد المجتمع، وهو القائم بالأعمال الدبلوماسية، وهو مراسل الملوك، فجمع في شخصه كل السلطات روحيةً وقضائية وتشريعية وتنفيذية وإدارية وعسكرية ومالية. ولم يصلنا من تاريخ السيرة النبوية أن النبي شكل هيئة استشارية أو سياسية أو إدارية تساعده في أداء مهامه. وهو نموذج إن صلح في ظرفه التاريخي فإنه لا يصلح اليوم ممثلًا في دَعِيٍّ بالخلافة، لتبدل أحوال الزمن ومطالب المجتمع اليوم، وما اتفق للنبي ذلك إلا لظرفه التاريخي، ولأنه كان نبيًّا، وبعده لا أنبياء.
ولكن؛ لأن الديمقراطية هي أفضل نظام حكم توصلت إليه الإنسانية حتى اليوم، فقد قررت كل الأنظمة والأحزاب والأيديولوجيات على تباينها أن تدعي الديمقراطية صدقًا أو تجملًا أو نفاقًا، لاكتساب ما تحمله الديمقراطية من تشريف بدلالاتها حول الحريات الفردانية وحقوق الإنسان ومقدسها الأعلى؛ الكرامة الإنسانية. وأوغلت بعض الأنظمة في العالم الثالث قليلًا أبعد من الشعار والإعلان إلى تفعيل المبدأ الديمقراطي، لكن مع قَصْر المسألة كلها على الديمقراطية السياسية أو صندوق الانتخابات، على أن تخرج نتائجه بما سبق أن تقرر سلفًا، محسوبًا بالتزييف أو التزوير، فانخرطت في تمثيلية الديمقراطية، ولكن بفعل محاكاة بدائي. وفي المقابل فقد قبل تيار الإسلام السياسي باللعبة الانتخابية مع محاولات مستميتة دءوبة مكنته من نجاح ملحوظ على مستوى النقابات، والحصول أحيانًا على بعض كراسي البرلمان. وقد بدا واضحًا في خطاب هذا التيار أن الديمقراطية، كأي اكتشاف إنساني هام أو عظيم، تستحق السطو عليها كعادتنا المعلومة، وادعاء الأحقية التاريخية في الاكتشاف، بحسبانها سبقًا إسلاميًّا قررته آيات القرآن بقولها: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ (الشورى: ٢٦)، ثم تأكيدها على نبي الإسلام: وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ (آل عمران: ١٥٨) … وهنا نكون قد انتقلنا إلى الخطاب الإسلامي المخادع الذي يعيد اكتشاف المنجزات الإنسانية بأثر رجعي، لكن أهم دلالاته هنا هو الإقرار بأن الديمقراطية مبدأ عظيم يستحق نسبته إلى الله في قرار إسلامي قدسي سماوي رباني، وإن كان ذلك لا يعني حقًّا أن الشورى الإسلامية هي ديمقراطية الغرب الليبرالية اليوم، وبملاحظات سريعة تكتشف فارقًا هائلًا، فمن غير الواضح على من يعود ضمير الغائب في «وَشَاوِرْهُمْ»؟ ولمن يتوجه بطلب الاستشارة؟ ولا من هم المستشارون؟ ولا هل طلب المشورة فرض واجب على الحاكم أم لا؟ وهل الحاكم ملزَم بالتقيد بالمشورة؟ ولو ذهبنا للزمن الخليفي، لمزيد من التيقن، حيث مارس الحكمَ كبارُ صحابة النبي، لوجدناهم غير معتدين بالمرة بمبدأ الشورى، كما لو كان غير مقرر بما يريدوننا أن نفهمه عنه اليوم. فقد تولوا الخلافة بغير شورى، بل وبمصاحبة العنف عندما لزم الأمر (٨). ورغم أن خطبة أبي بكر عند توليه الخلافة تلمح إلى اعترافه بحق الأمة في مراقبة أفعاله، فإنه لم يقم بأي جهد لإنشاء لجنة الرقابة المفترضة، كذلك خلت خطبته تمامًا من أي إشارة للشورى، أما عن قوله: «إن أسأت فقوموني»، فتعني وجوب تقويم الناس له متى أخطأ، والإنسان لا يخطئ إلا بعد أن يقرر العمل وينفذه فعلًا. وعلى ذات المنوال نسج عمر وعثمان.
وفي الحالات الحرجة التي قرر فيها الصحابة إبداء المشورة لضرورة فرضها الموقف، كما في حرب مانعي الزكاة، عندما عارض الصحابة أبا بكر وعلى رأسهم عمر بن الخطاب، فإن الخليفة رفض مشورتهم وأنفذ رأيه وشن حربًا ضروسًا على معارضيه (٩). وعند وفاته لم يستشر أبو بكر أحدًا بل اختار عمر ليخلفه، ولم يشر أي مصدر تراثي إلى أن أحدهما قد شكل مجلسًا للمشورة من بين صحابة النبي، بل إن توليهما الخلافة كان برضا فريق من أهل المدينة دون بقية الفرق وبقية العرب في مكة والبوادي والمضارب. أما عثمان فقد قضى على أي ظل باهت لمعنى الشورى المقصود بضربة واحدة عندما أعلن أن الخلافة قميص ألبسه له الله وليس الناس. ومهما بحثت في ذلك الزمن فلن تجد أية إشارة إلى من هم أهل الشورى، لذلك قام الفقهاء في زمن متأخر لسد تلك الثغرة، باختراع اصطلاح «أهل الحل والعقد» بحسبانهم أهل الشورى، وهو اصطلاح لم يسبق له ذكر قبل أبي الحسن الماوردي (٩٧٤–١٠٥٨م). وبعد الماوردي ظل الاصطلاح كيانًا غامضًا غير معروف إلا نظريًّا كمُدوَّنٍ فقهي، مع بعض الاجتهادات النظرية حول عدد أهل الحل والعقد؛ فمنهم من قال إن أقله خمسة، ومنهم من قال ثلاثة، ومنهم من قال واحد (١٠)! ولا تجد هنا المرجع المعول عليه في تصنيف الناس للصلاحية لعضوية هيئة الحل والعقد دون غيرهم، ولا مَن المنوط به الإعلان عن ضرورة اجتماع تلك الهيئة ولا مواعيد اجتماعها ولا مكانه (سنقوم في بحث مستقل بتفصيل أوضح لمبدأ الشورى في الإسلام، فيما يلي من فصول).
وكالعادة مع المنجزات الإنسانية الكبرى، فإن العقل الإسلامي يتعامل مع الديمقراطية بعقلية الغزو وقاطع الطريق، بغرض الاقتناء النظري وإثبات السبق الإسلامي للإنسانية فيما اكتشفته وما لم تكتشفه بعد، ليس لأن للمنجزات والمكتشفات قيمة في ذاتها تستحقها، ولكن بحسبانها مجرد حُلِي للزينة ليس أكثر. ومن هنا لا ندهش عندما نكتشف بعد كل الحديث الطويل العريض عن سبق الإسلام إلى الديمقراطية بمبدأ الشورى، أن المرشد السابق لجماعة الإخوان عمر التلمساني يرفض الأحزاب السياسية لأن «كلمة الأحزاب قد وردت في القرآن مقرونة بالشر» أو عندما نقرأ لحسن البنا الزعيم المؤسس: «إن حزب الله هو الحزب المأمور بقيامه، وعكسه حزب الشيطان الممنوع قيامه» أو عندما يعلن المرشد مصطفى مشهور بلغة فصيحة غليظة: «إننا نقبل بمبدأ التعددية الحزبية الآن، لكن عندما يقوم حكم إسلامي فإننا نرفضها ولا نقبلها» (١١). هذه التصريحات والمواقف لا بد أن تصل إلى أن تيار الإسلام السياسي لا يؤمن إطلاقًا بالديمقراطية كمبدأ، إنما كوسيلة للوصول إلى السلطة لمرة واحدة ناجحة، وبعدها ينقلبون على التعددية والديمقراطية، ويغلقون البرلمان ليحكموا باسم الله.
ولو صرفنا النظر عن لا أخلاقية هذا المنهج (التقية) وانتهازيته وعدم شفافيته في الوصول إلى السلطة، وتناقضه مع المبادئ الرفيعة لقيم الديمقراطية، ومع أي قيم لأي دين حتى يكون دينًا، فإن خطاب الإسلام السياسي المعلن يقوم على تناقضية إزاء الديمقراطية، فهو من جانب يتخذها وسيلة لتمكين الإسلام في الأرض بتمكين أصحابه من السلطة، وأصحابه ليسوا كل المسلمين، وإنما من اختاروا أنفسهم ليكونوا كذلك دون بقية المسلمين، ويعمل بآليات الدورية الانتخابية حتى يوم التمكين بنصر كاسح يضعهم على الكراسي حيث آلة الدولة. لكنه من جانب آخر يرفض جانبها الاجتماعي وشروطها الحقوقية كحقوق المرأة، وحق تشريع البشر لأنفسهم، وحق الاعتقاد الذي أصبح مقدسًا لا يُمس لأنه علاقة الإنسان بضميره.
وهكذا يتفق الطرفان: الحكومات وحركات الإسلام السياسي على مبادئ أساسية ليس من بينها حقوق الإنسان وكرامة المواطن، فالأنظمة تتجمل بصندوق الانتخابات في رقصة تعبيرية لجمع التبرعات لمرشحيها، بينما تكرس آلتها الإعلامية لخلق قمع داخلي ورقيب نفسي يكفِّر تلك الحقوق على أساس ديني. وهو ما يلقى بالطبع الاستحسان والتقدير من حركات الإسلام السياسي التي تتفق والحكومة على جانب وحيد من الديمقراطية هو صندوق الانتخابات كلعبة صراعية حول المساحات الممكنة من السلطة. ويتفقان أيضًا على استبعاد أي مكون آخر في بنية الديمقراطية. وعبر إعلام الحكومات أمكن للإسلام السياسي ضخ مفاهيمه ومواقفه لتنميط العقل الجماهيري بموجبها في اتفاق وتحالف معلن، عبر أسماء لدعاة حولهم إعلام الحكومات إلى مشاهير أعلام، وجعل بعضهم يصل إلى رتبة القداسة، كما في حالة متولي شعراوي حيًّا وميتًا، وبعضهم الآخر إلى شخص كلي القدرة والمعرفة مثل مصطفى محمود وتابعه زغلول النجار. وضمن تلك المفاهيم المنشورة المبثوثة قام خطاب الإسلام السياسي بخداع ورياء ونفاق بإعلانه الموافقة على الجانب السياسي للديمقراطية لكن مع تبديع وتكفير بقية جوانب الديمقراطية، مع التأكيد بالاستخدام المستمر والمتكرر لمصطلح الديمقراطية كدالٍّ على معنى واحد هو الجانب السياسي. أما بقية جوانب الديمقراطية التي تندرج تحتها كل المعاني الحقوقية الليبرالية، وهي الحريات التأسيسية للديمقراطية كي تكون ديمقراطية، فقد استخدم لها اصطلاح (العلمانية)، مع تحميل مصطلح العلمانية كل المعاني السلبية الممكنة إزاء القواعد الإيمانية في الإسلام، وهو الأمر الذي يسعد به عبيد كما سعد به زيد. ولا يبقى من الديمقراطية غير صندوق الانتخابات الذي لن يأتي أبدًا لا بحريات ولا بحقوق إنسان، لهذا يلاحظ كل المراقبين في هزلية الدورية الانتخابية في بلدان العالم الثالث الإحجام الشعبي الواضح عن المشاركة في التمثيلية.
ومن جانبه يلجأ فهمي هويدي إلى أسلوب في إدانة العلمانية، فيؤكد أننا قد جربنا في بلادنا جميع أنظمة الحكم، بما فيها العلمانية، وأثبت الكل فشله، ولم يبق سوى العودة إلى نظام الحكم الإسلامي الذي يناسبنا بالضرورة! أما متى عرفت بلادنا العلمانية فهو ما يراه الأستاذ هويدي قد حدث في الزمن الناصري وتجرِبة يوليو وتوابعها في دول العرب من حكومات العسكر المحلي من الطغاة، لينتهي إلى أن «تجرِبة العلمانية العربية ظلت على الدوام نقطة سوداء في السجل العلماني، ليس فقط من زاوية موقفها من الدين، إنما أيضًا من زاوية موقفها من الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان» (١٤) وهو «الأمر الذي وجد فيه الدارسون دليلًا قويًّا على أن التلازم بين العلمانية والديمقراطية ليس ضروريًّا» (١٥).
ويبدو أن هذا اللون من الخطاب يعتمد إلى حد كبير على فقد الذاكرة العربي المشهور تاريخيًّا؛ لأن العودة القوية للإسلام كفاعلية موضوعية واضحة في شئون السياسة والقانون والحرب والمجتمع، إنما كانت مع قفز العسكر المحلي على السلطة، للحصول على شرعية المقدس عبر المؤسسة الدينية التي كانت قد تراجعت بشدة إبان التجربة الليبرالية المصرية قبل حركة خفر يوليو، ليعاد بعثها من جديد، وتُدعم بإقامة المؤتمر الإسلامي سنة ١٩٥٤م، ثم المجلس الأعلى للشئون الإسلامية سنة ١٩٦٠م التابع مباشرة لرئاسة الجمهورية، وأصبح مقر رئيس الجمعية الشرعية أيضًا بمقر الرئاسة. ومع تطوير الأزهر تم منحه صلاحيات رقابية واسعة على ضمير الأمة مع تبعيته المباشرة لرئيس الجمهورية. كذلك تم إنشاء مجمع البحوث الإسلامية وأصبح للأزهر وزير لشئون الأزهر. ومن سبعة معاهد أزهرية في المحافظات قبل يوليو إلى ستة آلاف معهد الآن، وتم إنشاء دار القرآن سنة ١٩٦٤م لنشر التراث، وفي نفس السنة افتُتِحَت إذاعة القرآن، وأصبح هناك شيخ رقيب في أي لجنة إذاعة أو سينما أو تلفاز، هذا غير المواد الطائفية بالدستور … وغيره كثير، أكثر من أن تحصيه دراسة قصيرة كتلك. باختصار كان زمن حكومات العسكر هو الزمن الذهبي للبعث الإسلامي ورجاله، وهو ما أفرز في النهاية ما وصلت إليه أحوال البلاد والعباد، ابتداء بالهزائم وتأبيد الفقر والجهل والمرض والفساد، وانتهاء بالإرهاب، وليس آخرًا، ولا تعلم أين العلمانية من كل هذا!
وبحسبان استخدام الخطاب الإسلامي لمصطلح العلمانية كدالٍّ على الحريات الليبرالية، يقرر الداعية المشهور بالمعتدل «يوسف قرضاوي»: «إن العلمانية لا اعتراض لها على الجانب الأخلاقي في الإسلام بل لعلها ترحب به وتدعو إليه» (١٦)، بل إن «العلمانية لا تجحد الجانب العقدي في الإسلام، ولا تنكر على الناس أن يؤمنوا بالله ورسوله واليوم الآخر، انطلاقًا من مبدأ مسلَّم به عندها هو تقرير الحرية الدينية لكل إنسان، فهذا حق من حقوقه أقرته المواثيق الدولية ومضت عليه الدساتير الحديثة» (١٧)، هي أيضًا «لا ترفض الإسلام باعتباره عبادة وشعائر» (١٨).
إذن أين المشكلة؟ … يجيب قرضاوي: «إن العلمانية لا تقف مع الإسلام موقفًا محايدًا» (١٩). أما كيف ذلك، رغم تقريره على حياد العلمانية إزاء الأديان، فهو ما يشرحه بقوله: «إن العلمانية لا يمكن أن تكون محايدة كما زعم بعض العلمانيين العرب، فهذا بالنسبة للإسلام مستحيل؛ لأن الإسلام يواجهها بشموله لكل جوانب الحياة الإنسانية، وهي لا تسلم له بهذا الشمول، فلا مفر من الصدام بينهما. إن النصرانية قد تقبل قسمة الحياة والإنسان إلى شطرين، شطر لله وشطر لقيصر. أما الإسلام فيأبى إلا أن يواجه الحياة كلها بأحكامه ووصاياه وأن يصبغها بصبغته … إن طبيعة الإسلام أن يكون قائدًا لا مقودًا وسيدًا لا مسودًا يعلو ولا يُعلى» (٢٠).
ولمزيد من الإدهاش يقول الشيخ المعتدل قرضاوي: «إن الإسلام في داره دار الإسلام لا يكتفي بأن تكون عقيدته مجرد شيء مسموح به … ولا يقبل في مجتمع مسلم أن يكون الإسلام، وهو في قلب داره وعز سلطانه، مجرد شيء مأذون فيه لا غبار على من آمن به، كما لا حرج على من تركه، أو أن الدين لله والوطن للجميع كما قالوا!» (٢١).
وحتى يكشف لنا عدم حياد العلمانية يقول: «تريد العلمانية من الإسلام أن يقنع بركن أو زاوية له من بعض جوانب الحياة لا يتجاوزها ولا يتعداها. وهذا تفضل منها عليه لأن الأصل أن تكون الحياة كلها لها بلا مزاحم أو شريك. فعلى الإسلام أن يقنع بالحديث الديني في الإذاعة والتلفاز، وأن يقنع بالصفحة الدينية في الصحيفة يوم الجمعة، وأن يقنع بحصة التربية الإسلامية في برامج التعليم العام، وأن يقنع بقانون الأحوال الشخصية في قوانين الدولة، وأن يقنع بالمسجد في مؤسسات المجتمع، وأن يقنع بوزارة الأوقاف في أجهزة الحكومة» (٢٢).
وللكلام هنا دلالات مَكْنية تحتاج إلى فكِّها لتصرح بما تريد، ففي ضوء الفقرة الأخيرة لا شك سنتذكر النغمة السائدة في الخطاب الإسلامي عبر مجلاته وصحفه المتعددة، وعبر مقاره التي تتعدد بتعدد المساجد والزوايا ألوفًا ألوفًا، ترسل نواحها وعويلها وهوانها تندُب تواري الفكر الإسلامي في إعلام الدولة وتعليمها، بعد أن فتحت أبوابها للفكر العلماني على مصراعيه، وهو ما أجمله المستنير فهمي هويدي في عبارة واحدة توضح أنه «تطرف علماني يمارس الإرهاب عبر وسائل الإعلام» (٢٣).
وتصحب تلك الشكوى أمثلة بالمسرحيات التجارية والأفلام الخلاعية والأغاني الفيديو كليب وما شابه، كما لو كانت هذه هي العلمانية. هذا بينما لا تجد مجلة ولا صحيفة واحدة مخصصة للفكر العلماني على غرار عقيدتي والدعوة واللواء والنور والأزهر … إلخ … إلخ … إلخ، ولا حتى مساحة في بريد قراء الصحف المسماة القومية (الاسم الكودي للصحف الناطقة بلسان الحكومة). بل المعلوم أن أي مفكر علماني يعاني كل المعاناة في إيجاد منفذ يعبر منه إلى وعي الناس، ويتحايل فيما يكتب، ويلتف ويحاذر كي يقول بعض فكره، هذا إن وجد المَنْفذ، حتى أصبحت لغة الإعلام بل لغة الدولة والمجتمع جميعًا لغة إسلامية، لا يبرز فيها سوى تجليات الفكر الإسلامي ومفاهيمه ومصطلحاته وحده.
ورغم ما عدده المعتدل من مساحات استولى عليها رعاة الفكر الإسلامي كالإذاعة والتلفاز والصفحات الدينية ومناهج التربية الإسلامية بالمدارس وقانون الأحوال الشخصية في القضاء ووزارة الأوقاف في الحكومة، فإنه لا يبدو محتجًّا بقدر ما يبدو غير قانع بكل هذا سوى السلطة ذاتها، ليقيم دولته الإسلامية الثيوقراطية على أنقاض الدولة القائمة.
وهنا يتدخل المستنير في مقاربة دفاعية عن فكرة الدولة الإسلامية قائلًا: «تعرضت فكرة الدولة الإسلامية لعملية اغتيال معنوي باشرها العلمانيون المتطرفون، واستخدموا فيها، غير الاجتراء والافتراء، مختلف أساليب التدليس والتزوير. إذ حاولوا أن يثَبِّتوا في الأذهان أنها دعوة إلى الحكم الإلهي محملة بكل شرور تلك الصفحة السوداء من تاريخ التجرِبة الأوروبية في العصور الوسطى. وفي مختلف كتاباتهم وحواراتهم، فإنهم ما انفكوا يدسون على عقولنا أفكارًا وصياغات تضفي على التطبيق الإسلامي مختلف صفات الكراهية والنفور، فهو عندهم يتلبس الحق الإلهي، ويباشر بدعوى التفويض الإلهي، ويتخفى بقناعات العصمة والقداسة، ويحيل الحكم إلى كهنوت يحتكره القابضون على أسرار الشريعة القائمة على السلطة الدينية. وهم في ذلك ما فتئوا يحتجون علينا بتاريخ لم ينبت لنا في أرض، ويخوفوننا بعفاريت لم تدخل لنا بيتًا، ويصطنعون أوهامًا وكوابيس ما أنزل الله بها من سلطان، لا في ماضي المسلمين ولا فكرهم ولا في تعاليم دينهم» (٢٤).
ويعود المعتدل شارحًا أن ذلك كله، وإن عرفته أوروبا في عصورها الوسطى، فهو ما لم تعرفه ديار الإسلام، وذلك لأن «تاريخ الكنيسة غير تاريخ الإسلام … فقد وقفت الكنيسة مع الجهل ضد العلم ومع الخرافة ضد الفكر ومع الاستبداد ضد الحرية ومع الملوك والإقطاعيين ضد الشعب حتى ثارت الجماهير عليها … واعتبروا عزل الدين عن الدولة كسبًا للشعوب ضد جلاديها … فهل يمكن أن يؤاخذ الإسلام بمثل ذلك؟» (٢٥).
ومع هذا الخطاب المخاتل المخادع لا تدري أين تضع فظاعات جيش أبي بكر الصديق مع المسلمين الذين خالفوا بيعته وامتنعوا عن أداء الزكاة إليه، والوحشية التي عُومل بها الأسرى من تحريق بالنار مقموطين، إلى الإلقاء من شواهق الجبال، إلى التنكيس في الآبار (٢٦). وهو من حكم بحسبانه خليفة رسول الله وباسم الله، وحاز من تراثنا قدسية عظمى حولت موافقه وتصرفاته وأقواله إلى سنة، حتى قال قرضاوي بشأنه هو والخلفاء الموصوفين في تاريخنا بالراشدين، تمييزًا لهم لعدلهم ورحمتهم كأبي بكر: «فما أجمله القرآن من أمور الإسلام بينته السنة النبوية وهي قول النبي وفعله وتقريره، وأكدته سنة الراشدين المهديين الذين اعتُبرت مواقفهم في فهم الإسلام وتطبيقه من السنن الواجب اتباعها لأنهم أقرب الناس إلى مدرسة النبوة» (٢٧) وهو ما يعني أن أفعال أبي بكر إنما هي تأكيد لسنة النبي التي هي بيان للقرآن؟ لكن الرؤية المتأنية الفاحصة وراء تلك الأهوال التي حدثت للمسلمين على يد حكامهم المقدسين لا يمكنها أن تفهم ما حدث إلا على ضوء متطلبات السياسة، فهي مما لا يبرره أي حس أخلاقي، ناهيك عن أي دين، وإن كان يبررها سدنة الدين ويشرعونها كما يفعل المعتدل والمستنير.
أيضًا لا تعرف أين تضع العهود التي نكثها الصحابة، والرءوس التي قطعوها وطافوا بها البلاد، والقبور التي نبشها الحكام، والأحلاف التي عقدها المسلمون مع أعداء الإسلام ضد المسلمين، ولا اغتيال الأب والعم والأخ صراعًا على السلطان.
أيضًا لا تعرف أين تضع سلوك الخليفة الراشد عثمان في تحريق المصاحف، ولا نهبه بيت مال المسلمين وتوزيعه على أحبائه وأهله، ثم قمعه كل من اعترض على قراراته بكل عنف كما فعل مع عبد الله بن مسعود حبيب رسول الله الذي أوصى بحبه، وكيف سبه علنًا سبًّا قبيحًا، وضربه حتى كسر أحد أضلاعه، ومنع عنه عطاءه، ثم جلده بالسياط عندما قام بدفن صحابي جليل كان معارضًا لعثمان هو أبو ذر الغفاري.
وأيضًا لا تعرف أين تصنف سلوك عائشة بنت أبي بكر التي اشتغلت بالسياسة والفتوى كأرملة للنبي، وقامت تحرض الناس ضد الخليفة عثمان عندما أنقص من عطائها، واتهمته بالكفر الصريح، مستثمرة وضعها كأم للمؤمنين تناديهم «اقتلوا نعثلًا فقد كفر»، ولا موقفها من الإمام علي عندما اتهمته بدم عثمان، وخوضها ضده حربًا مزقت صفوف المسلمين ومات حول جملها ألوف المسلمين، وما سلم شأن معاوية معها إلا عندما سدد عنها ديونها ودفع لها ثمانية عشر ألف دينار (٢٨).
أيضًا لا تعرف أين تضع كل سلوكيات معاوية الذي تعتبره فرق السنة إمامًا مجتهدًا أو صحابيًّا جليلًا، خاصة وهو يحول الخلافة إلى ملك عضوض ويخاطب الناس: «الأرض لله وأنا خليفة الله، فما أخذت فلي وما تركته للناس فبفضل مني.» ليؤسس في التاريخ مملكة الأمويين الذين دشنوا حكمهم بقتل حفيد الرسول الحسين ابن الزهراء، وبضرب كعبة المسلمين بالمنجنيق وحرقها. ومن بعد معاوية أفتى الفقهاء لولده يزيد بأنه «ما على الخلفاء حساب ولا عذاب» (٢٩). ثم جاء العباسيون ليبزوا الأمويين في الظلم والاستبداد والذبح والحرق، وكله باسم الله وخلافة رسول الله، وظل ذلك ديدن حكام المسلمين المتوشحين بالدين والمشرعين حكمهم برجال الدين المحترفين.
وكانت بشاعة الفعل تصل إلى أقصاها عندما يتسربل القرار السياسي بالدين لإسكات رأي سياسي معارض يدعم نفسه بقراءة جديدة للدين، كما حدث مع الجعد بن درهم أول من قال بخلق القرآن وقدرة العبد على الفعل بنفسه، فأرسل الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك إلى واليه على العراق خالد القسري يأمره بقتله، فوقف القسري على منبر المسجد يوم عيد الأضحى وأنهى خطبته بقوله: «أيها الناس انصرفوا وضحوا تقبل الله منكم، فإني أريد أن أضحي اليوم بالجعد بن درهم؛ فإنه يقول: ما كلم الله موسى ولا اتخذ إبراهيم خليلًا، تعالى الله عما يقول الجعد علوًّا كبيرًا. وكان الجعد مربوطًا في السلاسل تحت المنبر فنزل إليه خالد القسري وذبحه بيده في المحراب مفتتحًا للناس عيد النحر.»
ومثل الجعد بن درهم كان غيلان الدمشقي المصري، الذي كان يقول بالقدر وأن الإمامة لكل الناس وغير قاصرة على قريش، فتم صلبه وتقطيع أوصاله وهو حي بفتوى من الفقيه الأشهر والأنشر «الأوزاعي» (٣٠). ومثلهم عمرو المقصوص الذي دفنه الأمويون حيًّا، ومثلهم ابن المقفع المفكر الحكيم الذي قطع المنصور أصابع يديه وشواها أمامه على النار وأطعمه إياها، ومثله كثير يصعب إحصاء ما ورد بشأنه ووجد طريقه إلى التسجيل. لنسأل المستنير: هل هذا هو التاريخ الذي لم ينبت لنا في أرض؟ وهل تلك عفاريت لم تدخل لنا بيتًا؟ وهل تلك مجرد أوهام وكوابيس لم توجد في ماضي المسلمين؟
نعود نفك دلالات الكلام المكني في الخطاب القرضاوي، لنجده يروج العلمانية كما لو كانت دينًا أو عقيدة جديدة نقيضة للإسلام، تريد منه أن يقنع بركن أو زاوية في بعض جوانب الحياة لا يتجاوزها … إلى آخر ما قال. وأنها تتربص بالإسلام تحديدًا لأنها تقوم على حرية المواطنين في اعتقاد ما يشاءون وهو ما لا يقبل به الإسلام، ومن ثَم فهو يسرب حولها فهمًا قديمًا كانت توصم به العقائد الفاسدة أو الباطلة أو الشيطانية، ليدعمه المستنير مؤكدًا أنها بالفعل عقيدة إذ يقول: «إنها عقيدة تحول دون الوفاق الوطني» (٣١). والسر في حيلولتها دون الوفاق الوطني هو أنها تضع المواطنين جميعًا على مستوى واحد من الحقوق والواجبات بغض النظر عن عقائدهم. ولما كان الإسلام هو السيد الأعلى فإن وضعه على مستوى واحد مع بقية الأديان يعني النيل من سيادته التي يعيش المواطنون في بلادنا بسببها في وفاق وطني (؟!).
أما الأوضح في خطاب سادتنا أهل الدين وسدنة العقيدة، ومنهم المعارض لكنه يشتهر بأنه معتدل كالقرضاوي، ومنهم من هو من مفكري الدولة وأبرز الكاتبين في صحفها لكنه يشتهر بأنه مستنير مثل هويدي، فهو أنه خطاب لا يلتفت بالمرة لمعنى المواطنة وحقوق المواطنين. فالخطاب عندما يعلن أن الإسلام «في داره لا يكتفي بأن تكون عقيدته مجرد شيء مسموح به» فإنه لا ينشغل أن يكون ذلك شأن قسم آخر من المواطنين لا يدينون بالإسلام، فهم أهل ذمة سيتسامح معهم الإسلام والمسلمون السادة. لذلك يكون المبدأ الليبرالي مزعجًا تمامًا لهؤلاء السادة؛ لأنه يقوم على مبدأ المساواة التامة بين المواطنين، وأنه ليس هناك من يملك حق أن يتسامح مع الآخرين أو لا يتسامح. بل إن الخطاب يؤكد عدم اعتراف الإسلام لغير المسلمين بأي حقوق لأن طبيعته أن يكون «قائدًا لا مقودًا، سيدًا لا مسودًا». بل إنه لا يعترف بالمواطنة والانتماء الوطني، ويسخر منه ويترفع عليه، بدءًا من ازدرائه الواضح لشعار الزمن المضيء: «فالدين لله والوطن للجميع … كما قالوا؟!» (٣٢) و«إن العلمانية، وإن قبلت عقيدة الإسلام نظريًّا … فإنها ترفض ما تستلزمه العقيدة من معتنقها، ترفض اتخاذ العقيدة أساسًا للانتماء والولاء … بل تقدم عليها رابطة التراب والطين … وهذا مناقض تمامًا لتوجيه القرآن … الذي يلغي كل رابطة مهما يكن قربها وقوتها إذا تعارضت مع رابطة الإيمان … ويحذر المؤمنين من اتخاذ أعداء الله أولياء: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ (المائدة: ٥١)» (٣٣). وهكذا فإن «المسلم إذا فُرضت عليه العلمانية فقد فُرض عليه أن يتحلل من دينه …» (٣٤)، والسبب الأوضح لذلك التحلل «هو أنه لا يستطيع أن يوالي أو يعادي على أساس العقيدة، لأن العلمانية ترفض العقيدة أساسًا للولاء والانتماء» (٣٥).
وهنا لا يتخلف المستنير عن المعتدل، فيتساءل هويدي إزاء دعاة الحريات يائسًا منهم قائلًا: «هل هناك جدوى من الحوار؟ أحيانًا يتسرب اليأس إلى أعماق المرء ويستعيد الآية القرآنية التي ترشدنا إلى أن اليهود والنصارى لن يرضوا عنا إلا إذا اتبعنا ملتهم. ويبدو أن ذلك دأب المخالفين جميعًا بمن فيهم العلمانيون» (٣٦). وهكذا تخرِّب العلمانية الوفاق الوطني كما يرى هويدي، وهو ما يشرحه الأزهري التليفزيوني محمد المسير في المجلة القومية «عقيدتي» بقوله: «إن سورة المائدة من السور التي تناقش اليهود والنصارى وتلزمهم ضرورة الإيمان برسالة محمد ﷺ الذي جاء بالحق وصدق المرسلين، ولكن أهل الكتاب حرفوا وبدلوا وطمسوا البشارات فكانوا أحق الناس باسم الكفر» (٣٧). وعليه لا حل للوفاق إلا بأسلمة غير المسلمين، أو إخضاعهم لسيادة الإسلام والمسلمين، وهو أضعف الإيمان. وتكون أي محاولة لتغيير الأوضاع السائدة نحو الليبرالية هي علمانية كافرة تحول دون استتباب الوفاق الوطني.
فلنذهب نبحث عن الوفاق الوطني في خطاب أبعد عند الإرهابي شكري مصطفى نستمع إليه وهو يشرح موقفه من قضية الديمقراطية والوحدة الوطنية في وثيقة الهجرة إذ يقول: «إن الإحسان في التعامل مع غير المسلمين معناه التسوية بين المسلم والكافر في نهاية الأمر، سواء محياهم أو مماتهم، فيما يسمونه ديمقراطية الإسلام أو تسامح الإسلام أو الوحدة الوطنية وسائر الشعارات الماسونية في ثياب الإسلام، أو أن يكون للكافر بالله عزة في أرض الله، نرفض ذلك ونرفض ما ينادي به أولئك الذين يبيعون الإسلام بالبخس» (٣٨).
فهل اختلف المعتدل والمستنير والأزهري عن الإرهابي الدموي؟ وهل اختلف جميعهم عن زعيمهم أسامة بن لادن وهو يفتتح حربه الدينية معلنًا: «إن الذين يحاولون أن يغطوا حقيقة أنها حرب دينية إنما يخادعون الأمة … فهي مثبَتة في كتاب الله سبحانه وتعالى: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ. فالمسألة مسألة ملة … وإن موالاة الكافرين ومظاهرتهم على المسلمين من نواقض الإسلام الكبرى» (٣٩).
لكن لأن مبادئ الديمقراطية الاجتماعية تفرض نفسها على أي ضمير، ولأن اختيار العقيدة بلا إكراه هو من علامات الرقي الإنساني، فإن قرضاوي يفاجئنا بكلام جميل يؤكد أن الإسلام قد جعل للإنسان «حقوقًا يجب أن تُرعى؛ حقه في أن يختار دينه بلا إكراه أو ضغط، وأن يفكر بلا حجر ولا إعنات، وأن يعبر عن رأيه بلا خوف ولا إرهاب» (٤٠). لكنك ستكتشف أن هذا الكلام مجرد لطائف تُنثر في الهواء لتلطيفه ليس أكثر؛ لأنه يعود ليقول في الصفحة المقابلة مباشرة: «لكن المجتمع المسلم ليس مجتمعًا سائبًا ولا مجتمعًا علمانيًّا لا دينيًّا، بل هو مجتمع يلتزم بعقيدة يعيش لها … لهذا يرفض الردة ويعاقب عليها حفاظًا على هويته» (٤١). بل إن إقرار الليبرالية (العلمانية) بحرية الاعتقاد ينتقص من سيادة الإسلام؛ لأن للإسلام سيادة وسلطانًا يتمثلان في تطبيق حدوده، وأبرزها حد الردة، ويشرح ذلك بقوله: «إن المسلم الذي يقبل العلمانية أو يدعو إليها، وإن لم يكن ملحدًا لا يجحد وجود الله أو ينكر الوحي، قد تنتهي به علمانيته إلى الكفر البواح والعياذ بالله إذا أنكر معلومًا من الدين بالضرورة … بل إن العلماني الذي يرفض مبدأ تحكيم الشريعة هو مرتد عن الإسلام بيقين، ويجب أن يستتاب، ويُفرَّق بينه وبين زوجه وولده، وتجري عليه أحكام المرتدين المارقين في الحياة وبعد الوفاة» (٤٢).
وإن سيف الردة الذي يرفعه هذا الخطاب في مواجهة حرية الاعتقاد هو سيف مغلول لا علاقة له بدين الإسلام كما سيأتي في الفصول التالية، حيث أثبتنا بطلان الحديثين المنسوبين للنبي محمد بهذا الشأن وسقوطَ السند، ناهيك عن المتن. وأن الأمر جميعه كان تبريرًا لقرار الخليفة أبي بكر بإعلان الحرب على مسلمين رفضوا الاعتراف بإمارته لعدم اشتراكهم أو أخذ رأيهم في الأمر، وعبروا عن ذلك بمنع ضريبة المال/الزكاة، فكان أن تم وصمهم بالردة لتبرير قتالهم وقتلهم (٤٣). ويلحق بذلك قاعدتان فقهيتان هما: «لا اجتهاد مع نص»، وأن «من أنكر معلومًا من الدين بالضرورة فقد ارتد» واستحق الحد بالإعدام، والتي يصر عليها المعتدل والمستنير والإرهابي، وهي من أكثر قواعد علم أصول الدين ضراوة، تضعنا برأينا مباشرة في مواجهة المقدس، إما هذا أو ذاك، في مصادمة صريحة لا معنى لها سوى إيقاف العمل العقلي إن حاولنا التوفيق بين النص الثابت والواقع الحي المتغير، بل والحكم على الواقع المتغير بالفساد لأنه تغير دون إذن منا وتحرك دون أن يراعي شروط مأثورنا القدسي.
وهنا لا تفهم كيف يتفق الإصرار على هذه القواعد مع مواقف وآراء وفعال وقرارات صحابة النبي الكبار الذين عاصروا الوحي، وكانوا مادة الإسلام وهو يتحرك في واقع زمنه ويتشكل من حال إلى حال. وكيف كانوا أول من خالف نصوصًا واضحة قاطعة ثابتة لا متشابهة ولا منسوخة. بل خرجوا عليها وألغَوا العمل بما لم يعد يناسب الزمان منها. حتى إن بعضهم خالفها لمصالحه الشخصية ومكاسبه الدنيوية علنًا ودون مواربة. كذلك عطلوا أحكامًا وألغوا فرائض وحرَّموا حلالًا دون أن ينظروا، قبل القرار، في قواعد فقهائنا التي لم تكن قد اختُرعت بعد. فقط كان هناك نص ثابت وهناك واقع حي يتغير ويتطلب حكمًا جديدًا يخالف النص، فخالفوه برأيهم الإنساني ببساطة ودون تعقيدات أو شروط.
ووصل الرأي بكبار الصحابة إلى تعطيل حدود، ومخالفة نصوص قاطعة، بل والعمل بعكسها دون عبرة بفقه الثبات وقواعده الدموية، فلم يلتزموا شروطًا لما يفعلون سوى المصلحة، بغض النظر عن قول النص في الأمر، ناظرين إلى الغايات لا إلى ظاهر النص، وأن العبرة بالغايات لا بالوسائل؛ لأنه إذا ما تخلفت الوسيلة عن غايتها أدت إلى نقيض الهدف من التشريع، الذي هو نفع الناس، وتحولت إلى الضرر. ولم يجلسوا يتقعرون يتساءلون هل هذا منسوخ أم ناسخ؟ وهل هو من المتشابه أم من المحكم؟ بل غيروا وبدلوا وألغَوا تبعًا لمصالح الناس المتغيرة بتغير الأيام؛ لأنهم كانوا على يقين واحد هو أن غاية الله والدين والنصوص هو سعادة الإنسان بتحقيق مصالحه وتيسير حياته وإقامة العدل. وهو كله ما يعني أن سادتنا رعاة المقدس وسدنته، من مستنير الدولة إلى معارضها المعتدل إلى معارضها الإرهابي، يرفعون فوق رءوسنا سيوفًا ما أنزل الله بها من سلطان، ولا علاقة لها بالناس ولا بالدين ولا بالديان.
ومع ما يقدمه هؤلاء السادة عن الإسلام وداره، حيث عز سلطانه، يبدو الإسلام هو الحاكم الوحيد المناسب لبلادنا بتطبيق شرائعه، وهي فيما يقول المعتدل: «شرائع الإسلام القطعية في شئون الزواج والطلاق والميراث والحدود والقِصاص ونحوها من نظم الإسلام التي ثبتت بنصوص قطعية الثبوت قطعية الدلالة، فهذه الأمور ثابتة تزول الجبال ولا تزول، نزل بها القرآن وتوافرت بها الأحاديث وأجمعت عليها الأمة. فليس من حق مجمع من المجامع، ولا من حق مؤتمر من المؤتمرات، ولا من حق خليفة من الخلفاء أو رئيس من الرؤساء أن يلغي شيئًا منها لأنها كليات الدين وقواعده وأسسه» (٤٤).
ولا يسعك، مع مثل هذا الخطاب، سوى الدهشة إزاء جرأته على الحقائق وعلى أحداث التاريخ؛ لأن تلك الشرائع التي ليس من حق خليفة من الخلفاء أن يلغي أو يعطل منها شيئًا، قد تعرضت للتعطيل والإلغاء على يد خلفاء رسول الله الراشدين وصحابته المقربين. وأن بعضها قد زال وانتهى، ولم تزل الجبال ولا كثيب من الكثبان، بقرارات سيادية من صحابة النبي المبشرين بالجنان، ولم يمض على رحيل صاحب الدعوة أشهُر. وهناك ما زال وانتهى، ليس بقرار مجمع ولا مؤتمر ولا رئيس، ولكن بفعل الزمن ورقي البشرية الأخلاقي، مثل أحكام ثلاث وعشرين آية تتحدث عن الرق وملك اليمين، مع أبواب فقه كامل في أحكام الرق وتفاصيله في مختلف الجوانب كالميراث والدية والحدود والعقوبات، وهي ما كان يضع فيها فقهُنا للعبيد نُظمًا تختلف عن نُظم الأحرار.
من وجهة نظر مدعومة بالوثائق والمستندات التاريخية من أحداث ووقائع وشهادات موثوقة كتلك التي نطرحها، لا تجد من الخطاب الديني السائد سوى ما يرفعونه في وجه المختلف كالعادة من سيوف تكفير دون حجج مماثلة وبيانات مفحمة بخطاب صريح غير مخاتل ومداور ومخادع. وليس لهم من سند سوى اعتياد الناس على فكرٍ دون آخر، وسيادة وجهة نظر، حتى لو كانت خطأً بمنظار الدين، دون وجهات نظر أخرى، حتى لو كانت هي الأقرب لكليات الدين ومعقولِه والحرص عليه. وظل تاريخنا حتى اليوم يطلِق على المختلفين عن السائد اللقبَ الأشهر «المعطِّلة» الذين يريدون تعطيل شرائع الدين وحدوده وأحكامه. ونموذجًا لردهم على الاجتهاد ما جاء في وثيقة اتهام ابن رشد قائلين: «فخطرُ هؤلاء المعطِّلة أهم من خطر الإسبان وأضر من أهل الكتاب؛ لأن الكتابي يجتهد في ضلال ويجِدُّ في كَلال، وهؤلاء جهدهم التعطيل … وُقِفَ لبعضهم على كتب مسطورةٍ أسيافُ أهل الصليب دونها مغلولة» (٤٥). لذلك لا حل مع المختلف، حتى لو كان واقفًا على أرض الإسلام، سوى توقيع حد الردة كما قال ابن عبد البر، لأن أهل السنة «مأمورون بعداوة أهل البدع والتشريد بهم والتنكيل لمن انحاش إلى جهتهم بالقتل فما دونه» (٤٦).
وإعمالًا لذات المبادئ يعلن فقيه زماننا المعتدل قرضاوي: «وقد أجمع العلماء على أن من أنكر معلومًا من الدين بالضرورة … فإنه يَكفُر بذلك ويَمرُق من الدين، وعلى الإمام أن يطلب منه التوبة والإقلاع عن ضلاله، وإلا طُبِّقت عليه أحكام المرتدين» (٤٧).
وإزاء هذا الموقف التاريخي العتيد يطرح السؤال نفسه: هل كان الإسلام هو الحاكم طوال تاريخنا الطويل الرهيب التليد؟ وهل كان هو المسئول عما لحق بالعباد من ظلم وتنكيل وقتل وسحق؟
كما أن الحق يدعونا إلى عدم الاعتراف بسادتنا المشايخ؛ المستنير والمعتدل والإرهابي وكل من اشتغل بأمور الدين، كممثل وحيد صحيح للرأي الإلهي. ولأن القصد الإلهي أعلى من أن يزعم أحد الاطلاع التام عليه، فإن الحق يدعونا أيضًا إلى تأكيد أن بداية الفصل بين الدين والسياسة في التاريخ الإسلامي لم تبدأ مع الملك العضوض الذي أقامه الأمويون، إنما كان قبل ذلك واضحًا بلا التباس. فاللافت للنظر في تاريخ الدولة الإسلامية هو فصلها المبكر بين الدين والسياسة، على مستوى القرار العملي، منذ أن مرض نبيها مرض الموت، سواء صرح بذلك رجال الفقه والحكام أو لم يصرحوا، وحتى لو تسربلت السياسات بثوب الدين، لأن تلك السياسات كانت في تباعد متواتر ومتصاعد من لحظة تيقن الصحابة أن نبيهم في مرض الموت، عندما وصف عمر بن الخطاب كلام النبي بأنه لون من الهذيان: «دعوا الرجل إنه يهذي»، وهو يطلب منهم صحيفة ودواة يكتب لهم كتابًا لا يضلون بعده أبدًا (٤٨). لأن صاحب الدين كان ذاهبًا ولأن الدنيا كانت هي الآتية. ثم ما تلا ذلك من سياسات بكرية وعمرية وعثمانية … إلخ، كانت صراعًا على الدنيا ولحوقًا بمتغيراتها في ابتعاد واضح عن ثبات النصوص، وهو ما دعا قرضاوي ليقول: «إن أخطاء المسلمين وانحرافاتهم على مدار التاريخ إثمها على أصحابها ولا يتحمل الإسلام وزر شيء منها» (٤٩).
والدارس للتاريخ الإسلامي سيلحظ دون جهد أن تحالف أهل الدين مع أهل السياسة كان دومًا لحسابات مصلحية دنيوية، ولتمرير القرار السياسي وتبريره دينيًّا، أما القرار نفسه فكان من اختصاص الحاكم الذي كان غالبًا ما لا يأبه لرأي الدين في الموقف أو القرار. وبعد أن يُبرِم الأمر يعود للفقهاء يطلب منهم فتوى تبرر القرار. وفي النهاية يعود الموقف بمكاسبَ وجاهٍ وبُلَهْنية على أهل الدين ورعاته، ومشاركةٍ — ولو تابعة — في حكم البلاد والعباد. وهو ما سمح لهم بالبحث والتأليف في شئون الشريعة والفقه، وأحيانًا كان الخليفة يستمتع بلذة الفكر والفقه وعلم الكلام مع فقهائه بعد لذة الشعر والشراب والطرب. وربما سمح الخلفاء لفقهائهم ببعض النقد للولاة أو الرعية، وبعضهم عندما كان يريد دخول التاريخ من باب الدين يلجأ إلى قطع يد سارق أو ذبح مفكر أو إراقة بعض زجاجات الخمر في مناسبات خاصة. ومقابل الجاه والمال والسلطان الذي حظي به العاملون على شئون الدين، تركوا للحكام شئون السياسة مقابل الاعتراف دومًا للدين بالسيادة النظرية، بل لقد شارك الفقهاء أنفسهم في الاحتيال على أحكام الدين بعلم ابتدعوه هو «علم الحيل» لتمكين الحكام والرعية من التهرب من الله وأحكام شريعته دون أن يبدو تهربهم هذا غير شرعي، وما زال المسلمون يستفيدون حتى اليوم من هذه الذرائع. وفي تراثنا العشرات من كتب الحيل على المذهبين الشافعي والحنفي للتحايل على أحكام الشريعة حتى يبدو المسلمون ملتزمين بطاعة الله وإن خالفوه (٥٠). أما الظلم الاجتماعي والقهر الفكري وسحق المخالف، فقد اجتمع عليه كلاهما: السلطان والفقهاء.
وحتى اليوم يجد معاوية مؤسس الملك العضوض وبنو أمية قتلةُ آل بيت الرسول من يدافع عنهم من فقهائنا. فهذا المعتدل القرضاوي يقول: «إن معاوية وبني أمية بصفة عامة ظلمهم الأخباريون من رواة التاريخ الإسلامي. ولو كان معاوية بالسوء الذي تُصوره بعض الروايات ما تنازل له عن الخلافة راضيًا رجلٌ مثل الحسن بن علي رضي الله عنه حرصًا على وحدة الكلمة وحقن الدماء، ولهذا سمى المسلمون ذلك العام عام الجماعة. بل جاء في الحديث الشريف التنويه بموقف الحسن والثناء عليه حين قال جده ﷺ: «إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين»» (٥١).
ولا تعلم كيف تتأتى للبعض هذه الجرأة على الحق والدفاع بالباطل عن مواقف تَشين من يفكر بالدفاع عنها، وإلى حد الاستشهاد بالأحاديث المختلقة والباطلة والمعروفة بذلك، فحتى اليوم لا يجد الفقهاء بأسًا من الاستشهاد بالباطل لدمغ الحق وإفساد التاريخ. والمدهش أن يتخذ قرضاوي من تنازل الحسن بن علي حقبةً متفقًا عليها يتولى بعدها الخلافة (ولم يتأت له ذلك بعد أن أوعز معاوية لزوجته بقتله بالسم) مقياسًا لصلاح معاوية، دون النظر إلى فعال معاوية نفسه.
إن هذا الفقيه نموذج لفقهائنا عبر التاريخ، فهو يعلم جيدًا حجم الانحرافات الهائل عبر التاريخ عن الدين وشريعته، ويؤكد «أن الإسلام شيء والتطبيق شيء آخر» (٥٢)، لكنه يزوِّر علينا تاريخنا قائلًا: «إن المسلمين التزموا بهذه الشريعة قرونًا طويلة فاستطاعوا أن يقيموا دولة العدل والإحسان، وأن يشيِّدوا حضارة العلم والإيمان، وأن ينشروا الإسلام في الآفاق، في فارس والروم ومصر وغيرها، فلم تضق شريعتهم بجديد، ولم تمنعهم من الحركة والانطلاق … وأنا لا أنكر أن هناك من أساء إلى الشريعة على امتداد التاريخ فهمًا وعملًا، لكن هذا ليس ذنب الشريعة فهي منه براء» (٥٣). هذا رغم علم سيادته الذي لا ننكره أن كثيرًا من الانحرافات كانت على حساب حقوق العباد وحريات الناس وأقواتهم، وأن تجاوب الفقهاء كان مع رغبات السلطان حتى اخترعوا له الأحاديث النبوية كالحديث الذي استشهد به منذ قليل عن الحسن بن علي، ولجئوا لكل الحيل الشرعية لتبرير أهواء السلطان ونزواته، وأدانوا بالمطلق كل موقف معارض حتى لو انطلق من آيات الله وشرائعه، ووصموه بالرافض المعطِّل المرتد الكافر، حتى لم يبق للإسلام قراءة تفسيرية عبر التاريخ سوى قراءة كهنة السلطان كتفسير أوحد وحيد معتمد، لأنه يحافظ على تماسك الجماعة باتفاقها حوله، ويضمن طاعتها للحاكم حفظًا للأمة من الفتن والانقسامات، فاحتكروا فهم الدين وتفسيره وتأويله، ليس بدافع الدفاع عن الدين بل تحقيق أمن النظام الذي بدونه تسود الفوضى، فدافعوا عن خلفاء ضربوا الصحابة وجلدوهم وركلوهم بالنعال وأعدموهم حرقًا، منذ حروب أبي بكر، مرورًا بدِرة عمر وتجسسه على العباد، حتى سوط عثمان وتكسيره أضلاع الصحابة، إلى تقطيع أوصال المفكرين علنًا وسلخ جلودهم بفتاوى فقهية سحقت كرامة بني آدم الذي قال الله بشأنه: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ. وكانت البداية بخلط سلطة النبي بخلفائه مما أدى إلى هدر حقوق الناس بعد أن لبس الخليفة لباس النبي واستبد بالناس باسم الله، منذ أبي بكر حتى طالبان وفقهاء زماننا من المعتدل إلى المستنير.
وهكذا، وفي مواقف تاريخية حاسمة، غيَّر صحابة الرسول وبدلوا وعطلوا أحكامًا وشرائع، وفي مواقف أخرى فلسف الفقهاء مواقف السلطان، وبعضهم سكت وقنع بالجاه، وكان التغيير أحيانًا بما يناسب الأوضاع الجديدة، وأحيانًا أكثر بما يناسب المنافع السلطانية. ورغم أننا اليوم نحتاج إلى جراءة وشجاعة على التقليد اقتداء بالسلف الصالح كما يطلبون هم منا، خاصة في أمور لم تعد تحتمل تأجيلًا كموضوع المرأة وتكفير المسلم المختلف بالردة وتكفير غير المسلم وقتاله بالجهاد. كذلك مسألة لم تعد تحتمل تأجيلًا هي حرية الاعتقاد وأيضًا العقوبة البدنية وكراهية المختلف، فإنك لا تجد منهم إلا ثباتًا عجيبًا وتعنتًا أعجب، رغم ممكنات إعادة القراءة والفهم بما يناسب الزمن دون تسجيل أي خروج على الدين، شريطة إلغاء قراراتهم الفقهية المصلحية التي سبق لنا وناقشناها وأثبتنا بطلانها، كقاعدة «العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب» أو «لا اجتهاد مع نص» أو عقوبة الخروج على معلوم من الدين بالضرورة (٥٤). مصورين للناس أن تلك قواعد الإسلام وأصوله، رغم أنها أبدًا ليست كذلك، بل هي من وضع بشر لم يكونوا فوق مستوى الشبهات، وأنها كانت لصالح حلف العمامة والسيف السلطاني، وليس لصالح الإسلام ولا المسلمين، عبر تاريخ طويل من القهر والاستعباد، لم يحكم فيه الإسلام يومًا ولا حكم الله الناس بنفسه يومًا.
وحتى نفهم سر هذا الإصرار على التوحد بالإسلام وعلى قواعد فقهية صارمة لا تقبل تحولًا، ننتقل من الاستماع إلى قرضاوي، بعد أن دافع عن معاوية والأمويين، وهو عالم بحجم التحول الذي حدث على أيديهم، إلى الاستماع للداعية المرحوم محمد الغزالي وهو يقول: «ومع أن هذا التحول كان هزيمة للحق وضربة موجعة للمثل العليا إلا أن من الغلو المرفوض تضخيم نتائجه لما يأتي:
-
(أ)
أن الخلفاء والملوك الذين وُلوا أمر المسلمين بطريقة غير صحيحة أعلنوا ولاءهم للإسلام، واستأنفوا الجهاد الخارجي، كما تركوا للفقهاء حرية الحركة.
-
(ب)
أن العلم الديني مضى في طريقه يوسع الآفاق ويربى الجماهير ويقرر الحقائق الإسلامية كلها من الناحية النظرية» (٥٥).
لكنه لا ينسى أن يؤكد لجماهير المؤمنين أن هذا التحول الذي كان هزيمة للحق وضربة موجعة للمثل العليا كان بقرار إلهي فيقول: «وشاء الله أن يكسب معاوية هذه المعارك» (٥٦).
فلم ينشغل الفقيه بأمر المسلمين الذين حكمهم الأمويون ومن تلاهم بطريقة غير صحيحة (بتعبيره اللطيف) وإنما غاية ما شغله أن الحكام أعلنوا ولاءهم للإسلام ولو نظريًّا، أما الأهم فإنهم تركوا للفقهاء حرية الحركة ولم ينقصوا من سلطانهم على أرواح العباد، ثم إنهم استأنفوا الجهاد لمزيد من احتلال البلاد الذي لا بد أن يعود بالضرورة بمزيد من الغنائم التي تزيد من عطاء رجال الدين المخلصين بالتبعية. وهذا كله إنما تم بإرادة الله ومشيئته التي لا يصح الاعتراض عليها.
وتتضح الأهداف بشكل واضح في خطاب قرضاوي الذي لا يقبل من الديمقراطية سوى صندوق الانتخابات ويرفض كل ما يرتبط بها من أنظمة حقوقية مؤسسية، حيث نفهم سر انزعاجهم الشديد من المفاهيم الليبرالية في طرحه المسألة على هيئة قياس منطقي يبدو صحيحًا من حيث القواعد لكنه شديد البطلان من حيث المصداقية، فهو يقول: إنه «لا كهانة في الإسلام … ولا توجد فيه طبقة كهنوتية … إنما كل الناس في الإسلام رجال لدينهم … فليس للإسلام سلطة دينية بابوية. على أن العلمانية إذا فصلت دين المسيحي عن دولته لا يضيع دينه ولا يزول سلطانه؛ لأن لدينه سلطة قائمة لها قوتها ومالها ورجالها … بخلاف ما لو فعلت ذلك دولة إسلامية فإن النتيجة أن يبقى الدين بغير سلطان يؤيده ولا قوة تسنده … وهذا لا يعني إلا انقراض سلطة الدين الإسلامي بالمرة» (٥٧).
وبطلان المصداقية هنا يبدأ مع المقدمة الأساسية للقياس وهي أنه «لا كهانة في الإسلام»، وأنه ليس فيه رجال دين لأن كل المسلمين رجال لدينهم، فما هي وظيفة قرضاوي نفسه؟ وبماذا يعمل ويشتغل؟ ومن أين يحصل على أرزاقه العظيمة، وسع الله علينا كما وسع عليه؟ والعجيب أن يعود لينقض ما قال في الصفحة ذاتها إذ يقول: «وعلماء الدين ليسوا إلا خبراء في اختصاصهم يُرجَع إليهم كما يُرجَع إلى كل ذي علم في علمه وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (فاطر: ١٤) فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (النحل: ٤٣)» (٥٨).
أما المصيبة التي ستسببها العلمانية هنا فهي أن الدين سيبقى بغير سلطان، والواضح هنا أن سلطانه لا يُستمد من قدرته على الوجود والاستمرار بقواه الذاتية، بل برجال الدين أو الأكليروس الإسلامي الذين هم ليسوا أكليروسًا (؟!). لأنه في حالة فصل الدين عن الدولة سيصبح الإسلام بغير سلطان أو قوة. ويكرر ذات المعنى في صفحات أخرى حيث يقول: «إن العلمانية عندهم لم تمح سلطة رجال الدين ورجاله، وإنما فصلت بين السلطتين … أما نحن فليس لنا سلطة دينية مستقلة مقتدرة (لاحظ مقتدرة هذه). فالعلمانية عندنا تعني تصفية الوجود الإسلامي» (٥٩).
وهكذا يبدو الرجل هلعًا على دين الإسلام الذي ستقضي عليه العلمانية بدون سلطته وحماية رجاله في الدولة، رغم أن ما بدا واضحًا عبر التاريخ أن الأمر كان دفاعًا عن سلطة رجال الدين ومكاسبهم وليس الدين نفسه، وهو ما بدا لنا واضحًا في خطاب قرضاوي ذاته، الذي يفصح عن علاقة التيار الإسلامي اليوم بالأنظمة الحاكمة في الدولة الإسلامية. وسر الصراع العجيب الجديد الذي يقوده المذهب الحنبلي وامتداده الوهابي ضد السلطة، رغم أنه كان طوال التاريخ مع السلطة ضد الناس، ليظهر لنا الآن أنه مع السلطة إن أطاعت رجال الدين وأصبحت تابعة لهم وليست مقدمة عليهم، بغض النظر عن الناس أو مصالحهم «فلا انقسام للناس ولا للتعليم ولا للقوانين ولا للمؤسسات، فكلها يجب أن تكون في خدمة الإسلام» (٦٠). وليس في خدمة الناس، وإن كانت «خدمة الإسلام» هذه تبدو فصيحة في خطابه أنها «خدمة رجال الإسلام». ولنستمع إليه وهو يشرح لنا معنى الشورى الإسلامية عنده مقابل العلمانية المرفوضة: «يقول الإمام ابن عطية في تفسيره: إن الشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام، ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب. ذاك ما لا خلاف فيه» (٦١). ومن ثم أحل الفقيه في مبدأ الشورى الإسلامي محل الأمة كلها في المبدأ الليبرالي الديمقراطي أو العلماني، وفسر سقوط رايات المسلمين بهذا الرأي الواضح بشأن سيادة الفقهاء «أهل العلم والدين»، فيقول معطيًا معنى جديدًا لكلمة الاستبداد: «إن تاريخ الإسلام في الماضي البعيد والحاضر القريب ينطق بأن الاستبداد بالرأي هو الذي قوض دعائم القوة والخير في حياة المسلمين، وجرأ الطغاة على أن يعبثوا بمقدرات الأمة كما يشاءون دون أن يخشوا شيئًا أو تُوجَّه لهم كلمة لأنهم غير ملزمين بمشورة أحد» (٦٢) من «أهل العلم والدين» بالطبع! لهذا فإن العلمانية وهي «تأخذ من الإسلام ما يوافق هواها وتُعرض عما يخالف هواها … فإن الإسلام يناصبها العداء أيضًا لأنها تنازعه سلطانه الشرعي في قيادة سفينة المجتمع» (٦٣). مع ملاحظته المتحسرة على أن العلمانية «لا تجعل للالتزام بفرائض العبادات أو إهمالها مكانًا في تقديم الناس وتأخيرهم عند الترشيح لمناصب القيادة» (٦٤).
ولأن أيسر السبل اليوم أمام الفقهاء للوصول إلى مناصب القيادة هو صندوق الانتخابات بعد أن تم تزييف وعي الناس، خلال نصف قرن انصرم، بأجهزة السلاطين التثقيفية، فإن سادتنا من أهل الدين يعضون على هذا الصندوق بالنواجذ، إذ يقول المعتدل: «فالعلمانية مرفوضة في أوطاننا عامة وفي مصر خاصة بأي معيار احتكمنا إليه، وأول هذه المعايير هو الدين، فإذا احتكمنا إلى الدين، أعني الدين الذي تؤمن به الأغلبية وتنزل على حكمه وهو الإسلام، نجده يرفض العلمانية» (٦٥). لكن العلمانيين «في قضية تحكيم الشريعة يخونون مبدأهم ويحاولون أن يثنوا عنان الشعب عما يؤمن به … فتحكيم شرع الله مطلب شعبي … ثم إن الديمقراطية في العالم كله تحتكم إلى عدد الأصوات» (٦٦).
إنها ديمقراطية صندوق الانتخابات حيث الطريق إلى السلطة، وبعدها يكون لكل مقام مقال.