أثر الرياضة البدنية في تكوين الخلق
أيها السادة
كان مزمعًا أن ألتقي بحضراتكم في هذا الحرم العلمي في يوم من أيام الشهر المقبل؛ لأكون آخر متحدث في موسم الاتحاد الإنجليزي المصري الثقافي لهذا العام، غير أن الاتحاد شاء أن يجعلني أول من يفتتح برنامج محاضراته، وبهذا قَصُر عليَّ الطريق، فما بقي لي الوقت الذي يستلزمه بحث موضوع عميق كهذا البحث، فإن رأيتم أن حديثي اليوم غير موفًّى، وأنه ظاهرة فيه العجلة وأنه مجرد خطوط وحدود أكثر مما هو جوهر ولباب؛ فمعذرة كريمة.
وأرى لزامًا عليَّ قبل أن ألقي كلمتي هذه أن أشكر هيئة الاتحاد الموقرة أجزل الشكر؛ إذ أتاحت لي هذه الفرصة السعيدة، فرصة التحدث إليكم في الرياضة والأخلاق، لعل في هذا الحديث بعض فوائد ينتفع بها شباب مصر الناهضة، وخاصة في مثل هذا الظرف الدقيق الذي تجتازه بلادنا التاريخية العزيزة، والذي نشهد فيه عن بعد وقرب براكين الحرب تتفجر فوق بقاع الأرض، تتنقل حممها المستعرة من ميدان إلى ميدان، والذي نستطيع أن نقف منه على مدى ما يمكن لذلك السلاح المستتر وراء السيف والمِدْفع أن يؤدي من واجبات وفروض، وأعني بهذا السلاح، وهو عندي أقوى الأسلحة وأمضاها، الأخلاق.
ولست بمطيل الكلام في موضوع بديهي وليس منكم من يجهله، ألا وهو شأن الأخلاق في بناء الأمم، وأثرها في تدعيم أركانها وتشييد مجدها، فذلك أمر معروف سجله التاريخ في صحفه، ولم يعُدْ يحتاج إلى بيان.
ولقد عمد علماء الأخلاق والاجتماع والفلاسفة إلى التنافس في وضع الكتب الخاصة بالأخلاق، ونشرها بين أبناء أجيالهم، وتحايلوا على استنباط أسهل الطرق التي تؤدي إلى أن يفيد النشء بها ويتأثر.
وراقت هذه الموضوعات رجال التربية والتعليم، فسارعوا إلى تضمينها برامج التثقيف في المدارس على أنها عنصر رئيسي في مناهج التعليم المدرسي يبذل الأساتذة جهدهم في بث هذه النظريات في أنفُس أبنائهم، وغرس أصولها في عقولهم من طرق شتى.
التمسوا في سبيل ذلك الكتب الملأى بالنصائح والمثل العليا، والمؤلفات الفياضة بالقصص التاريخية والخيالية، والمصنفات المحتوية رسالة الكتب السماوية في الأخلاق، ملتمسة في ذلك الحض والترغيب تارة، والوعيد والتخويف تارة أخرى.
وكان الرأي الأساسي في هذا الموضوع أن يُزَوَّد النشء بهذه الدروس النظرية الأخلاقية؛ حتى إذا أكمل الفتى دراسته وأوشك أن يدخل ميدان الحياة، أفاد مما تلقن من هذه الدراسات العقلية، واستطاع أن يطبقهما على شئون الحياة تطبيقًا عمليًّا.
جاء الإنجليز أيها السادة آخر الأمر، وكانوا قد أخذوا بما أخذت به مدارس غيرهم من البلاد، متَّبعين نفس الطريق، طريق الكتاب والمدرِّس في تلقين أصول الأخلاق للنشء، جاء الإنجليز وهم قوم عمليون طُبِعوا على تبسيط الطرق ليسهل إدراك الغايات، وفاجئوا العالم المتمدن باكتشاف جديد في هذا الموضوع، اكتشاف ما أكاد أسميه علمًا جديدًا، وما يسميه آخرون فتحًا جديدًا في عالم التربية القومية، ذلك هو تطبيق أصول الأخلاق منذ الصغر تطبيقًا عمليًّا على شئون الحياة، متخذين من ميدان الألعاب الرياضية الحقل التجريبي لهذا الإعداد النفسي الشاق.
- أولهما: قلة ما رأوا من فوائد إيجابية للدراسات الأخلاقية النظرية، فالآخذ بها يكاد ينساها عندما يُصدَم بالصخرة الأولى من صخور الحياة.
- ثانيهما: أن نفس النشء الصغير لينة كقطعة العجين صالحة أيَّما صلاح للتأثر، وهي في تلك السن المبكرة بكل ما يراد لها أن تتأثر له وللتشكل على كل ما يحب لها أن تتشكل عليه، فإن أنت أردتها شيطانًا فهي شيطان، وإن أنت أحببت أن تكون مَلَكًا فهي ملَك.
آثر الإنجليز إذن أن تدرَّس الأخلاق دراسة عملية منذ الصغر، واتخذوا ميدان الألعاب الرياضية ليكون الحقل التدريبي لهذه الدراسة الأخلاقية، وبذلك اختصروا طريقًا طويلة ووفروا سنين عدة، ومكَّنوا لأبنائهم إذا خرجوا من أبواب المدارس ليدخلوا أبواب الحياة أن يكونوا مزوَّدين سلفًا بالسلاح الذي يخوضون به غمار الحياة، سلاح الأخلاق، وهو — كما قلت — أقوى الأسلحة وأمضاها.
لننتقل الآن أيها السادة إلى ميادين الألعاب؛ لنرى أولًا ماذا يفيد منها اللاعب، ولنرى ثانيًا كيف أنها تُمثِّل في صورة مصغرة ميادين هذه الحياة.
ها نحن أولاء نرى بين أيدينا طريقين للألعاب عن طريق الألعاب الفردية وطريق ألعاب الجماعة، فالميدان الأول — ميدان الألعاب الفردية — وأعني بها الألعاب التي يواجه فيها اللاعب الفرد خصمًا واحدًا، هذه الألعاب تُروِّض اللاعب على الشجاعة والصبر، وبذل الجهد، والجرأة، واستخدام الفكر، وحسن التصرف، وتجنب اليأس إذا غُلِب، والتواضع حين ينتصر، والاعتماد على النفس، وخلق الأمل في الصدر، ثم إنكم ترون — أيها السادة — كيف يتعلم الفرد — في هذا الميدان — أقدس الواجبات الاجتماعية التي ترسم له حدود خصمه، وتعلمه أنه خصم شريف وليس عدوًّا، فهو إذا وقع في أثناء اللعب أنهضه، وإذا جُرِح ضمَّده، وإذا انتصر عليه صافحه بقلب صافٍ لا يعرف الضغن ولا الشماتة.
إذا رأيتم أيها السادة كل هذه الأخلاق الفاضلة تنبت وتزدهر وتقطف ناضجة في الحقل الرياضي؛ فاذكروا أن ثمَّةَ صفاتٍ عاليةً أخرى مختفية وراء جدران الملعب الرياضي، وأن أثرها في خلق الرجولة المبكرة لا يقل عن أثر الأخلاق التي لمستموها في شيء، وأعني بهذه الصفات ما يتطبع بها النشء تطبعًا من تلقاء نفسه في أثناء تحضيره لألعابه، إنه ليُروِّضُ نفسه على الحدِّ من رغباتها، والتسكين من قلقها، والكبح من شهواتها، والتضحية بما تنزع إليه من ملذات وصبوات.
ترون أيها السادة أن كل خُلُقٍ من هذه الأخلاق وكل صفة من تلك الصفات إنما هي هي بعينها الأخلاق والصفات التي ينشدها المجتمع في المثل الإنساني الكامل، فإذا ما مُرِّنَ عليها اللاعب وهو صغير، وتأثرت بها نفسه وهي لينة، وفهم روحها منذ حداثته، وأحاطت به جوانبها وهو بعدُ في سن مبكرة؛ لم يعد ثمَّة شكٌّ في أن يصبح هذا اللاعب حين يكبر الرجل الكامل المرتجى، ولن يتغير منه خُلُق ولا صفة وهو ماضٍ في طريق الحياة، فهي ثابتة في نفسه متمكنة من طبعه، إنما الذي يتغير هو محيط حياته فقط، ولن يكون في نظره سوى الميدان الرياضي القديم اتسعت أرجاؤه وتشعبت نواحيه.
ذلك — أيها السادة — ميدان الألعاب الفردية.
فلننتقل بعد ذلك إلى ميدان ألعاب الفرق أو ألعاب الجماعة، ولْنَرَ مرة أخرى ما يفيد منها اللاعب، ومدى آثارها في تكوين الخُلُق.
ويجب ألا يغيب عنَّا — قبل كل شيء — أن كل ما يتأثر به اللاعب الفردي إنما هو متوافر للاعب الجماعة، ثم ماذا تكون ألعاب الجماعة؟ إن هذه الألعاب حركة مشتركة وأداء مشتبك وعمل واحد، وإذن فمثل هذا النوع من اللعب عبارة عن تنظيم دقيق لعلاقة اللاعب بفريقه، كما أنه تنظيم دقيق لعلاقة اللاعب بخصمه، وفي هذا الميدان ينمحي الفرد أمام الفريق، وينمحي الفريق أمام الغاية الكبرى من اللعب، ولكن ليس معنى ذلك فناء الشخصيات اللاعبة، بل إن معناه تحديد عمل هذه الشخصية وتنظيم خطاها وتعيين وظيفتها، فاللعب المنظم يخلق أحسن الفرص، ويهيئ أنسب الظروف لإظهار مقدرة اللاعب؛ ذلك لأنه يجعل عمله ومجهوده مشتبكًا اشتباكًا وثيقًا مع عمل فريقه ومجهوده.
وهكذا — في مثل هذا الميدان أيها السادة — تُنكَر الذات كما ترون، وتتحمل المسئولية عن طيب خاطر، ويُنظَّم عمل الجماعة بين أفرادها من ناحية، وبينها وبين خصومها من ناحية أخرى، وتشيع روح التضامن القوي، ويتجلى مظهر التعاون الوثيق في أروع الصور.
فلا تعجبوا إذن أيها السادة إذا رأيتم بلاد هذه الإمبراطورية كلها تهبُّ هبَّة رجلٍ واحد تحمل السلاح دفاعًا عن مُثُلِها المشتركة العليا، إنما ذلك وحي الملاعب الرياضية الذي بدأ بالفصل المدرسي، ثم بالمدرسة، ثم بالجامعة، ينبعث في الأيام الشداد، ويأخذ يذكِّر من جديد بأن التضامن والمسئولية هما الدِّين القومي لكل بريطاني لزام أن تؤدى فرائضه عند ما يدقُّ ناقوس الخطر.
مع هذا كله لم يترك الإنجليز ميدان اللعب يوجه اللاعب الوجهة التي يراها من غير قيد، ولم يتركوا كذلك للاعب حرية الإفادة من اللعب بلا ضابط، بل إنهم حدُّوا هذه الحرية بحدود، وفرضوا على الميدان قوانين، وركَّزوا الألعاب على قواعد، وأحاطوا اللاعبين بقيود أدبية قد تكون في كثيرٍ من الأحيان مسرفة في القسوة، وجعلوا عمادَ ذلك التشريع الفني الأخلاقَ.
فعلوا ذلك أيها السادة، وبالغوا فيه كما سترون، حتى لقد استهدفوا من أجله لتنديد أكثر البلاد؛ وما ذلك إلَّا لأن تلك البلاد لم تكن تفهم أول الأمر من أسرار الروح الرياضية ما فهمه الإنجليز، ولعلها فهمته اليوم حقَّ الفهم، وفهمت ضمنًا أن هذا الشعب العملي كان على حق حينما عُنِيَ بالألعاب هذه العناية كلها، وحين أحلَّها من برامج تعليمه المحل الأول، وحين لم يعتبرها — كما لا يزال يعتبرها كثيرٌ من الناس — ميادين لَهْو مبتذل، وأنها مضيعة للوقت، ومعينة على بلادة الذهن، بل ومفسدة للأخلاق أيضًا.
وَلْنَرَ الآن ما هي تلك القيود والقوانين التي شرعتها التقاليد الرياضية الإنجليزية، وأحاطت بها الميادين واللاعبين، ولست بذاكر نصوصًا ولا موادَّ، بل إني سأسوق بعض حوادث وقع شيءٌ منها لي، وشيءٌ لغيري، وأشياء عامة أخرى، وأرجو أن يكون فيها غَنَاءٌ، وأن تستخلصوا منها مدى تقدير القوم لهذه الألعاب تقديرًا يتسامى إلى مقام التقديس.
فقد حدث أني لما كنت ملتحقًا بالفريق الثاني لكرة القدم بكليتِي «أكسفورد» أن استقرت الكرة يومًا بين قدميَّ وأنا قريب من المرمى، فأوعز إليَّ رئيس الفرقة ألَّا أمس الكرة وأن أدعها لزميلي الذي كان عن يميني، فلم أفعل وصوبت الكرة نحو المرمى، ولكنها لم تُصِبِ الهدف، وفي أثناء الراحة أقبل رئيس الفرقة عليَّ، وأخبرني أني أخطأت في عدم الاستماع إليه، ولَفَتَنِي إلى ألَّا أخالف أمره مرة أخرى، واتفق في أثناء الشوط الثاني أن استقرت الكرة ثانية بين قدميَّ في اللحظة التي كنت فيها أواجه الهدف، فأوعز إليَّ الرئيس — كما فعل أول مرة — أن أتركها لزميل آخر، فلم أستمع لرأيه، وضربت الكرة ضربة موفقة فأصابت الهدف، وفرحت أيَّما فرح — وكنت إذ ذاك مرشحًا لأن أنتقل من الفريق الثاني إلى الفريق الأول للكلية — وقدَّرْتُ أني لا شكَّ مدركٌ هذه الترقية، وخاصة بعد أن أصبت الهدف ونصرت فريقي، ولكنْ شد ما كان عجبي واندهاشي حينما ناداني الرئيس بعد انتهاء اللعب، وأخبرني أنه يأسف أولًا لعدم إطاعتي للأمر في كلتا الحالتين، ويأسف ثانيًا لأنه يرى نفسه مضطرًّا للاستغناء عني حتى في الفريق الثاني، فجادلته محتجًّا بأني في المرة الثانية أصبت الهدف، وبفضلي انتصر الفريق، فقال لي بصوت هادئ متزن: «قد يكون الانتصار رغبتنا الشديدة في اللعب، ولكن قبل ذلك يجيء النظام.»
وحدث في أثناء المباريات الأوليمبية التي أقيمت بمدينة استكهولم سنة ١٩١٦ أن كان بين أفراد فريق للألعاب الرياضية عدَّاء ماهر ملأت شهرته الأسماع، وأبهر الصحف لما أبدى في فنه من تفوق بعد تفوق، وكان مزمَعًا بالطبع أن تشترك الفرقة في المباراة الدولية، وكان مقدَّرًا كذلك أن يأتي هذا العدَّاء بنتائج ترفع من شأن فرقته وبلاده، وكان محتَّمًا على أعضاء هذا الفريق أن يكونوا في مخادعهم في تمام الساعة العاشرة ليلًا، ولكن لأمر ما تأخر هذا العدَّاء في إحدى الليالي نصف ساعة عن الموعد المقرر للنوم، فما كان من رئيس الفرقة إلَّا أن أعاده فورًا إلَّا بلاده على ظهر أول باخرة أبحرت إليها.
ولعلكم تعلمون أيها السادة أن طالب العلم في جامعة أكسفورد أو كمبردج؛ لَيَعْتَزُّ جِدَّ الاعتزاز إذا ما اختارته جامعته ليمثلها في لعبة من الألعاب الرياضية، وليس من عجب أن يخالجه، وهو الذي يمثل نحوًا من ثلاثة آلاف طالب أو يزيد، شعورٌ خفيٌّ ببطولته الرياضية لتفوقه في هذه اللعبة على أقرانه أجمعين، ولكن هذا الانتخاب الإجماعي لا يكفي لتمتُّع الطالب بشرف المباراة إذا أعوزه جانب ظاهر أو خفي من جوانب الرجولة الحقة، ولا يتردد المسئولون عن الأمر عن التضحية به والتخلية بينه وبين النزول إلى ميدان اللعب مهما كان تفوقه الرياضي والثقة التامة بانتصاره.
فلقد حدث يومًا في جامعة أكسفورد أن كان أحد الطلاب مرشحًا لتمثيل جامعته في لعبة الكركت، ولم يشكَّ أحد منَّا في أن لهذا الطالب زميلًا منافسًا أو في احتمال استبداله بآخر لأمر ما؛ نظرًا لما كان يمتاز به في هذه اللعبة امتيازًا كبيرًا، واتفق في أثناء مباراة تجريبية أقيمت قبل اللعب لانتخاب الفريق الذي يمثل الجامعة أن جاء صاحبنا متأخرًا بعض الوقت عن بدء اللعب، فقد كان متعبًا من جرَّاء سهرة اضطرته إلى أن يطيل في النوم أكثرَ مما يجب، فما كان من رئيس الفرقة إلَّا أن نحَّاه عن اللعب واستبدل به آخر، وكان القانون الذي اعتمد عليه في هذا الحكم الجائر قوله في لهجة حادة: «إذا لم تكن تقدِّر المسئولية في اللعب التجريبي؛ فلا يمكن أن أعتمد عليك إذا ما كنت ممثلًا للجامعة يومًا ما.»
انظروا إلى ناحية أخرى في هذا الموضوع أيها السادة، وقعت لي في حلبة السلاح، فقد كنت ألاعب زميلًا لي في الجامعة فأصبته إصابة لم يفطن إليها الحكم، فمر بها كريمًا، فاندهش صاحبي وهمهم في أثناء اللعب وقال: «ولكنك أصبتني»، قلت له: «إن الحكم لم يفطن لما أصبتُ»، واسترحنا وما كدنا نبدأ الدورة الثانية حتى فتح صدره غير مدافع فأصبته طبعًا، فقال: «لقد أخذت حقك، هيا إذن نتم اللعب.»
أيها السادة
ما أشبه ميادين الحياة بميادين الألعاب كما قلت، بل إنها هي بعينها تلك الميادين الرياضية في صورة أوسع وأرجأ وأفسح، وما نحن الرجال في كل ما نضرب فيه ونتحايل وننشط في مناكب الأرض إلَّا أولئك الصبية أو التلاميذ وهم ينشطون ويتحايلون ويتواثبون في ميادين الألعاب، إن كل ما يعرض لنا في طرق هذه الحياة من شدة ويسر، وضيق وفرج، ونجاح وفشل، إنما عرض لنا يومًا في صورة مصغرة في ميادين الألعاب، وإن كل ما أفدناه من تلك الميادين الرياضية من صفات وأخلاق إنما هو تراث معنوي مستقر في أعماق النفس يظهر أثره في الحوادث؛ فيمدنا بالرأي ويلهمنا الحكمة، ويبعث فينا الهمة ويضيء صدورنا بالأمل، ويملأنا ثقة بالمستقبل، ويدفعنا إلى طلب النصر من الطريق الشريف، وإلَّا فالفشل الشريف أحق وأولى.
قفوا أيها السادة عن كَثَب من حلقة الملاكمة في جامعة، وتمثلوا قصة هذين المتلاكمَيْنِ التي أقصها عليكم، لقد كان أحدهما أكفأ من صاحبه، ولقد أثقل الأكفأ على زميله في الشوط الأول، ونال منه في الشوط الثاني، فأسرَّ إلى مدربه بقوله إنه لا يستطيع المضي في مقاومة خصمه، فقال له مدربه: «تحمَّلْ واستمِرَّ»، وجاء الشوط الثالث، ولكن خصمه القوي لكمه لكمة أوقعته على الأرض يتوجع، فنظر إلى مدربه نظرة يرجو منه فيها أن يعفيه من مواصلة اللعب فحسْبُه ما ألمَّ به، وهنا أهاب المدرب بصوت عالٍ: «اصْمُدْ له واستمر»، فما كان منه إلَّا أن نهض مستجمعًا كل ما له من قوة، ولَكَمَ خصمه لكمة خرَّ من أثرها على الأرض واستسلم، وبذلك انتصر اللاعب الأقل كفاءة بفضل تلك المعجزة النفسية.
مضت بعد ذلك السنون أيها السادة وتركنا الجامعة، وشبت الحرب وانتهت، واتفق أن قابلت ذلك الملاكم المنتصر في أحد شوارع لندن، وسألته عن أمره، فقال إنه انخرط في الجيش وسُرِّح بعد أن خمدت الحرب، وكان أبوه قد أضاع كل ما كان يملك، وتعطل فلا رزق ولا مال، وأظلمت الدنيا في عينيه، ووطَّن نفسه بعد أن باع كل ما كان يملك على أن يبدأ حياة جديدة في إحدى المستعمرات، غير أن نظره وقع عفوًا ذات يوم على صورة له ومدربه القديم بمكتبه، فتذكر من فوره صيحته له «أنِ اصْمُدْ له واستمر»، وكأنها على حد تعبيره هاتف سماوي يسخر من النفوس المستضعفة، فسرعان ما صمد للحوادث، وما لبث بعد ذلك أن وُفِّق إلى عمل وفقه إليه عزمه وأمله وصبره ومثابرته.
وكم من ليالٍ قضيتها في الصحراء — أيها السادة — وأنا مسهد الجفن، شارد الذهن، حيران لا أدري ماذا أصنع، فهناك حين تبعث إليَّ الصحراء من جوفها المجهولِ العاصفةَ السافيةَ، فَتَنْهَدُّ خيمتي وتتعطل أدواتي العلمية، وينضب الماء وينفق الجمل في إثر الجمل، ويُسأل الدليل أين نحن؟ فيقول — وهو كالحالم — الله أعلم، هناك حين تنمحي معالم الطريق، ونكاد ننتهي في كل خطوة إلى قبر، وأسمع همهمة من رجال القافلة، هي ولا شك تذمُّرٌ مكبوت مما تعاني صدورهم من ضيق في هذا المنبسط الرملي الغامض، وتخور قواي ويأخذ مني التعب، فلا أستطيع أن أنقل قدمًا بعد قدم، وأشعر بأن هذا الفراغ المصْفَرَّ الفسيح قد استحال إلى طوق حديدي صغير، أخذ يحتوي رقبتي ويضيق عليها شيئًا فشيئًا، هنالك في أمثال هذه اللحظات، وهي مفارق يسيرة بين حياة مشكوك فيها وموت محقق، هنالك كنت أنتقل من فوق الرمال إلى ملاعبي الرياضية القديمة، وأسكن ساعة إلى ذكريات عزيزة، فأراني قد وقفت من أزمات مواقف تشبه من وجوه موقفي في ذلك القفْر الموحش اللانهائي، وأراني قد تغلبت عليها في النهاية وانتصرت، بماذا؟ بالصبر — أيها السادة — والتحمل، وضبط النفس، وهدوء الأعصاب؛ حتى لا يختل تقديري ويشط فكري، فسرعان ما ألمح قبس الأمل يختلج بين عينيَّ، وما ألبث أن أجمع زمامي وأتغلب على ما يعرض لي من صعاب، وأرى القافلة تستأنف مسيرها على هدًى، وأرى رجالي وقد سرى إليهم المرح فانطلقوا يغنُّون ويتضاحكون.
هناك أثر آخر من آثار الرياضة في النفس، وغلبتها على طبيعة الإنسان، حتى في وقت الخطر، فقد حدث عندما أردت أن أهبط مصر طائرًا أن انكسرت بي الطائرة في بدء الرحلة، فأصلحتها ومضيت بها، فسقطت في إيطاليا وتحطمت، ثم حلقت في طائرة جديدة أخرى، فسقطت في مياه صقلية، واستخدمت طائرة ثالثة كان من حظها أن سقطت هي أيضًا، وعدت إلى مصر على غير متن الهواء؛ لأن رغبةً ملكية كريمة اقتضت ذلك، ترون أن الفشل المتلاحق والتعرض لشر الأخطار لم يكونا أبدًا لِيَثْنِيَاني عن عزمي، ولعل سر هذا الشعور الغريب ملاحظة عابرة كان أبداها لي أستاذ الرياضة بجامعتي في أثناء مباراة الهوكي، وقد غُلِب فريقنا ﺑ ١١ جولًا ﻟ ٣، ولما ذهبت إليه أُبَيِّن له عبث الاستمرار في اللعب، ولا سيما بعد أن أخذ المطر ينهمر، قال لي وعلى شفتيه ابتسامة ساخرة: «تفضلْ، وأَتِمَّ أنت وزملاؤك اللعب إلى النهاية، وهذا ما أتيتم لأجله اليوم.»
هذه الجملة أيها السادة هي التي كنت أسمع دويَّها في أذني بعد أن غادرت إنجلترا بسنين، وهي التي يرجع إليها فضل مواجهتي الموت غير مرة كما ذكرْتُ.
أيها السادة
لئن كان من الميسور أن أبيِّن لحضراتكم في مثل ذلك الوقت المحدود أثر الروح الرياضية في تكوين الأخلاق، فإنه من الصعب أن أبيِّن هذا الأثر في نفسية الشعوب وسائر الأمم، أمَّا الآن وهذه الحرب قد شبت، وحدث من شئونها ما حدث، ووقع من ويلاتها ما وقع، وكان من صروفها ما لم يكن يخطر لأحد منَّا على بال، فإن أمامكم أكبر مثل وأروعه يطالع التاريخ به العالم حين يسجِّل موقف هذه البلاد منها، ذلك الموقف الذي لم تكن إنجلترا مدينة فيه لصفحات الكتب ولا لمنابر الخطابة، ولكن لميادين الألعاب الرياضية.
اضطُرت إنجلترا إلى خوض غمار الحرب — كما تعرفون — وهي غير مستعدة لها، ولكنها حين رأت الواجب يقضي عليها بتجريد السلاح بعد عشرين عامًا من حرب طاحنة عانت فيها ما عانت، ودفعت من الثمن المبهظ ما دفعت، مضت تتحمل التبعة غير ضَجِرة، ونهض الشعب كله، بل وشعوب الإمبراطورية جميعًا نهضة رجل واحد، كل فرد رجلًا كان أو امرأةً، شيخًا كان أو صبيًّا، يسعى في صمت للأخذ بنصيبه وأداء واجبه.
وهكذا الشعوب أيها السادة تردد صدى ميادين ألعابها، فإذا رأيتم لاعبًا في أمَّةٍ من الأمم قد استأثر بالكرة مثلًا، ملتمسًا إعجاب الجمهور به وتصفيقه له، فثقوا أنه إذا كبر ودخل ميادين المجتمع فسيكون فيها كما كان في ميدان اللعب، سيكون الفرد الذي يؤثِر نفسه على الجماعة، ويضحِّي في سبيل أنانيته بكل مثل من المُثُل العليا.
وإذا وجدتم لاعبًا في ملعب من الملاعب يتهرب من المسئولية، ويلقيها على زميل له، ويحتكم إلى الجمهور بطريقة من الطرق مبتغيًا أن يكبره وينتصر له، فاذكروا أنه بمثل هذه الأخلاق سيعيش في المجتمع.
واذكروا كذلك أيها السادة أن أمةً يرضيها أن تسود الفوضى فيها ميادين الألعاب، ويتنصل أبناؤها من التبعات بسهولة لَهِيَ في الواقع أمة منحلة العرى مفككة الروابط.
الأمم مرايا ميادين ألعابها، والشعوب تمثل في حياتها أخلاق لاعبي الرياضة من بنيها.
لا عجبَ إذن أن نرى الإنجليز وهم يسيرون إلى ميادين الحرب، وعلى كل شفة ابتسامة وكل وجه آية الرضا، وكل لسان نكتة ذات معنى.
إن أغرب ما سمع العالم اليوم عن البلاد المتحاربة ما سمع عن مبلغ الاستخفاف الذي يبديه الإنجليز بويلات الحرب وكوارثها، فلقد علقت أندية الجولف بجدرانها نشرات تبيِّن القواعد الجديدة التي أُدخلت على هذه اللعبة، متمشية في ذلك مع ظروف الحرب الراهنة، كأنما هي إجابة غاية في التهكم المُرِّ على ما تحدثه الطائرات المُغِيرة بالبلاد من تخريب وتدمير.
- أولًا: المرجُوُّ من الأعضاء أن يضعوا جانبًا شظايا القنابل إذا ما وجدوها في طريقهم؛ لكي يسهِّلوا بذلك عمل البستاني في تعهُّد الخضرة.
- ثانيًا: إذا ما أُلقيت قنبلة في ملعب الجولف وأحدثت حفرة اعْتُبرت هذه الحفرة كالحفر الصناعية الموجودة بالنادي، ويسري على اللاعبين القوانين التي تسري على حُفَر النادي الأصلية.
- ثالثًا: إذا ما همَّ لاعب بضرب الكرة، ودوَّى صوت قنبلة طائرة معادية، أو سمع صوت قذيفة مدفع مضاد للطائرات فشغله هذا الصوت أو ذاك عن إحكام ضرب الكرة، فللاعب الحق في أن يعيد ضربها، ولكنه يخسر نقطة، ولعل هذه العقوبة جزاء له؛ لأنه سمح لنفسه أن تضطرب ولو بأثر أدوات الموت في الوقت الذي يؤدي فيه عمل مقدس.
وتُذكِّر هذه المسألة بقصة شبيهة لها من بعض الوجوه، فقد كانت بارجة إنجليزية تجوب أنحاء البحر، وكان ربَّانها قد أمر بإقامة مباراة بعد الظهر لبعض الألعاب، واتفق أن ظهرت بعد ذلك بوارج للعدو، ورُئِيَ أنْ لَا مناص من موقعة هائلة بعد قليل، فتقدم خادم القبطان إلى سيده، وهو في غاية من الهدوء، وحيَّاه التحية العسكرية وسأله: «متى يرى سيدي أن تُقام المباراة؟ أَقَبْل الموقعة أم بعدها؟»
أيها السادة
بمثل هذه الروح العظيمة المستمدة من ميادين الألعاب الرياضية يعيش هذا الشعب، ويحافظ على إمبراطوريته المترامية الأطراف.