مساهمة العلماء البريطانيين في تقدم العلوم
لحضرة صاحب العزة الدكتور علي مصطفى مشرفة بك عميد كلية العلوم
يرجع تاريخ الحركة العلمية في الجزر البريطانية إلى عصر النهضة في البلاد الأوروبية،
ونحن
نتصور عصر النهضة على أنه الحد الفاصل بين القرون الوسطى وبين التاريخ الحديث، بين العصور
المظلمة وبين نور المدنية الحديثة، كما أن لفظ النهضة في لغتنا يدل على الحركة بعد السكون
والنشاط بعد الخمول، وفي اللغات الأوروبية تستخدم كلمة
renaissance التي معناها الحرفي الولادة من جديد، والتي
هي نوع من البعث أو النشور، كما استخدمت أيضًا العبارة revival of
learning أي: إحياء العلوم التي تنطوي على معنى العودة إلى القديم في
معارف السلف ودراساتهم ونشرها مرة أخرى بعد طول الغفلة عنها، كل هذه المعاني مجتمعة تصلح
إلى درجة ما من التقريب لتصوير معنى النهضة في تاريخ أوروبا.
ولست أريد أن أخوض في تفاصيل ما حدث في ذلك العصر الهام من عصور التاريخ، وما اشتمل
عليه
من حركات اجتماعية وفكرية وسياسية ودينية، فمن المعلوم أن هذه الحركات قد شملت الإصلاح
الديني، والتحرر من سلطة الكنيسة، كما شملت إحياء الآداب الكلاسيكية، والرجوع بالفنون
الجميلة إلى عهد الإغريق والرومان، وكما شملت أيضًا طائفة من الأحداث السياسية والاجتماعية
نبتت فيها فكرة القومية أو الوطنية وأدَّت إلى نشوء الدولة ذات السيادة بالمعنى الذي
نفهمه
اليوم، فتلاشى نظام الإقطاعيات، وتقلص ظل السلطة الزمنية أو الدنيوية للكنيسة، وتحولت
أوروبا إلى مجموعة من الدول المستقلة على الصورة المعروفة في العصر الحديث، كل هذه أمور
شائعة ومعروفة لا تحتاج مني إلى تبيين، إلَّا أن هناك أمرًا أريد أن أشير إليه؛ لارتباطه
بموضوع حديثي الليلة، ألا وهو أن النهضة وإن أمكن للمؤرخين أن يحددوا لها زمنًا خاصًّا
يشمل
النصف الثاني من القرن الخامس عشر، والثلث الأول من القرن السادس عشر على وجه التقريب،
إلَّا أنها ككل تطوُّر في التاريخ لم تنشأ عن لا شيء، بل قامت على أسباب ومقدمات سبقتها
وأدت إليها، فالعصور الوسطى على ظلامتها قد احتوت على العناصر التي أدى امتزاجها وتفاعلها
إلى النهضة، ومن أهم هذه العناصر وأبعدها أثرًا قيام الجامعات.
وسواء كان منشأ الجامعات راجعًا إلى التقاليد الإغريقية الرومانية في العالم القديم،
أم
إلى التأثير المباشر للثقافة العربية؛ فمن الثابت أن هذه الجامعات قد تأثرت تأثرًا عظيمًا
بعلوم العرب ومؤلفاتهم وما ترجموه من الكتب الإغريقية وما نقلوه عن الإغريق من علومهم،
ففي
النصف الأول من القرن التاسع أرسل قيصر الروم في القسطنطينية إلى الخليفة المأمون في
بغداد
مجموعة كبيرة من المخطوطات الإغريقية، فقام العرب بترجمة هذه الكتب، ثم نُقِلت هذه التراجم
العربية إلى اللغة اللاتينية، واستُخدِمت في التدريس في الجامعات الأوروبية في القرنين
العاشر والحادي عشر وما بعدهما، وأقدم الجامعات الأوروبية جامعة
Salerno بإيطاليا التي يرجع تاريخها إلى القرن التاسع،
وقد بدأت كمدرسة للطب اعترف بها فردريك الثاني عام ١٢٣١ على أنها المدرسة الوحيدة لدراسة
الطب في مملكة نابولي، ويلي جامعة Salerno في القِدَم جامعة
بولونيا التي نشأت كمدرسة للحقوق حوالي سنة ١٠٠٠ ميلادية، ثم جامعة باريس التي أُنشئت
بين
عامي ١١٥٠ و١١٧٠، وجُعِل لها أربع كليات: كلية للدين، وكلية للحقوق، وكلية للطب، وكلية
للآداب، كما جُعِل لها نظام حُذِيَ حذوه في إنشاء الجامعات الأخرى في القرون الوسطى ومنها
جامعتا أكسفورد وكمبردج بإنجلترا.
واللفظ اللاتيني Universitas الذي يدل على الجامعة كان في
الأصل يستخدم للدلالة على كل جمعية أو هيئة، فإذا أريد به الجامعة أُضيفت إليه عبارة
نحو
Magistrorum et Scholarium للدلالة على معنى العلم
والتدريس، ثم تطور الحال حتى صارت الكلمة تدل بذاتها في أواخر القرن الرابع عشر على الجامعة
بالمعنى الذي نفهمه اليوم، وكانت الجامعات تعرف على أنها مدارس عامة Studium Generale وكانت مبانيها على نمط يقصد من ورائه
حماية الطلبة والأساتذة باجتماعهم معًا في صعيد واحد مع المحافظة على الأغراب منهم الذين
كانوا يأتون من بلاد بعيدة لتلقي العلم على النحو المألوف عندنا في الأزهر الشريف، وقد
استقر أمر الجامعات واستتبت نُظُمها في القرون الوسطى، ومنحها الملوك والباباوات حمايتهم
ورعايتهم، وأصدروا المراسيم بإنشائها وتنظيمها، والجامعتان اللتان يهمُّنا أمرهما أكثر
من
غيرهما هذه الليلة هما جامعتا أكسفورد وكمبردج، وأقدمهما أكسفورد، ويرجع تاريخ إنشاء
جامعة
أكسفورد إلى النصف الثاني من القرن الثاني عشر بعد عام ١١٦٨ بمدة وجيزة.
ويظهر أن إنشاء جامعة أكسفورد إنما جاء نتيجة مباشرة لطرد الطلاب والعلماء الإنجليز
الذين
كانوا يدرسون في جامعة باريس حوالي عام ١١٦٧ ولقطع العلاقات بين إنجلترا وباريس في عام
١١٦٧
أو ١١٦٨، مما أدى إلى إنشاء مدرسة عامة أو جامعة في مدينة أكسفورد، أمَّا جامعة كمبردج،
فقد
نشأت بعد جامعة أكسفورد بقليل، ولكن في نفس القرن أي في القرن الثاني عشر، ومع أن كلًّا
من
جامعتي أكسفورد وكمبردج قد نُظِّمتا عند إنشائهما على أساس نظام جامعة باريس، إلَّا أن
تطورهما في القرون الثلاثة الأولى من إنشائهما قد امتاز بميزات خاصة أبعدتهما تدريجيًّا
في
مظهرهما الخارجي ونظامهما الداخلي عن الجامعة التي أنشئا على نمطها، فإنشاء الوحدات
التعليمية التي يسمِّيها الإنجليز Colleges والتي يجب أن لا
نخلط بينها وبين ما يسمونه Faculties قد أكسب كلًّا من
أكسفورد وكمبردج شخصية خاصة تمتاز بها على سائر جامعات القرون الوسطى في أوروبا، وما
يسمونه
Colleges هي وحدات من البناء ينتمي إليها الأساتذة
والطلبة، يتناولون فيها طعامهم، ويسكنها الكثيرون منهم، وأقدم هذه الدور ربما كان
University College, Oxford التي أنشأها
William of Durham عام ١٢٤٩ وBalliol
College التي أنشأها John Balliol والد
ملك اسكتلاندا المسمى بنفس الاسم عام ١٢٦٣، وأقدم دور كمبردج
Peterhouse التي أنشأها Hugh
Balsham أسقف Ely عام ١٢٨٤، ومن سوء
الحظ أن كلًّا من كلمة College وكلمة
Faculty قد عُبِّر عنها في اصطلاحنا الحديث بكلمة
واحدة، وهي كلمة كلية، مع عظم الفارق بين المعنيين؛ فالكلية بمعنى
Faculty هي هيئة معنوية من الأساتذة والطلبة يتخصصون في
دراسة فرع معين من فروع المعرفة كالطب أو كالعلوم أو كالحقوق إلخ، وهؤلاء لا يكونون
بالضرورة مجتمعين في صعيد واحد، أمَّا الكلية بمعنى College
فيحسن أن يعدل عنها إلى لفظ مثل دار أو قاعة أو رواق؛ لأنها تدل على بناء محدود الأرجاء
ينتمي إليه مجموعة من الطلبة والأساتذة ليسوا بالضرورة يدرسون فرعًا واحدًا من فروع العلم،
وتجمعهم روابط اجتماعية وثقافية ليس بينها بالضرورة رباط التخصص في علم واحد، هذه الدور
أو
هذه الأروقة في كل من أكسفورد وكمبردج هي أساس الحياة الجامعية بالمعنى الصحيح، فكل طالب
بل
وكل أستاذ فخور بالدار التي ينتمي إليها حريص على تقاليدها، مطالَب بالمحافظة على نظامها،
وهو في الغالب يحافظ على هذه النظم بروح الولاء مما سيجيء الكلام عنه فيما بعد.
وفي القارة الأوروبية أنشئت جامعات متعددة في القرون الوسطى عدا سيلرنو وباريس؛ منها
مونبلييه عام ١٢٨٩، وتولوز عام ١٢٣٣، وبلد الوليد عام ١٣٤٦، وأشبلييه عام ١٢٥٤، وفيينا
عام
١٣٦٤، وهيدلبرج عام ١٣٨٥، وبودابست عام ١٤٧٥، وفرايبرج عام ١٤٥٥.
ومن ذلك يتضح أن إنشاء الجامعتين الرئيسيتين في إنجلترا حدث في القرون الوسطى، وأنه
كان
حلقة في سلسلة من الحوادث المشابهة في سائر أنحاء أوروبا، فالجامعات إذن ليست وليدة النهضة،
بل سابقة لها ومؤدية إليها، والجامعتان الإنجليزيتان على وجه الخصوص ليستا قائمتين على
الثورة الفكرية، بل على شيء آخر هو أقرب ما يكون إلى الرزانة التي يتميز بها رجال الدين،
وإلى الثبات والتؤدة اللذين تتصف بهما الكنيسة، وفي الواقع إذا رجعنا إلى تاريخ إنشاء
الجامعات في القرون الوسطى نجد أن القائمين بها كانوا في الغالب من رجال الدين، وكان
بعضهم
من الرهبان الذين وهبوا أنفسهم للكنيسة، وكانت الروح المتغلبة عليهم هي روح التقوى وروح
الطاعة وروح النظام، وكانت الدراسات الجامعية في ذلك العهد ترتبط أشد ارتباط بالتعاليم
الدينية، وكانت المسائل العلمية إذا استعصت رُجِع فيها إلى نص من النصوص التي اتُّفِق
على
احترامها كالكتاب المقدس أو كمؤلَّف من مؤلفات بطليموس، فكلما ازداد فهم الطلبة والأساتذة
لهذه الكتب الرئيسية ازداد فهمهم للدين وللعلوم والفنون، ومن أجل هذا كان منطق التعليم
في
القرون الوسطى منطقًا قياسيًّا استنتاجيًّا يُرجَع فيه إلى مقدِّمات مسلَّمٍ بها ثم تؤدي
هذه المقدمات إلى نتائجها المنطقية.
والشيء الذي أريد أن أؤكده، والذي سأشير إليه فيما بعدُ في أمر هذه الجامعات، هو أن
نشأتها كانت محاطة بجو من التقاليد ينطوي على روح المحافظة واحترام التقاليد، كما أن
نُظُمها كانت تنطوي على نفس هذه الروح، فتجعل الأساتذة طبقات أو درجات، منها الكبير ومنها
الصغير، وتوجب على ذي الدرجة الصغيرة احترام ذي الدرجة الكبيرة، فالحاصل على درجة الدكتوراه
مميَّز على غيره، يرتدي أردية خاصة حمراء اللون تشبه أردية الأساقفة، ويحضر مجالس خاصة
لا
يحضرها غيره، هذه الأرستقراطية العلمية المقرونة بالمحافظة الشديدة هي التي أريد أن أوجه
النظر إليها في هذه المرحلة؛ لما لها من ارتباط بما سيأتي ذكره فيما بعدُ عند الكلام
عن
العلم والعلماء في إنجلترا.
ننتقل بعد ذلك من القرون الوسطى إلى عصر النهضة، فنجد شيئًا آخر غير المحافظة وغير
الرجوع
إلى الكتب وغير الخضوع لسلطة الكنيسة، فقد اتضح لكثيرٍ من المفكِّرين أن الكتب القديمة
مهما
كان تقديسنا لها واحترامنا إياها لا يمكن أن تحوي كل ما يمكن الوصول إليه من فروع المعرفة،
وأن في العالم حقائق لا تحصى لمْ تُدَوَّنْ في الكتب ولم تَعِهَا خواطر الأقدمين، كما
اتضح
أن العقل البشري يستطيع أن يصل عن طريق الحواس إلى معرفة ما يحيط بنا من ظواهر الطبيعة،
والعقل البشري يستطيع أن يفعل ذلك بطريقة مباشرة ودون التجاء إلى الكتب أو إلى رجال الكنيسة
أو إلى رجال الجامعات، وقد كان بعض الفلاسفة في القرون الوسطى في أوروبا قد اتجه إلى
هذا
النوع من التفكير، فمثلًا نجد
Roger Bacon الفيلسوف
الإنجليزي الذي عاش في القرن الثالث عشر (١٢١٤–١٢٩٢) نجد أن هذا الفيلسوف المنتمي إلى
جامعة
أكسفورد يتكلم عن حرية الفكر، وعن إمكان الالتجاء المباشر إلى الطبيعة في طلب المعرفة،
وقد
اضطهدت الكنيسة
Roger Bacon كما اضطهدت كل من حدثتهم أنفسهم
بالخروج على سلطتها من العلماء والمفكرين في القرون الوسطى، ويرجع الفضل في بحث الطريقة
الجديدة في الوصول إلى المعرفة وفي تمحيصها ووضعها على أساس ثابت من الناحية الفلسفية
إلى
الفيلسوف الإنجليزي «السير فرنسيس
بيكون»
Sir Francis Bacon الذي عاش (من سنة ١٥٦١ إلى سنة ١٦٢٦) ففي كتابات هذا الرجل الذي
جمع بين صفات متعددة؛ منها صفة الفيلسوف وصفة السياسي وصفة الأديب نجد في كتابات هذا
الرجل
ما يكاد يكون دستورًا كاملًا للطريقة الجديدة في البحث والتفكير، وقد بحث السير فرنسيس
بيكون في كتبه ومؤلفاته في هذا المنطق الجديد منطق الوصول إلى المعرفة عن طريق المشاهدة
المباشرة وبين الطرائق الصحيحة لهذا المنطق، ووضع قواعد عامة لهذا النوع من التفكير،
فخُلِّد بذلك ذكره في تاريخ العلوم وفي تاريخ الفلسفة على السواء، وقد وصف السير فرنسيس
بيكون مواهبه الخاصة وطبيعة عقله، والأغراض التي يرمي إليها وصفًا دقيقًا سأقرؤه على
حضراتكم، قال:
I Found that I was fitted for nothing so well as for the study
of truth; as having a mind nimble and versatile to catch the resemblances of
things (which is the chief point) and at the same time steady enough to fix
and distinguish their subtler differences; as being gifted by nature with
desire to seek, patience to doubt, fondness to meditate, slowness to assert,
readiness to consider, carefulness to dispose and set in order; and as being
a man that neither affects what is new or admits what is old, and that hates
very kind of imposture. So I thought my nature had a kind of familiarity and
relation with truth.
ولا شك في أن هذا الوصف الذي صيغ على صورة نوع من التحليل النفسي يصلح لوصف عقلية
العالم
المدقق، ولتعريف المثل الأعلى لهذه العقلية بصورة لا تكاد تختلف في شيء عمَّا هي عليه
اليوم، وفي كتابه Novum Organum، أو الطريقة الجديدة يقول
ما تعريبه: «إن المنهاج الذي أقترحه للكشف عن العلوم هو بحيث لا يترك إلَّا القليل لحدة
الذهن وقوته، وهو يضع جميع العقول في مستوًى واحد تقريبًا، فكما أنه إذا أريد رسم خط
مستقيم
أو دائرة كاملة الاستدارة كانت النتيجة متوقفة على ثبات اليد التي ترسم وعلى مرانها إذا
كانت اليد ترسم وحدها، أمَّا إذا استخدمت مسطرة أو فرجار فإن جميع الأيدي تكاد تتساوى،
فكذلك في الطريقة التي أقترحها تكاد جميع العقول تتساوى.»
ولا يتسع المقام للبحث في تعاليم بيكون الفلسفية وطريقته الاستقرائية، فإن ذلك مفصَّل
في
كتب المنطق الحديث، ولكنه لا بدَّ من الإشارة إلى أمرين؛ أولهما: أن من الخطأ افتراض
أن
المنطق الاستقرائي قد خلقه بيكون أو خلقته النهضة في أوروبا خلقًا، فمن المحقق أن
أرسطوطاليس قد بحث في هذا النوع من المنطق ووضع له حدودًا وطرائق، كما أنه من المحقق
أن
العرب قد نقلوا عن أرسطوطاليس وأضافوا إليه، وأن كتبهم قد وصلت تراجمها اللاتينية إلى
أوروبا، فمباحث بيكون تعتبر جمعًا وتبويبًا لآراء من سبقوه وإن كانت لا تخلو من كثيرٍ
من
الإضافات والابتكارات التي تدل على قوة شخصية المؤلف وعلو كعبه، والأمر الثاني هو أنه
لا
يجب أن يُفترض أن العلماء والمفكرين لم يكونوا يستخدمون الأسلوب الاستقرائي قبل عصر بيكون،
فالمعرفة البشرية منذ فجر التاريخ كانت دائمًا تُستمَد من المشاهدة المباشرة للطبيعة
عن
طريق الاستقراء المنطقي الصحيح، فوصول أرشميدس إلى قانونه المشهور عن دفع السوائل ووصول
ابن
الهيثم إلى معرفة قوانين الانعكاس والانكسار للضوء، ووصول كوبرنيكوس (١٤٧٣–١٥٤٣) قبل
أن
يولد بيكون إلى وصف حركات المجموعة الشمسية، كل أولئك أمثلة على تطبيق المنطق الاستقرائي
في
تاريخ العلوم، والفضل الحقيقي لبيكون إنما هو في إقراره الطريقة الاستقرائية في التفكير،
وفي مناداته بها، وفي وضعه لها على أسس فلسفية ثابتة، ودعوته الناس إلى استخدامها وتطبيقها
في وقت كانت فيه أوروبا لا تزال متأثرة أشد التأثر بالطريقة القديمة في التفكير، وبالرغم
من
تسلط الكنيسة على كثيرٍ من العقول والأرواح، ولا شكَّ في أن للإنجليز أن يفخروا بالسِّير
فرنسيس بيكون كمؤلف للمنطق الجديد وكمساهم في تأسيس النهضة الفكرية في أوروبا.
وقد أدت مجهودات بيكون الفكرية إلى نشوء فلسفة جديدة في أوروبا؛ فنشأت مدرسة جديدة
من
العلماء والمفكرين، أساسها هذه الفلسفة البيكونية، وكان من الطبيعي أن يتزاور هؤلاء
العلماء، وأن يتراسلوا، وأن يجتمعوا للبحث والتذاكر في هذه الفلسفة الجديدة أو هذه الفلسفة
التجريبية كما سُمِّيت ولا تزال تُسَمَّى، ففي لندن كان بعض هؤلاء الفلاسفة يعقدون اجتماعات
أسبوعية منذ سنة ١٦٤٥ يحضرها بعض الأشخاص الأفاضل الراغبين في استطلاع الفلسفة الطبيعية
وغيرها من نواحي العلوم البشرية، وعلى وجه الخصوص في استطلاع ما سُمِّيَ الفلسفة الجديدة
أو
الفلسفة التجريبية أو على حد التعبير الأصلي:
divers Worthy persons inquisitive into natural philosophy and
other parts of human learning, and particularly of what hath been called the
new philosophy or Experimental Philosophy.
وفي أكسفورد كان يختلف بعض الفلاسفة إلى مسكن الدكتور
Wilkins في Wadaham
College للمذاكرة والبحث، فنشأت جمعيتان: إحداهما الجمعية الملكية في
لندن، والأخرى الجمعية الفلسفية في أكسفورد، ويرجع تأسيس الجمعية الملكية في لندن بصفة
رسمية إلى عام ١٦٦٠، ففي ٢٨ نوفمبر من تلك السنة نُشِرت أول صحيفة لتلك الجمعية، وذُكِر
فيها أنه قد استقر الرأي بعد سماع محاضرة المستر رن Wren —
وهو Sir Christopher Wren فيما بعد — على إنشاء هيئة لدراسة
العلوم الرياضية والطبيعة التجريبية، وأنه قد انتخب ٤١ شخصًا لعضوية هذه الهيئة، واخْتِيرَ
الدكتور Wilkins رئيسًا لها، وجعل رسم الدخول عشرة شلنات،
ورسم الاشتراك في الجمعية شلنًا واحدًا في الأسبوع، وبعد مرور بضعة أيام على هذا الاجتماع
التأسيسي أبلغ Sir Robert Moray أعضاء الجمعية أن الملك
شارل الثاني ملك إنجلترا وافق على نظام الاجتماعات، وجُعِلت Gresham
College مكانًا لعقد اجتماعات الجمعية، ثم صدر مرسوم ملكي بإنشاء
الجمعية، وعُيِّن اللورد Brouncher أول رئيس لها بعد صدور
المرسوم بإنشائها.
فالجمعية الملكية أقدم جمعية علمية بالجزر البريطانية، كما أنها من أقدم الجمعيات
أو
الأكاديميات العلمية في أوروبا، وكلمة أكاديمية مشتقة من اسم حديقة الزيتون التي كان
يختلف
إليها أفلاطون، ولعل أقدم أكاديمية هو أكاديمية الإسكندرية الذي أسسه بطليموس الأول في
القرن الثالث قبل الميلاد، وكان ملحقًا بها مكتبة الإسكندرية المشهورة، وقد تلا إنشاء
الجمعية الملكية بلندن جمعيات أخرى علمية؛ منها جمعية ملكية في
Dublin بأيرلندا، وجمعية ملكية في أدنبره باسكتلندا،
كما أُنشِئت جمعيات لدراسة فروع خاصة من فروع العلم الحديث أو الفلسفة الحديثة، لعل أقدمها
الجمعية اللينية Linnean عام ١٧٨٨ لدراسة علم النبات، وهذه
الجمعية تشتق اسمها من Linnaeus العالم السويدي (١٧٠٧–١٧٧٨
الذي وضع التقسيم العلمي للنباتات، ثم تلا ذلك إنشاء جمعيات لفروع العلم المختلفة، كالجمعية
الفلكية الملكية والجمعية الكيميائية والجمعية الرياضية وغيرها، وتعددت هذه الجمعيات
في
أنحاء الجزر البريطانية، وفي أنحاء الإمبراطورية البريطانية بأسرها.
وإذا كان إنشاء الجمعية الملكية بلندن قد جاء نتيجة للحركة الفكرية المقترنة بعصر
النهضة،
فإن تاريخ هذه الجمعية في الأطوار الأولى من إنشائها يمكن اعتباره ممثلًا لتقدم العلوم
التجريبية في بريطانيا، فكل عالم مبرز من علماء بريطانيا في ذلك العصر كان عضوًا في الجمعية
الملكية أو متصلًا بها، ففي صحيفة الجمعية نجد بتاريخ ٢١ ديسمبر سنة ١٦٧١ أن اللورد أسقف
Sarum، وهو الاسم اللاتيني ﻟ
Salisbury رُشِّح لعضوية الجمعية المستر إيزاك نيوتن Isaac Newton أستاذ الرياضيات بجامعة كمبردج، وقدِ
انتُخِب نيوتن عضوًا في الجمعية في ١١ يناير سنة ١٦٧١-١٦٧٢، وانتخِب رئيسًا لها سنة ١٧٠٣،
وبقيَ رئيسًا لها إلى أن مات عام ١٧٢٧، وقد قامت الجمعية الملكية بطبع كتاب نيوتن المشهور
باسم Principia، وعنوانه بالكامل
Philosophiae Natruralis Principia Mathematica، وهو
المؤلَّف الذي وضع فيه نيوتن أسس علوم الميكانيكا والفلك والطبيعة، ولما كانت الجمعية
الملكية في عسر مالي في ذلك الوقت، فقد أخذ Edmund Halley
الفلكي الإنجليزي صديق نيوتن وعضو الجمعية على نفسه أن يتحمل جميع مصاريف طبع هذا الكتاب
من
ماله الخاص، وكان من أعضاء الجمعية المعاصرين لنيوتن السير كرستوفر رن الذي بنى كاتدرائية
سانت بول المشهورة بلندن وRobert Hooke العالم الطبيعي الذي
ناقش نيوتن مناقشة حادَّة في آرائه، وكان له فضل كبير في مساعدة نيوتن على تحديد نظرياته
العلمية والبرهنة عليها.
وإننا إذا نظرنا إلى تاريخ ذلك العصر؛ أي أواخر القرن السابع عشر وأوائل القرن الثامن
عشر
كجزء من تاريخ الحياة الفكرية في إنجلترا نجد الإنجليز في ذلك الوقت وقد تزعموا حقًّا
الحركة العلمية في أوروبا، وليس معنى هذا أنه لم يكن في القارة الأوروبية علماء مبرزون،
بل
بالعكس كان فيهم الكثيرون أمثال Leibnitz في ألمانيا، وهو
الذي اشترك مع نيوتن في شرف اختراع حساب التفاضل والتكامل
وDescartes وPascal
اللذين اشتركا في تأسيس أكاديمية العلوم في فرنسا، ومع ذلك فلم يكن بين هؤلاء جميعًا
من
أضاف إلى العلوم التجريبية (بصرف النظر عن الفلسفة النظرية) بقدر ما أضاف نيوتن، ولم
تكن
هناك مجموعة من العلماء في أي بلد من البلاد الأوروبية أكثر إنتاجًا من المجموعة الإنجليزية
بزعامة نيوتن.
وقد نتج عن تقدم العلوم التجريبية في أوروبا تقدم عظيم في الاختراع في القرنين الثامن
عشر
والتاسع عشر، فالعلم إن كان نورًا يزيل الشك ويُظهر الحقيقة، فهو في الوقت نفسه، كما
يقول
الإنجليز، قدرة تمكِّن صاحبها من التغلب على قوى الطبيعة، وقد رأينا فيما تقدم أن دراسة
العلوم التجريبية في أوروبا إنما نشأت عن شغف بالمعرفة وحب الاستطلاع، وقامت على أيدي
فلاسفة وعلماء همُّهم الأول الكشف عن حقيقة الكون والوصول إلى أسراره.
ولم يكن هؤلاء العلماء مدفوعين بالرغبة في التسلط على العالم أو التحكم في الطبيعة،
ومع
ذلك فقد أدَّت كشوفهم وما وصلوا إليه من المعرفة لقوانين الكون، أدى ذلك إلى تطبيق هذه
العلوم في خدمة البشر، ففي القرن الثامن عشر اخترِعت الآلة البخارية على أيدي
James Watt (١٧٣٦–١٨١٩) وغيره من المهندسين والمخترعين،
واستخدِمت في الصناعة وفي النقل؛ فبدأ عصر جديد من عصور التطور البشري أساسه العلم
والاختراع، وفي القرن الثامن عشر أيضًا قام في أوروبا ما يسمى بالثورة الصناعية التي
ليست
بثورة تدمير يتقاتل فيها الناس وتُسفَك فيها الدماء وتُستخدَم فيها الأسلحة المهلكة،
وإنما
هي ثورة آلات من نوع آخر هي الآلات البخارية، وسائر العِدَد والأدوات المستحدثة التي
دخلت
في الصناعة، فحلَّت محل الأدوات البسيطة الابتدائية التي كانت تُستخدَم في العصور السابقة،
وبذلك ازداد الإنتاج فازدادت الثروة، وأُعيد تنظيم المجتمع على أسس جديدة، ومن المسلَّم
به
أن بريطانيا العظمى كانت زعيمة لأوروبا في الثورة الصناعية، وأن كثيرًا من الممالك
الأوروبية قد نقل عنها أساليبها ووسائلها في تقدم الصناعة، وقد نقل البريطانيون علومهم
واختراعاتهم إلى بقاع كثيرة في الأرض كأستراليا وزيلاندا الجديدة وشمال أمريكا، فاستطونوا
هذه البلاد، وألفوا فيها الجمعيات العلمية والمصانع، ونظَّموا حياتهم فيها على نمط الحياة
في بريطانيا، وفي عصرنا الحديث نجد أن الجامعات التي نشأت في القرون الوسطى قد تقبلت
العلم
الحديث فأضافته إلى برامجها، ونجد أن هذه الجامعات قد تعددت حتى تكاد توجد جامعة في كل
بقعةٍ من بقاع الجزر البريطانية، وفي كل جزءٍ من أجزاء إمبراطوريتها المتسعة الأرجاء،
فهذه
الجامعات التي نشأت كما رأينا تحت سلطة الكنيسة في القرون الوسطى قد تطورت مع الزمن حتى
صارت عاملًا من أهم عوامل التقدم العلمي والصناعي، والأكاديميات العلمية التي نشأت لأغراض
فلسفية بحتة قد تعددت هي أيضًا وتنوعت، وصار كل منها يرتبط بالحكومة وبالصناعة وبالمجتمع
بأربطة قوية حية، وصار البحث العلمي ينقسم إلى قسمين رئيسيين: بحث علمي أكاديمي من نوع
أبحاث السير إيزاك نيوتن، وهذا يرمي إلى إنماء المعرفة البشرية من حيث هي معرفة خالصة،
وبحث
صناعي أو تطبيقي يرمي إلى تقدم الصناعات وحل مشاكلها الفنية، وتُطبَّق فيه النتائج العلمية
على الاختراع وتحسين الآلات وزيادة الإنتاج، وأدرك رجال الصناعة ورجال العمل والمهندسون
أن
لا سبيل إلى تقدم صناعاتهم وأعمالهم إلا عن طريق تقدم العلم ذاته، فقام الأغنياء منهم
أمثال
السير Alfred Yarrow بمنح الجمعية الملكية أموالهم لتُخصَّص
للبحث العلمي المحض، وقد وهب السير ألفريد الجمعية ١٠٠٠٠٠ جنيه إنجليزي يُخَصَّص رِيعُها
لإنشاء خمسة أستاذيات للبحث، لا يطالَب من يُمنَحُها بأكثر من الاستمرار في بحثه العلمي،
وقامت الحكومة البريطانية منذ عام ١٩٢٠ بمنح الجمعية الملكية مبلغ ٦٠٠٠ جنيه سنويًّا
تخصَّص
للبحث العلمي، كما رصدت في ميزانية الدولة إعانات كبيرة لكل من جامعتي أكسفورد وكمبردج
ولكثيرٍ من الجامعات الحديثة كجامعة لندن دون أن تتطلب الحكومة من هذه الجامعات أي تغيير
في
نُظُمها أو وسائلها، وليس هذا إلَّا قليلًا من كثيرٍ مما وقف في بريطانيا وسائر أنحاء
البلاد البريطانية على العلم والبحث العلمي، فمن مكافآت تُخصَّص للمتفوقين من الطلبة
في
الجامعات وإعانات مالية للباحثين من العلماء ومن ميداليات وجوائز سنوية تُمنَح تقديرًا
للإنتاج العلمي، وغير ذلك من وسائل التشجيع والتعضيد.
سبقت الإشارة إلى دور جامعتي أكسفورد وكمبردج أو أروقتها
Colleges وما كان لها من أثر في تطور الحياة العلمية
والاجتماعية في هاتين الجامعتين، وأن الذي يزور هذه الدور ويلمس الحياة فيها لَيَشْعُرُ
بهذا الأثر واضحًا، فالتقاليد الموروثة عن القرون الوسطى وعقلية هذه القرون من احترام
للقديم ومحافظة على التقليد، كل هذه تكاد تُلمَس في دور أكسفورد وكمبردج، وتعدد هذه الدور
ينشئ مجالًا للتنافس بينها، التنافس في العلم والتنافس في الرياضة البدنية والتنافس في
المحافظة على مستوًى عالٍ من السمعة وحسن الشمائل، ثم إن وجود جامعتين متناظرتين متنافستين
مثل أكسفورد وكمبردج كان له أبعد الأثر في تقدم الحياة الفكرية والاجتماعية في إنجلترا،
بل
وفي سائر أنحاء البلاد البريطانية، وسباق التجديف الذي يُعقَد سنويًّا بين جامعتي أكسفورد
وكمبردج على نهر التيمس إنما هو رمز على التسابق بين الجامعتين في جهودهما المختلفة،
وربما
ظهر لأول وهلة أنني أُقْحِم الخُلُق في محاضرة علمية، وأنْ لا علاقة بين تكوين الخلق
في
الجامعات البريطانية وبين تقدم العلم، إلَّا أن هذه النظرة السطحية نظرة، ولا شكَّ، خاطئة؛
فالعمل في الميدان العلمي كالعمل في أي ميدان آخر يتطلب صفات نفسية وخلقية لا نجاح له
بغيرها، وإنني أذكر أنني كنت أزور مرصد جرنتش القريب من مدينة لندن بإنجلترا، وهو المرصد
الرئيسي في تلك البلاد، وكان مدير المرصد في ذلك الوقت Sir Franck
Dyson يصحبني في هذه الزيارة، فأراني المنظار الذي يرقبون به النجوم في
مستوى الزوال، وأخبرني أن هذا المنظار قديم يرجع صنعه إلى نحو مائتي سنة، ثم ذكر لي أن
بعض
المراصد في أمريكا قد جُهِّز بمناظير حديثة الصنع يستطيع الراصد بها الضغط على زر كهربائي
أن يحرك أرض الغرفة التي يرصد منها أو وضع الكرسي الذي يرصد عليه، بحيث لا يجهد جسمه
ولا
عضلاته في عملية الرصد، في حين أن الراصد في جرينتش مضطر إلى اتخاذ أوضاع جسمانية مجهدة
وغير مألوفة، كأن يستلقي على ظهره مثلًا ليتمكن من عملية الرصد، وقد ذكر لي السير فرانك
هذه
الحقيقة بشيءٍ كثيرٍ من الفَخَار والزهو على المراصد الأمريكية؛ إذ هو على حدِّ قوله
يستطيع
في جرينتش بآلته العتيقة أن يصل في الرصد إلى نتائج لا تقل دقةً وإحكامًا عمَّا تصل إليه
المراصد الأمريكية بآلاتها الحديثة، وأظنكم تسلِّمون معي أن هذا الخُلُق الذي ينطوي على
روح
التغلب على الصعاب خليقٌ بأن يكون له أكبر الأثر في نتائج البحوث العلمية.
لعل بعض حضراتكم كان ينتظر مني وأنا أتكلم عن مساهمة العلماء البريطانيين في تقدم
العلوم
أن أسرد أسماء هؤلاء العلماء، أو على الأقل البارزين منهم أمثال فَرَداي وداروِن ولِستَر،
وأن أصف بحوثهم العلمية وما كان لهذه البحوث من أثر في تقدم العلم، ولكن هذه المهمة لا
يمكن
القيام بها في ساعة أو بعض ساعة من الزمن، حتى ولا على سبيل التلخيص، فالعلوم التجريبية
متسعة الأرجاء، منها ما أزعم أني أفهمه، ومنها ما لا أزعم أني أفهمه، وتاريخ هذه العلوم
منذ
القرون الوسطى يمتد أجيالًا عديدة، وعلى أية حال فإن أسماء البارزين من العلماء الإنجليز
في
العصور المختلفة تكاد لا تكون مجهولة لأحد.
وإنما أردت في حديثي هذا أن أشير إلى منشأ الحركة العلمية في إنجلترا، والأطوار الرئيسية
في تاريخها، وبعض الصفات التي رأيتها مميزة للبريطانيين في مجهوداتهم العلمية، فلعلِّي
أكون
قد وُفِّقت في ذلك، والسلام.