خطوط في خارطة المحسوس
«إن الفن هو الأمر الأعلى شأوًا عند الفيلسوف، من أجل أنه يفتح له أقدس الأقداس، حيث يحترق كما في شعلة، في وحدة أبدية وأصيلة، ما يوجد في الطبيعة والتاريخ منفصلًا، وما ينبغي أن يفرَّ من نفسه بشكل أبدي في الحياة والفعل، كما في الفكر».
«الرسم مثل الحبِّ يبدأ من خلال العينين ويسري في الشعيرات القصيرة لفرشاتي.»
سنبدأ باقتراح خريطة جمالية هي بمثابة رسم طوبوغرافي بأهم النماذج الفلسفية الحديثة التي تشتغل تحت راية المحسوس الجمالي منذ ظهور براديغم الاستطيقا على يد بومغارتن إلى بيان من أجل اللاستطيقا مع باديو.
ونكتفي هنا بمدِّ القارئ العربي بجملة من الأفكار الجمالية هي بمثابة الأحداث الكبرى التي ولدت داخل الحديقة الواسعة للعقل الجمالي الحديث بعامة.
-
الفكرة الأولى: بومغارتن وتأسيس «العلم
بالمحسوس»: مع ألكسندر غوتليب بومغارتن (١٧١٤–١٧٦٢م) يظهر
العلم بالمحسوس تحت عنوان الاستطيقا (١٧٥٠م) وهو عنوان كتاب
لبومغارتن في جزأين. وفي هذا الكتاب يقع الإعلان عن
الاستطيقا بما هي «علم المعرفة الحسية»؛ أي «علم
الفن المماثل للمنطق». لكنَّ الأمر لا يتعلق
بالملكة الحاسة بما هي قادرة على إنتاج أحكام
جمالية، إنما تمتدُّ الاستطيقا إلى الملكة الشعرية
أيضًا التي تقوم على المخيِّلة بوصفها «أرغانون
المحسوس». يتعلق الأمر بنوع من المصالحة بين
الحقيقة الحسية والحقيقة الشعرية وهي مصالحة وسَّعت
من مجال الفلسفة فجعلت الجماليات تنضمُّ إليها. لقد
أراد بومغارتن إخضاع الجمال إلى «الحكم الحسي» الذي
يعتبره ملكة حكم مماثلة للعقل. وانطلاقًا من هذا
التصوُّر يقع تعريف الجمال بما هو «اكتمال المحسوس»
أو هو أعلى درجاته. ثمة نوع من الجمال الكوني داخل العلم
بالمحسوس بحيث يعكس جمال الأثر الفني جمال العالم
نفسه. لا تقتصر الاستطيقا عند بومغارتن على إنشائية
خاصة بالفنون فقط بل هي تمتد إلى كل مجالات الإحساس
والتمثُّل والتخيُّل.
إن «الاستطيقا — وفق تعبيره — (غنوصولوجيا دنيا، فنُّ جمال الفكر، الفنُّ المماثل للعقل) هي علم المعرفة الحسية.»١ والمقصود من ذلك هو أن المعرفة بالمحسوس تتَّخذ أشكالًا متعددة فهي تمتدُّ إلى استعمالات فيلولوجية، تأويلية، تفسيرية، خطابية، كلامية، شعرية وموسيقية … إلخ.٢ ويعتبر بومغارتن أن الاستطيقا هي نوع من التربية المستنيرة التي تدرب النفس على المعرفة الحسية الجميلة. وذلك يعني أنه ثمة ضرب من أناقة المعرفة ولطافتها في أفق ما يسمِّيه (ضمن الفقرة ٥٨) «الفن المستنير». وهو فنٌّ يهدف إلى بناء «ثقافة جميلة مستنيرة» بوسعها أن تقترح «معرفة أكثر دقة إزاء موضوعات الفكر الجميل».٣ ويعرِّف بومغارتن هذا النوع من الثقافة الجمالية قائلًا: «إن الأقسام الأساسية للثقافة الجميلة المستنيرة هي الحقول المذهبية التي تشتغل على الله والعالم والإنسان»٤ ها هنا تصير الاستطيقا لدى بومغارتن إلى نوع من الفلسفة الأولى؛ فهي ليست فقط نظرية في الفنون بل هي ميتافيزيقا خاصة بكل فكر جميل. إن الأمر يتعلَّق برابطة عميقة بين الأنوار والاستطيقا. وهو ما نعثر عليه تحت قلم بومغارتن في الفقرة ٦٧ من كتاب الاستطيقا: «إننا لا نطلب من الاستطيقي أن يكون عالمًا كونيًّا، إنما نطلب منه فقط أنوارًا لثقافة عامة.»٥
-
الفكرة الثانية: يُعتبر كتاب نقد ملكة
الحكم (١٧٩٠م) لكانط بمثابة لحظة
تأسيس حاسمة لبراديغم الاستطيقا؛ وذلك بإعلان كانط
عن استقلالية ميدان الجميل عن حقل المنطق وعن حقل
الواجب الخلقي معًا. ونحن نعتبر أن ملكة الحكم على
الجميل التي رسم معالمها كانط في كتاب النقد الثالث
هي ملكة المحسوس بامتياز. وذلك في معنى دقيق تمامًا
هو ما قصده كانط في الفقرة ٤٠ من هذا الكتاب. يتعلق
الأمر بمفهوم الحسِّ المشترك بما هو المفهوم
النموذجي الذي ارتضاه كانط راية كبرى لعلاقتنا
بالمحسوس الجمالي. محسوس يثيرنا بجماله فيبعث في
ذواتنا حسَّ الاشتراك في الإنسانية. لم تعد العلاقة
بالمحسوس تقع من جهة تحويله إلى موضوع علم مماثل
لعلم المنطق، مثلما راهن بومغارتن على ذلك. مع كانط
صار للمحسوس دلالة أخرى: إنه موضع اشتراك بين أعضاء
الإنسانية قاطبة.
إن فكرة الكونية الجمالية التي اكتشفها كانط منذ الفقرة الثامنة تحديدًا من كتاب نقد ملكة الحكم (١٧٩٠م) هي بمثابة الرحم الفلسفي الأول الذي وُلد فيه كل النقاش الجمالي الحديث حول أهمية تهذيب ذائقة بشرية كونية من أجل تدرب رمزي على مواطنة نشيطة في عالم يتسع للجميع وإن أهم ما نخرج به من لحظة كانط هو فكرة حسٍّ مشترك جمالي يجمع بين البشر في تعددهم واختلافهم.٦
-
الفكرة الثالثة: يتعلق الأمر برسائل حول
التربية الجمالية للإنسان٧ بتاريخ ١٧٩٤م لكاتبها الفيلسوف
الألماني شيلَّر، وهي رسائل يمكن اعتبارها بمثابة
أهمِّ منعرج سياسي حاسم لبراديغم الجماليات
الحديثة. وقد كتب شيلَّر هذه الرسائل مباشرة تحت
راية الجماليات الكانطية بحسب اعترافه هو نفسه. وفي
هذه الرسائل يحرص شيلَّر على إمكانية المصالحة بين
المحسوس والمعقول. يتعلق الأمر بمصالحة الإنسان مع
شكل من الحياة الحرة المتناغمة مع الطبيعة. إن
شيلَّر ينجز بمشروعه في التربية الجمالية ما كان
مجرَّد حلم أو أمل أو بشرى كانطية؛ أي: إمكانية
العبور فوق الهاوية التي كانت تفصل المحسوس عن
المعقول والنظري عن العملي في كتاب نقد ملكة الحكم
لكانط. سيقع التحوُّل من فكرة الذات بوصفها حسًّا
مشتركًا بقابلية تفكُّرية للتواصل، إلى فكرة جماعة
مشتركة متصالحة مع الجمال عقلًا وحسًّا.
إن مشروع شيلَّر في التربية الاستطيقية للإنسان يهدف إلى مصالحة البشر مع غرائزهم ومثلهم العليا؛ أي المصالحة بين الإنسان الحاسِّ والإنسان العاقل؛ وذلك في أفق ما يسمِّيه شيلَّر «الدولة الاستطيقية» وهي دولة حرة بين بشر أحرار تتحقَّق فيها مملكة الجمال والعدالة المثالية. ثمة أزمة ما في الحداثة لا يمكن علاجها حسب مشروع شيلَّر إلَّا ببرنامج تربوي سياسي استطيقي يهدف إلى إعادة ترتيب فوضى الإنسان الحديث. إن الأمر يتعلَّق على حدٍّ مفهوم أثار هابرماس «بثورة في الإحساس».
-
الفكرة الرابعة: مع الفيلسوف الألماني شيلنغ سوف يقع تمجيد الفن
والارتقاء به إلى أعلى مراتب الشرف الفلسفي بوصفه
«أرغانون الفلسفة الحقيقي والوحيد». وقد وقع اعتبار
دروسه حول فلسفة
الفن (١٧٩٩م) بمثابة المعالجة النسقية
والمنفردة وغير المسبوقة لفلسفة الفن بديلًا عن
براديغم الجماليات. ذلك أن الفن حقيق بأكثر من علم
وصفي للمحسوس لذلك يفتتح شيلنغ فلسفة الفن بما هي
تمنح منزلة أساسية للفنِّ داخل نسق الفلسفة نفسها.
سوف يقع اعتبار الفن لدى شيلنغ شكلًا للمطلق وأن
فلسفة الفن هي «علم الكل في شكل الفن» أو هي «عرض
العالم المطلق في شكل الفن» أو هي «الكون في هيئة
الفن». فالكلِّي — أي المطلق — لن يكشف عن نفسه إلا
في صلب التشكيل الجمالي؛ وذلك يعني وفق عبارات
شيلنغ نفسه أن «الفن لا يحدس الجميل الأصلي إلَّا
في الأفكار بوصفها أشكالًا جزئية، ولكن حيث إن كل
واحدة منها هي بالنسبة إلى ذاتها إلهية ومطلقة،
وبدلًا من أن الفلسفة تحدس الأفكار كما هي في
ذاتها، فإن الفن يحدسها بشكل واقعي.»٨
إن هذا التمجيد العالي للفنِّ بوصفه تجسيدًا للفكرة الفلسفية في أقصى ما تملك من قوة، يصل لدى شيلنغ إلى حدِّ اعتبار «الأفكار … هي قُماش الفن … التي منها فقط تخرج كل الأعمال الفنية الجزئية بوصفها نباتات تامة. وهذه الأفكار الواقعية والحية هي الآلهة … وفي الواقع فإن آلهة كل ميثولوجيا ما هي بشيء آخر سوى أفكار الفلسفة» … إن العمل الفني يمسك بكل ما في الحقيقة من القوة بل هو ينقل الفكرة الفلسفية إلى حضن العالم … وقد وقع اعتبار شيلنغ في دفاعه عن الطابع الرمزي للفن وعن توليفه بين الحسي والعقلي بأنه قد فتح الطريق أمام الفن المجرَّد.
يقول شيلنغ: «إذا كان الحدس الجمالي لا يعدو أن يكون هو الحدس المتعالي الذي صار موضوعيًّا، فإنه يُفهم من نفسه أن الفن هو الأرغنون الحقيقي والأبدي الوحيد، كما في الوقت نفسه الوثيقة الوحيدة للفلسفة، التي تسجل دائمًا وأبدًا من جديد ما لا تستطيع الفلسفة أن تعرضه بشكل خارجي، … لذلك تحديدًا هو الأمر الأعلى شأوًا عند الفيلسوف، من أجل أنه يفتح له أقدس الأقداس، حيث يحترق كما في شعلة، في وحدة أبدية وأصلية، ما يوجد في الطبيعة والتاريخ منفصلًا، وما ينبغي أن يفرَّ من نفسه بشكل أبدي في الحياة والفعل، كما في الفكر … وما نسميه طبيعة إن هو إلا قصيدة، تثوي مستغلقة في كتابة عجيبة ملغزة. ولو أمكن أن يكشف اللغز عن نفسه، إذن لكنا تعرفنا فيه على أوديسة الروح، وهو مفتون بشكل رائع، باحثًا عن ذاته، يهرب من نفسه، وذلك أنه عبر عالم الحس إنما تلمع، كما المعنى من بين الكلمات فحسب، كما من وراء ضباب نصف شفاف، بلادُ الخيال التي نصبو إليها. كل لوحة باهرة إنما تولد بوجه عام عندما يتم رفع الحاجز غير المرئي الذي يفصل العالم الواقعي عن العالم المثالي، وإن هي إلا الفتحة التي من خلالها تبرز كلية جميع الهيئات وكل الجهات في عالم الخيال، والتي لا تلوح عبر العالم الواقعي إلا ناقصة. ليست الطبيعة عند الفنان أكثر مما هي عند الفيلسوف، إذ هي ليست سوى العالم المثالي الذي يظهر بحدوده الدائمة، أو ليست سوى الانعكاس الناقص لعالم يوجد ليس خارج ذاته بل في صلب ذاته.»٩ -
الفكرة الخامسة: تتعلق بلحظة الفيلسوف الألماني الشهير هيغل؛
حيث يقع ترتيب علاقة الفنِّ بالمحسوس ترتيبًا
مغايرًا: حيث لم يعد الأمر يتعلق بثنائيات الفلسفة
الكانطية من قبيل ذات-موضوع، مفارق-محايث، إمبيري،
ترنسندنتالي، داخل حدود العقل – خارج حدود العقل،
إنما دخلت الفلسفة ورشة جديدة تمامًا هي ورشة
الفينومينولوجيا. هي فينومينولوجيا الروح التي ترصد
تجلِّياته ومساراته، لحظات اغترابه وتناقضاته
وجدله، أشكال وعيه ومظاهر المطلق الذي يسكنه … ما
يثيرنا في جماليات هيغل التي اعتبرها هيدغر أهم
لحظة في الجماليات الحديثة هو تلك العلاقة المُلغزة
بين الفن والدين وبين الفن والروح. فالفن عند هيغل
هو على حد عباراته: «ضرب من الدين». والمقصود بذلك
هو أن العمل الفني إنما هو «الروح المطلق» وقد
تجلى. وذلك يعني تحديدًا أنه قد صار فعلًا أو عملًا
في معنى لحظة تطابق بين الشكل والمضمون. فالفن يجلي
الرُّوح الذي يسكنه وهذا الروح هو روح شعب ما وقد
أودع مقدَّساته ومطلقه ضمن أعماله الفنية. إن الفن
هو بمثابة «لحم المطلق وجسده»؛ كما في الأهرامات
المصرية أو التماثيل اليونانية أو الكتب المقدسة
بوصفها «الشعر المطلق» أو الله وقد تجسد في
الكلمة.
يميز هيجل بين ثلاثة أشكال من الفن هي بمثابة لحظات تطور الروح في تجلياته عبر تاريخه الكبير هي؛ أولًا: الفن الرمزي القديم السائد في الحضارات الشرقية المصرية والهندوسية وهو من قبيل الفن البدائي وهو فنٌّ يعاني، بحسب هيغل، من عدم عثور المضمون على الشكل المناسب المتطابق معها، ويعتبر هيجل هذا الفن الشرقي القديم فنَّ الرائع أي ذاك الفن الذي لم يدرك فكرة الجمال نفسها. وهو فنٌّ جامح مسرف موحش لا يرقى إلى مستوى الفن نفسه. ثانيًا: الفن الكلاسيكي وهو الفن اليوناني الذي أدرك فيه الجمال صورته المناسبة لتجلِّي الروح. وثمة ثالثًا الفن الرومانسي الذي لا يعجب هيجل في نسخته الرومانسية المعاصرة له؛ لأنه ذهب إلى «حد الخروج عن حدود الفن عبر اختراع مفزع لمضامين خاوية بقدر ما أن الأشكال المناسبة لها خيالية وعقيمة.»١٠ فالفن الكلاسيكي هو فحسب من أدرك بشكل سعيد مقام التوافق بين الفكرة ومضمونها الجمالي. أما الفن الرومانسي فقد بقي في اعتبار هيغل «مدفوعًا بروحانية خارقة؛ خارقة بسبب أنها بذلك … تجمع وتفكك المحسوس، بدل أن ترتفع، من خلال الطبيعة التي أخذت صبغة الآلة والتقنية، إلى مستوى الحوار الجدي للأرواح.»١١يعتبر هيغل أن الغاية العليا من الفن هي «أن يرفع النقاب عن الحقيقة في صورة التشكل الفني المحسوس، وأن يعرض هذا التضاد الذي تمت مصالحته» بين الوعي بالحرية والواقع. فالفن لا يهدف إلى تجسيد المحسوس والمكوث فيه بما هو محسوس، بل «أن ينفي المحسوس في المحسوس ذاته كما في ضرب من الاستباق العيني للحرية …» إن الأمر يتعلق لدى هيجل «بالتطهير التدريجي» من كل حامل محسوس، حتى يبلغ المرء إلى حد الصوت المتمفصل للشعر، حيث يمنحنا الهواء «الميدان الأكثر شفافية».١٢ لكن ما الذي يجليه لنا العمل الفني؟ إنه لا يجلي روحًا واضحًا متميزًا بل هو الروح المخيف الملهم الملغز. لذلك فوظيفة فلسفة الفن هي أن تجلي هذا الروح وأن تجلبه إلى النور وأن تكشف عمَّا يحتجب داخله. إن المطلق يمنح لنا نفسه في العمل الفني وفيه يتعلم هو نفسه كيف يعرف نفسه بما هو روح. أما المطلق فلم يعد يقيم في عوالم مفارقة لعالمنا إنما هو ينخرط ضمن عالمنا ويوجد بيننا. ها هنا يدرك الفن منزلة خاصة جدًّا: التعبير الحسي عن المطلق. لكن هذا النوع من العلاقة مع المطلق قد صارت شأنًا من شئون الماضي. ذاك هو معنى أطروحة نهاية الفن عند هيجل. يقول هيجل: «إن الفكر والتفكر قد تجاوز طور الفن الجميل … إن الفن لم يعد يحقق ذلك النوع من الإشباع للحاجات الروحية، التي كانت العصور والشعوب الأقدم عهدًا تبحث عنها فيه ولم تجدها فيه أبدًا، رُب إشباع هو، على الأقل من جهة الدين، متواشج مع الفن كأعمق ما يكون.»١٣
- الفكرة السادسة: إن أهم ما وقع في القرن التاسع عشر داخل حديقة الجميل هو تنشيط نيتشه لفكرة الأعراس الديونيزية. وذلك يعني أن إعادة تنشيط التراجيديا اليونانية ضد الذات الكانطية الحديثة قد وقع من أجل الدفع بالجماليات إلى علاقة حميمة بالحياة. إن استعادة ديونيزوس.١٤ نموذجًا للتصالح مع الجسد يحول الجماليات إلى ميتافيزيقا للفن بوسعها أن تذهب بعيدًا في مهجة الإنسان إلى ما فوق الإنسان؛ أي نحو درجات الإبداع القصوى. يتعلق الأمر بتنشيط النموذج اليوناني للحياة؛ أي نموذج الإنسان التراجيدي ضد نموذج الإنسان النظري: هيرقليطس ضد سقراط.
- الفكرة السابعة: لقد شهد القرن العشرون منعرجًا جماليًّا حاسمًا. وبوسعنا أن نميز فيه بين من ذهب في حدوسات كانط وشيلَّر إلى أقصاها ونقصد بذلك كل رواد المعقولية الجمالية التواصلية الذين اشتغلوا تحت راية فلسفة هابرماس بخاصة. وهناك من ذهب في حدوسات نيتشه إلى أقصاها بأن جعل من الفن ميدانًا للحقيقة من قبيل هيدغر ومن سار في ركبه من جماعة التأويلية (غادامار). وهناك صنف ثالث دفع بفلسفة نيتشه إلى نمط فلسفي آخر من التفكير بحقل الفنون من قبيل من نسميهم فلاسفة الاختلاف؛ أي ليوتار ودريدا ودولوز. وهناك صنف رابع جمَّع على نحو طريف بين حدوسات كانط وشيلَّر وماركس ونيتشه معًا. وقد وقع الدفع بمفهوم الكونية الجمالية مذاهب شتى من قبيل فكرة «الذات الجمالية الجماعية» لأدرنو أو فكرة الفن من أجل الجماهير لبنيامين أو فكرة الشيوعية الأدبية لنانسي أو فكرة تقاسم المحسوس لرنسيار أو «الفن ملك للجموع» لنيغري.
- الفكرة الثامنة: تمثل مساءلة هيدغر لأصل الأثر الفني منعرجًا فلسفيًّا جوهريًّا للسؤال عن علاقة الفن بنمط إقامتنا في العالم. والطريف في هذه المقاربة هو تحرير الفن من استطيقا الذوق الكانطية ومن جماليات العبقرية النيتشوية. لا يدين الفن بماهيته لا إلى الفنان وإلى المتفرج إنما ينبغي أن نولي وجوهنا صوب الأثر الفني نفسه بما هو منبت الفن وحدوثه الفعلي معًا. ويعتبر هيدغر أن الفنان نفسه «يبقى إزاء الأثر لا مكترث له يكاد يكون كمثل معبر إلى مخاض الأثر يسلب نفسه بنفسه أثناء الخلق.»١٥
-
الفكرة التاسعة: مع ولتر بنيامين وكتاب الأثر الفني في عصر الاستنساخ التقني (١٩٣٦م)١٦ نشهد على أطروحة تسييس الفن وانفتاحه
على الجماهير، ضد الدولة الكليانة التي تسعى دومًا
إلى تجميل الواجهة السياسية للترويج لمصالحها، يدعو
بنيامين إلى ضرورة أن يصبح الفن أداة تحرر سياسي من
الاستغلال والقمع المسلط على الأفراد في ظل الدولة
الكليانية. ينطلق بنيامين مما يسميه دخول الفن في
عصر الاستنساخ التقني، وهو حدث جعل الفن يفقد هالته
التي كانت له. إن التقدم التقني المذهل في الحضارة
المعاصرة وظهور فنِّ التصوير؛ أي القدرة على
الاستنساخ اللامتناهية، قد غيرت من ماهية الفن
نفسه. يحيل بنيامين على نص لفاليري منذ بداية كتابه
يقول: «إن فنوننا الجميلة كانت قد أُنشئت … في زمن
يختلف شديد الاختلاف عن زمننا، ومن طرف أُناس كانت
قدرة سيطرتهم على الأشياء لا أهمية لها بالنظر إلى
القدرة التي لدينا نحن. بيد أن النمو المذهل
لوسائلنا، مرونتها والدقة التي أدركتها، الأفكار
والعادات التي أدخلتها، تضمن لنا تغيرات مستقبلية
وجدُّ عميقة في الصناعة القديمة للجمال … ينبغي أن
ننتظر أن مثل هذه التحولات العظيمة تغير تقنية
الفنون، وتؤثر بذلك على الإبداع نفسه وربما تصل إلى
حد تغيير مدهش لمفهوم الفن نفسه.» هذا النص ينبئ
بحدوث شيء ما في تصورنا لماهية الفن والعمل الفني.
شيء ما حدث إذن في البنى العميقة للمحسوس. إنه نسخ
الأثر أو الأثر المنسوخ … لا شيء غير عدد لامتناهٍ
من النسخ التي تتهاطل علينا من رحم أصولها. سيتحرر
الأصل من أصليته المتعجرفة والعقيمة وستغنم النسخة
وجودًا موجبًا وبهيجًا.
ينبغي هنا أن نتوقف عند هذا الحدث الجمالي الفريد الذي طرأ على تصورنا لميدان الفن المعاصر بعامة. لقد فقد الفن هالته؛ أي أصالته وعبقه الخاص؛ لأنه صار بفضل فنِّ التصوير قابلًا للاستنساخ إلى ما لا نهاية له. ماذا تعني هالة الأثر الفني؟ وأي شيء يخسره الفن بفقدانه هالته؟
يعود ظهور مفهوم هالة الأثر الفني إلى نص سابق على كتاب الأثر الفني في عصر الاستنساخ التقني عنوانه التاريخ الصغير لفن التصوير. يولد هذا المفهوم من مكان طريف هو صورة لكافكا الطفل يقول عنها بنيامين: «إن هذه الصورة في حزنها العميق، تتناقض مع فنِّ التصوير القديم، حيث لم يكن الناس ينظرون إلى العالم بعدُ، مثلما يفعل كافكا الصغير، نظرة الأسف على تخلي الآلهة عنهم. لقد كانت تحيط بهم هالة، مناخ حينما تخترقه نظراتهم تمنحه ثراء وأمانًا.»١٧ إن هالة الأثر الفني تعني تحديدًا ذاك النسيج المتميز من المكان والزمان حيث وُلد الأثر الفني، هي أصالته وفرادته وعفويته الأولى وهو يخرج من بين يدَي الفنان ينثر عبقًا وعطرًا ويوقع زمانه الأصلي وعالمه الحميم الخاص به. إن هالة الأثر خيط رهيف من الهنا والآن، ظهور فريد لشيء فريد لا نكاد ندرك ملامحه …لقد فقد الأثر الفني هالته وأصالته وطقوسه الخاصة به. لكن لا شيء يؤسفنا على ذلك. لم يعد الفن صنمًا بل صار ملكًا للجماهير ما دامت الجماهير الحديثة تطالب بتقريب الأثر من عيون البشر ومن آلامهم. وذاك هو معنى دخول الفن في منعرج سياسي يضحي فيه الأثر بأصالته من أجل أن يغنم دورًا عموميًّا وبراغماتيًّا.
-
الفكرة العاشرة: بوسعنا اعتبار فكرة «الذات الجمالية الجماعية»
التي اقترحها فيلسوف مدرسة فركفورت في كتاب
النظرية
الجمالية١٨ (١٩٧٠م) من أهم المحاولات الفلسفية
الحديثة لاختراع شكل مغاير من الذاتية الجمالية
السياسية معًا. حيث يتعلق الأمر باختراع ذاتية
جماعية تتجاوز حدود الكونية الكانطية اللاتاريخية
ومفهوم الطبقة الماركسي ويوطوبيا الأكاذيب الجمالية
لنيتشه معًا.
مع ثيودور أدرنو أهم رواد فلاسفة فرنكفورت تدخل الجماليات منعرجًا حاسمًا: يتعلق الأمر بولادة جماليات القبح في حضارة أفل فيها الجميل عن سماء الجماليات. وهو حدث جعل الفن نفسه يفقد علة وجوده في عالم تحول فيه كل شيء بما فيه ميدان الثقافة إلى بضاعة تباع وتشترى. إن الإحراج العميق الذي يخترق النظرية الاستطيقية لأدرنو (١٩٧٠م)، هو التالي: كيف يمكن الاشتغال على الجماليات في حضارة حديثة تنشر القبح في كل مكان؟ رغم اللوحة السوداء التي ترسمها جماليات أدرنو عن حضارة تكاد تسقط في الكارثة فإنه بوسعنا المراهنة على الفن الجذري الطلائعي بوصفه آخر دروبنا من أجل إنقاذ ما تبقى من الإنسان فينا.
-
الفكرة الحادية عشرة: تحت عنوان مثير موجز في اللَّااستطيقا١٩ (١٩٩٨م) يدفع الفيلسوف
الفرنسي المعاصر ألان باديو بالفن إلى وجهة مغايرة
للاستطيقا وللهرمنيوطيقا ولجماليات الاختلاف
بأطيافها. والطريف في ذلك هو أننا مدعوون هنا
تحديدًا إلى إعادة ترتيب للعلاقة الأصلية بين
الفلسفة والفن. لكن ما معنى الفلسفة؟ يعيدنا باديو
بشكل مثير إلى الحرفة السقراطية الأولى للفلسفة.
ولنقل إن الأمر يتعلق باستعادة إشكالية للتهمة التي
وجهها أهل مدينة أثينا إلى سقراط والتي كانت وراء
تسممه كأول حادثة تاريخية لاضطهاد الفلاسفة. ونعني
بذلك تهمة «إفساد الشباب». لكن ما المقصود هنا
بإفساد الشباب؟ ليس في الأمر أي جرم في شأن البشر،
ولا أي فساد بالمعنى العادي للكلمة. إنما الأمر
يتعلق بضرب من إغراء الحقيقة بوصفها إغراءً
بالتفكير. لكن ليس التفكير ها هنا إلا محبة الحكمة
بوصفه أرقى أشكال المحبة. وما علاقة الفن حينئذٍ
بمحبة الحكمة؟ لا تتكون الحكمة هنا بوصفها الحقيقة
التي تغرينا بمحبتها معطاة وثابتة ومحصنة في لوح
محفوظ. إنما الحقيقة هي ما ينبثق وما يتفجر وما
يتدفق علينا من قلب الحدث. إن الحقيقة هي ما يحدث.
غير أن ما يحدث لا يحمل أي توقيع غير كونيته. لا
جنسية للحدث ولا هوية للحقيقة، وذاك هو معنى توزعها
بين الجميع. يحدثنا باديو أيضًا عن نوع من الوفاء
للحقيقة بوصفه علامة الفيلسوف؛ حيث يقف دوره في
مستوى الارتقاء بالبشر إلى مقام من الحب الفلسفي لا
مثيل له. ومعنى ذلك هو «أن يسكن كل منا اسمه» كحد
أدنى من ذاتية الفيلسوف وكحد أدنى من المساواة بين
الجميع.
لكن ما وجه العلاقة حينئذٍ بين هذا النمط من الفلسفة أو من الانتماء إلى الحقيقة بوصفها شكلًا من العدالة بين البشر، والفن نفسه؟ يخترع الفيلسوف باديو وجهة طريفة لسؤال كهذا، وهي أفق جمالي يسميه باللَّااستطيقا. يقول معرفًا هذا المفهوم: من خلال اللَّااستطيقا أنا أفهم علاقة الفلسفة مع الفن، هي لكونها تضع أن الفن هو بذاته منتج للحقائق، لا تدعي بأي وجه أن تجعل منه، للفلسفة موضوعًا. ضد الاستطيقا التأملية، تصف اللَّااستطيقا المفاعيل التي تحدث داخل الفلسفة تحديدًا بسبب الوجود المستقل لبعض الآثار الفنية. إن هذا التعريف للَّااستطيقا يضعنا أمام ثلاث نتائج أساسية هي؛ أولًا: أن الفن لم يعد موضوعًا للفلسفة بل صار موضعًا لإنتاج الحقيقة. وأنه ثانيًا ينبغي تحرير الفن من براديغم الاستطيقا الحديثة التي اختزلت الفن في الذوق والمتعة التي لا منفعة من ورائها. وأنه علينا أن ندفع بالفن والفلسفة معًا إلى شكل جديد من المصالحة العميقة البعيدة عن إقصاء أفلاطون للشعراء وعلى العبادة الرومانسية للفنِّ معًا.
إن صلة الفلسفة بالفن هي على حد عبارات متوترة لباديو «صلة مصابة منذ فجر الزمان بعارض ما؛ ذاك الذي ينتج عن تذبذبٍ ما وخفقان.» لذلك نجد أنفسنا أمام مجاز لاكان الذي أورده باديو نفسه حول التوتر بين المرأة الهستيرية ومعلمها. تقول المرأة: «إن الحقيقة تتكلم عبر فمي، أنا أوجد هناك، وأنت تعلم، قل لي من أكون أنا.» أما المعلم فلن ينال إعجاب هذه المرأة مهما اجتهد في الإجابة. وذاك هو حال الفلسفة مع الفن. إنها تنهزم دومًا لأنها لا تستطيع أن تعين ماهية الفن. فتراها أحيانًا تطرده من بيتها وأخرى تكتفي بعبادته. يعبر باديو عن ذلك قائلًا: «كذلك الفن هو بعدُ دائمًا هنا، يوجه للمفكر السؤال الأخرس البراق عن هويته، وإن كان بقدرته الدائمة على الابتكار، بتحوله، هو يعلن عن خيبته من كل ما ينطق به الفيلسوف» خيبة أمل إذن تلك التي يخرج بها الفن من علاقته بالفلسفة، حيث يبقى الفيلسوف دائمًا معلقًا بين العبادة والرقابة.
ومن أجل بيان هذه العلاقة المتوترة بين الفن والفلسفة يميز باديو بين رسمين. أما عن الرسم الأول الذي يسميه «رسمًا تعليميًّا» فهو يقوم على أن «الفن غير قادر على الحقيقة وأن كل حقيقة توجد خارجه.» وهذا الرسم يتماشى مع الإقصاء الذي أعلنه أفلاطون للفن من جمهورية الفلسفة. وهو قرار ظالم لا هو ينصف الفن ولا هو ينصف الحقيقة. أما عن الرسم الثاني فهو الرسم الرومانسي الذي يقوم على «أن الفن وحده هو القادر على الحقيقة.» وهي أطروحة نجدها لدى الرومانسيين منذ شليغل وشلنغ الحدود الرومانسيين الجدد (هيدغر ونانسي ولاكو لابارت) فيما يسمونه المطلق الأدبي.
وينتهي باديو إلى أن كل المقاربات الفلسفية للفن سواء تعليمية تربوية أو رومانسية مفتونة بالأثر الفني أو كلاسيكية مخيبة للآمال، ذلك وأنه في آخر المطاف «ليس ثمة غير طرائق فنية، ثمة آثار هي الذوات المفكرة التي من شأنها، وثمة من الفلسفة ما يفصل كل هذا عن الرأي فصلًا مفهوميًّا. إن زمننا أفضل من الديمقراطية التي نتبجح بها.»