الفصل العاشر

دولوز ومنطق الإحساس

«إن اللون هو المكان الذي يلتقي فيه دماغنا مع العالم.»

مارلوبونتي

«إن اللوحة مجموعة من التدميرات.»

بيكاسو
ثمة علاقة طريفة بين الفن والفلسفة بدأت مع الفيلسوف الفرنسي دولوز الذي يقول: «إن الفلسفة تُولد أو تُنتج من الخارج من طرف الفنان التشكيلي والموسيقي والكاتب، كلَّما ترتبت عن الخطِّ النغمي، الرنة، أو عن الخطِّ المحض المرسوم اللون، أو عن الخطِّ المكتوب، الصوت الواضح … ليست هناك أية حاجة إلى الفلسفة: إنها تُنتج بالضرورة هناك حيث يعمل كل نشاط على رسم خطِّه المؤدِّي إلى المغادرة الموطنية … ينبغي الخروج من الفلسفة والقيام بأي شيء يمكن من إنتاجها من الخارج. لقد كان الفلاسفة دومًا شيئًا آخر ولقد عرفوا دائمًا نشأتهم انطلاقًا من شيء آخر»١ نحن نفكر دومًا انطلاقًا من رغبة ما … رغباتنا هي التي تفكِّر … لا شيء نحن غير عواطفنا. ذاك ما تعلمه دولوز عن سبينوزا الذي جعل «الرغبة ماهية الإنسان». نقطة انطلاق دولوز هي سبينوزية تمامًا. سؤاله النموذجي هو التالي: «على ماذا يكون الجسد قادرًا؟ وما هي العواطف التي هو قادر عليها؟» ثمة عواطف تصنع قوتنا مثل الفرح وأخرى تصنع ضعفنا مثل الحزن. يقول دولوز: «إنكم لن تتعرفوا على حيوان ما دمتم لم تضعوا لائحة عواطفه.»٢ … وينبهنا دولوز إلى خطر العواطف، خاصة تلك التي تضعفنا لأنها تنتهي بنا إلى العبودية: «على ماذا يكون الجسد قادرًا؟ أي العواطف تكونون قادرين عليها؟ جربوا لكن مع الكثير من التحلي بالحذر من أجل القيام بالتجريب. نعيش في عالم هو بالأحرى مزعج، حيث تكون السلطات قائمة، وليس الناس فحسب، في حاجة إلى أن تمرِّر لنا عواطف حزينة. فالحزن والعواطف الحزينة هي التي تقلِّص كلُّها قدرتنا على الفعل. تحتاج السلطة القائمة إلى حزننا كي تجعل منَّا عبيدًا. يحتاج المستبدُّ والكاهن وسالبو الأرواح إلى إقناعنا بأن الحياة صعبة وثقيلة … لن يتركنا مرضى النفس ومرضى الجسد؛ أي الهامات، قبل أن يوصلوا إلينا عصابهم وكربهم، وخصيهم المعشوق وحقدهم ضد الحياة أي العدوى القذرة. ليس من الهين أن يكون المرء إنسانًا حرًّا حيث ينبغي الهروب من الطاعون، وتنظيم الالتقاءات والرفع من قوة الفعل والتأثُّر الذاتي بالفرح وتكثير العواطف التي تعبر عن أكبر قدر من الإثبات … ينبغي جعل الجسد قوة لا تُختزل في الجهاز العضوي، وجعل الفكر قوة لا تُختزل في الوعي.»٣

لن تبدأ الفلسفة من هنا فصاعدًا من مبدأ أوَّل على طريقة الكوجيتو الديكارتي … لا شيء يبدأ … سوف يقع تحرير الحياة برمَّتها من كل أشكال المفارقة. وعليه ليس ممكنًا للفلاسفة أن يبدءوا فعلًا من أي شيء … كل شيء سيبدأ من الوسط أي من حياة أخرى. ليس ثمة نقطة انطلاق ولا أصل ولا علة أولى … بل ما هناك هو نقاط إفلات ونقاط لقاء ونقاط عبور. وإن ما يفكر فينا هو دومًا رغبة ما أو لا متوقع أو صدفة أو لقاء مع الأشياء.

من الإيقاع تولد اللقاءات والأمكنة ومن السديم يولد الإيقاع. إيقاع الكلمة وإيقاع الرغبة وإيقاع الحياة. ذبذبات صوتية هو المكان … لا ذاكرة ولا حنين ولا أصالة ولا نداء الأرض. وقد «تخالون أنفسكم نورًا وأنوارًا لكنكم شاشات سوداء.» ها هنا يقع تحرير الفن من المرجعية الأوديبية ذات الذاكرة اليونانية.٤ ذاك الفن المهزوز القلق والمهذار والذي لا ينفك في عملية سرد لا تنتهي لذكريات الطفولة سجينًا لصورة الأب الذي يستحيل تارة إلها وأخرى ملكًا للأرواح وللأجساد وللعباد. لا أحد يعلم بأي شكل من الحبِّ أو عبر أية رغبة يصير المرء فيلسوفًا … وفي كل الحالات إحساساتنا هي التي تفكِّر وعواطفنا هي التي تعلمنا أكثر من أي تحذلق أكاديمي.
دولوز يعلِّمنا أن لا وجود لذكريات أصلًا. وأن ما نلتقي به في كل مكان هو الصيرورات والكتل … كتل من الإحساسات التي هي أحيانًا «كتل من الطفولة أو كتل نسوية أو كتل حيوانية … لا شيء تذكاريًّا أو خياليًّا أو رمزيًّا … هي تنسيقات من الرغبة وعلاقات ديناميكية وعاطفية وتكثيفات واقترانات وسرعات» …٥ تلك هي الصيرورة بدلًا عن تاريخ هيغلي يبدأ بالمعجزة اليونانية وينتهي — وفق العبارة الشهيرة لهيغل — بنابليون على حصان.

ليس على الفيلسوف أن ينسخ أي شيء … ولا أن يبدأ من أي مبدأ. إنه مطالب بخرائط فقط … ليس ثمة أصل كي نستنسخه … ثمة نسخ إلى ما لا نهاية … نسخ تتكرر في اختلافاتها القصوى لكن لا شيء يعود منها ثانية غير لحظاتها الأكثر اقتدارًا أي الأكثر سرعة والأكثر كثافة. لا شيء يعود غير رغباتنا الأكثر قدرة على الحياة.

في كتاب ألف مسطح٦ الذي يُعتبر من أهم ما كتب دولوز صحبة غاتاري نعثر على أهم المعالم الكبرى لفلسفة جعلت من الفن هو حقل تجريبها وورشتها الحميمة. سنتوقف هنا عند الأفكار التالية:
  • (١)
    تحرير الكتابة من نموذج الكتاب الكلاسيكي: فالكتاب يملك موضوعًا وذاتًا هو المؤلف، وقارئًا وفصولًا، وقضية يدافع عنها، ونسقًا يبنيه ويخضع له. بينما الكتابة على طريقة التنضيد الجماعي شأن آخر. فهي لا تملك ذاتًا ولا موضوعًا بل هي عبارة عن موادَّ متنوعة وخطوط هروب وسرعات وكثافات ولقاءات. وهو ما يجسِّده كتابي أوديب المضاد وألف مسطح بوصفهما بلا مؤلِّف. يتعلَّق الأمر بكتابة مشتركة بين دولوز الفيلسوف والمحلِّل النفسي والمفكِّر المتسيس غاتاري. نقرأ في بداية ألف مسطح ما يلي: «لقد كتبنا أوديب المضادَّ مثنى. وما دام كلٌّ منَّا قد كان هو نفسه كثير، فلقد صرنا سلفًا كثُرًا. لقد استعملنا هنا كلَّ ما يقرِّبنا، الأكثر قربًا والأكثر بعدًا. لقد وزعنا أسماء مستعارة حاذقة كي لا نُعرف. لماذا تركنا أسماءنا؟ فقط كما جرت العادة … إننا نصنع إلهًا طيبًا من أجل حركات جيولوجية» …٧
    لم يعد الكتاب إذن صورة العالم. وبدلًا عن سطح، عمق، عمودي، أفقي، شكل، مضمون، بداية، نهاية … نتحول إلى تنضيدات وتقطيعات ومفاعيل كثيفة وصيرورات وكثرة حيوية. ومن أجل أن نفهم هذا التصور الجديد لكتابة تفكِّر بحواسِّها علينا أن نميز إذن مع دولوز بين نوعين من الكتاب: الكتاب — الجذر le livre-racine والكتاب الريزوم. فالكتاب — الجذر هو الكتاب — الشجرة حيث تكون الشجرة هي صورة العالم وحيث يكون الجذر هو صورة الشجرة بوصفها العالم. الكتاب الكلاسيكي هو كتاب يحاكي العالم ويحمل بين طيَّاته حميمية عضوية متناغمة صممتها ذات هي ذات الكاتب. إنه كتاب يحاكي العالم كما كان الفن يحاكي الطبيعة. ما يقوم به دولوز صحبة غاتاري هو تحرير الكتاب من الطابع الكلاسيكي له. فهو يكشف لنا كيف أن الطبيعة لا تسلك كما الكتاب. فالجذور نفسها ليست منتظمة ولا هي واحدة. فالسنديانة مثلًا تمدُّ جذورها على شكل تشعبات معقدة. ها هنا نكتشف كيف أن «العقل متأخِّر عن الطبيعة.»٨ فالعقل يحدِّثنا دومًا عن أصل واحد وعن جذر واحد في حين أن الجذور في الطبيعة كثيرة وكثيفة ومتشعبة. لقد انتهى عصر الكتاب-الشجرة والعالم بوصفه ذا أصل واحد. إن فكرة الكتاب بوصفه صورة العالم قد صارت إلى فكرة شاحبة ومنهوكة وفي حالة شيخوخة.
  • (٢)
    اقتراح نمط مغاير من الذاتية هي الريزوم: ريزوم أو جذمور على شاكلة البطاطا أو على شاكلة الفئران … ليس الريزوم ذاتًا ولا كوجيتو ولا هوية بل هو ضرب من الضمير الرابع من ضمائر النحو. إنه اللاشخصي أي كثرة حيوية أو خريطة بدلًا عن نسخة لأصل. الريزوم أرضي مترحِّل متشعِّب بدلًا عن نسق أو بنية أو جهاز. يقول دولوز: «لقد تعبنا من الشجرة، لا ينبغي أن نؤمن البتة بالأشجار وبالجذور وبالجذيرات، لقد عانينا منها كثيرًا. كل ثقافتنا الشجرية قائمة عليها، من البيولوجيا إلى الألسنية.»٩ الريزوم على نقيض الشجرة ذاكرة قصيرة أو هو نقيض الذاكرة. إنه يسلك عبر التحول والتوسع والغزو والاقتناص. هو منطقة وسطى تنمو كالحياة لا تبدأ ولا تنتهي. إن هضاب أو مسطحات أو ينابيع الكثافة الحيوية يخلق السرعة والشدة والنمو.
  • (٣)
    فنُّ الترحال: يقول دولوز: «إننا نكتب التاريخ. لكننا نكتبه دومًا من وجهة نظر أهل الحضر وتحت راية جهاز دولة موحَّد … ما ينقصنا هو أدب رحلات بدلًا عن التاريخ»١٠ لقد كانت الدولة طيلة تاريخ طويل هي نموذج الكتاب والتفكير: اللوغوس والفيلسوف الملك والفكرة المفارقة، انغلاق المفهوم وجمهورية العقلاء والإنسان المشرع والذات الفاعلة. لقد كانت الدولة بهذا المعنى هي صورة العالم وهي تجهد نفسها في كلِّ مكان من أجل سجن البشر في أقفاص هووية من أجل السيطرة على انفعالاتهم وتحويلهم إلى مجرد أدوات في جهازها الكبير. ما يقترحه ألف مسطح هو الشعار التالي: «اجعل من نفسك ريزومًا وليس جذرًا، لا تزرع أبدًا، لا تنثر حبًّا … كن وخزة … لا تكن واحدًا ولا كثيرًا … كونوا كثرات كونوا الخطَّ لا النقطة. إن السرعة تحول النقطة إلى سطر. كن سريعًا حتى وأنت في مكان واحد … خط الحظ، خط الهروب … لا تحمل جنرالًا في داخلك»١١ الريزوم مترحِّل لا يستمر في أي مكان ولا يرث شيئًا … يقيم التحالفات واللقاءات ويرسم الخطوط … ويمرُّ دومًا إلى جهة أخرى كما الحياة … إنه يتحرَّك على شاكلة حرف العطف «واو» et بدلًا عن فعل الكينونة «هو» أو «كان» est … «بتر صامت للحرف «s»»… هو بتر لا تسمح به غير اللغة الفرنسية في حين لا تهتم به لغة الضاد. يقترح علينا إذن ألف مسطح جماليات مغايرة هي جماليات الترحال أو الفضاءات الصقيلة. وعلينا أن نميز وفق هذا التصور بين الفضاء الصقيل والفضاء المخدَّد، فضاء الرحَّل وفضاء الحضر، فضاء الكتاب الشجرة وفضاء الريزوم. لكن التمييز بينهما ليس دومًا بديهيًّا «لأن الفضاء الصقيل لا يكفُّ عن أن يتحوَّل ويعبر رأسًا إلى الفضاء المخدَّد … فمرة ننظم حتى الصحراء ومرة تغلب الصحراء وتشتدُّ.» الفضاء المخدَّد هو فضاء جهاز الدولة. والفضاء الصقيل هو فضاء الفن المترحِّل. فضاء عيني haptique على خلاف فضاء بصري optique. الفضاء الصقيل هو فضاء لا نراه بل نلمسه بالعين. لقد أصبح للعين وظيفة لمسية إنها تملك بصمات خاصة. وهذا يعني تحديدًا أننا لم نعد نتكلم عن الأثر الفني بوصفه موضوعًا للنظر من بعيد أي موضوع فرجة وبضاعة استهلاكية.
  • (٤)
    يقول دولوز: «إنما قانون اللوحة أن تُرسم من قريب بالرغم من كونها تُبصر نسبيًّا من بعيد. إنه بوسعنا التراجع أمام أمر ما لكننا لا نعتبر رسَّامًا ماهرًا ذاك الذي يتَّخذ مسافة ما بينه وبين اللوحة التي هو بصدد إنجازها … إن اللوحة تُرسم من قريب حتى ولو كانت تُبصر من بعيد. وبالمثل نقول إن الملحن لا يسمع … ويكتب الكاتب نفسه بذاكرة قصيرة الأمد … في حين يكون القارئ موهوبًا بذاكرة طويلة الأمد»١٢ … إن فضاء الفن هذا؛ أي الفضاء الصقيل، لا يمكن رؤيته من دون لمسه بالروح ومن دون أن يتحوَّل الروح إلى أصبع … للعين إذن وظيفة بصماتية، إنها العين اللمسية أو العين الثالثة … عين الإعصار. إن خطَّ الرحَّل أي الصقيل هو «خطٌّ مجرَّد»، أما خطُّ الحضر فهو «خطٌّ إمبراطوري»؛ أي مخدَّد. لكن لماذا ثمة تخديد؟ نحن نخدِّد الفضاء من أجل «طرد القلق والسيطرة على المكان.» في حين يكون الفضاء الصقيل من نوع مغاير تمامًا. إنه حسب عبارات المسطح الأخير: «خطٌّ لا يحدُّ شيئًا. ولا يرسم البتة أي حدٍّ، فهو لا يمرُّ أبدًا من نقطة إلى أخرى وإنما يعبر بين النقاط، لا ينفكُّ عن الانحدار من الأفقي إلى العمودي … خطٌّ طافر بلا داخل ولا خارج، بلا شكل ولا عمق، بلا بداية ولا نهاية … خطٌّ حيوي» …
  • (٥)
    ورغم أن هذه الفضاءات الصقيلة التي يخترعها الفن من أجل اختراق تخديد المدينة بالطاغوت واللاهوت وأجهزة الدول، فإن الصقيل لا ينقذنا دومًا. فداخل الفضاء الصقيل يتغير النضال باستمرار وتعيد الحياة بناء نفسها. إن الفضاء الصقيل يغير من خصومه دومًا. إن الفن لا يصلح لإنقاذنا … بل إن الآفاق الطوباوية قد فقدت من صلاحياتها. ليس ثمة مستقبل … ثمة صيرورات وإن صورة المنقذ على الطريقة الكهنوتية قد أفلت وولى زمانها. «لذلك لا ينبغي أبدًا أن نعتقد أن فضاء صقيلًا يكفي لإنقاذنا … بوسعك فقط أن تسكن المدينة مترحِّلًا أو كهافًا» ألف مسطح … وفي نوع من التشاؤمية المرحة يكتب دولوز نوعًا من الكوجيطو الفوضوي المناضل: «أنا لست سوى عادة تأملية أو كثرة من العادات المرتبطة بعناصر حسية تكون الوسط الذي أحيا فيه … أنا بالضبط ما تكون عاداتي وإني أكون بقدر ما تكون عاداتي وأندثر بقدر ما تندثر» …١٣
  • (٦)

    إن مشاكلنا لم تعد تنتمي إلى التاريخ بل صارت تنتمي إلى الصيرورة حيث مواطن اللقاء ومواطن النضال ضد الفضاء المخدَّد من طرف هندسة الخطِّ المستقيم والعلامة الألسنية، والوجه والجذر والشجرة والذاكرة والجهاز العضوي. ليس ثمة تطابق أو تماثل في أي مكان. ثمة دومًا حلقة مفرغة داخل أسئلتنا، أحداث تبقى في العتمة ولا تصل إلى الصوت. ثمة نوع من الصيرورات التي تعمل في صمت داخل مشاكلنا. ليس ثمة زمن خطِّي كأن نتحدث عن الماضي والحاضر والمستقبل. ليست الصيرورة أبدًا محاكاة أو تقليدًا لنموذج جاهز بل هي الحاضر الدائم بما هو صدفة مرحة وبما هو أحداث متدفقة ودوائر عابرة في شكل خطوط مجردة بلا ذنب ولا ضغينة ولا وعي تعيس لذاكرة أو تاريخ أو تأليف جدلي على طريقة هيجل. ها هنا يلعب الاختلاف دور منطق الصيرورة الهيرقليطية والنيتشوية الحيوية.

  • (٧)
    وقد سبق لدولوز وغاتاري ضمن كتاب أوديب المضاد (١٩٧٢م) أن دمَّرا التحليل النفسي القائم على رؤية أوديبية للرغبة. وهي رؤية تبرر كل أنظمة النفوذ والهيمنة الغربية: التمييزات الجنسية الأحادية الرغبة، الإحساس بالذنب، العائلة والدولة والمؤسسات العقابية والسلطة الإقصائية. ويظهر حينئذٍ المنفصم وقد تحرر من عقدة أوديب في شكل المترحِّل الذي دمَّر أصله الأوديبي وتحوَّل إلى مكنات رغبة ومسارات مقاومة لأجهزة الدولة.
  • (٨)

    لدى دولوز وغاتاري ثمة نوع من «الصيرورة الديمقراطية … لشعب سوف يأتي» وذلك عبر اختراع فضاءات مقاومة يُعتبر الفن أحد مقوماتها وذلك هو معنى أنطولوجيا الرغبة وهي أنطولوجيا ثورية مضادة للفضاءات المخدَّدة بجهاز الدولة. وفي الحقيقة يولد هذا الفكر من مبدأ المحايثة السبينوزي حيث لا تعاني الحياة من أي فراغ. فنحن نعيش في نوع من الامتلاء المحض لأن الحياة حبلى بالبهجة الدائمة على ألَّا نفهم من ذلك سعادة الحمقى أو رفاهة المترفين. في هذا الطقس الفلسفي المحايث للحياة حيثما حدثت لا وجود لشعوب جاهزة الهوية بل هناك فقط ريزومات مختلطة وصيرورات نلتقيها كلَّما تتم عملية اختراع شكل ريزوماتيكي من العيش في المدينة على طريقة الرحَّل أي على نموذج جمالي للخطِّ المجرَّد الذي يخترع الحرية لأنها لا وجود لها.

في هذا المدى الصقيل لفنِّ الترحال تولد العين الثالثة على سطح عالم لمسي ووظيفة لمسية للعين نفسها … مع الرسام الإنجليزي فرنسيس بيكن لم يعد المخطط مفعولًا بصريًّا ولم تعد الصورة جوهرًا بل صارت عرضًا … وصار المخطَّط منطقة محمومة لم تعد فيها اليد تنقاد بتوجيه من العين بل صارت تفرض نفسها على البصر بوصفها إرادة مغايرة … في هذا الفضاء اللمسي للوحة تتقدَّم اليد نحو القماشة مؤلفة اضطراب الورقة على نحو إرادي … إن في الأمر كارثة تشكيلية أشد عمقًا حيث يكون العالم البصري والعالم اللمسي قد كُنسا ولم تبق غير «عين الإعصار» تُعين سكونًا أو توقفًا أو عطالة ترتبط بأشدِّ اضطرابات المادة ويصير الرسم ضربًا من السكون المحاط بالحياة في أشدها وفي شواشها وفوضاها واضطرابها … ها هنا يتكوَّن العالم اللمسي ويتكاثر ويتكثَّف من العلاقات بين الألوان وتوتراتها ونضارتها وبرودتها وتوهجها. ها هنا في منطق الإحساس وحيويته يصير الضوء زمنًا للوحة … في حين يقتحم الرسام فضاء الرسم بريشته وميولاته الخاصة الخطِّية واللمسية وبفوضى حواسه وسورة أهوائه … كل شيء يصير مرئيًّا في الرسم: الضوء واللون والانفعالات والميول والخطوط والمزاجات وكل انحرافات الرسم … ثمة داخل هذا الفضاء اللمسي، الذي تلمسه العين لأن العين هي التي ترسم في تواطؤ خفي وغامض مع اليد، لوحة لم تعد تروي أية حكاية ولا هي علامة على عبقرية … ليس وراء اللوحة أي خالق … لم يعد الرسم ذاكرة لأحد …

داخل هذا المنطق الجديد للإحساس تتداخل الصيرورات مع الرسومات والرسومات مع حركات اليد ولمسات العين وسرعات اللون وكثافة الخطوط … في هذا الفضاء التشكيلي تتشابك اليد واللمسة والريشة والقلم … إنه المحسوس بذات حسه … بلا محاكاة ولا تمثيل ولا ثنائيات للنسخة والأصل … ولا يصح حينها أن نقول فقط بأن العين تحكم واليد تنجز بل ثمة توتُّرات ديناميكية وانقلابات منطقية وتبادلات عضوية بين اللون واليد والعين … وتولد اللوحة من التقاطع العضوي بين اليد والعين اللمسية واليد اللامسة ويتم حينها تجاوز الثنائية التقليدية بين اللمس والبصر … تجربة حواس وتضايف للملموس وللمحسوس وتقاطعات …

تدفع بنا قراءة دولوز لفنِّ الرسم من خلال كتاب منطق الإحساس إلى تصور حيوي مضادٍّ لكل تصور عدمي سالب لفضاء اللوحة … فاللوحة لا تجسِّد ولا تحاكي ولا تمثِّل. إنما تمسك بالقوى الحيوية … إن الرسام لا يفعل شيئًا آخر غير رسم الإحساس … وهو ما يعثر عليه دولوز في لوحات بيكن من أجسام معذبة ومفاعيل لحمية … ومن أحصنة للجرِّ أو من مرايا ذات ثلاثة أبعاد … ما يقصده بيكن ليس صدمة المتفرج بل تعنيف الإحساس بوصفه شرطًا للإبداع حسب دولوز نفسه … وذاك هو معنى إدراك القوى والإمساك بها وهي في سورتها وحيويتها بدلًا عن تثبيت الوقائع على صدر اللوحة … إن رسم القوى هو إذن ما يعين دلالة الرسم حيث لا ننتظر من الرسام أن يمنح شكلًا للأشياء بل على العكس من ذلك عليه أن ينزع عنها كل شكل … ها هنا يبدو الإحساس سيِّدًا لتحرير اللوحات من الأشكال بل لتشويه الشكل وخروجه عن مساره الأصلي واختراع مسارات جديدة وأشكال طافرة وقوى حيوية وصيرورات مغايرة … ليس ثمة في الرسم أي قصص بل ثمة أحداث تشكيلية … شيء ما يحدث على فضاء اللوحة، شيء ما يمرُّ وينفلت هو انبثاق للمحسوس في حيويته وليس في نسخة باهتة منه …
يقول دولوز: «إننا نرسم، ننحت، نؤلِّف ونكتب بأحاسيسنا. إننا نرسم، ننحت، نؤلف ونكتب أحاسيس.»١٤ الأثر الفني هو «كتلة من الإحساسات … كائن إحساسي ولا شيء غير ذلك، فهو موجود بذاته.»١٥ وذلك يعني أنها تقاوم الفراغ وتشطبه … لذلك تحتاج الآثار الفنية بما هي كتل إحساسية «إلى جيوب هوائية، فحتى الفراغ هو إحساس، كل إحساس يتراكب مع الفراغ ويتراكب مع ذاته، كل شيء يقف على الأرض أو في الهواء ويحفظ الفراغ، ويُحفظ في الفراغ وهو يحفظ نفسه بنفسه. فاللوحة يمكن أن تكون ممتلئة كليًّا، إلى حدِّ أنه حتى الهواء لا يمر عبرها، فهي ليست عملًا فنيًّا كما يقول الرسام الصيني، إلا إذا أبقت على ما يكفي من الفراغات لجعل الخيول تعدو فيها» …١٦
الأثر الفني ليس إحساسًا في معنى أن ثمة ذاتًا حاسة وموضوعًا محسوسًا، لذلك هو كتلة لا تنتمي إلَّا إلى مادتها: «بسمة الزيت، حركة الفخار، الاندفاع المعدني، تربيع الحجر الروماني وارتفاع الحجر القوطي»١٧ … لا أحد بوسعه أن يحدِّد أين يبدأ الإحساس وأين ينتهي. لا ذاكرة للأثر الفني لأنه لا ينتمي إلى التاريخ إنما ينتمي إلى المادة، إلى الجغرافيا وإلى الصيرورة. يقول دولوز: «صحيح أن كل أثر فنيٍّ هو نصب معين، ولكن هنا ليس ما يحيي ذكرى ماضٍ، بل إنه كتلة من الأحاسيس الحاضرة التي لا تدين إلَّا لنفسها في حفظ ذاتها … إن فعل النصب ليس الذاكرة دائمًا، وإنما هو الإبهار. ونحن لا نكتب بما لنا من ذكريات الطفولة، وإنما بمجاميع طفولة هي صيرورات. طفل من الحاضر. والموسيقى طافحة بها. لا نحتاج فيها إلى ذاكرة، وإنما إلى موادَّ معقدة لا نجدها في الذاكرة، ولكن في الكلمات، وفي الأصوات: «أيتها الذاكرة، أكرهك.» إننا لا نصل إلى المدرك أو إلى الانفعالي كما نصل إلى كائنات مستقلة ومكتفية ذاتيًّا، لا تدين بشيء للذين عانوا منها أو عبروا عنها» …١٨
ثمة منطق ما للإحساس يعثر عليه دولوز في رسومات فرنسيس بيكن. نحن أمام نمطٍ جديد من الرسم: لوحة تطارد الطابع التشكيلي والتجسيدي والسردي. إن فنَّ الرسم كفَّ في لوحات بيكن عن أن يكون تشكيليًّا ولا تمثيليًّا ولا حتى سرديًّا. إن اللوحة لا تمثِّل ولا تجسِّد ولا تقصُّ أي قصة. نهاية السرديات الكبرى والصغرى معًا. يقول دولوز: «ليس للرسم نموذج كي يمثله ولا تاريخ كي يقصه.»١٩ ليس ثمة في اللوحة غير علاقات بين الأشكال لا هي تمثيلية ولا تشكيلية ولا قصصية، ذلك أن بيكن «لم يكفَّ عن رسم أشكال في حالة تزاوج، لكنها لا تحكي أي حكاية.» ليس ثمة قصة، ثمة أشكال معزولة فوق الكرسي أو فوق الفراش أو فوق الأريكة … داخل الدائرة أو داخل متوازي السطوح. هي أجسام معزولة تجلس القرفصاء … ذاك كل ما ثمة في اللوحة … ما تبقى من اللوحة جملة من الإمكانات التي سيقع تعطيلها سلفًا من قبيل المشهد الطبيعي أو الأرضية اللونية … لا مكان في لوحات بيكن للمشهد ولا لعمق لوني ولا لأي شكل مهيئ لاحتضان بقية الأشكال … إنما يتعلَّق الأمر «بملامح لا دلالية محرومة من الوظيفة التجسيدية.»٢٠
في كتابه فن المستحيل يكتب بيكن ما يلي: «حينما فكرت في لوحاتي كما لو كانت نحوتات، خطرت ببالي فجأة الطريقة التي وفقها يمكنني أن أجعلها في فنِّ الرسم رسومات … سوف تكون نوعًا من الرسم المنظَّم الذي تنبثق فيه الصور كما لو كانت تنبثق من بحيرة لحم. إن هذه الفكرة ذات إيقاع رومانسي فظيع، لكني أرى الأمر على نحو صوري تمامًا … سيكون ثمة أشكال متعددة … سيكون ثمة بلا ريب رصيف يعلو أكثر ممَّا يعلو في الواقع، وفوقه يمكن أن تتحرَّك نحو من قطع اللحم التي تعلوها الصور، وإن أمكن أناس معينون يقومون بجولتهم اليومية. إني آمل أن أرسم أشكالًا تنبثق من لحمها الخاصِّ بقبعاتها المستديرة ومطرياتها … وأن أجعل منها أشكالًا حادة وموجعة بقدر عملية الصلب …» ٢١
مع بيكن سيقع إذن تحرير الفن التشكيلي من طابعه التشكيلي … فاللوحة لا تشكل مادة ولا تمثل لا وعي ذات ترسم ما حُرمت منه في الواقع. ثمة نوع من «الأحاسيس السماوية» التي تطلبها اللوحة. ويذهب دولوز إلى الحديث عن نوع من «الإلحاد التشكيلي» مثلما وقع مع الفن المسيحي الذي حرر الأشكال من أدوارها التمثيلية. يقول في قول مثير للانتباه عن الفن المسيحي: «مع الربِّ، كل شيء مباح … وذلك ليس فقط على المستوى الأخلاقي، ما دامت أشكال العنف والفضيحة تجد تبريرًا مقدَّسًا. ولكن على المستوى الجمالي أيضًا وعلى نحو أكثر أهمية؛ لأن الصور الإلهية قد انتعشت بعمل إبداعي حرٍّ وبخيال يجوِّز كل شيء.»٢٢

ليس ثمة رسم على فضاء أبيض. ينبغي القطع مع كل إكليشيات سابقة على الريشة. يقول دولوز: «من الخطأ أن يعتقد المرء أن الرسام يشتغل على فضاء أبيض وأعذر. إن مساحة الرسم محتلة سلفًا بكل أشكال الإكليشيات التي ينبغي القطع معها.»

في لوحات بيكن يقع طرد المتفرِّج وتعويضه بالشاهد، ومن ثمة تحويل المشهد إلى فضاء انتظار أو جهد فحسب. وهو ما يعبر عنه دولوز قائلًا: «وفي الحقيقة، إن المشهد الوحيد هو مشهد الانتظار أو الجهد، لكن ذلك لا يحدث إلا حينما لم يعد ثمة متفرجون.»٢٣ لكن ما الذي يحدث ضمن هذا الجهد الذي تبذله الأشكال كي تطرد المتفرج؟ يحدث أن الشكل نفسه يصير حدثًا ويبرهن على ألعاب قوى فريدة من نوعها. (اللوحة النموذجية هي لوحة peinture 1978) (حيث يمدُّ الجسد كل جسمه وساقه من أجل تحريك مفتاح الباب … وهو معلق في عمود).
figure
Peinture 1978.
يتعلق الأمر بعزل الشكل عن وظيفته التشكيلية والتمثيلية. يقول دولوز: «عزلة تامة للأشكال، عزلة تامة للأجساد وقد أطردت كل متفرِّج. لا يصير الشكل شكلًا إلا عبر تلك الحركة التي ينغلق عليها وتسجنه»٢٤ … ها هنا شيء ما يحدث في الجسد نفسه. لقد صار مصدر الحركة. لم يعد الأمر يتعلق لدى بيكن بالمكان بل بالحدث.
figure
Figure au lavabo 1976.
لكن لماذا يجهد الجسد نفسه؟ يجيبنا دولوز: من أجل الهروب … من أجل التحرُّر من الجهاز العضوي … سيهرب الجسد على سطح اللوحة كلما استطاع ذلك عبر عضو من أعضائه … عبر الفم حينما يصرخ … عبر ساقه حينما يستعملها لتحريك مفتاح الباب … تقلصات عضوية وتمطُّطات للإفلات من الجهاز. يقول دولوز: «لست أنا الذي يحاول أن يهرب من جسدي إنما هو الجسد يحاول الهروب هو نفسه عبر أي عضو من أعضائه … تشنُّجات وتقلُّصات عضوية وضفائر عضلية.»٢٥ هذا ما نجده مثلًا ضمن لوحة figure au lavabo … 1976. حيث يجهد الجسد الشكل نفسه للهروب عبر ثقب الحنفية …

ركح هستيري وألعاب قوى وأجساد تجهد نفسها كي تتحرر عبر عضو من أعضائها … لكن لماذا الهروب من الجسد؟ يجيب دولوز: من أجل الالتحاق بالبنية المادية …

التحرُّر من المرآة: رهان أساسي في رسومات بيكن. مرايا بيكن لا تعكس شيئًا بل إنها أحيانًا مساحات سوداء مغلقة. وحين يمرُّ الجسد داخل المرآة فهو لا يمرُّ كي يشبه نفسه أو يحاكي شكله أو يمثل وجهه … إنما تمر الأجساد إلى المرآة كي تقيم هناك … الجسد وظلُّه معًا … لا مجال للفصل بينهما على طريقة نظرية المحاكاة الأفلاطونية أو التمثيل الكلاسيكي الحديث. لا شيء وراء المرآة … كل شيء يحدث داخلها … أجساد تتمدَّد وتتمطَّط وتتسطَّح من أجل المرور عبر الثقب. ليس ثمة خيالات داخل لوحات بيكن إنما ثمة إحساسات فقط … من الخيال إلى الإحساس ذاك هو التحول العميق الذي طرأ على اللوحة مع بيكن. يقول دولوز: … «هي أحاسيس … لا خيالات.»٢٦
مع بيكن «كل الرءوس مهيأة للتشويه كما يحدث في لوحة autoportrait de 1973 الإنسان ذو رأس خنزير … على عين المكان يقع التشويه.»
figure
Autoportrait 1973.
من هنا أي من نظرية المرآة التي تحررت من وظيفتها ينتقل بنا دولوز إلى أطروحة «الجسد المشوه» بوصفها المضمون الأساسي للوحات فرنسيس بيكن. نتحوَّل إذن من الجسد المعزول إلى الجسد المشوَّه … فحينما يغادر الشكل مهمَّته التشكيلية يصير إلى جسد مشوَّه الشكل … ليس الشكل شيئًا آخر غير الجسد نفسه … لكن الجسد هنا شكل فقط أي ليس ببنية … وذلك يعني أن هذا الشكل الذي أصبح جسدًا ليس وجهًا ولا يملك أي وجه … للشكل رأس بل يمكننا ردُّه إلى مجرَّد رأس … فبيكن بوصفه رسام بورتريه «هو رسام رءوس وليس برسام وجوه.»٢٧ ثمة فرق شاسع في اعتبار دولوز بين رسم الوجوه ورسم الرءوس؛ فالوجه هو تنظيم فضائي، في حين يغدو الرأس تابعًا للجسد … بل هو روح بوصفه جسدًا؛ أي روح حيوانية … الرأس هو بعبارات دولوز «الروح الحيوانية للإنسان»: روح خنزير أو روح ثور أو هو روح كلب أو روح خفَّاش …
من هنا نفهم كيف أن رهان لوحات بيكن هي بالضبط الفتك بالوجه وهزمه وتشويهه والتنكيل به لأنه وجه التنظيم ووجه الجهاز ووجه النظام والنسق والمؤسسة. لذلك يبدو أن بيكن يرسم دومًا من أجل العثور على رأس ما تحت الوجه أو من أجل إعادة إحيائه … وهو ما يكتبه دولوز بالحرف الواحد: «إنه مشروع خاصٌّ جدًّا يتبعه بيكن بوصفه رسام بورتريه: هزم الوجه العثور على الرأس أو جعله ينبثق من جديد تحت الوجه.»٢٨
وهنا أيضًا تظهر عمليات تشويه الوجه في كل مرة: كيف أن الوجه يضيع شكله تحت عمليات التنظيف وضربات الفرشاة التي تشوِّش نظامه وتجعل ظهور الرأس بدلًا عنه ممكنًا … بيكن يراهن على رءوس بلا وجوه أو هو لا يترك للوجه غير قسماته الدنيا. ويصير حينها ممكنًا على صدر اللوحة أن يقع استبدال رأس الإنسان برأس حيوان … لكن الحكاية لا تتعلق بمجرد تعويض رأس بآخر … فرأس الحيوان ليس شكلًا بل هو ملامح وقسمات وضربات فرشاة أو هو ارتعاشة عصفور تحلق فوق المساحة الممسوحة الخاصة بالريشة العابرة … في حين تلعب ظلال بورتريات الوجوه من جهة أخرى دور الشاهد فقط … اللوحة النموذجية الشاهدة على ذلك هي بعنوان le triptyque 1976
في هذا الحقل الطقوسي للرسم يحدث أن تقع «معاملة كلب واقعي بوصفه ظلًّا لسيده، أو أن يتخذ ظلُّ الإنسان هيئة وجود حيواني مستقل عائم وغير محدَّد. كأنما الظل يهرب من الجسد ها هنا مثلما يهرب حيوان ما نرعاه في داخلنا.»٢٩
figure
Triptyque 1976.
إن ما يرسمه بيكن بعيدًا عن أن يكون مجرد تطابقات شكلية. إننا إزاء حقل غموض ومساحة إبهام بين الحيوان والإنسان. فالإنسان يصير حيوانًا لا في معنى هوية جديدة بل في معنى «نوع من التزاوج بين الإنسان والحيوان … لقاء مشترك.»٣٠

اللحم هو موضوع اللقاء بامتياز بين الإنسان والحيوان.

«الشفقة على اللحم … ليس ثمة أي شكٍّ في أن اللحم هو موضوع شفقة بيكن بامتياز» … لكنَّ اللحم هنا ليس لحمًا ميتًا، بل هو لحم يُحافظ على كلِّ الآلام ويحمل فوق جلده كل ألوان اللحم الحيِّ … «الكثير من الآلام والهشاشة، لكن مع الكثير من الإبداع الجميل وألوان وألاعيب بهلوانية.»٣١

إن بيكن لا يشفق على الحيوان تحديدًا إنما شفقته هي شفقة على كل إنسان يتألم. فكلُّ إنسان يتألم هو بالنسبة إلى بيكن لحم. هكذا يكون اللحم هو موضع اللقاء بين الإنسان والحيوان. هذه الحالة هي تحديدًا الحالة التي يلتحم فيها الرسام مع موضوعات فزعه وشفقته …

في الفصل السادس من كتاب منطق الإحساس نعثر على تعريف دقيق للإحساس كما التقطه دولوز من لوحات بيكن. يتعلق الأمر بتحرير الرسم من التشكيل والتجسيد والتمثيل. الشكل إحساس وليس تمثيلًا. الإحساس هنا هو الكائن في العالم في معنى فينومينولوجي. فأنا أصير كائنًا حين أنغرس في هذا الإحساس ويحدث شيء ما داخل نفس ذاك الإحساس معًا. الجسد هنا هو الذات والموضوع في الآن نفسه. لكن الإحساس هنا يناقض الإحساس العفوي البسيط والإكليشيات الجاهزة. ويحيل دولوز على سيزان: «الإحساس هو في الجسد، حتى لو كان جسد تفاحة، اللون في الجسد، الإحساس هو في الجسد وليس في الهواء. الإحساس هو ممَّا يُرسم، ما يُرسم في اللوحة، إنه الجسد لا بما هو ممثل بوصفه موضوعًا، إنما بما هو جسد معيش أي بوصفه يشعر بإحساس كهذا.»٣٢
أن ترسم الإحساس معناه أن تسجل الواقعة. لكن لا أحد يعلم تحديدًا «لِم يلمس رسم ما مباشرة الجهاز العصبي.» الرسم يشوه الجسد لذلك هو لا يحكي حكاية … بل هو يصرخ. إن كل شكل يرسمه بيكن هو إحساس متراكم أو هو متخثر كما في شكل الصلصال. وذاك هو معنى شعار بيكن: «لقد أردت رسم الصراخ بدلًا عن الرعب.» كل رسومات بيكن تحيِّد الإحساسي وتتناقض مع التشكيل. إنه بذلك يطرح جانبًا كل ما يثير الرعب … فحين يرسم بيكن مثلًا «البابا يصرخ، فلا شيء في رسمه يثير الرعب»، فهو يرسم الستار كي يعزل صرخة البابا، وذلك كي يمنعه من أن يُرى، ويجعله كما لو كان «يصرخ قبالة اللامرئي.»٣٣
يقول دولوز: «إن بيكن يحمل في ذاته كل عنف إيرلندا، وعنف النازية وعنف الحرب. إنه يمرُّ من رعب الصَّلب، وخاصة من قطعة الصلب، أو الرأس — اللحم أو الحقيبة النازفة»٣٤
إن الرسم لا يصلح إذن للحكي بل يصلح للصراخ. والصراخ يصلح لعزل الصرخة ومنعها من العيون … لا أحد يتماسك أمام الصراخ … لا أحد سيبقى في رتبة المتفرج … الصراخ ليس بثًّا للرعب إنما هو إحساس في سورته. لأنه طالما ثمة رعب ثمة حكاية تُحكى. وكلما كان ثمة حكاية ضيعنا الصرخة. فالحكاية تفترض ذاتًا تحكي بدلًا عن جسد يُحس. والحكاية تفترض معنًى أو واقعًا نحكيه فنشكِّله أو نجسِّده أو نتخيَّله أو نبكيه. الإحساس ليس شعورًا. لأن الشعور ذاكرة وتاريخ وقصة. إن العنف في الرسم ليس عنف الحرب. وهنا يذكرنا دولوز بمفهوم القساوة لدى أرتو: «إنه مثلما الأمر لدى أرتو: القساوة ليست ما نعتقده، ونادرًا ما ترتبط بما يقع تمثيله.»٣٥

ليس ثمة مشاعر في لوحات بيكن. ثمة أحاسيس أي غرائز تداعبنا مرة وتفترسنا مرة أخرى. إنه المرور من إحساس إلى آخر … لا شيء غير سلسلة من الحركات من أجل البحث عن أفضل إحساس. لكن مقياس أحاسيسنا القصوى ليس كمية المتعة إنما هو الإحساس الذي يملأ الجسد — اللحم في لحظة هبوطه أو تناقضه أو تمططه.

ثمة ضرب مما يسميه بيكن نفسه من «منطق الحس» في فنِّ الرسم. ما بين لون ما وذوق ولمس ورائحة وضجيج وثقل … هناك نوع من «التواصل» الذي يعتبره بيكن بمثابة «منطق الحسِّ»؛ أي لحظة غير تمثيلية للإحساس نفسه.

يعطي دولوز على ذلك مثالًا لوحة les corridas حيث «بوسعنا أن نسمع حوافر الحيوان» … وكذلك لوحة le triptique de 1976 «حيث نلمس ارتجافة العصفور التي تنغرس مكان الرأس»٣٦ … يقول دولوز: «من مهام الرسام إذن أن يبين نوعًا من الوحدة الأصلية للحواسِّ وأن يظهر للعيان شكلًا محسوسًا متعدِّدًا.»٣٧
figure
[Tapez une citation prise dans le document ou la synthèse d’un passage intéressant. Vous pouvez placer la zone de texte n’importe où dans le document. Untilisez l’onglet Outils de zone de texte pour modifier la mise en forme de texte de la citation.]
١  جيل دولوز — كلير بارني، حوارات في الفلسفة والأدب، والتحليل النفسي والسياسة، ترجمة عبد الحي أزرقان أحمد، ص ص٩٤-٩٥.
٢  نفسه، ص٧٩.
٣  نفسه، ص٨٠.
٤  Gilles Deleuze-Felix Guattari, Capitalisme et Schizophrénie, L’Anti-oedipe, Paris, Minuit, 1972, pp. 325 sq.
٥  نفسه.
٦  Gilles Deleuze et Félix Guattari, Capitalisme et schizophrénie 2, Mille Plateaux, Paris, les Editions de Minuit, 1980.
٧  Ibid., p. 9.
٨  Ibid., p. 10.
٩  Ibid., p. 24.
١٠  Ibid., p. 34.
١١  Ibid., p. 36.
١٢  Ibid., p. 615.
راجع ترجمة هذا النص: إطلالات على الجماليات بالعالم الغربي، مصدر سابق، ص ص٢٩٧–٣١٦.
١٣  Gilles Deleuze, Felix Guattari, Qu’est-ce que la Philosophie? Paris, les Editions de Minuit, 1991, p. 101.
١٤  جيل دولوز-فيليكس غتَّاري، ما هي الفلسفة؟ بيروت، مركز الإنماء القومي، المركز الثقافي العربي، ١٩٩٧م، ص١٧٣.
١٥  نفسه، ص١٧٢.
١٦  نفسه، ص١٧٣.
١٧  نفسه، ص١٧٤.
١٨  نفسه، ص١٧٥.
١٩  Gilles Deleuze, Logique de la sensation … p. 9.
٢٠  Ibid., p. 11.
٢١  Ibid.
٢٢  Ibid., p. 14.
٢٣  Ibid., p. 15.
٢٤  Ibid., p. 16.
٢٥  Ibid.
٢٦  Ibid.
٢٧  Ibid., p. 19.
٢٨  Ibid.
٢٩  Ibid., p. 19.
٣٠  Ibid., p. 20.
٣١  Ibid.
٣٢  Ibid., p. 27.
٣٣  Ibid., p. 29.
٣٤  Ibid.
٣٥  Ibid.
٣٦  Ibid., p. 31.
٣٧  Ibid.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤