الفن والفقراء
«إن الرسم أقوى مني، إنه يحملني على أن أعمل ما يريد.»
«لا أحد يموت بحصانة قبل أن تبدأ حياته.»
تقديم
هل يمكن للفقر أن يكون موضوعة جمالية؟ أو كيف التحديق في عيون الجياع بمقولات فنية؟ سارتر يقول: «ليس في العالم غير الأغنياء والفقراء وما تبقى هو مجرد لغو» … هذه الأطروحة تدفع بنا إلى تحرير مساحة الفن من السياسات السيئة لخيال الشعوب ومخزونهم الرمزي … إن تصنيف شعب ما إلى مسلمين وكفَّار، كما درج على ذلك الواقع العربي الحالي خاصة في بلاد «الربيع العربي»، قد لا يكون بالتصنيف الكفيل بمساعدتنا على فهم المشاكل الحقيقية لذاك الشعب ومدى قدرته على تقرير مصيره بنفسه، بل قد لا يكون هذا التصنيف سوى مغالطة سياسية لحجب السُّبل الحقيقية لمعالجة أوجاعه وتحرير أحلامه. فالغني المسلم والفقير المسلم لن يتقاسما نفس الذائقة الفنية كما لم يتقاسما نفس الرغيف … كلٌّ ونمط وجوده … كلٌّ ومحسوسه كلٌّ ومساحة الفرح لديه … وحده الجائع يتذوَّق مرارة الجوع بين أحشائه … أما المترفون فيكتفون بالفرجة … للجائع أن يتسوَّل خيرات بلاده وللمترف أن يسرق حلم غيره أو أن يتصدَّق برغيف هزيل …
لا يصلح الخبز للأكل فقط، ولا يصلح الفقر للتسوُّل فقط أو للصراخ في الشوارع … الفقر موضوعة فنية تصلح للرسم بالحرف أو بالكلمة أو بالصوت أو باللون الباهت …
لكن ما هو الفقر؟ المقصود ها هنا ليس فقر الفقراء في عرائهم وفراغ بطونهم وبؤسهم اليومي فقط، بل المقصود هو الفقر كمفهوم أنطولوجي لكل المنبوذين والمغضوب عنهم والساخطين في وجه ظلم الملوك والحكومات … الفقر هنا يحضن كل فنٍّ اختار أن يرسم الواقع من جهة الهامش لا من جهة الواجهة.
«الفن والفقراء» لم يصبح موضوعًا فنيًّا رسميًّا إلَّا في العصور الحديثة بالرغم من قدم موضوعة الفقر وأهميتها في رسم نمط وجود الحكماء والمبدعين … فديوجين الكلبي كان قد جعل من الملابس الرثة وسكنى البرميل نمطًا فلسفيًّا وفنيًّا للتهكُّم على الملوك البهرج. سقراط قد جعل من أقدامه الحافية نمطًا لظهوره حكيمًا يعلِّم الفلسفة للفقراء والعبيد … وأفلاطون نفسه بيع يومًا في سوق العبيد. والتوحيدي كان يمتهن مهنة النسخ من أجل رغيف يومه … وكثيرون من أهل الفن والأدب شبعوا تسوُّلًا في بلاطات الملوك كي يضمنوا قوت يومهم بقصيد يُقرأ أو طرفة تُمتع أو خبر يُروى أو رسم يُطلب … أمَّا عن مظاهر التمرُّد الفني على البؤس والتهميش فتعود إلى زمن بعيد: مع السفسطائيين الذين هم أبناء الشعب، أو مع الشعراء الصعاليك الذين جعلوا من الشعر والنهب نمطًا للتمرُّد على مظالم الملوك.
وفي الأدب تُعتبر رواية «البؤساء» لفيكتور هيغو بتاريخ ١٨٦٢م تجربة أدبية نموذجية اتخذت من الفقر موضوعًا رسميًّا لها. يقول هيغو في خطابه الأول حول «البؤس» بتاريخ ١٨٤٩م «إنني أنتمي إلى أولئك الذين يعتقدون ويشدِّدون على أنه بإمكاننا أن نقضي على البؤس» … وقد مثلت موضوعة الفقر والبؤس في الرواية العربية المعاصرة مسألة أساسية نعثر عليها في كتابات طه حسين «المعذبون في الأرض»، نموذجًا، وفي كتابات أخرى مثل نجيب محفوظ بخاصة وكُتاب آخرين من جنس محمد شكري «من أجل الخبز وحده» بتاريخ ٢٠٠٨م.
لكننا سنقتصر في هذا المقال عن الفن والفقراء في مجال الرسم التشكيلي الحديث بخاصة من خلال نماذج معيَّنة ارتأيناها نموذجية في الارتقاء بالفقر إلى اللوحة وجعل البؤس ذا عيون حادة تحدِّق في وجوهنا كلما حدَّقنا في واقع حكومات لم تنصف الفقراء يومًا. وفي الحقيقة اخترنا أن نقتصر على ثلاثة نماذج من الفن التشكيلي ونموذج من فنِّ التنصيب. وهي على التوالي موريليو في لوحة «المتسوِّل الشاب»، وغويا في لوحتي «الحجِّ إلى سانت إيزيدرو» و«كرونوس يلتهم أحد أطفاله»، وبيكاسو في لوحات «المتزهِّد» و«طعام الأعمى» و«تراجيديا» وأسرة لاعبي السيرك. وأخيرًا تنصيبات للفنان النيجيري ديلمبريزوليك بخاصة تنصيب «وجه المدينة».
وموريليو رسام إسباني ينتمي إلى حركة الباروك وهي حركة فنية وأدبية تقوم على أسلوب المبالغة في الحركة والتشديد على العناصر الدرامية وحالات التوتر والتناقض داخل الأثر الفني. وقد اشتهر موريليو باشتغاله على الحياة اليومية أي على مظاهر الفقر والبؤس وفئة المهمَّشين والمنبوذين. وهذا الرسَّام قد اعتبره أهل مدينته من أحسن رسَّامي المدينة. وقد اعتمد في رسومه على الألوان السَّاخنة والألوان الأرضية والرمادية القاتمة للتعبير عن موضوعة الفقر تحديدًا. كان شديد التأثُّر بواقعية فيلاسكاز … وهو من الفنانين النادرين في عصره الذي رسم بشاعة الفقر وأوجه التعاسة البشرية. وقد مات هذا الرسَّام وهو يرسم إثر سقوطه من سقالة كان يرسم من فوقها على جدار.
ماذا نرى في هذه اللوحة تحديدًا؟ إن استطعنا أن نورقها بحواسِّنا وأن نحررها من صمتها المقصود فنحن نلمس ها هنا طفلًا مهجَّرًا من طفولة مفقودة نحو شباب بلا أفق … طفلًا يتجه نحو الوحدة: وحدة اللوحة، فقر الرغيف، وانهيار لمعنى يفترضه المحدِّق بالصورة ثاويا في ركن ما من ركن لوحة تخزِّن بقايا أكل لم يعد مرغوبًا فيه …
طفل بأثواب رثة، بساقين متسختين، بقدمين حافيتين … يفترش الأرض وحيدًا في ركن ركين من عمق خراب تؤسِّس له الملوك والدول. هذا الطفل منشغل عنَّا تمامًا … إنه بصدد التخلُّص من القُمَّل … قمَّل البؤس والتهميش، قُمَّل السياسات الفاشلة في إدارة رغيف شعوبها. تبدو صحبة حشرة القمَّل هي الزَّاد الوحيد لهذا الشاب. لا شيء يحرسه غير إبريق وسلة تفَّاح مقلوبة على قفاها وبقايا طعام زهيد … لوحة تحمل صمتها وتمضي بعيدًا في أعين من يحدِّق لكنه لا يرى …
المتسول الشاب لا يتسول شيئًا غير شبابه المسروق وتفاحته المفقودة وقمَّل لا أحد قادر على تحرير الضمائر منه غير رسمه في حالة زحف على رءوس الجائعين.
هذه اللوحة هي من أشهر اللوحات العالمية التي وقع الاحتفاظ بها في متحف اللوفر في باريس. وقد وقع اعتبارها أشهر لوحة لتجسيد بؤس أطفال الشوارع: بؤس مجتمع لا يتسع لأطفاله … مجتمع لا يصلح إلا مجمَّعًا للحشود، مخزنًا لأوجاع مكتومة، مجتمع القحط … يعيش فيه أطفال المترفين ويتشرد فيه أطفال المعدمين … عدم يضاجع العدم في قلب اللوحة وقُمَّل يقضم ما تبقى من رأس غير مرغوب فيه … لذلك كان عنوان اللوحة الأصلي هو «الأقمل الصغير» وقد وقع تغيير عنوانها سنة ١٧٨٢م حينما دخلت متحف اللوفر … كأنما يحدث للحداثة أيضًا … أن تخجل من قُمَّلها الخاصِّ …
هذه اللوحة لفرنسيسكو دي غويا وهو فنان إسباني (١٧٤٦–١٨٢٨م) اشتغل في بداية حياته رسَّامًا في القصر الملكي، لكن حدوث الثورة الفرنسية جعل الملك الإسباني ينزعج من أفكاره التحررية فوقَّع إبعاده.
سنة ١٧٩٢م أصيب فرنسيسكو دي غويا بفقدان السَّمع وانتقل إلى السِّنين السُّود وإلى الرسم الأسود وجعل رسوماته فضحًا لمظاهر البؤس الناجمة عن فظاعة الحرب. وسانت إيزيدرو هو معلم ديني أمرت الإمبراطورة إيزابال دي برتغال ببنائه قرب عين طبيعية تعتبرها العقلية الشعبية أنها عين مقدسة، شافية للأمراض، ثم صار الحجُّ إلى سانت إيزيدرو احتفالًا شعبيًّا يوم ١٥ مايو من كل سنة بمدينة مدريد الإسبانية يرقص فيه أهل المدينة ويأكلون الأكلات الشعبية ويرقصون. لكن ما نراه في اللوحة أمامنا ليس احتفالًا بأي معنى … بل هو ذعر وفزع من كارثة تحدق بالجميع …
لوحة الحِّ إلى سانت إيزيدرو هي لوحة للحجِّ إلى العدم.
لا شيء ينبئ في اللوحة بأن ثمة قديسًا منقذًا من الكارثة أو مهديًّا منتظرًا … لا شيء ينتظرون … هم حشود متراصة … مخزن للفزع … لوحة عارية تمامًا من الكلام … متحررة من كل أشكال الحذلقة والضجيج … هو حج من نوع خاصٌّ جدًّا … لا أحد يعلم إلى أين سيحج هؤلاء، إلى أية جهة أو إلى أي إله … حشود في العتمة تتماهى مع ظلام اللوحة كآخر توقيع لبؤس بشري شاهق … قسوة الألوان القاتمة والهضاب الصخرية التي تحيط بها من كل مكان وتبتلع الحشود في عمق السَّواد … حتى السَّماء تحجرت … وفي أعلى اللوحة صخور متفاوتة تزدحم على حجب الأفق … فلا هي بالسُّحب المتبخِّرة ولا هي بالصُّخور الثابتة … كل شيء يهم بالفرار إلى مكان ما … لكنَّ هذا المكان نفسه لا وجود له … لأن اللوحة محتشدة أو لأن الحشود يتلهَّفون على الاستقرار على صدرها مخافة السقوط في الفراغ … كل الشخوص تتدافع نحو نفس الاتجاه دون أن يكون الرسَّام قد عين اتجاهًا ما … حالة من الهلع … كل يحمل رعبه في عينيه … كل يصمت عن آلامه بأفواه فاغرة … لا أفق ولا فتحة انفراج ولا ضوء … كل ما هنالك صيحات فزع مكتومة … بقدر عدد الأفواه التي غصَّت حناجرها عن أصواتها. هذه اللوحة هي الحج إلى كوارث الحرب ومظاهر البؤس والموت البشري … حشود تتسابق نحو اقتسام السواد …
لوحة تسطو على الآلهة لا كي تجمِّل الإلهي وتغري بالاقتراب منه أو بعبادته وتقديسه مثلما كان سائدًا في فنِّ الكنائس المسيحية، بل من أجل لفت النظر إلى أن الآلهة بوسعها أن تبتلع البشر، بل هي بصدد أكل أبنائها …
الإله الزمن الأسطوري يأكل أحد أبنائه … هنا يسطو الرسَّام على المخيال الأسطوري ويستدعي إله الزمن كرونوس من الميثولوجيا اليونانية والرومانية ويخلِّد لحظة توحُّش فظيعة: لأي شيء تصلح الآلهة؟ للحلم بعالم آخر؟ للتقديس والإجلال؟ للوعد بالخلاص؟ كل هذه المهمَّات التقليدية للآلهة لا ترضي شهوة الرسم. إله الزمن يحضر ها هنا كي يذكرنا بوجه آخر للإلهي: الزمن يأكل أطفاله ويبعث بهم كلَّ يوم إلى الموت … معركة عبثية مع الزمن تنتهي دومًا بانتصار الزمن على البشر … تعاسة البشر هي تلك النهاية المحتومة … الموت … لن يهلكنا إلا الدَّهر …
لكن غويا لم يستعد هذه اللوحة الميتافيزيقية التي تخلِّد عبثية الحياة والطَّابع المتناهي للإنسان كي يذكِّرنا بأن ثمة موتًا، وبأن الزمن يبتلعنا جميعًا كلَّ يوم. ما أراده غويا هو التشهير بطابع البؤس البشري في عصر يدَّعي أنه ذهبي في حين أن الآلهة أنفسهم تحوَّلوا إلى أكلة لأطفالهم من شدة الجوع الذي أصاب الجميع. هذا الجوع ليس جوع أحشاء الفقراء فقط بل جوع الملوك إلى لحم رعاياهم أيضًا …
هذا المتزهِّد ليس متزهِّدًا لله وفي الله بل هو متزهِّد في الحياة … التزهُّد ها هنا ليس عبادة بل هو مظهر من مظاهر البؤس وتعبير عن التَّهميش وقلة الحياة. المتزهِّد وحيد في لوحة قاسية بألوان باردة لا عواطف لها … كل شيء زهيد في اللوحة: الطعام … الصحن الفارغ … الإبريق البائس … المتزهِّد نفسه وحيد بلا سماء تحضنه وبلا أرض يقف عليها … حتى الألوان الأخرى تمنعت عن مؤانسته … حتى الله الذي إليه يتزهَّد قد رحل عنه أو التفت عنه إلى لوحات أخرى … أما عيناه فمجرَّد نظرة تخزِّن الشُّرود والعدم … لوحة بلا عمق ولا أفق … بلا بداية … بلا نهاية …
عائلة حذو البحر … خلاء بلا مدينة … طبيعة في عزلة بلا زائرين … عائلة بلا سقف يجمعها … لا شيء غير أجسام نحيلة وبطون خاوية … طفل مذعور … لا شيء يملكانه غير السَّكن في لوحة صامتة … بنحالة أجسامهم يفضحون البطون المتخمة … بيكاسو هنا لا يرسم أجساد الضَّحايا إنما يرسم الأحاسيس التي تختلج في هذه الأجساد. أجساد مذعورة يسحقها شبح البؤس وهشاشة الوجود تخترقهم منذ رءوسهم الجائعة إلى أقدامهم الحافية. لا أحد أتقن رسم الأحاسيس بحبكة ومهارة كهذه كما تدل عليه لوحة كهذه تتقن حمل عنوانها جيدًا «تراجيديا».
هذا الأعمى الذي يجلس في قلب اللوحة كشخص وحيد لرسم حزين انطفأت كل نجوم الأمل في عينيه. في مدينة صارت عمياء عن أبنائها … وحيد أمام صحن وحيد … يشكو الفراغ حذو صحن فارغ … صامت لا يرغب في أن يكلِّم أحدًا بل هو قرر ألَّا ينظر إلى المتفرجين … لأنه أعمى … عماؤه ليس قدرًا إلهيًّا بل هو قرار فنيٌّ لأجل فضح ظلم المدينة العصرية … لا شيء يصاحب هذا الأعمى في لوحته غير صحن فارغ وجرة يهمُّ بلمسها … وخبز لم يبدأ بعدُ في أكله.
وجه المدينة
لكلٍّ منَّا أن يرسم الوجه الذي يروق له في مخيلته حتى لو لم يكن رسَّاما. لكن حين تصبح رسَّاما قد تغادر كل الوجوه البشرية بحثًا عن نمط آخر من الوجوه. لا من أجل رسمه قصد الاحتفاء به بل من أجل فضح مواقع التشويه التي حدثت له. دولوز الفيلسوف الفرنسي المعاصر أوصانا بأن نهزم الوجه نكاية في سياسات الوجهية والواجهة … والوجه كفَّ عن أن يكون موضوع رسم منذ أن صار موضوع تصوير فوتوغرافي من أجل منصب أو خطة سياسية.
اللوحة الموالية في شكل تنصيب من تنصيبات الفنان النيجري المعاصر ديلمبريزوليك وهو رسَّام ونحَّات اشتهر بفن التنصيب … هذا الفن جعله يجوب المدينة كأنه برباش قمامة بحثًا عن ملابس قديمة ومعادن وسيارات خردة … فتراه يرسكل ما يعثر عليه من أشياء خرجت عن حيز الاستعمال فصارت زائدة عن اللزوم ملفوظة على قارعة القمامات … إنه يشتغل عن الأشياء المتروكة من أجل تحويلها إلى أعمال فنية … هذا الفنان وُلد بنيجيريا سنة ١٩٦٠م وهو متحصِّل على الأستاذية في الفنون الجميلة ومؤسس لمتحف «الأشياء الغريبة.»
لقد جمع هذا الفنان أكثر من ثلاثين قطعة خردة وألَّف بينها في شكل وجه سماه وجه المدينة … وهو تنصيب تحتشد فيه كل وجوه المدينة النيجرية المعاصرة … هذه الوجوه هي ما تبقَّى من الكائن البشري في نيجريريا في عصر ما بعد الكولونيالي … كائنات تعامل بشكل سيئ متروكة لحالها مهمَّشة كما لو وقع إلقاؤها في سوق الخردة. إن الفنان هنا يفضح من خلال تنصيباته وبخاصة «وجه المدينة» مساوئ النمو السَّريع للمدينة الأفريقية المابعد كولونيالية … وهو يفضح بوجه خاص لاغوس مدينة إقامته … وهي مدينة حدودية صحراوية توحي بالتوحش والفوضى وتحضن في صحرائها أكثر من ١٧ مليون ساكن وتُعد بمثابة العاصمة الاقتصادية لنيجيريا. وقد وقع اعتبار مدينة لاغوس عاصمة الفن النيجيري المعاصر … ها هنا يقع تنصيب غابة عمرانية في قلب مدينة صحراوية تكتظُّ بالبشر الذين صاروا أشبه بالخردة … في مدينة أوضاعها البيئية جدُّ متردِّية مع قيم الاستهلاك المشط وأزمة أخلاقية ناتجة عن التعصُّب الدِّيني. الفنان يفضح من وراء تنصيباته وجه المدينة المعاصرة لكائنات مكدَّسة في مساحات غير قابلة للسكن. إن الفنان يدعونا إذن إلى التحديق مليًّا في هذا الركام من الخردة البشرية حيث لا شيء غير وجوه البؤس والاغتراب للإنسان الأفريقي في عقر وطنه الخاصِّ.
هذا النوع من التنصيب يدعونا أيضًا إلى إعادة النظر إلى أنفسنا … بوسعنا أن نجد هوياتنا أيضًا في المدينة التي إليها ننتمي … نحن نكون أنفسنا بقدر ما نشبه «وجه المدينة.» الفن يحرِّرنا هنا من هوية التاريخ كي ينثرنا في تضاريس الجغرافيا … الجغرافيا السكانية … نمط الإقامة الذي يفرضه علينا وجه المدينة … سنكفُّ إذن هذه المرة عن اختزال ذواتنا في هوياتنا الدينية أو العرقية أو القومية.
لم يعد الفنان إذن مستعدًّا لتزيين جدران المنازل أو واجهات الكنائس بل صار مشغولًا بفنٍّ أكثر إثارة للتفكير … فنٍّ لا يفكر … هو فنٌّ أبله لا يصلح إلا لتزيين الواجهة … تواطؤ مع العالم. ذاك هو شعار هذا الفنان النيجيري المعاصر الذي كان يشتغل على الوجه الآخر للواقع ضدَّ الرسم النخبوي. شعاره في ذلك هو حاجة ملحة إلى فنٍّ يحمل كمِّية من التشاؤم الخلَّاق يحررنا من ضحكة الأبله الفارغة ومن ابتسامة المكر السياسي المسمومة.
اختيار الوقوف من جهة الهامش: ذاك هو قرار فنان نيجيريا الذي تجرَّأ على توقيع عمل فنيٍّ يشوه صورة مدينته بل يفضح وجهها الحقيقي. وقد وقع التشهير به بسبب هذا التنصيب سنة ٢٠٠٢م ووقع اتِّهامه بالجنون.
الجنون ها هنا هو ثمن فضح الحقيقة في جنونها الفظيع. لذلك يقرر الفنان ديلمبريزوليك أن يغادر الجمعيات والمؤسسات التي تعرقل الخلق الفني قائلًا: «إني أكره كلَّ ما يمكن أن يُكرهني على القول مثل الآخرين، فقط من أجل اكتساب اعتراف صغير. إني أسخر من اعترافاتهم جميعًا وأفضِّل رفض كل ما حطَّمته نُخبتنا العزيزة وكل ما تواصل تحطيمه.» هذا الفنان يعيش حاليًّا في ألمانيا ويعرض في بلدان أوروبية كثيرة وقد أقام متحفه الخاص وسمَّاه «متحف الأشياء الغريبة.»