الفصل الثالث عشر

الفن والمقدس

تقديم

يقول هيرودوت الشهير: «إن هوميروس هو الذي خلق آلهة الإغريق.» ويقول لونجان: «لقد خلَّد هوميروس تعاسة الآلهة.» ويقول أفلاطون «إني أحبُّ هوميروس، لكنَّ حبِّي للحقيقة أعظم.» أما أرسطو فقد ارتقى بالملحمة والمأساة إلى حدٍّ جعل منها شكلًا من التطهير لانفعالات الحزن والألم. أما نيتشه فقد اعتبر التراجيديا فنَّ الشَّعب اليوناني كأكثر الشعوب تمتُّعًا بالصِّحة النفسية في تحمُّل الوجود بكل ما فيه من هزائم وآلام ومعاناة. يقول نيتشه في كتاب مولد التراجيديا: «كيف بوسع هذا الشَّعب اليوناني ذي الإحساسية الفائقة والمندفع في رغباته والموهوب على نحو استثنائي في الألم، أن يتحمل الحياة لو لم تظهر له في شكل آلهته، وفي لمعان الانتصار الإلهي الأسمى؟ إن الغريزة الفياضة التي اخترعت الفن، تلك المحقِّقة للوجود والمسئولة عن إقناعنا بمواصلة الحياة في آنٍ، هي لعمري نفس الغريزة التي منها وُلدت آلهة الأولمب، حيث تتجلَّى الإرادة الهيلينية كما في مرآة» …

إننا هنا أمام وضعية تأويلية معقدة: هل يكون هوميروس الشاعر قد خلق آلهة الإغريق بأن منح شعب اليونان القديمة أقصى تعبير فنيٍّ بشريٍّ عن المقدَّس أم أن الشاعر لم يفعل في الإلياذة والأوديسا سوى الاستسلام ضمنيًّا وربما بشكل واعٍ ومقصود إلى نوع من التهكُّم القصصي الماكر من مقدَّسات اليونان ومن مخيالهم؟ من كان على حقٍّ في شأن المقدَّس: الشاعر الذي يخترع قصص الشعوب وينسج مخيالهم في أروع صورة؟ أم الفيلسوف (في حالة سقراط) الذي انتهى هو الآخر إلى شرب السُّمِّ تنفيذًا لقرار المدينة التي اتَّهمته بإفساد الشباب والمسِّ من كرامة الآلهة؟ أم ديونيزوس، نصفه إله ونصف بشر، ذاك الذي ظلَّ لذلك ملعونًا طيلة حياته، مترحِّلًا في العالم يعلِّم الناس العزف على الناي تارة ويدربهم على زراعة الكروم طورًا آخر، ويدفعهم إلى النشوة ومحبة الحياة إلى حدِّ الجنون، أطوارًا أخرى؟

لكلِّ شعب قصته الخاصة مع المقدَّس … فالفراعنة قاموا بتحنيط آلهتهم وبناء الأهرام معلمًا فنيًّا خالدًا من أجل دفن مقدَّساتهم وتخليدها معًا … والعرب يتحصَّنون بأسوار مكة بوصفها المعمار الرمزي العميق للمدَّس، والنصارى يزورون الكنيسة للاعتراف بخطاياهم واليهود يبكون على جدران مبكاهم … وكل بمقدَّساتهم فرحون.

في كلِّ الحالات تعود ولادة الآلهة الأولى إلى الفن سواء كان شعرًا أو قصصًا أو رسمًا أو نحتًا. إن الإنسان الأول الذي صنع منحوتة جلس قُبالتها وجعل يُصلي لها. لمن كان يصلي ذاك الإنسان يومئذٍ؟ لصنعته أم لآلهته؟ وعمَّ كان هوميروس يحدِّثنا، ذات تاريخ بعيد، عن آلهة الإغريق أم عن قدرته الخالدة في القصص وفي التخييل؟

وُلد المقدس في أحضان الفن وصار الفن تعبيرة قصوى عن المقدَّس … وترعرع كل منهما بين الرسوم الأولى على صخور العصر الحجري حيث لا كتابة ولا ديانة ولا خلافة ولا دول وحيث لا سياسات ولا مؤامرات ولا استراتيجيات … لقد وُلد المقدَّس في أهرامات الفراعنة قبل أن يصير ممكنًا التأريخ لمقولة الفن وقبل أن يصير ممكنًا الحديث عن تحريم للصور خوفًا على المقدس من أن يصير مرئيًّا أي في متناول العين البشرية. بل إن المقدَّس نفسه صار ممكنًا قبل تاريخ التقديس الرسمي للآلهة النظاميين بتواريخها المختلفة من الوثنية اليونانية والرومانية إلى ديانات الطوطم وعبادة الحيوانات وصولًا إلى ديانات التوحيد القائمة على فكرة الإله الواحد.

مغالطات

إن التفكير بثنائية الفن والمقدِّس يستدعي الانتباه جيدًا إلى جملة من المغالطات الكامنة في النسيج الحميم لسياسة الحقيقة الخاصة بهذه المسألة … وسنكتفي ها هنا بالتنبيه على أربع مغالطات هي التالية:

  • (١)

    إن استمرار التفكير بعلاقة الفن بالمقدَّس في حدود هذه الثنائية التي تفترض دومًا شكلًا من الصدام بين حرية الإبداع وقداسة الاتباع … والتي تؤدِّي دومًا إلى القول بالمسِّ بالمقدَّسات … هي ثنائية إيديولوجية من أصل ديني قائمة في جوهرها على تحريم الصُّور. وعلينا هنا أن نذكِّر بأن تحريم الصور هو عقيدة يهودية نابعة من الوصية الثانية من الكتاب المقدَّس القائلة بتحريم الوثنية وبعدم اتخاذ آلهة من دون الإله الواحد.

  • (٢)

    إن مسألة تحريم الصور في الإسلام هي نفسها موضع نقاش وخصومة … ليس ثمة نصٌّ شرعي صريح يحرم الصور في معنى الصور الفنية … وعلينا هنا أن نذكر فقط بالآية الوحيدة من سورة المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ}… والمقصود هنا ليس تحريم الصورة بل تحريم التصاوير في معنى التماثيل والأصنام، وذلك في سياق دقيق هو سياق تحريم تعدد الآلهة وتحرير النَّاس من الوثنية.

  • (٣)

    ليس ثمة وراء الخوف على المقدَّس من الفن خوفًا على المسِّ من حرمة الدِّين بل ثمة سياسات وأجندات وثمة خوف على العروش التي تزين واجهات الطغاة بالآيات الحكيمات … إن الخلط بين السياسة والدِّين وبين دور العبادة ومواقع السياسة هو الذي يجعل من علاقة الفن بالمقدَّسات علاقة متوترة. وعلينا التنبيه هنا إلى ضرورة طرح الأسئلة المناسبة في المواضع المناسبة: أين يبدأ المقدَّس وأين تنتهي السياسة؟ وأين يبدأ الخيال وأين ينتهي المخيال؟ من يدافع عن المقدَّس ومن وراء أي حزب سياسي يفعل ذلك؟ كلما أخطأنا هذه الأسئلة انزلقنا في متاهات إيديولوجية لا تفكر.

  • (٤)

    إن الفن الحقيقي لا يمسُّ من المقدَّسات بل هو يخلق طرقًا رمزية للارتباط به بتهذيب ذائقة البشر والتأليف بالتخييل والحلم بين قلوبهم … لا يسيء الفن إلى أي شيء جميل وقادر على بناء الألفة والإمتاع والمؤانسة بين النَّاس … فالفن الحقيقي لا يسيء إلَّا إلى أشكال استعباد الناس والسَّطو على حريَّاتهم وحقهم في الحلم بعالم أفضل … إن من يدنِّس المقدَّس ليس الفن بل السياسة التي تسطو عليه وتنفرد به وتوظفه لغايات إيديولوجية … في حين أن الفن لا إيديولوجيا له لأنه حارس الحلم والحرية. وبدلًا عن النظر إلى حرية الإبداع بعين الريبة والتجريم علينا أن نحرِّر المقدَّس من مكر السياسات ومن ضجيج الأحزاب ومن فوضى المشعوذين والدُّعاة …

الفن والمقدَّس هي مسألة حارقة، وما أكثر حرائقنا هذه الأيام! مسألة مات من أجلها من مات واضطهد من اضطهد وسُجن من سُجن وبعضهم تجري محاكمتهم اليوم تحت راية هذه المسألة … تُرى ماذا تخبئ واو العطف التي تحدق بنا ها هنا حينما تندس بين الفن والمقدَّس؟ يبدو أن هذه الحكاية لا تنبئ بأي عطف ولا شفقة … بل ثمة صدام ومعارك أحيانًا دموية … وثمة ضحايا اختلفت هوياتهم الثقافية والسياسية من اليسار إلى السلفية … ولعل من قبيل اللياقة الفكرية أن نذكر بادئ الأمر ببعض من وقع اضطهادهم تحت راية هذه الواو الخبيثة التي تجمع بين الفن والمقدَّس تحت رايات سياسية تسيء إلى المقدَّس وإلى الفن معًا: أسماء من قبيل الشاعر المشهور بشار بن برد، قديمًا، والرسَّام الفلسطيني ناجي العلي الذي وقع قتله، والشُّعراء مظفر نواب وسميح القاسم ومحمود درويش الذين اضطُهدوا وسُجنوا، وأسماء من قبيل محمد بن ذيب الشَّاعر القطري الذي حكم عليه بالسجن المؤبَّد من أجل قصيدة مدح للثورة التونسية، والشَّاعرة الكويتية ميسون السويدان التي وقع تكفيرها لجملة في قصيدة تقول: «تُهت في شوارع مكة أبحث عن الله فلم أجده في الحرم» … ولا ننسى أبدًا من مات تحت راية حماية المقدسات ولا من سُجن ولا من قضى نحبه إثر إضرابات جوع في سجون دول صارت تسمي نفسها حامية للحمى وللدِّين … ولا يهمُّ حينئذٍ الراية التي مات من أجلها أي من هؤلاء سواء كان من السلفيين أو من الحداثيين … فالموت واحد لا هو سلفي ولا هو علماني.

علينا إذن أن نتكلم ها هنا وفي أذهاننا نوعان من الشهداء: شهداء المقدَّس وشهداء الفن … والثقافة العربية بقيت منذ زمن مقطعة بين ضحايا يموتون من أجل حماية المقدَّسات وهم طيف من الإسلاميين يصنفون تحت عنوان السلفيين، وضحايا يحاكمون ويسجنون من أجل الإبداع الفني ويجري تصنيفهم تحت تهم مغرضة مختلفة العناوين فهم الحداثيون والفرنكفونيون والليبيراليون وشراذم اليسار والكفرة بدينهم وبملَّتهم.

إن إشكالية الفن والمقدس إشكالية غامضة تحمل في طياتها ثنائيات خفية من نفس العائلة المفهومية تتشابك معها أحيانًا وتتواطأ أحيانًا أخرى على نحو مريب … وذلك من قبيل المدنَّس والمقدَّس والحرام والحلال والمؤمن والملحد والهووي والكوني والأصولي والعلماني إلخ …

أطروحات

ثمة أطروحتان في الفكر المعاصر حول علاقة الفن بالمقدس: الأطروحة الأولى تدافع عن استقلالية الفن تحت لافتة الجماليات. فمنذ دخول الفن أفق الاستطيقا تحرر من أي هيمنة خارجية وخاصة تلك الهيمنة القديمة جدًّا التي مارسها المقدس على الأعمال الفنية خاصة الكنيسة المسيحية.

الأطروحة الثانية: يقودها عباقرة الفن أنفسهم منذ ولادة مقولة العبقرية مع الرومانسيين، إلى ظهور فنِّ الرائع المابعد الحديث الذي افترعه فلسفيًّا ليوتار بخاصة، وهي أطروحة تعمل على إعادة اكتشاف الروحانية العميقة والمقدسة للإبداع الفني بل وحتى إلى التصوف بوسائل فنية (كما في حالة سلفادور دالي الذي اخترع ما يسميه «التصوف النووي») أو نيومان بارنات الذي جعل الفن رسمًا لما لا يمثل.

إن النتائج المترتبة عن الأطروحة الأولى تؤدي إلى نوع من توتر العلاقة بين الفن والمقدس أو بين الأعمال الفنية والمؤسسات الدينية فيتحول الفنان إلى مناضل مضاد لأية وصاية دينية أو سياسية على الفن … وهو معنى تحول الفن الحديث في قسم كبير منه إلى فنِّ الالتزام بعامة فصار يمكن الحديث عن فنٍّ قومي وفنٍّ زنجي وفنٍّ ماركسي … وقد تم ذلك دومًا في إطار سياق تحرر من سياسة ما تريد الهيمنة على حرية الإبداع. ولم يجد نفسه من مخرج سوى أن يسخر نفسه لخدمة قضية سياسية بعينها تسمح له بأن يحتفظ بحريته في الإبداع وفي أداء رسالة اجتماعية وإنسانوية. وفي كل الحالات احتفظ هذا النوع من الفن الذي يشتغل تحت راية الجماليات الحديثة القائمة على مبدأ الاستقلالية، بعدو واحد هو اللاهوت الذي يهدد دومًا باسترجاع هيمنته القديمة على حقل الفنون.

أما النتيجة المترتبة عن الأطروحة الثانية الهادفة إلى استعادة روحانية العلاقة بين المقدس والفن، فهي أطروحة لا تنشغل رأسًا بحرية الإبداع بل بالعكس يدعي بعض عباقرة الفن المعاصر في الموسيقى (فاغنار) وفي الشعر (غوته وهولدرلين) وفي الرسم (دالي) أن الفن هو الأقدر على التعبير عن المقدس واختراعه بأشكال مغايرة، إلى حد اختراع شكل آخر من التصوف الفني.

الأطروحة التي نريد الدفاع عنها ها هنا هي التالية: إن استقلال الفن عن المقدس بواسطة الجماليات ربما لا يكون سوى ادعاء منهجي لا ينسحب إلا على فلسفة الذات الأوروبية وهي أطروحة لا تصلح لكل الثقافات … وخاصة قد لا تصلح لثقافة لم تطور كفاية مفهوم الذات وبالتالي لم تكتشف الجمال على أساس البحث عن مقولات كونية للذوق الفني … ولأننا ننتمي إلى ثقافة من هذا النوع الذي لا يفكر في نطاق فلسفة الذات ولا يقارب الآثار الفنية بواسطة جماليات الذوق الفني القائمة على مقولة الفرد الحديثة، بل نحن نتحرك في نطاق ثقافة لها تقاليد عريقة في الإبداع الفني وفي نقد شروط هذا الإبداع من دون المرور بفلسفة الذات ولا باستطيقا الاستقلال المنهجي للفن عن دائرة المقدس، فإن الأطروحة التي سنحاول اختبارها هي التالية: أن الفن والمقدس لهما قرابة عريقة وعميقة من الجهتين: لقد كان الفن مقدسًا لآلاف السنين وكان المقدس لا يعبر عن نفسه كأرقى ما يكون إلا بواسطة الفنون … لقد أودعت كل الحضارات مقدساتها في فنونها، وإن الحضارات ما كان لفنونها أن تعيش وأن تزدهر أو تُخلد لولا ذلك الدور العظيم الذي أدته حيث ساعدت الشعوب على التعبير الكوني عن مقدساتها.

لذلك فإن كل تصادم بين الفن والمقدس هو تصادم زائف أي سياسي ونعني بذلك هو مفعول غير مباشر ومريب لأزمة عميقة في السلطة. وكل شعب يعاني من أزمة في تصوره للسلطة ولطريقة حكم نفسه المناسبة هو يميل إلى افتعال تصادم بين الفن والمقدس: أي بين حرية الإبداع ومشاعر الإيمان. ليس ثمة إذن تصادم بين الفن والمقدس إلا في مجتمع مهزوز من جهة شكل السلطة فيه، أو في مجتمع مهزوم أمام نفسه. ليس ثمة فنٌّ حقيقي يهدف إلى الإساءة إلى المقدسات. فالفن لا يسيء إلا إلى أشكال الاضطهاد والاستبداد بفضحها وإسقاطها. أما في علاقته بالمقدس فالفن بوسعه أن يمنح المقدس أروع تعبير عنه دون أن يكون خادما لأي دين ولا منصاعًا لأية سياسة دينية. إن المقدس أوسع نطاقًا من الدين وإن المسيء الحقيقي للمقدسات هو الاستعمالات السياسية الحالية لها بغاية انتصارات انتخابية وضجيج أحزاب كرتونية.

وعليه بوسعنا تنزيل هذه المسألة ضمن ثلاث مشاكل نظرية ترهق السياق العربي الحالي في علاقته بالمنظومة العالمية:

  • (١)

    مدى استعداد ثقافتنا إلى العلمنة الجذرية القائمة على نزع القداسة عن العالم كأول تعريف للحداثة نفسها كما صاغه ماكس فيبير.

  • (٢)

    مدى قدرة هذه الثقافة التي ننتمي إليها على الحرية الجذرية أي على الاعتراف بالإبداع كتعبيرة قصوى على إمكانيات الحرية.

  • (٣)

    مدى قدرتنا بوصفنا ذواتًا ننتمي إلى منظومة قيم كونية على ترجمة هويتنا القديمة في انتماء إيجابي ونشيط للإنسانية الحالية.

ما معنى الإساءة إلى المقدسات؟ وهل يمكن تجريم الفن الذي هو في جوهره تجربة حرية مستقلة عن كل إيديولوجيا؟ ولماذا لم تستطع الثورات العربية أن تقدم لشعوبها ما قدمته الثورات العالمية أي مزيد من الحقوق والحريات؟

مفاهيم

الفن: في أصلها اليوناني تعني عبارة techné جملة النشاطات التي نقوم بها وفق قواعد معينة. ولقد كان اليونان يصنفون تحت هذه العبارة كل المعارف والفنون والحرف وكذلك واصل العرب استعمال عبارة الفن في نفس الغرض … مع التنبيه على الوعي الجمالي الرائع الذي نعثر عليه في التراث العربي الإسلامي حيث وقع تخصيص عبارة «الفن» بكثافة لفن الإضحاك و«فن الاستظراف» كما تجلى ذلك مثلًا في كتاب «المستطرف في كل فنٍّ مستظرف» لشهاب الدين الأبشيهي (١٣٨٨–١٤٤٨م).
أما لدى الرومان فلم يكن ثمة فرق بين الجميل والنافع لأن كل ما يقوم به الروماني إنما يقوم به لغاية ما. إن مقولة الفن لم ترتقِ إذن إلى مستوى المفهوم الصناعي إلا في عصر النهضة الإيطالية. وتحديدًا منذ ١٥٥٠م (كما نص عليه كتاب يعتبر حدثًا لولادة مفهوم الفن وهو كتاب: Vasari “Les des plus excellents peintres sculpteurs architectes …”) وذلك يستوجب ولادة مفهوم الفنان نفسه. هذا الحدث لم يكن ممكنًا إلا مع ظهور التوقيع والتحول من الحرفي إلى الفنان. في عصر النهضة الإيطالية وقع الاعتراف إذن بفن الرسم والإعلاء من شأنه بجعله في مرتبة العلوم الرياضية كما أراد له ليونار دفنشي (١٤٥٢–١٥١٩م) الذي كان يُعتبر في عصره نموذج الإنسان الكوني ورمز إنسان النهضة … قبل ذلك التاريخ لم نكن نعرف غير أسماء الأباطرة والملوك التي أمرت بتصميم المعالم المعمارية الخالدة أو الزخرفة أو الخط والنقوش والنحت إلخ … فنحن نؤرخ لمسجد رائع التصميم باسم الملك أو الخليفة الذي أُنجز في عهده ولا نعرف الفنان المعماري الذي صمم ذاك المعمار. فرغم زخم التراث الإسلامي بالزخارف والنقوش والنمنمات والخط العربي فلم يكن يسمى الفنان فنانًا ولم يكن يجوز له أن يوقع على أعماله … لقد كان حرفيًّا في خدمة الدين فقط. وهو ما ساد أيضًا بالنسبة إلى العصور المسيحية في الكنائس وصور العذراء والتفنن في نحت الصلبان.

لقد كان الفن إذن قبل عصر النهضة في خدمة المقدس الذي فوض للملوك حق الوصاية على الرعاع إلى حد يصبح فيه الملك خليفة لله على الأرض والدولة مقدسة هي بذات نفسها مثلما يذهب إلى ذلك الفيلسوف الإنجليزي الحديث هوبز.

لذلك فنحن حينما نتكلم عن الفن والمقدس فنحن لسنا أمام مجرد مفاهيم من ورق تحلق بعيدًا عن المعارك التاريخية الحقيقية التي خاضتها الشعوب … إن كل ولادة لمفهوم هي نتاج لمخاض تاريخي عسير. وكما يقول ماركس: «إن الإنسانية لا تطرح من المشاكل إلا ماهي قادرة على حلها.» ونيتشه يقول: «إن الأفكار العظيمة هي أحداث عظيمة» …

ذلك يعني تحديدًا أننا حينما نتكلم عن تاريخ ولادة مفهوم الفن بوصفه مفهومًا حديثًا لم يستطع الوصول إلى الركح التاريخي الماكر للإنسانية إلا متأخرًا فنحن نقصد أن ثمة قرابة عميقة بين ولادة الفن وولادة براديغم الحداثة. فماذا نعني بذلك؟

إن المقصود هو التالي:

  • (١)

    علينا أن نشير أولًا إلى أن مفهوم الحداثة قد ارتبط في معناه الدلالي اللفظي الأول بالتحول الذي عاشته أوروبا من عهد الإمبراطورية الرومانية إلى عهد المسيحية الرسمية وذلك في القرن الخامس الميلادي. أما مفهوم الحداثة كتصور للعالم فالبعض يؤرخ لظهوره بسيطرة الإمبراطورية العثمانية على القسطنطينية سنة ١٤٥٣م، والبعض يؤرخ لها بصدور كتاب كوبرنيك «ثورة الأجرام السماوية» (١٥٤٣م) وبعضهم يجعلها تبدأ مع بلزاك (١٧٩٩–١٨٥٠م) وآخر يفضل بودلير في نص له تحت عنوان رسام الحياة الحديثة (١٨٦٣م) وبعض آخر يذهب إلى أن شاتوبريان (١٧٦٨–١٨٤٨م) هو المخترع للفظ الحداثة في كتابه «ذكريات ما بعد القبر» (١٨٠٩م).

  • (٢)

    وفي كلِّ الحالات فإن الحداثة التي تهمنا هنا هي تلك الحقبة الروحية التي دخلت إليها الإنسانية منذ الثورة العلمية مع نيوتن وغاليلي وكوبرنيك والثورة الفلسفية مع كانط الذي عبر عن روح الحداثة بما تنص عليه من معالم فلسفية وسياسية للإنسان الحديث بوصفه مواطنًا وبوصفه ذاتًا وبوصفه شخصًا أخلاقيًّا حرًّا وقادرًا على المواطنة الكونية في العالم.

  • (٣)

    لكن هذه المكاسب الحديثة لم تكن ممكنة إلا بثورات ضد الملوك الذين حكموا باسم الرب (وهي الثورات الأمريكية والإنجليزية والفرنسية). أي إن الحداثة ليست شعارًا أو ترفًا فكريًّا بل هي نتاج معارك شرسة ضد لاهوت الكنيسة الذي كان يديره الأباطرة والطغاة بعد أن استعبدوا الناس قرونًا تحت راية الدين وسلطة الرب في الأرض. فالحداثة ما كانت ممكنة بدون أحداث أليمة من قبيل حرق برينو سنة ١٦٠٠م ومحاكمة غاليلي سنة ١٦٣٣م وذلك في نفس اليوم الذي أكمل فيه ديكارت كتاب «العالم» لكنه امتنع عن نشره وهو كتاب لن يظهر إلا سنة ١٦٦٤م … إن ولادة الفن بوصفه مجالًا مستقلًّا عن الكنيسة استوجب إذن تحرير المحسوس من وصاية اللاهوت والسياسة المقنعة بوصايا الكنائس والكهنوت الأرثوذوكسي. وهو أيضًا معنى تأخر ولادة الاستطيقا بوصفه علمًا بالمحسوس مناظرًا تمامًا للعلم بالمعقول على يد الفيلسوف الألماني بومغارتن سنة ١٧٥٠م.

  • (٤)

    ونظرًا لعلاقتنا الحالية المتوترة بالحداثة فإنه علينا أن ننبه هنا إلى أن كل من لا يزال يختزل الحداثة في تراث غربي خطير على هويتنا إنما يعبر عن موقف مهزوم تجاه تراث كوني صار يخترق الجميع بوصفه نمط الإقامة التاريخانية المنتصر في العالم الحالي. وإن كل من يختزل الحداثة في تهم تافهة من نوع التفسخ الأخلاقي والاغتراب الروحي والشذوذ والكفر نقول لهؤلاء الأرهاط «كفاكم ابتزازًا للحداثة … تستعملون مكاسبها وانتصاراتها في كل شيء من الهاتف إلى البارابول إلى أنترنات إلى رفاهة النزل إلى ركوب الطائرات والتنقل من بلاد إلى بلاد لنشر الشعوذة والخرافات على الفضائيات وتشتمونها كلما انهزمتم في التصالح مع أنفسكم ومع مقدساتكم ومع شعوبكم» … لا أحد منا مخير في أن يكون مع الحداثة أو ضدها … لأنها هي التاريخ الحالي الذي يدير ركح التاريخ الإنساني برمته. لا أحد بطل هنا لأنه لا أحد قادر على الخروج من زمانه حتى الأباطرة الأشد سلطة أو الآلهة الأشد قداسة.

المقدس

Quados, hieros, sacer, sacré تعني كل هذه العبارات «ما هو مفارق» و«ما هو خاص بالله». وتقابلها عبارة profanos أي الدنيوي والتي تعني تحديدًا «ما هو خارج عن المعبد». ويتضمن مفهوم المقدس تحديدًا كل القوى غير القابلة للإدراك لتصبح بذلك قوى عجيبة مرعبة أحيانًا مثيرة للإجلال أحيانًا أخرى. وقد استأنست الإنسانية بالمقدس فصممت له المعابد والكنائس والمساجد لتتحصن بها من خوفها وهشاشتها أمام جبروت القوى المفارقة التي تعتقد في وجودها. إن المقدس يعني تحديدًا أن الإنسان ليس كائنًا ملقى به وحيدًا في عالم الكاووس بل إن لعالمه تناسقًا ومعنى ولوجوده غاية. أما عبارة Homo sacer أي الإنسان المقدَّس فهي عبارة موجودة في الدستور الروماني وتعني ما يلي: شخص وقع طرده من الجماعة ويمكن لأي كان أن يقتله ولا يمكن أن يصلح هذا الشخص حتى قربانًا داخل طقس ديني فهو شخص لا يملك أي حق مدني.

ويقول مرسيا إلياد كأهمِّ من كتب في رمزية المقدس والدنيوي ما يلي: «يتجلى القدسي دائمًا من صعيد آخر غير صعيد الحقائق الطبيعية وقد تعبر عنه اللغة تعبيرًا ساذجًا بأنه الهول أو الروع أو الجلال أو السرُّ الآسر» (المقدس والدنيوي، ترجمة نهاد خياط، دمشق، ١٩٨٧م، ص١٢). وفي مقابل المقدس ثمة الدنيوي … غير أن هذا التقابل ليس بديهيًّا لدى جميع الشعوب حيث يذهب مرسيا إلياد إلى أن «العالم الدنيوي في مجمله أي الكون المجرد تمامًا من القدسية هو اكتشاف جديد للعقل البشري.» وذلك يعني أن «نزع القداسة عن العالم» حدث متأخر جدًّا في تاريخ الإنسانية. وهو حدث صار اسمه تحديدًا الحداثة. فالحداثة حسب تعريف ماكس فيبير لها هي «نزع القداسة عن العالم.» ويقول مرسيا إلياد: «إن نزع صفة القداسة عن العالم هو الذي يميز الخبرة الكلية للإنسان غير الديني الذي يعيش في المجتمعات الحديثة» (ص١٥ من ن. م).

إن المقدَّس حقل شاسع وملتبس لأنه يمس مجال خصوصية كل ثقافة والقول بكونيته في معنى إجماع كل الشعوب على نمط واحد من المقدس ليس سوى ادعاء ايديولوجي قائم على مركزية ثقافية لا تؤدي إلا إلى صدام الهمجيات. فبعض الشعوب تعتقد أن المقدس مبثوث في كل مكان بوصفه نوعا من القوة الخفية المسئولة عن كل سعادة وعن كل شقاء. وبعضها يذهب إلى أن المقدس هو الذات الإلهية فقط وما دون ذلك من العالم الدنيوي أو المدنس.

نماذج تاريخية للعلاقة بين الفن والمقدَّس

يمكننا القول إن طبيعة العلاقة بين الفن والمقدس لم تكن هي نفسها دومًا على مر التاريخ. وبوسعنا أن نتكلم عن ثلاثة نماذج من العلاقة وفق علاقة شعب ما بشكل ما من التدين أو بشكل ما من الحاجة الروحية إلى المطلق:

  • النموذج الوثني: وهو نموذج لا نعثر فيه على توتر بين الفن والمقدس. وذاك هو حال الأهرامات الفرعونية حيث يكون الفرعون هو نفسه الإله والملك وهو الذي يسكن المعمار الفني. كما هو حال التراجيديا اليونانية التي تجعل من آلهة اليونان شبيهين بالبشر في انفعالاتهم وآلامهم وأحلامهم. فلا فاصل في التراجيديا بين الدين والفن وبين المسرح والحياة وبين المقدس والمدنس.

  • النموذج التوحيدي: مع ديانات التوحيد يبدأ الفصل بين الفنِّ والمقدس وذلك انطلاقًا من الوصية الثانية من الكتاب المقدس «لا تتخذ من دون الله شبيهًا لا في السماء ولا في الأرض» … وقد استأنف الإسلام هذه الوصية بشكل أكثر تسامحًا وأكثر انفتاحًا على اﻟﺘﺄويل والاجتهاد. وهو ما تصرح به «سورة المائدة ٩٠». على أن المقصود هنا ليس تحريم الصور الفنية بل تحريم عبادة الأصنام. أما المسحيون فقد انتهوا بأن أجازوا التجسيد وهم بذلك تجاوزوا التوتر بين الفن والمقدس. وهو ما اعتبره غادامار طريقًا لازدهار الفنون التشكيلية في الغرب المسيحي: «ويبدو أن الآباء اليونانيين قد استخدموا بعدُ هذا النحو من المسارات الفكرية الأفلاطونية المحدثة، وذلك حين تخلوا عن معاداة الصور التي في العهد القديم. ففي تحوُّل الربِّ إلى بشر هم قد رأوا نحوًا من الاعتراف الأساسي بالظاهرة المرئية وتحصلوا من ثمة بالنسبة إلى أعمال الفنِّ على وجه من الشرعية. ويحقُّ للمرء فعلًا أن يرى في هذا التجاوز لمنع الصور الحدث الحاسم الذي من طريقه صار ازدهار الفنون التشكيلية في الغرب المسيحي ممكنًا.»

  • النموذج الحديث: ليس ثمة فيه توتر بين الفن والمقدس لأننا صرنا نتحرك في عالم نُزعت عنه صفة القداسة. وصار الفن أداة تحرر من كل أشكال الهيمنة بتحرير طاقات من الحرية والإبداع والعوالم المغايرة الممكنة. للمقدس معابده وللفن فضاءاته الخاصة.

وقائع من الثقافة الإسلامية

سوف أتوقف عند ثلاث وقائع من تاريخ الثقافة الإسلامية تدل على أن العلاقة بين الفنِّ والمقدس ليست مجرد علاقة جمالية بل هي علاقة سياسية بالأساس.

  • الواقعة الأولى: تتعلق بحسان بن ثابت الشاعر المدَّاح للرسول والمنافح عنه ضد شعراء قريش … وهو في تقديرنا أبرز مثال على تجند الفن في خدمة المقدس والدفاع عنه بموافقة وتشجيع كبيرين من قبل الرسول … وهو ما يدل على اعتراف صريح بصلاحية الفن ودوره السياسي في ترسيخ قيم مجتمع المقدس.
  • الواقعة الثانية: تتعلق بكعب بن زهير الذي هجا الرسول فأُهدر دمُه لأنه كان يتحزب لقريش ضد المسلمين ولكن عندما لم يجد من يجيره من الرسول … عاد إليه ومدحه وكان ذلك سبب العفو عنه (قصيدة بانت سعاد) … وهذا يعني أن الفنَّ هو سبب التصالح مع المقدس كما كان سبب النزاع معه (وفي الحقيقة السبب في الحالتين لا هو ديني ولا هو فنيٌّ بل هو سياسي).
  • الواقعة الثالثة: هي واقعة بشار بن برد الذي قُتل بسبب شعره. وهو أقصى اصطدام وقع بين الفن والمقدس … والسبب هو هجاء الشاعر للسلطان … غير أن المثير في هذه الواقعة هو أن السبب الذي أُدين به بشار مباشرة (أي تهمة الزندقة) لأنه كان يؤذن وهو سكران في غير أوقات الصلاة … المشكل هو إذن هذا الصدام الحاد بين الشاعر والمقدس … في الظاهر السبب هو الاعتداء على المقدس … لكن في واقع الأمر السبب الحقيقي هو هجاء الخليفة ووزيره لإمساك العطاء عن الشاعر على الرغم من مدحه لهما … وهذا يعني أن سبب التصادم بين الفنِّ والمقدس هو سبب سياسي وليس سببًا دينيًّا ولا جماليًّا … لذلك أُلصقت تهمة الزندقة بواقعة قتل بشار لتبريرها أمام العامة.

    علينا طبعًا أن نضيف أن المعلقات هي نفسها علامة كبرى على ربط رسمي بين الفن والمقدس في المجتمع الوثني العربي … لأن حمل القصيدة إلى المعبد وتعليقها على باب الكعبة ينفي الشعور بأي تصادم بين الفن والمقدس … بل يدل على أن أقصى ما يبلغه الفن في أيام ما قبل الإسلام هو أن يُعلق في المعبد.

مقاربات فلسفية حديثة

سنتوقف هنا عند أربع مقاربات أساسية:

  • (١)
    كانط: يمكننا اعتبار أن كانط هو صاحب أهمِّ قرار فلسفي حاسم في شأن العلاقة بين الفن والمقدس وذلك بتأسيسه لمقولة استقلالية الفن عن كل حقول المعرفة والتخييل الأخرى. ولقد وقع ذلك تحديدًا في تحليلية الرائع من كتاب نقد ملكة الحكم … حيث يقع اقتراح معنى جمالي للتعلق بالمطلق تحت راية الرائع محررًا بذلك ميدان الجميل من ميدان الجليل. فالرائع الجمالي ليس هو الجليل اللاهوتي. (وهو ما قمنا بالاشتغال عليه ضمن الفصل الأول من كتابنا «الفن يخرج عن طوره»).
  • (٢)
    مقاربة هيغل: يقول هيغل في كتابه الاستطيقا الجزء الأول ما يلي: «إن المهمة العليا للفن هي تلك التي يشترك فيها مع الفلسفة والدين … إن الفن مثل الدين والفلسفة هو نمط للتعبير عن الإلهي؛ أي عن الحاجات والمطالب الأكثر سموًّا للروح» …

    ويعتبر أن «الشعوب قد أودعت في الفن افكارها ومقدساتها … وإن الفن يمثل أحيانًا الوسيلة الوحيدة لفهم ديانة شعب ما» ويتأسف هيغل على الفن الذي لم يعد له تلك المهمة العليا التي كانت له مع الإغريق … حيث صار إلى موضوع للتمثل وفقد بذلك طابعه المباشر وامتلاءه الحيوي وكثافته الحسية وعلاقته بالإلهي … إن هيغل ينتمي إلى براديغم الفن المسيحي القائم على تجسيد المسيح … ففي تجسيد المقدس ليس ثمة عنده أي إساءة له بل هناك تقريب له من محبيه ومقدسيه … «إن نقول عن الله كونه واحدًا وأن نقول عنه كونه مقدسًا ليس سوى تجريد فقير» …

  • (٣)
    مقاربة هيدغر: يقول هيدغر في كتابه أصل الأثر الفني من أجل تعريف الأثر الفني متخذا من المعبد اليوناني مثالًا نموذجيًّا: «إن أثرًا معماريًّا، معبدًا يونانيًّا هو لا يستنسخ شيئًا. إنه ينتصب ها هنا في غير شيء وسط وادي الصخور المتوعر. إن الأثر المعماري يحيط بتمثال الإله ويجعله ضمن هذا الإخفاء ينتصب خارجًا عبر الرواق المفتوح في الميدان المقدس … إن أثر المعبد، إنما يفتتح في مثوله عالمًا ويضعه في الوقت نفسه عودًا على الأرض، التي تبرز هي ذاتها على هذا النحو فحسب بوصفها أرض الوطن … إن المعبد، في مثوله، إنما يهب الأشياء، أول ما يهب، المنظر الذي لها ويهب بني الإنسان أول ما يهب نظرتهم إلى أنفسهم» … هكذا إذن يكف المعبد عن أن يكون صالحًا للعبادة وللتقديس كي يكون أثرًا فنيًّا يهدي إلى الحقيقة وهي بصدد الحدوث … لكن ما هي هذه الحقيقة؟ لا يتعلق الأمر بحقيقة جاهزة لا يكون الأثر المعماري إلا علامة عليها أو معلمًا في خدمتها، إنما يكون هذا المعبد أثرًا فنيًّا معماريًّا يمثل في قلب الصخر كي ينصب عالمًا يمكن للإنسان أن ينظر انطلاقًا منه إلى بقية الأشياء التي تحيط به دون أن تملك كينونة فنية. لكن ما هو العالم الذي ينصبه المعبد اليوناني بوصفه أثرًا فنيًّا؟ بالنسبة لهيجر لا يقال العالم على كل الموجودات بنفس المعنى؛ فالإنسان فقط له عالم أما الحيوان والحجر فبلا عالم. يقول: «ليس العالم مجرد تجميع للأشياء القائمة ما يمكن أن يُحصى منها وما لا يمكن … إنه حيث تقع القرارات الجوهرية لتاريخنا، سواء أأخذناها على عاتقنا أم أعرضنا عنها، أكانت مُنكرة أم مُفتشة عليها بالسؤال من جديد، ها هنا يعلُم العالم … إن الحجر لا عالم له. كذلك ليس للنبات أو للحيوان أي عالم … وعلى الضد من ذلك فإن الفلاحة لها عالم» …
  • (٤)
    غادامير: يقترح علينا تأويلية للأثر الفني تقوم على تصور طريف وغير مسبوق للصورة بوصفها ليست نسخة لأي أصل ما دامت لا تحاكي أي شيء بل هي صورة فحسب … ويمكننا أن نجمع أهم المعاني التي قصدها غادامار في النقاط التالية:
    • إن كل لقاء بالأثر الفني هو «لقاء بأنفسنا.» وذلك يعني أن الأثر الفني ليس بضاعة للمتعة الجمالية بل هو تجربة فهم أي تجربة حقيقة في معنى نمط من الوقوع تحت فتنة الأثر الفني والدخول في لعبة تنتهي بتجاوز علاقة ذات موضوع الاستطيقية … وهو لعب من شأنه أن يفتح أمامنا حقيقة أنفسنا أي حقيقة وجودنا في العالم.

    • يذكِّرنا غادامار أن الصورة لم تولد كمفهوم إلا في عصر النهضة بوصفها صورًا تكتفي بذاتها … منذ عصر النهضة حصل طلاق بين الصورة والأصل. لم تعد الصورة نسخة لأي أصل … غادامار يسعى إلى تحرير الصورة من براديغم الوعي الجمالي.

    • يتعلق الأمر بولادة فكرة العرض … الصورة في الفن التشكيلي بوصفها تعرض في المعارض … نتحول إذن من التجسيد إلى العرض … التجسيد هو نسخة لأصل … والعرض هو صورة فقط … يقول غادامار: «إن العالم الذي يظهر في لعبة العرض لا يقوم مثلما نسخة بجوار العالم الفعلي بل هو العالم ذاته في الحقيقة العليا لوجوده.»

      إن ما يقصده غادامار هو أن الصورة قد تحررت من ميتافيزيقا النسخة والأصل. ذلك أن النسخة ليس لها من مهمة أخرى غير أن تشبه الأصل … لذلك فقدرها هو أن تلغي نفسها بنفسها لأنها ستكون دومًا وسيلة من أجل محاكاة النموذج …

      على عكس الصورة التي يتعين قوامها بوصفها نحوًا من فيض الأصل. وفي هذا السياق تحديدًا وقع تخلي المسيحيين في العصر الوسيط عن معاداة الصور … فبقبولهم تجسيد الرب هم قد اعترفوا بالظاهرة المرئية … يقول غادامار: إن الصورة حدث وجود فضمنها يأتي الوجود إلى التجلي المنظور والمليء معنى … «إن الصورة إنما تقيم على الأرجح مع عالمها صلة لا تنفصم» …

    • علينا أن نضيف في هذا السياق تأويلًا آخر يهمنا جدًّا نعثر عليه لدى غادامار في نص له تحت عنوان «التجربة الجمالية والتجربة الدينية.» وفي هذا النص يعتبر غادامار «أن التوتر بين التقليد الديني» والتقليد الشعري هو سمة التمييزات الغربية بين الفن والعقل والدين …

      هناك شعوب يكون فيها السؤال عن الفرق بين المقدس والدنيوي والفرق بين الفنِّ والدين سؤالًا غير لائق … من قبيل الشعوب الهندية والصينية … وهناك شعوب تعيش الفن والدين والفلسفة والعلم في قصيد أو طقس مقدس أو رقصة صوفية.

      علينا أن نشير هنا إلى أن كل جماليات الرائع (التي كانت موضوعًا لكتابنا «الفن يخرج عن طوره») منذ أدرنو وليوتار وبنيامين إنما هي اشتغال على نوع من العود إلى علاقة ما بين الفنِّ والمقدس ونجد ذلك لدى رسامين من قبيل بارنات نيومان Barnett newman (١٩٥٤م) الذي خصه ليوتار باهتمام كبير والذي اشتغل على رسم «ما لا يمثل»؛ أي المطلق بوصف الفن لا يجسد ولا يمثل ولا يعبر بل هو يوحي فقط، الفن مجرد نداء.

وكذلك سلفادور دالي الذي انهمك في الفترة الثانية من تاريخ رسوماته إلى الفن المقدس للتشريع لما سماه «التَّصوف النووي».

خاتمة

خلاصة القول: إن الحديث عن الفن والمقدس قد بقي إلى حد الآن سجين سياسات ماكرة تنتهي في غالب الحالات إلى السقوط في تجريم الفن تحت تعلة «المس بالمقدَّسات.» لكن يبدو أن هذه العبارة المس بالمقدسات هي نوع من المؤامرة السياسية ضد الفن وضد الإسلام. وينتهي الأمر في آخر المطاف إلى تشويه الإسلام بوصفه غير قادر على التسامح والحرية. السؤال المحرج للجميع إذن هو التالي: هل أن الثقافة الإسلامية ثقافة غير قادرة على الحرية؟ أم أن مكر السياسات التي تمولها أجندات عالمية هي التي تدير انفعالات هذه الشعوب بشكل مسيء لها وتضحك على هزائمها الداخلية؟

إذا كان لدينا مشكلة مع المقدس فذاك يعني أن لدينا مشكلة مع أنفسنا. لا ينقصنا الإيمان بالله بل ينقصنا الإيمان بأنفسنا. نحن كائنات هشة مجروحة معطوبة في هويتها بل نحن أبناء سلسلة من الانجراحات: فنحن جرحى الاستعمار ونحن جرحى الاستبداد المحلي ونحن جرحى اللوبي الصهيوني والأمريكي ونحن جرحى ربيع عربي يقع السطو عليه كل يوم ونحن جرحى الحكومات الإسلامية الفاشلة في إدارة مشاعر المسلمين على نحو صحي وعادل.

وإذا كانت لدينا مشكلة مع الفن فذاك يعني أن شعوبنا لا تتمتع بالعافية الكاملة كي تحتضن مبدعيها بكل بهجة؛ لأنها شعوب خائفة من الداخل من كمية الحرية التي بحوزة الفن والإبداع. إننا لم نتقن بعدُ المصالحة بين مخيال قديم وخيال كوني حديث لذلك نحن نتعثر في علاقتنا بالحرية. وراء الخوف من الفن على المقدس ثمة بالأحرى خوف على العروش التي تحتمي بالمقدس الديني كي تبرر غطرستها واستبدادها على شعوبها. إن شعبًا بلا مبدعين هو شعب لا يستحق الانتماء إلى حديقة الإنسانية الكونية.

وبدلًا عن التلويح بقوانين لحماية المقدَّسات من الفن لماذا لا نشرع لقوانين تحمي المقدسات من تجارة السياسات وخرافات المشعوذين والمنافقين الذين يبيعون عقول الشعوب بالدولارات؟ ليس ثمة من فنٍّ حقيقي يهدف إلى الإساءة إلى المقدسات بل إن الفن هو حارس حقل الحريات … إن الفن لا يدافع إلا عن الحق في الإبداع أي عن حق الشعوب في الحلم بعوالم مغايرة. وبالتالي فكل عملية سطو سياسية على ميدان الإبداع ينبغي تجريمها لأن في ذلك اغتيالًا للحرية الممكنة لشعب ما. إن الفن لا يدافع عن أية سياسة حتى لو تعلق الأمر بسياسة ثورية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤