الفصل الثاني

أية «حداثة جمالية» في عصر الحواس؟

«إن الشعب الحر هو الشعب الذي يلعب.»

شيلَّر
هل ما زال الجميل شعارًا للفنِّ في عالم ربما يكون الجمال، بعبارات فاجعة لأدرنو، قد أفل عن سمائه مرة واحدة؟ وماذا تبقَّى من الفن ومن الفلسفة ومن الإنسان أصلًا، في عصر لم يفرغ مفكروه بعدُ من الإعلان عن سلسلة من النهايات والموتات وأفعال الحداد: بحيث لا نكاد نفرغ من نهاية الفن التي أعلن عليها هيغل، وموت الإله الذي أذاع خبره مجنون المعرفة المرحة لنيتشه، ثم نهاية الميتافيزيقا والاستطيقا نفسها، على يد هيدغر، إلا ونحن مورطون بواقعة موت الإنسان الذي راهن على اندثاره فوكو، كما لو كان الأمر يتعلق «بوجه من الرمل مرسوم على حد البحر» كما تقول الكلمات الأخيرة من كتاب الكلمات والأشياء.
هل ما زال بوسع الفن حينئذٍ أن «يعبر الهاوية» التي شخَّصها كانط في صلب مصالح العقل البشري في انقسامه بين النظري والعملي دونما توسط، منذ كتاب نقد ملكة الحكم لكانط (١٧٩٠م)؟ أم أن ما يحدث للإنسانية الحالية أكبر من الهاوية التي استشرفها عقل كانط التنويري، وأكبر من «الفنون الجميلة» نفسها؟ أو هي «هاوية غير قابلة للاختراق» أصلًا بعبارات كانط نفسه؟ لذلك نحتاج إلى «قنطرة فوق الهاوية»، وتلك في الحقيقة هي المهمة الموكولة لحقل الاستطيقا برمَّتها، مثلما أراده كتاب النقد الثالث نفسه. وربما لم تغير الاستطيقا من هذه المهمة منذ كانط إلى حد الآن غير القليل. ألم تفعل كل النصوص التي كتبت في الفن منذ كانط إلى دريدا غير «نسج المجازات» والإكثار منها ونثرها على تخوم الحداثة، وفق ما نعثر عليه ضمن كتاب الحقيقة في الرسم لدريدا، من أجل أن تجوِّز العبور من العقل النظري إلى العقل العملي، ومن الطبيعة إلى الحرية، من أجل أن تصالح بين الإنسان ومشاعره وغرائزه وأوهامه وخياله ومخياله معًا؟
لكن هل يكفي المجاز أو الاستعارة الحية للعبور بسلام داخل طيات الشعور البشري، مثلما تلوح بذلك بعض الأفكار الجميلة لبول ريكور، أم أن الاستعارة نفسها قد انكسفت واستقالت مثلما يعتقد في ذلك دريدا؟ هل بوسع مجرد «اللعب الحر للمخيلة» أن يحرر البشر وأن يصنع لهم آفاقًا جديدة؟ أم أننا نحتاج إلى أن يكون الأثر الفني بيننا «لعبة جدية مقدسة» على حد عبارة لطيفة لغادامار؟ ما علاقة الفن بالمساحة الكبرى للمقدس بعد موت الإله المسيحي والعودة القوية إلى الديني؟

(أ) الحداثة والجماليات أو في المنعرج الاستطيقي للفلسفة منذ «نقد ملكة الحكم»

في واقع الأمر ثمة إشكالية فلسفية عامة ظلت موضع اهتمام خاص لدينا، بوسعنا التعبير عنها كما يلي: أن هناك ضربًا من التشابك العنيد بين مسألة الحداثة، التي ما فتئ كبار الفلاسفة المعاصرين يختصمون في شأنها منذ نيتشه إلى هابرماس وليوتار ودريدا ورورتي، وبين جملة من التحولات العميقة التي طرأت على مفهوم الإنساني بعد الإعلان عن موت الإنسان بوصفه ذاتًا. وهي تحولات جعلت العقل الفلسفي المعاصر يمر، على معانٍ عدة، مما يسمى بالنزعات الإنسانوية، من كانط إلى ماركس، إلى النزعات المضادة للإنسانوية، بوصفها الاسم الآخر للنقد الجذري للحداثة أو لما بعد الحداثة نفسها، وذلك منذ نيتشه إلى ليوتار مرورًا بأدرنو ودريدا. والطريف في كل ذلك هو أن ما حدث لمفهوم الإنسان بعد موت الذات، إنما حدث تحديدًا على أرضية الاستطيقا. ألم يولد مفهوم الحداثة نفسه تحت قلم بودلير الذي سماه أدرنو «عندليب الحداثة؟» أي من بين أيادي الشاعر، وفي نص له حول فنِّ الرسم يحمل عنوان «رسام الحياة الحديثة»؟ كذا الأمر في خصوص مفهوم «ما بعد الحداثة» نفسه الذي ولد في حقل فنِّ المعمار تحديدًا.
إن ما حصل للإنسان على ركح الحداثة الاستطيقية (التي دشنها كانط) هو المرور بالعقل الحديث من مديح للإنسان الذات وقد صار بوسعه أن يعلن عن نفسه على لسان ديكارت، «سيدًا ومالكًا للطبيعة»، إلى جَلْدٍ له ولغطرسته التي لم تنتج وفق عبارة لنيتشه غير «المشاعر الباردة» ولعنة الحياة والعدمية بكل أشكالها. على ركح الحداثة الاستطيقية مر الإنسان إذن من الإنسانوية إلى انفجار مفهوم الإنساني نفسه.
إن الأمر يتعلق تحديدًا بمنعرج جمالي للفلسفة المعاصرة مثلما يتم الحديث عن منعرج لغوي أو عن منعرج تأويلي. وقد سار على درب هذا المنعرج الجمالي ثلة من أقطاب الفكر الفلسفي المعاصر منذ نيتشه إلى رورتي. ولكن بالرغم من أن نيتشه هو الذي افتتح هذا المنعرج الجمالي للفلسفة المعاصرة بشكل رسمي باستبداله الميتافيزيقا الحديثة للذاتية بما يسميه منذ كتاب مولد التراجيديا «ميتافيزيقا الفن»، فإننا نفترض أنه منعرج تعود جذوره الأولى إلى كتاب نقد ملكة الحكم لكانط.
ذلك أن الأمر لا يتعلق فحسب بالصياغة الفلسفية الأساسية للاستطيقا الحديثة التي اخترعها بومغارتن، بل بفتح للفلسفة نفسها على ملكة جديدة تمامًا هي ملكة «الحس بالمشترك» الذي يجمع البشر في تعددهم واختلافهم تحت راية تشريع واحد هو تشريع الحكم الاستطيقي بوصفه براديغمًا أساسيًّا لما يسميه شيلَّر «التربية الجمالية للإنسان»، أو لما تسميه حنا آرندت صحبة الآخرين و«العيش معًا» تحت راية مبدأ العمومية، أو لما يسميه اليوم جاك رنسيار «اقتسام المحسوس»، في فضاءات ما بعد سياسية وما بعد طوباوية.
إننا نعتبر أن كل الذين ركبوا درب هذا المنعرج الجمالي للفلسفة بمثابة استئنافات مختلفة وصياغات جديدة لمسائل جوهرية طرحها كتاب نقد ملكة الحكم لكانط. لقد صمم هؤلاء الفلاسفة الذين يسمون بالنزعة المضادة للإنسانوية من أدرنو إلى ليوتار وجوهًا مختلفة من «الإنسان الجمالي» الذي أعلنت عنه الرسالة ٢٣ من رسائل شيلَّر في التربية الجمالية للإنسان، واستشرفته استطيقا كانط منذ ١٧٩٠م من خلال مفهوم «الجمال الحر». يبدو إذن أن مجال الاستطيقا بعامة وميدان التجربة الفنية بخاصة، هو الميدان الذي استمرت فيه الذات الحديثة مشروعًا حيًّا ومستمرًّا ومفتوحًا. وبالتالي لقد وفرت الجماليات أرضية صالحة للحد من نتائج الموت الميتافيزيقي للذات الحديثة.

(ب) من «العقل المحض» إلى «مجرد العقل» أو ما معنى أن نفكر «بلا مفهوم»؟ الاستطيقا براديغمًا عامًّا للبحث في الإنساني

ينبغي علينا أن ننبه إلى أن الاستطيقا مفهوم يتسع إلى أكثر من ميدان مغلق على الجميل أو على نقد خاص بالفنون ونظرياتها. الاستطيقا هي كل الحقل الشاسع الذي اكتشفه كانط تحت عبارة ذات شأن فلسفي لدى الجماليين المعاصرين، هي عبارة «بلا مفهوم»؛ أي كل ما يفلت من ربقة العقل النظري العلموي الوضعي الذي ينزع إلى تحويل كل شيء إلى موضوع، أو إلى بضاعة. إن الاستطيقا؛ أي مجال «اللعب الحر للمخيلة» تختص بكونها قابلة للانفتاح على الإتيقا وعلى سياسات المحسوس بأشكالها. ذاك هو معنى القران الفلسفي المثير بين ميدان الاستطيقي وميدان الإنساني عمومًا. ونعني بذلك أن كل أعمال كانط بعد ١٧٩٠م (الأعمال ما بعد النقدية في الدين والتاريخ والإتيقا والسياسة والأنثروبولوجيا) هي تنضوي من حيث منزلتها الفلسفية تحت لواء السؤال الثالث عن كل هذا الميدان الذي يظل البحث فيه بحثًا تفكريًّا في كل ما هو «بلا مفهوم»؛ أي كل ما لا يمكن للعقل المحض أن ينتج منه معرفة تحليلية أو «أحكامًا تعيينية» أو قوانين عملية.

(ﺟ) الجمالي والإنساني

إن مفهوم «الإنساني» يقوم على معنيين اثنين. أما عن الأول فهو القاضي بأن الإنسان لا يخرج أمره عن الإنسان؛ أي إن الإنساني لا معنى له إلا في حدود عقولنا، وإن كل ما هو ناجم عن طبيعة عقولنا هو إنساني بحت. ولذلك فإن العنوان القائل «الإنسان في حدود مجرد العقل» إنما يعني في لغة كانط معنى الإنسانوية الأصيلة؛ أي الإنسانوية قبل أن تتحول إلى نزعة ثقافية دغمائية تبرر الهيمنة على البشر. وربما نحتاج إلى تنشيط لهذا المعنى الكانطي من الإنسانوية، الأصيل المتفائل والبريء، بعد موت الإنسان/الذات (الذي بشرت به سردية التقدم التنويري)، ولكن هذه المرة على أرضية الاستطيقا، وعبر السؤال عن معنى الفن المعاصر بما هو كفيل باحتضان السؤال الكانطي الثالث أي أفق «الأمل» (أو الرجاء) الممكن للعقل البشري في عصر نهاية اليوطوبيات الكبرى.
«الإنسان في حدود مجرد العقل» عبارة نرتضيها من أجل استعادة استطيقية ﻟكانط راهنا مرة أخرى بعد كل أشكال العودات إليه كما لو كان كانط، وعلى حد عبارة جميلة لدريدا، ضربًا من «الوشم» الفلسفي لجماعة المنتمين إلى حوزة العقل البشري المعاصر. مع كانط نفهم أن طبيعة الإنسان وطبيعة العقل البشري واحدة. وبالتالي فإن كل مشاكل الإنسان وبخاصة تلك التي اعتقدنا طويلًا أنها تتعالى على العقل البشري من حيث أجوبتها (الدين والميتافيزيقا والسياسة) هي منذ كانط قد دخلت في حظيرة العقل البشري ولم يعد ممكنًا أبدًا التفكير فيها إلا «في حدود مجرد العقل».
وليست هذه العبارة سالبة كما يظن المتعجل بل هي عبارة موجبة: «في حدود مجرد العقل»؛ أي على أساس طبيعة العقل البشري وحدها. مجرد بمعنى بسيط أي هو لم يدخل في تركيبته أي عنصر غريب عن طبيعة العقل البشري. «عقل مجرد»؛ أي عقل بسيط أي عقل واحد، عقل صرف ومن هنا فهو عقل إنساني، مفرط في إنسانيته.

لكن ما هو يا ترى الطرف الذي وقع استبعاده في عبارة كانط «في حدود مجرد العقل»؟ أو «في حدود العقل البسيط»، أو «في حدود العقل بمجرده»؛ أي كما هو في طبيعته، وليس كما تحكم عليه هيئة غريبة عنه، وخاصة متى ادعت أنها أعلى منه مثل الدين أو السياسة؟

إن الطرف الذي تم استبعاده في عبارة كانط هو كل هيئة تزعم أنها يمكنها أن تعزل العقل وأن تحكم عليه من خارجه أو تكون وصية عليه، في ما يتخطى حدوده النظرية. وليس المقصود بذلك في سياق كانط إلا الدين، ولكن أيضًا كل شكل من الدغمائية المعطلة لنقد العقل وكل شكل من الاستبداد، سواء تعلق الأمر بالعقل النظري أو العقل العملي أيضًا. مجرد العقل تعني تحديدًا العقل وحده ودون سواه، بوصفه أسمى ملكات التشريع الإنساني التي لا شيء يسمو فوقها مهما كانت قداسته. الإنسان في حدود العقل الاستطيقا وحده؛ أي الإنساني في استقلال صريح وحازم عن كل هيئة تدَّعي تفوقها على العقل البشري ومحاكمته من خارجه؛ أي من خارج الطبيعة الإنسانية نفسها …
منذ كانط أصبح كل ما هو رائع على مقاس الإنسان وجزءًا من قدره بل وربما هو قدره الذي يختفي في طبيعته وحواسه وفي خياله وفي عقله معًا. لقد تمَّت أنسنة الرائع مع كتاب نقد ملكة الحكم بشكل مذهل، وهنا نعني فنَّ الرائع رأسًا، لن يكون خروجه وشططه إلا من أجل فتح حقل العقل البشري على كل المستطاع الذي بحوزته.
لن يكون عبور الهاوية — تلك التي فصل بها كانط بين العقل النظري والعقل العملي — ممكنًا إذن إلا بشكل إنساني وفي حدود العقل الإنساني ومخيلته وحواسه ومخياله معًا. وأية هاوية تلك التي أرَّقت كانط الشيخ طويلًا وجعلته يكرس كل فلسفته ما بعد نقد ملكة الحكم (١٧٩٠م) إلى الاشتغال على حقل الإنساني بما هو حقل الرائع بكل أشكاله منذ الشر الجذري أو الحرب والسلم أو مجال التاريخ البشري بوصفه مسرحًا للخبث والتدمير ونسيجًا من الجنون.
إن الفن لن يكون براديغمًا جوهريًّا لعبور هاويات الشأن البشري إذن إلا بشكل إنساني وبكل ما في الإنسان من الانفعال العميق. لا عبور للهاوية إلا بما يتجاوز حواسنا وخيالنا وعقولنا معًا. لكن هذا الإمكان ينبغي دائمًا أن ننبه إلى أنه إنساني تمامًا، وهو بذلك لا يحتاج إلى أي تدخل خارجي في طبيعة الإنسان، أكان من «الأشياء في ذاتها» (كما كان يأمل القدماء) أو من «الآلهة» أو العقول المفارقة (كما كان يرجو فلاسفة العصور الوسطى.)
إن الإنساني يغدو حينئذٍ هو الواسطة بين ما يستطيع العقل النظري أن يعرفه وما يجب على العقل العملي أن يفعله؛ أي بين الطبيعة والحرية. لقد وضَّح لنا كانط إذن الطريق إلى الانتقال من الحقيقة إلى الخير من خلال براديغم الاستطيقا؛ أي من خلال الجميل والرائع. لكن مع كانط لم يعد الفن يكتفي بالدفاع عن جميل له شرط التصالح مع الحقيقة والخير. لم يعد الفن في تحالف مع الأخلاق أو مع الدين ولم يعد يرضى بطرد شعرائه من مدينة الفيلسوف. مع كانط صار الشاعر العبقري خصمًا جديًّا للفيلسوف: لأنه يستطيع أن يدفع على التفكير «بلا مفهوم»؛ أي من دون معونة الفيلسوف.
لقد كانت قراءة آرندت لكتاب نقد ملكة الحكم لكانط بردِّ هذا الأخير في آخر المطاف إلى مجرد «متفرج على العالم»، بهذا المعنى قراءة أحادية؛ لأنها أسقطت كل تحليلية الرائع من اعتبارها، وذلك تحت نفوذ هيدغر الذي صمت عن هذا الرائع الكانطي مرة واحدة …

(I) أية حداثة استطيقية نبحث عنها من خلال الإنسان الاستطيقي في عصر ما بعد الإنسانوية؟

إن هذا السؤال يجد مبرره في بعض «تردد» كانط ما بين تحليلية الجميل وتحليلية الرائع. رب تردد إنما يدل على إحراج عميق واجهه كانط الشيخ إزاء المسألة الجمالية. وهنا بوسعنا أن نذكر بعض الأمارات الكبرى على هذا الإحراج: لعل أولاها تخلِّي كانط عن العنوان الأصلي للنقد الثالث، الذي كان ينوي عنونته بنقد الذوق، ورفضه الكلام عن عقل جمالي مناظر للعقل النظري وللعقل العملي. لكنه مع ذلك جعل الرائع على قرابة مباشرة بالعقل بدلًا عن المخيلة. وصرح في مقابل هذا بأن تحليلية الرائع ما هي إلا «ملحق» لا يتضمن ما تتضمنه تحليلية الجميل من ثراء استطيقي وهو أمر لا يتناسق مع تنزيله الفن نفسه ضمن منعرج تحليلية الرائع بدلًا عن الجميل. أضف إلى ذلك تنصيب كانط فنَّ الشعر بوصفه أعلى مراتب الفن؛ ذلك لأن الشاعر فحسب هو الذي بمستطاعه أن يذهب بملكة الأفكار الجمالية، أو ما يمكننا تسميته «العقل الجمالي» نفسه، إلى أقصى مداها، وبالتالي اعتبار ملكة الرائع أسمى الملكات إطلاقًا.
أية حداثة استطيقية إذن؟ هل هي حداثة الرائع أم حداثة الجميل؟ وهنا نقترح أن نميز بين الجميل والرائع كما فعل كانط، ولكن بالاعتماد على تمييز آخر لم يفعله كانط بشكل صريح، ألا وهو التمييز (غير الوارد في اللغات الغربية) بين الجمالي والاستطيقي، أو هو ما لا يتوفر إلا بتوضيح فيلولوجي في اللغات الغربية وإن كان توضيحًا سعيدًا وبديهيًّا في اللغة العربية. إن الجمالي هو ما يتعلق بطبيعة الجميل (هذا الذي يمتع على نحو كوني بلا مفهوم). أما الاستطيقي فهو ما يتعلق بالرائع من حيث هو حالة «أيستيزيس»؛ أي حالة إحساس حاد بما هو عظيم بإطلاق. أي إن الأمر يتعلق بما يدفعنا الإحساس به إلى تعطل آلة الحس نفسها. إنها الروعة؛ أي الصدمة المنجرة عن الإحساس بما يتخطى قدرة الحواسِّ وقدرة التخييل ويعطلها.
كيف نفهم الرابطة الآن بين السؤال عن الحداثة الاستطيقية والثنائي المفهومي «الجمالي والإنساني»؟ — علينا أن نعيد الكرة في السؤال ليس فقط: «أية حداثة استطيقية»؟ بل وأيضًا، أية إنسانوية استطيقية نريد؟
في الحقيقة إن ما قُدم تحت عنوان «حداثة استطيقية» لا يقصد منه إلا إنسانوية جمالية؛ أي إنسانوية الجميل، المؤسسة على الاستعمال العمومي للجميل كنوع من الاستهلاك الصالح للفرد الليبيرالي في مجتمع الفرجة. أما الإنسانوية الاستطيقية بالمعنى الذي نسعى إلى تبينه، فهي تتعلق بما لا يقبل أن يختزل في البضاعة العمومية للجميل. إن الأمر يتعلق بذلك النوع من الفن الذي خرج عن طوره وذهب ليقطف تلك الزهرات الجنائزية الشيطانية، زهرات الشر والقبح والفظيع والمرعب التي حولتها السينما إلى صورة فنية، صارت هي الفن نفسه ولكن الفن لم يعد فيه للجميل من قيمة إلا كلاسيكية فحسب.

سوف نقف على تشخيص فلسفي للمشكلة التالية: أن ميدان الاستطيقا قد دخل منذ كانط في خصومة فلسفية حادة بين أصحاب الجميل ودعاة التواصل والكونية الجمالية من جهة، وبين فلاسفة الرائع الذين جعلوا الفن أداة مقاومة وشهادة على ما يحدث للبشر في مجتمع صار لاإنسانيًّا تمامًا.

يتعلق الأمر إذن بنقيضة فلسفية مؤرقة ما بين دعاة الحداثة بوصفها مشروعًا ينبغي استكماله، وبين النقاد الجذريين للحداثة بما هي مرحلة ينبغي القطع معها أصلًا. إنها النقيضة الاستطيقية للحداثة: ما بين دعاة إتيقا النقاش العمومي حول الفن الجميل وأصحاب الشهادة على الرائع بالكتابة والتفكيك والنقد السالب والتهكم … على لاإنسانية الوضعية «ما بعد الحديثة».

(II) في دلالة «الحداثة الاستطيقية»: أو في الخصومة بين حداثة الجميل وحداثة الرائع

(١) إشكالية «الحداثة الاستطيقية» ما بين الإنجاز والنقد الجذري: هابرماس أم ليوتار؟

لئن كانت عبارة modernus اللاتينية — حسب بحث طريف ندين به إلى هانس روبارت ياوس،١ استحداثًا مسيحي الأصل يرجع إلى القرن الخامس ميلاديًّا، وقد عنى به أهله تمييز الأزمنة المسيحية الجديدة عن الإمبراطورية الرومانية الوثنية القديمة، فإن مفهوم الحداثة، مثلما صار اليوم إلى إشكالية فلسفية اختصم في شأنها كبار الفلاسفة المعاصرين من ليوتار إلى هابرماس ورورتي، قد ولد على نحو استطيقي تحت قلم بودلير في نص له حول أحد الرسامين تحت عنوان «رسام الحياة الحديثة».
هل يعني هذا أن إشكالية الحداثة إنما هي في جوهرها إشكالية استطيقية؟ هنا ينبغي التنبيه إلى شساعة هذه العبارة من جهة ما تفترض أفعالًا مختلفة من النقد والتأويل والتحطيم والتفكيك والاستئناف معًا. وأية صدفة مريعة تجمع بين النشأة المسيحية الدينية لعبارة الحداثة، والحقل الاستطيقي الذي ظهرت فيه كإشكالية فلسفية كبرى منذ نيتشه إلى دريدا ودولوز؟
وربما يجوز أن نقول في الحقيقة إن الحداثة لم تولد كإشكالية فلسفية قسمت الفكر المعاصر إلى شقين متخاصمين، إلا على نحو من ردة الفعل العنيدة التي دشنها هابرماس تحديدًا في كتاب جمع فيه كل أطياف الخطاب الفلسفي في الحداثة (١٩٨٥م) من هيغل إلى فوكو، مدافعًا في كل ذلك عن ضرورة استئناف المشروع الأصلي للحداثة الذي خرج عن مساره منذ نيتشه، وذلك بفتح العقل الحديث على براديغم جديد هو براديغم العقل التواصلي وإتيقا النقاش والتذاوت.

غير أن الطريف في كل ذلك هو أن «الخطاب الفلسفي للحداثة» يبدو وكأنه قد كتب تحت ضرب من الضغط الفلسفي الذي مارسه مخترعو حقل ما بعد الحداثة وبخاصة ليوتار وكل الذين دشنوا «عمل الحداد» على الإنسان الحديث. وقد قرر هابرماس أن يحاكم هؤلاء واحدًا واحدًا ناعتًا إيَّاهم ﺑ «الفوضويين الاستطيقيين المحافظين». لقد فتح نيتشه، حسب هابرماس باب النقد الجذري للحداثة على مصراعيه. مع نيتشه «تفقد الحداثة تميزها» وتصير إلى مجرد حقبة داخل تاريخ طويل من العقلنة التي بدأت منذ سقراط. وإن أشدَّ ما يهم هابرماس هو أن كل ما وقع ضمن كل المنعرج الاستطيقي للفلسفة المعاصرة، إنما هو تنفيذ لمشروع نيتشه.

لكن هذه الفلسفات التي اقترحت الخروج من الحداثة بواسطة براديغم «ما بعد الحداثة» سقطت جميعًا فيما يسميه هبرماس «التناقض الإنجازي» بين نقد العقل من جهة واستعمال هذا العقل نفسه في ذلك النقد. ما علاقة ما بعد الحداثة التي هي في جوهرها حداثة الرائع، بالحداثة التي هي حداثة الجميل؟ هل ينبغي القطع مع الحداثة بوصفها آلت إلى حقل هيمنة للعقل الأداتي على الإنسان أم بوسعنا تصحيح مسارها والتصالح مع مشروعها الأصيل واستئنافها؟ أم علينا التخلي مرة واحدة عن براديغم الحداثة برمته لأنه صار بلا جدوى إزاء ما يحصل للفن وللإنسانية الحالية معًا؟

لقد تبين لنا كم أن مفهوم الحداثة مشحون ومثقل بالنزاعات الفلسفية الحادة حول معنى ما يسميه فوكو، في نصه حول مقالة كانط حول «ما هو التنوير»، «أنطولوجيا الحاضر». لقد اقترح كل من ليوتار (١٩٧٩م)، وهابرماس (١٩٨٥م) ورورتي (١٩٨٢م)، تأويلًا حول إمكانية مواجهة الأزمة التي سقط فيها العقل البشري منذ أن حاد مشروع الحداثة والتنوير عن مساره الأصلي وسقطت الحضارة في ما سماه نيتشه بالعدمية، وتحول العقل إلى أداة هيمنة على الطبيعة وعلى البشر أنفسهم (بحسب تشخيص رواد مدرسة فرنكفورت).

وفي ضرب من «صراع العمالقة حول الوجود» وفق عبارة خالدة من سفسطائي أفلاطون، اختصمت العقول الثلاثة هابرماس وليوتار ورورتي حول مصير العقل ومصير البشر ومصير العالم في حضارة استولى فيها العلم والتكنولوجيا على مساحة المعنى والقيم. والطريف في كل هذه الوضعية الفلسفية هو منزلة الفن الإشكالية. هل بوسعنا أن نعوِّل على التجارب الفنية بوصفها أفق تحرر للأفراد من أشكال الهيمنة أم أن الفن تهريج لاعقلاني فوضوي لا فائدة منه؟ هل نحتاج إلى التواصل أم نحتاج إلى الإبداع؟ ونحن نذكر أن دولوز قد رفع الاختيار الثاني ضد الاختيار الأول.

وقد برزت ثلاث إجابات عن السؤال عن طبيعة «الحداثة الاستطيقية» هي تباعًا: إجابة هابرماس حول ضرورة استكمال مشروع الحداثة، وإجابة ليوتار حول تدشين ما بعد الحداثة، وأخيرًا رورتي واقتراح التخلي عن براديغم الحداثة مرة واحدة.

(أ) هابرماس وضرورة استئناف مشروع الحداثة

إن أهم ما نظفر به من الترتيب الفلسفي الذي اقترحه هابرماس لمسألة الحداثة في كتابه المعروف تحت عنوان الخطاب الفلسفي في الحداثة (١٩٨٥م) هو تأكيده على ثلاث أطروحات كبرى هي موضع لثلاث إحراجات فلسفية.
  • أولًا: اعتبار هيغل هو أول من حوَّل مفهوم الحداثة إلى مشكل فلسفي، وتحاشى كانط بوصفه «لم يفهم الحداثة بما هي كذلك». تلك هي الأطروحة الجوهرية التي أسس هابرماس عليها كل خطابه الفلسفي في الحداثة. فنراه يصرح بأن «هيغل هو أول فيلسوف أنجز بكل وضوح مفهومًا للحداثة».٢ أو «أن هيغل هو أول من حول قطيعة الحداثة مع المعايير القديمة إلى مشكل فلسفي».٣ أو «لقد دشن هيغل خطاب الحداثة».٤ وأخيرًا أنه «ليس هيغل هو أول فيلسوف ينتمي إلى الحداثة، لكنه الأول الذي صارت لديه الحداثة إلى مشكل.»٥ لكن ماذا تعني الحداثة انطلاقًا من هيغل ولماذا اختار هابرماس هيغل وضحى بكانط، الذي هو، وفق تعابير هابرماس نفسه، «قد عبر عن ماهية العالم الحديث داخل بناء عقلي»؟٦ يبدو أن هابرماس لا يهدي منزلة الشرف الأولى إلى هيغل في بناء صرح الحداثة الفلسفية اعتباطًا. والعلة وراء ذلك تعبر عنها جملة عثرنا عليها ضمن إحدى صفحات الكتاب حيث يقول هابرماس «لا هيغل ولا أحد من أتباعه شكك أبدًا في مكاسب الحداثة.٧
    إن هيغل قد اكتشف أن الحداثة قائمة في جوهرها على مبدأ الذاتية. لكن أليس كانط هو من اكتشف هذا المبدأ»؟
    ها هنا يحسم هابرماس الأمر على نحو مثير. مع هيغل يعترف هابرماس بأن فلسفة كانط هي التأويل الذاتي الحاسم للحداثة، وضد هيغل يصرح بأن «كانط لم يكن قد فهم الحداثة بما هي كذلك». أليس وراء هذا التفضيل لهيغل استئناف لحداثة الجميل الهيغلية وإقصاء للرائع الكانطي، مثلما أشار بذلك هيغل نفسه، بما هو فيلسوف الجميل، الذي أقبر الرائع في غياهب ماضي الروح الشرقي، بما هو روح بلا فكرة وبلا جمال؟
  • ثانيًا: اعتراف هابرماس بأن الوعي بالحداثة إنما تم داخل حقل الجماليات ومع بودلير تحديدًا، مستفيدًا في ذلك، على حد اعترافه من تشخيص ياوس، ومتجاهلًا أن أدرنو، هو أول من جعل من بودلير «عندليب الحداثة» أصلًا. لكن المحرج أكثر في هذا الأمر هو أن بودلير الذي يحيل عليه هابرماس، بوصفه أول من «طابق بين التجربة الجمالية والتجربة التاريخية للحداثة» لا علاقة له ببودلير الناقد الجذري للحداثة؛ أي ذاك الذي اكتشف بعبارات أدرنو، كيف أن الحداثة قد حوَّلت الزهور إلى زهور شر، وكيف أن العالم منذ بودلير قد فقد عطره ولونه. وفي الحقيقة يبدو أن هابرماس قد أفرغ أشعار بودلير من كل مضادة الحداثة الكامنة في زهور الشر وشيطانيات جمالياته التي اتخذت من اللون الأسود ومن نموذج الرائع لباسًا لها. إن هابرماس لا يبقي من بودلير غير استطيقي الجميل حيث لا تكون الحداثة لديه إلا شكلًا من الموضة، ومن الاحتفال «بربطة العنق وبالحذاء الحديث الجميل».
    ومن أجل اختبار هذه الأطروحة سوف نتوقف قليلًا عند تشخيص أدرنو للحداثة من خلال الصورة التي رسمها لبودلير. حيث نعثر في الفقرة رقم ١٥٠ من كتاب الأخلاق الصغرى (١٩٥١م) الخاصة ببودلير، على أشرس النصوص التي كتبت حول الحداثة. يتعلق الأمر بالاشتغال على الحداثة تحت راية مفهوم «الجديد». لكن الجديد الذي حرك العقول منذ بودلير إنما يشبه بعبارات أدرنو نفسه، «مجاز الموت الذي يختار السقوط في الهاوية، سواء تعلق الأمر بالجحيم أو بالسماء».٨ إن مفهوم «الجديد» le nouveau صار تحت قلم بودلير، حسب تشخيص أدرنو إذن، إلى «الصياغة التي تحوِّل الشر إلى وردة».٩ ففي مجتمع تحولت فيه كل الأشياء إلى بضائع وسلع متماثلة، يصير «الجديد … إلى ضرب من العود الأبدي للعنة».١٠ لم يعد هناك، بحسب أدرنو؛ أي شيء جديد. إن فكرة الحداثة نفسها إنما تستحيل إلى تمرد واحتجاج على عبثية المجتمعات الصناعية المتقدمة. إن أفول الجديد يتجلى بخاصة في تشابه المنتوجات التي تصنع على نحو ميكانيكي، وفي تحويل كل الأشياء إلى أشياء وقعت رؤيتها سابقًا؛ أي إلى نسخ لنماذج معروفة. مع المجتمعات الصناعية وقع القضاء على كل ما بوسعه أن ينتج عن حرية. ويذهب أدرنو في نقده للحداثة إلى حد استحضار تمجيد بودلير للمرأة العاقر مجازًا للتعبير عن فكرة الحداثة نفسها. وأي تعبير حينئذٍ ذاك الذي يشبه الحداثة «بامتناع الإنسانية الحالية عن إنجاب الأطفال؛ لأنها تتنبأ لكل منهم بمصير أدهى وأمرَّ: إن الجديد هو الشكل السرِّي لكل الذين لم يولدوا … إن الإنسانية تعبر بذلك عن أفول نسق لم يعد يحتاج البتة إلى أعضائه.»١١ إن هذا الوجه القبيح للحداثة سوف يجد في كتاب النظرية الاستطيقية لأدرنو استئنافًا له، وضمن اعتبار «لما هو جديد على قرابة بالموت».١٢ وذلك «لأن الحداثة حينما وُلدت لأول مرة مع بودلير اقترنت منذئذٍ بطابع التعاسة».١٣

    هكذا نفهم لماذا أقصى هابرماس قراءة أدرنو للحداثة التي أسسها بودلير، التي تبدو في جوهرها نقدًا شرسًا لمشروع الحداثة، بدلًا عن مجرد موضة جميلة للاحتفال بمكاسب العقل الحديث. ونفهم أيضًا لماذا يتبنى هابرماس تشخيص هانس روبرت ياوس الذي فتح الجماليات على التواصل واستعاد أهمية اللذة الجمالية معترضًا بذلك، على جماليات أدرنو المعادية للتواصل، بوصفه تأقلمًا مع نظام الهيمنة، كأول خصم نموذجي لها.

  • ثالثًا: إن علاقة هابرماس بالاستطيقيين منذ بودلير ونيتشه علاقة غامضة ومتوترة: إنه من جهة يتبنى الرسم الذي اقترحه ياوس صاحب «استطيقا التلقي» بوصفه رسمًا جماليًّا في جوهره لتاريخ إشكالية الحداثة نفسها، لكنه يضحي بكل المنعرج الجمالي للفلسفة بوصفه مجرد نزعة فوضوية محافظة تحرم العقل الفلسفي من جديته ونجاعته إزاء الوجود العمومي للأفراد، زاجًّا بذلك بخط كامل من الفلسفة المعاصرة، يضم أدرنو وهيدغر وليوتار ودريدا وكل من اتخذ من الفن أفق تحرر للبشر من هيمنة أجهزة الدولة الحديثة، في هاوية اللاعقل واللاإنسانوية والخطابة التي لا جدوى من ورائها. لكن ماذا فعل هابرماس في خطابه الفلسفي المطوَّل حول الحداثة، غير تأثيث فضائه الفلسفي بالنقاد الجذريين للحداثة؟ ومن يكون هؤلاء الذين لا يتردد هابرماس في تسميتهم «الاستطيقيين المحافظين الفوضويين» أو، أحفاد نيتشه منذ هيدغر إلى باتاي مرورًا بأدرنو وبنيامين ودريدا وفوكو؟ أليس من باب الحيف الزج بهذا السيل العارم من فلسفات مختلفة ومتناقضة في براديغم واحد؟ أم أن الحداثة الفلسفية ليست في جوهرها غير نقد استطيقي لمشروع العقل الحديث الذي تحوَّل في المجتمعات الصناعية المتقدمة إلى مشاريع هيمنة وغطرسة تنشر الظلم والقبح في كلِّ مكان؟ إن هابرماس إذن يبقى في آخر المطاف هو الخصم العنيد لدعاة النقد الاستطيقي للحداثة. لكن وإن كان صاحب نظرية الفعل التواصلي على حق بدعوته ضرورة إلى تنزيل الفن تنزيلًا اجتماعيًّا، فإن موقفه ممن يسميهم، تسمية مشطة، ﺑ «الاستطيقيين الفوضويين المحافظين»، يبدو موقفًا هشًّا؛ لأنه لا يهتم بحقيقة الفن ولا بعلاقة الفلسفة بالاستطيقا، كما يصرح بذلك بنفسه منذ مفتتح كتابه الخطاب الفلسفي في الحداثة.١٤

(ب) ليوتار ومفهوم «ما بعد الحداثة»

لئن كانت ولادة هذا المفهوم في بداية أمرها ولادة فنية معمارية، فإن استحداث «ما بعد الحداثة» لم يتحول إلى إشكالية فلسفية مثيرة للجدل إلا منذ أن تملكها الفيلسوف الفرنسي جان فرانسوا ليوتار وجعل منها عنوانًا لكتابه المعروف في الوضعية ما بعد الحديثة (١٩٧٩م).
لكن ما القصد الدقيق الذي رنا إليه ليوتار من وراء عنوان كهذا؟ — هل أن الإعلان عن الوضعية ما بعد الحديثة هو إعلان عن نهاية الحداثة؟ إن الأمر يتعلق بتعبير ليوتار بمجرد تشخيص «لوضعية المعرفة في المجتمعات الأكثر نموًّا». ويواصل ليوتار: «ولقد قررنا أن نسمي تلك الوضعية بالوضعية ما بعد الحديثة.»١٥ علينا أن نفهم هنا أن الأمر يتعلق بالتحولات الكبرى التي طرأت على العلم والأدب والفنون منذ نهاية القرن التاسع عشر. لكن هذه التحولات ليست ممكنة دومًا إلا بوصفها عبارة عن «أزمة في السرديات». ذلك أن العلم هو في جوهره نزاع مع هذه السرديات من قبيل سردية التنوير وسردية جدلية الروح وسردية تأويلية المعنى أو سردية فلسفة التاريخ … وفي الحقيقة إن المعنى الدقيق الذي قصده ليوتار من وراء هذه الوضعية ما بعد الحديثة التي دخل فيها عصر برمته، هو تعريف ما بعد حديث بما هو الريبة إزاء السرديات الكبرى.١٦ لا أحد بقادرٍ اليومَ على الإيمان بسردية التقدم التنويري ولا بقدرة العقل الحديث على تحرير البشر. إن ما بعد الحداثة هي لحظة سالبة في وعي الإنسان الحالي بوضعية انفجرت فيها الأنساق والسرديات وانتثرت كل أحلام الإنسان الحديث ولم يبقَ غير شظايا لغوية قصصية وصفية براجماتية. لم يعد المجتمع الذي نحيا فيه اليوم قابلًا لأية أنثروبولوجيا كلاسيكية — أنثروبولوجيا «الإنسان المرآوي»؛ ذاك الذي يطابق صورة نفسه في مرآته؛ أي الكوجيطو أو الإنسان التمثيلي — حسبنا العيش داخل تقاطع ألعاب اللغة اللامتناهية. لقد فقد إنسان الوضعية ما بعد الحديثة كل مقياس ناجع حول الجمال والحق والخير. وحتى إتيقا النقاش التي يعتقد في نجاعتها هابرماس، إنما تظهر تحت قلم ليوتار، إتيقا «تتعنف» على الخلاف (le différend) الساكن داخل ألعاب اللغة.١٧
وفي الحقيقة إن وراء هذا التدشين الذي ينجزه ليوتار لما بعد الحداثة ثلاث أطروحات يستعيد فيها ليوتار، تباعًا، أفق الرائع الكانطي، ونقد نيتشه لمفهوم الحقيقة والأفق الذي افتتحته مقولة الألعاب اللغوية لفيتغنشتاين. ولا ريب حينئذٍ أن يرد هابرماس هذه الفلسفات الثلاث إلى ضرب من النزعات المحافظة بأنواعها الثلاثة: نعني «المحافظين الشبان» الذين يستأنفون ضد مشروع الحداثة، «القوة الشعرية الديونيزية»، (ليوتار ودريدا) أو «المحافظين الشيوخ» الذين يضادون الحداثة انطلاقًا من الإشكالية الإيكولوجية، (جوناس)، وأخيرًا «المحافظين الجدد». وهم الأقرب إلى الاعتراف بمكاسب الحداثة (فيتغنشتاين الأول).١٨
إن ليوتار بتنشيطه للرائع الكانطي إنما أراد أن يقرن الفن بالسياسة عبر مفهوم «الحماسة» (ذلك المفهوم الشهير في مقالة كانط «نزاع الكليات»)، من أجل إعادة التفكير في المقولة الإشكالية لمعنى التاريخ. ضد الطموح الهيغلي ينتصر ليوتار لكانط، حيث لم يعد بوسعنا أن نكتب التاريخ بطريقة واحدة. ذلك أن معنى التاريخ لا يمكن العثور عليه إلا ضمن نمط تقبُّله من طرف المتفرجين عليه. وبالتالي إن الحماسة هي أفق استشكال معنى التاريخ في المعنى الكانطي.

مع نيتشه، يكتشف ليوتار أن كل تاريخ يدعي الحقيقة المطلقة هو تاريخ كاذب. وهو بذلك ينشط ريبية نيتشه الجذرية إزاء كل ادعاء فظ لقول الحق. فداخل كل ادعاء للحقيقة هناك ضرورة إرادة سلطة؛ أي إرادة إسكات للأصوات والأقوال الأخرى. لذلك ينبغي أن نضع كل ادعاء للحقيقة وللاتفاق والتواصل موضع ريبة مستمرة. ما ينقصنا بحسب ليوتار هو ضرب من الخفة وانعدام المشاعر وإعادة الفلسفة إلى نصابها بوصفها قضية أسلوب فحسب.

أما عن ألعاب اللغة التي صارت سمة جوهرية لما بعد الحداثة مثلما افتتحها، بعبارة ليوتار، فيتغنشتاين نفسه، فتجد صياغتها النموذجية مع مفهوم الخلاف بوصفه النقيض الفلسفي لأفق التواصل لهابرماس. حيث يعرِّف الخلاف بوصفه «حالة عدم استقرار، ولحظة اللغة التي ينبغي فيها لشيء ما أن يصير إلى جمل، غير أنه لم يقدر على ذلك. إن هذه الحالة تتضمن الصمت بما هو جملة سلبية، لكنه يدعو إلى جمل أخرى ممكنة من حيث المبدأ.»١٩
إن مفهوم الخلاف، الذي يقارع به ليوتار مفهوم التواصل الذي ينادي به هابرماس، هو إذن شكل الوجود الممكن لنا داخل الوضعية ما بعد الحديثة. ما يحدث لنا هو النزاع الذي تشهد عليه أنظمة الجمل المتسلسلة في كل أشكال الخطاب واللغة. لا شيء بوسعه أن يرفع الحيف والظلم الساكن في جملة ما، إلا جملة أخرى، وذلك إلى ما لا نهاية له. وبدلًا عن ملكة حكم يقترح ليوتار «ملكة جمل» (faculté de phraser٢٠ وبدلًا من حس مشترك سعيد ﺑ الجميل الكانطي الذي اشتق منه هابرماس أفق التواصل الكوني، ينشط ليوتار ملكة المقاومة التي أعلن عنها كانط ضمن «تحليلية الرائع»، بوصفها قادرة على الشهادة على اللاإنساني ما بعد الحديث. لكن لا ينبغي أن نتصور أن اللغة أداة لأحد. وعلينا تبعًا لذلك أن نتحرر من الوهم الذي ورثناه عن قرون طويلة من الإنسانوية، القائل بوجود «الإنسان» واللغة واستعمال الأول للثاني على جهة الأداة. لكن ما هو رهان الفكر في هذه الوضعية ما بعد الحديثة؟ — يجيبنا ليوتار: «إنه لمن المسئولية إزاء الفكر اكتشاف الخلاف وإيجاد العبارة المستحيلة من أجل وصفه في قالب جملة.»٢١
وضمن هذه الوضعية ما بعد الحديثة التي تتسم لدى ليوتار بما يسميه في كتابه اللاإنساني، «نزاع اللاإنسانيات»، لم يتبقَّ أمام الفكر غير «مقاومة اللاإنساني»، ذلك عبر الشهادة بالكتابة على كل أشكال الظلم والفظاعة التي تمارسها الحضارة الحديثة على البشر.٢٢ إن الفكر من هنا فصاعدًا لن يقترن بالتوافق والتصالح على نحو كوني مع «جماعة النقاش المثالية» التي يريدها هابرماس، إنما يقترن الفكر على نحو محرج مع أشكال المعاناة الإنسانية في عصر صارت فيه كل المشاريع الثورية «عاطلة عن العمل»،٢٣ وانتهت فيه الأنساق الكبرى بوصفها «جملة من أشكال العبور الموعودة» إلى «مآزق دموية، لم تنتج غير اكتئاب المتفرجين في هذه النهاية للقرن العشرين.»٢٤

(ﺟ) رورتي والخروج من براديغم الحداثة

بالرغم أنه قد ساهم منذ البداية في الشهرة الفلسفية التي اتخذتها عبارة «ما بعد حداثة»، فإن رورتي قد بدأ يتراجع عن هذه العبارة التي صارت موضع غموض والتباس. إذن ماذا تعني هذه العبارة؟ هل يتعلق الأمر بمجرد حداثة متأخرة أم أن هذا المفهوم ينبغي أن يأخذ في حسبانه «ما قبل الحداثة» (أي الحقبة القديمة والوسيطة)؟ فنحن كلما تناولنا هذا المفهوم من منظور تاريخي إلَّا وكان علينا ضرورة أن نحسم فيمَ إذا كان هذا المفهوم يعبر عن قطيعة مع الحداثة أم عن استئناف لها؟

إن براديغم الحداثة قد أصيب بحسب رورتي بضرب من الهشاشة الفلسفية وقد آن الأوان لإعادة النظر في مدى نجاعته. وإن أهمَّ ما نظفر به من تشخيص رورتي لبراديغم الحداثة هو عدم اعترافه بالقطيعة ما بين الحديث وما قبل الحديث لذلك نراه يزج بكل من حداثة هابرماس وما بعد حداثة ليوتار ضمن ما يسميه بالبراديغم المرآوي الذي ينقده ويدعو من خلاله إلى التخلِّي عن حرص هابرماس على القول بالكونية. إن رورتي يعدنا إذن بقطيعة أكثر جذرية. إنه ينزل «ما بعد الحداثويين» في نفس الحقل مع الحداثويين. إنهم جميعًا مجرد «ما بعد نيتشويين» وإنهم لم يفعلوا غير الذهاب بالتقليد الذي يبدأ من ديكارت وكانط وهيغل فيما أبعد من نيتشه. لا وجود إذن لقطيعة جذرية ما بين الحداثويين وما بعد الحداثويين وإن الفكر ما بعد الحديث، بحسب رورتي، لا يعد بأي ضرب من الجدة الجذرية. وربما لا ينبغي علينا أن نقطع فحسب مع براديغم الحداثة برمته فحسب، إنما بوسعنا أن نتكلم، انطلاقًا من رورتي، بقطيعة مع الفلسفة من أجل الذهاب نحو براديغم ما بعد فلسفي يتخذ من القصة والشعر طرقًا أخرى في «التضامن» مع كل الذين يتألمون في العالم، وشكل آخر من صناعة اليوطوبيات.
وبوسعنا القول إن رورتي إنما يتنزل بذلك، وفق تشخيص دلرويال،٢٥ ضمن منزلة وسطى بين هابرماس وليوتار: فهو يشكك في مفهوم الكونية الذي يتبناه هابرماس؛ لأنه يميل إلى مفهوم الإجماع، لكنه ومع هابرماس، ضد ليوتار، يجتنب الحفر في الخلاف مكتفيًا بجملة من مفاعيل التضامن الكوني التي تذكرنا بهابرماس. غير أن يتخذ من القصة؛ أي من الاستطيقا، أفقًا للتضامن مع آلام البشر، وهو في ذلك ينتهي إلى الاقتراب أكثر فأكثر من حلول ليوتار بدلًا عن آفاق هابرماس. ولئن كان هابرماس يفترض أن الغيرية معطاة لنا داخل بنية اللغة نفسها، وأن «الآخر» الذي يتبنَّاه ليوتار ليس سوى المحاور لنا الذي هو نحن جميعًا على نحو تعاقبي، فإن ليوتار يتهم هابرماس بنوع من «صمم التواصل» إزاء الغيرية الجوهرية التي تسكن كل إتيقا النقاش.٢٦
أما رورتي فيبدو أنه يرفض أطروحات براديغم الحداثة بكل أشكالها: سواء تكلمنا عن حداثة غير مكتملة (هابرماس) أو عن عود أبدي إلى ما قبل الحداثة (نيتشه)، أم عن ما بعد حداثة نشهد على أشكال لاإنسانيتها (ليوتار). إن رورتي يقترح منعطفًا جديدًا للفلسفة يتخلَّى فيه عن سردية العقل التواصلي لهابرماس وعن اليوطوبيا الفوضوية لليوتار معًا.٢٧ وبحسب عبارات كتاب عرضية، تهكم وتضامن، يقترح رورتي الحديث عن «ثقافة شعرية» تذهب بنا إلى براديغم جديد «ما بعد ميتافيزيقي وما بعد ديني» معًا.٢٨

يتعلَّق الأمر على حدِّ تعبير رورتي نفسه إذن بتحويل «الفلسفة إلى جنس أدبي» وبتحويل الفيلسوف إلى متهكِّم ليبيرالي حيث لا شيء في جعبته غير الأمل في التخفيف من معاناة البشر وغير مواجهة أشكال الفظاعة التي يعاني منها البشر بإعادة وصفها وكتابتها في شكل قصص لا ينتهي. وربما لا يكون رورتي في آخر المطاف غير رومانسي جديد اتخذ مما يسمِّيه بنفسه «خوصصة الرائع» التي أنجزها دريدا، دربًا مغايرًا لإقامة استطيقية ليبيرالية في العالم همها الوحيد التخفيف من آلام البشر دونما الانشغال بأي أفق نضالي آخر.

(٢) حداثة الجميل أم حداثة الرائع

لقد فتح كتاب نقد ملكة الحكم لكانط منذ ١٧٩٠م الحداثة الاستطيقية على دربين مختلفين ما فتئت الاستطيقا تتراوح بينهما منذ شيلَّر إلى ليوتار: يتعلَّق الأمر بحقل الجميل من جهة وأفق الرائع من جهة أخرى. أمَّا عن الجميل فقد سار على دربه منذ شيلَّر وهيغل كل من غادامار وحنا آرندت وياوس وهابرماس، وكل من اشتغل في أفق جماليات التواصل، أو إتيقا الفهم وعقلانية الاستطيقا، فلمار Wellmer وروشليتز Rochlitz ومارتن سييل Seel، الذين أوكلوا لتحليلية الجميل الكانطي مهام إتيقية بفتحهم الفن على حقل التجربة الإنسانية عمومًا. أما عن جماعة الرائع فقد دشنتها رسميًّا قراءة ليوتار لتحليلية الرائع من النقد الثالث لكانط، لكننا اكتشفنا أنها تمتد منذ تراجيدي نيتشه وقبيح أدرنو و«باررغا» دريدا إلى الرائع العملي لنيغري.

وفي الحقيقة يبدو أن الأمر قد وصل بالعقل الفلسفي منذ كانط إلى حد الاختصام في ضرورة استئناف الرائع الكانطي والتخلي عن الجميل، أو الاكتفاء بتقليد الجميل ومطاردة الرائع بوصفه مثيرًا لمشاكل إيديولوجية إذ هو مفهوم متهم منذ البداية باقترانه بما سماه كانط «الوصية اليهودية» حول «تحريم الصور». والمثير هنا هو أن كانط لم يقرن بين الرائع والوصية اليهودية إلا على جهة مثال من بين أمثلة أخرى متعددة للتدليل على شساعة هذا المفهوم ورحابته. وقد بينَّا في كتابنا «جماليات الرائع» بأن هذا المفهوم الذي يولد في استطيقا كانط، إنما يفتح حقلًا دلاليًّا مترامي الأطراف. إن هذا المفهوم يمتد، من خلال النقد الثالث لكانط، من الرائع في الطبيعة الخام إلى الرائع الذي تشهد عليه آثار الإنسان. وهنا نعدد مع كانط الروائع السبعة للإنسانية: أهرام مصر أو كنيسة القديس بطرس، أو تمثال الربة اليونانية إزيس، أو الفضائل العظيمة لشعب ما كمثل «فضيلة الكبرياء لدى المسلمين» أو الوصية اليهودية في تحريم الصور أو القانون الأخلاقي الذي صاغه كانط نفسه، وأخيرًا فكرة الإنسانية ذاتها بوصفها أروع الأفكار على الإطلاق.

إن الرائع الذي ندافع عنه هنا إذن ليس رائعًا يهوديًّا ولا مسيحيًّا ولا إسلاميًّا، بل هو رائع استطيقي يفتح التجربة البشرية على الفن بوصفه أفق تحرر من الجليل الديني ومن أشكال شطط الهائل التكنولوجي والفظيع النووي الذي يهدد الإنسانية في وجودها نفسه.
إننا نعتبر أن أشكال إقصاء استطيقا الرائع التي بدأت بطرد هيغل له من دائرة الاستطيقا، ثم مرت عبر صمت هيدغر عنه، إلى إهماله مرة واحدة من طرف حنا آرندت، في قراءتها السياسية لكانط، إلى التهجم الصارخ عليه من طرف رنسيار Rancière، ربما تكون قد وقعت تحت ضرب من الخلط بين مفهومين من الصعب التمييز بينهما في اللغات الأجنبية، في حين توفر لنا اللغة العربية إمكانية الفصل ما بين الجليل الديني والرائع الاستطيقي. لذلك اختار الفلاسفة الذين اعتقدوا أن «الرائع» مشتبه في تورطه مع الدين ومع اليهودية تحديدًا، تحت وقع مثال كانط، أن يركبوا درب الجميل وأن يجتنبوا درب الرائع.

ماذا عن الجميل؟ وبأي معنى أسس عليه دعاته الحداثة الجمالية في وجهها «الموجب» بوصفها أفقًا للفرجة وللمتعة وللمصالحة ولفهم حقل التجربة البشرية بوجه عام؟ وإلى أي مدى بوسع الرائع أن يذهب بنقده الجذري للحداثة إلى رسم آفاق حرية للإنسان في حضارة اللاإنساني؟

من أجل معالجة هذه الأسئلة سوف نكتفي بالنماذج التالية: غادامار وياوس من أجل بسط حداثة الجميل، وأدرنو ودريدا تشخيصًا وتذكيرًا، حول اعتبار استطيقا الرائع أفق حرية جذرية بالنسبة للإنسان الحالي.

وقبل أن ننخرط ضمن إحصاء لهذه النماذج الجمالية المعاصرة من صراع الجميل والرائع، علينا أن نقف عند أهم ما يفصل جماعة التواصل الجمالي عن دعاة فنِّ الرائع. وقد تبين لنا منذ نقد ملكة الحكم لكانط، أن هناك أربع نقاط جوهرية لفصل اللذة الجمالية عن الألم الاستطيقي، هي التالية؛ أولًا: إذا كان الجميل يثير فينا «تأملًا هادئًا» وفرجة ممتعة سعيدة، فإن الرائع يحدث فينا كلما حدث صدمة تعطل فينا قوى الحس وقوى الخيال معًا. ثانيًا: إن كان الجميل عموميًّا كونيًّا، ناجمًا عن «لعب حر للمخيلة»، فإن الرائع «جدي»؛ لأنه يتجاوز حدود الحس والخيال والذوق معًا، إنه في علاقة بالعقل وبمصير الإنسانية ذاتها. ثالثًا: أن الجميل تواصلي وعقلي وإنسانوي، لكن الرائع «مميتيقي» تفكيكي لاإنسانوي، يولد مما سماه كانط بنفسه «ملكة مقاومة» على عكس ملكة الذوق. رابعًا: أن الجميل نتاج تناغم سعيد للأشكال، فإن الرائع لا شكل له، لذلك فهو لا يتأقلم مع النسق ولا يتصالح معه، بل يشهد على مواقع القبح داخله و«يدخل الفوضى في العالم» (أدرنو).

(٢-١) حداثة الجميل

(أ) غادامار وراهنية الجميل

ينطلق غادامار في كتاب الحقيقة والمنهج (١٩٦٠م) من «نقد للوعي الاستطيقي من أجل الدفاع عن تجربة الحقيقة التي تبلغ لنا عبر الأثر الفني، ضد النظرية الاستطيقية التي تقبل أن ترد إلى المفهوم العلمي للحقيقة.»٢٩ إن الأمر يتعلق لديه بالخروج من حقل الوعي الجمالي القائم على الذاتية كما أسسها كانط، إلى حقل أنطولوجيا الأثر الفني بوصفها الحقل النموذجي الذي ضمنه تنبثق الدلالة الأكثر خصوصية للتجربة البشرية. وهنا نقف على أطروحة غادامار القاضية بأن الفن هو تجربة الحقيقة الوحيدة التي لا يدركها أي منهج علمي. وذلك أن «تجربة الفن هي الدافع الأكثر قوة الذي يجبر العلم على الاعتراف بحدوده».٣٠
إن أهمية التجربة الفنية لدى غادامار تكمن تحديدًا في قدرتها على تحرير حقل التجربة البشرية من المنهج العلمي وفتحها على ما يسميه بإتيقا الفهم. وفي تقديرنا يقترح علينا غادامار تنشيطًا للأفق الذي افتتحه كتاب نقد ملكة الحكم لكانط من جهتين اثنتين: أهمية انفتاح الجماليات على البعد الكوني من جهة، واستقلالية الفن عن المفهوم العلمي من جهة ثانية. لكن عيب كانط، حسب غادمار، يكمن في كونه لم يدرك إمكانية أن يكون للفن حقيقة خاصة به واكتفى بتحصينه بمفهوم الحسِّ المشترك.
لكن غادامار لا يترك من استطيقا كانط غير مفهوم «اللعب» الذي يتخذ منه خيطًا هاديًا للتفسير «الأنطولوجي للدلالة الهرمنيوطيقية للأثر الفني».٣١ لا يهتم غادامار لمفهوم الرائع ويبدو أنه لا ينشط إلا مفهوم الجميل لأن الجميل يعرَّف تحديدًا عند كانط بوصفه «اللعب الحر للمخيلة» في حين أن الرائع لا علاقة له باللعب أصلًا.
وفي الحقيقة ينبغي أن ننبه على أهمية الكتاب الذي نشره غادامار تحت عنوان راهنية الجميل (١٩٩٢م) والذي يقوم على معالجة التناقض المفترض بين الفن الحديث والفن التقليدي مقترحًا تجاوز هذا التناقض بواسطة إتيقا للفهم تكون مغايرة. يقترح علينا غادمار ثلاثة أبعاد للفن: اللعب والرمز والعرس. والأهم لدى غادمار هو أن هذه المفاهيم الثلاثة الموجهة لكل فنِّ الفهم تتقوم بالمعاني التالية: أن كل تجربة فنية إنما هي في جوهرها ظاهرة للفهم. وأن هذه التجربة الفريدة ترسم لنا دومًا أفق انتظار من المعنى، لكنه معنى لا يستنفد ولا يقع إنجازه في تمامه. وأن في كل أفق انتظار دلالة كونية أو أساسًا مشتركًا للفهم.

(ب) هانس روبارت ياوس ومديح المتعة الجمالية

تعتبر استطيقا التلقِّي التي يقترحها علينا هانس روبارت ياوس أحد أقطاب مدرسة كوستنس الألمانية، أحد أهم النماذج الجمالية المعاصرة التي ساهمت في إثراء حقل الحداثة الاستطيقية. ولعل أهم ما كشفت عنه هذه الاستطيقا هو أهمية مفهوم المتفرج أو القارئ أو المتلقي عمومًا ضمن التجربة الفنية، بوصفه متلقيًا نشيطًا وليس مجرد مستهلك سلبي. ومن أجل أن نفهم تصنيفنا لجماليات ياوس بوصفه أحد المدافعين عن أفق الجميل الكانطي، بما يحتمله من معاني اللذة الجمالية ومطلب الكونية والتواصل وإمكانية خلق القيم الاجتماعية، نحن نجمع عناصر طرافة جماليات التلقِّي فيما يلي:

  • أولًا: تجمع هذه الجماليات على نحو طريف بين حقلين مختلفين: حقل الأدب، من جهة، بما يفرضه النص الأدبي من تأويلية خاصةٍ به، وحقل الفلسفة، من جهة أخرى، بما يقترحه من مناهج ومفاهيم مختلفة من أجل تأويل الأثر الفني. إن ياوس بذلك إنما يرسم بدوره تلقيًا خاصًّا لأهم النظريات الجمالية من كانط إلى أدرنو، هو التلقِّي القائم على استشكال حاسم للاستطيقا الفلسفية على أرضية الأثر الأدبي تحديدًا، وذلك في اتجاه ضرب من اللقاء الممكن بين اللوغوس الفلسفي والنصِّ الأدبي. وهو لقاء لن تخلو منه أيضًا جماليات الرائع على طريقتها، كما نرى ذلك لدى دريدا في كتابَي الانتثار ونواقيس، ولدى رورتي بدعوته تحويل الفلسفة نفسها إلى «جنس أدبي» في كتابه عرضية تهكم وتضامن.
  • ثانيًا: لقد كتب تاريخ الأدب، حسب ياوس، من وجهة نظر المؤلفين والآثار الفنية، وقد آن الأوان لأن يكتب من وجهة نظر القارئ أو الجمهور الذي له يُكتب الكتاب وإليه يتوجه. يتعلق الأمر إذن بضرب من التربية الجمالية الهادفة إلى رسم صورة موجبة عن القارئ بوصفه قارئًا نشيطًا، على قياس «المواطن النشيط» الذي حدثنا عنه كانط في بعض صفحات ميتافيزيقا الأخلاق. وهنا ينشِّط ياوس تحديدًا استطيقا المتفرج الكانطي ملكة الذوق إلى ملكة تلقٍّ فيها يكون بوسع المتذوق أن يحكم على الأثر الفني وأن ينزله ضمن أفق الحاضر الذي ينتمي إليه. إنه الجمهور الذي بوسعه أن يبني فضاءً واسعًا من المتذوقين النشيطين في اتجاه عمومية كونية للجميل.
  • ثالثًا: يفترض ياوس أن لكل أثر فنيٍّ معنًى موجبًا بوسع المتلقي أن يدركه. لكنه يرفض أن يبقى هذا المعنى مجرد معنى ذاتي نهائي. يتعلق الأمر بضرب من التوسط بين الأثر وحاضر المتلقي له، بحيث لا يتجلى معنى الأثر الفني إلا من خلال أفعال التلقي المتعاقبة داخل أفق الانتظار الممكن. وهنا يستفيد ياوس بخاصة من غادامار بحيث تصير لعبة التلقِّي الاستطيقي لعبة معقدة ما بين الأثر الفني والقارئ والتاريخ والمتعة الجمالية والقيم التي بوسع هذه اللعبة أن تعد بها. إن ياوس يراهن مع غادامار ضد أدرنو على استبدال النظرية الاستطيقية بالتجربة الجمالية، بوصفها تجربة نموذجية ضمن ضرب من إتيقا الفهم المشتركة بين الجميع.
  • رابعًا: إن أهم ما يثيرنا في جماليات التلقي هو دفاعها الصريح عن مفهوم المتعة الجمالية، بوصفها أحد مقومات حداثة الجميل ضد حداثة الرائع. وفي الحقيقة يتعلق الأمر بنص كتبه ياوس سنة ١٩٧٢م٣٢ كردة فعل مباشرة على كتاب النظرية الاستطيقية لأدرنو (١٩٧٠م). وإن عنوان هذا النص الذي اعترض فيه ياوس بشراسة على ما سماه «جماليات الزهد … لبطل استطيقا السلب … أدرنو»، ليثيرنا على وجه مخصوص بوصفه يعبر صراحة عن ضرب من الدفاع أو المديح للتجربة الجمالية القائمة جوهريًّا على مفهوم المتعة نفسها. تلك هي أطروحة ياوس التي يعبر عنها كما يلي: «إن حالة اللذة التي يفترض الفن إمكانيتها ويثيرها معًا هي الأساس نفسه للتجربة الجمالية، وإنه محال علينا التجرُّد منها، بل ينبغي على الضدِّ من ذلك استئنافها بوصفها موضوع تفكُّر نظري» …٣٣ إن ياوس ينشِّط بذلك دلالة إيجابية للمتعة الجمالية الكانطية، من أجل فتح ميدان الجميل على ما أطلق عليه اسم «الدفاع … عن الوظيفة الاجتماعية للفنِّ».
    يعتبر ياوس بذلك أن فنًّا بلا متعة لا يصلح لأي شيء ولا يعد بأي دور تواصلي بين البشر. وهو في ذلك إنما يعارض صراحةً ما يسميه جماليات الزهد لأدرنو الذي أقرَّ بضرورة «إقصاء مفهوم المتعة من سجل الاستطيقا» مرة واحدة. وينتهي ياوس في نقاشه ضدَّ أدرنو إلى الأمر التالي: «لو أردنا أن نقابل «مضادة التنوير» التي أحدثتها صناعة الثقافة بتنوير جديد تكون التجربة الجمالية أداة له، لا ينبغي على الاستطيقا السالبة أن تتراجع إزاء إعادة الاعتبار لهذه التجربة (أي القائمة على مفهوم المتعة) بل عليها استئناف الوظيفة التواصلية للفنِّ والذهاب إلى حد استعادة وظيفتها الخلَّاقة.»٣٤

    إن استطيقا التلقي إذن بتنشيطها لملكة التذوق الكانطية، عبر إعادة اعتبار للمتعة الجمالية في دورها الاجتماعي، في ضرب من استعادة لمفهوم التطهير الأرسطي، إنما تقف في حدود ميدان الجميل المتصالح مع المجتمع الممتع والمنتج لمعانٍ موجبة بوسعنا الاتفاق عليها. ولا غرابة حينئذٍ أن يكون هدف استطيقا التلقِّي ضربًا من «التنوير الجديد» الذي يعضد مشروع هابرماس حول استكمال للحداثة، عبر إقصاء لكل ما من شأنه أن يضاد الحداثة أو أن يخلخل ثوابتها.

(٢-٢) حداثة الرائع

(أ) أدرنو واستطيقا السَّلب

تحتلُّ استطيقا أدرنو موقعًا أساسيًّا داخل النقاشات الجمالية المعاصرة. ولعلَّ أهم ما أنجزته في أفق ما يسميه أدرنو «استطيقا السَّلب» هو التوجُّه بالفن الطلائعي نحو ضرب من استطيقا الرائع الذي يجد في تنشيط مقولة القبح عبارته القصوى. ولعل أدرنو هو أول من دشن أفول الجميل مرة واحدة عن سماء الجماليات ودخول فلسفة المعاصرة في ميدان فكرة الرائع «كآخر ما تبقى من الاستطيقا، بعد أفول مقولة الشكل عنها».
غير أن ما يهمنا في سياق بحثنا هو تحديدًا علاقة كتاب النظرية الاستطيقية (١٩٧٠م) بالأفق الذي افتتحته تحليلية الرائع الكانطية في كتاب نقد ملكة الحكم (١٧٩٠م). وقد بيَّنَّا في كتابنا «جماليَّات الرائع» كيف استأنف أدرنو الرَّائع الكانطي على نحو طريف وغير مسبوق. إنه الأوَّل الذي افتتح أمام ليوتار أفق الرائع كمستقبل لفلسفة الفن المعاصرة، بل وكمصير مخصوص لكل فكر ولكل فلسفة ممكنة في عصر ليس لنا إزاء لا إنسانيته غير أدب الرائع؛ أي إنتاج «الجمل» للشهادة بالكتابة على شناعة ما يحدث.

وبوصفها استئنافًا لحداثة الرائع التي كان قد سار فيها ديونيزوس نيتشه على طريقته، فإن استطيقا أدرنو قد اتخذت على عاتقها الدفاع عن حداثة جذرية قائمة على الآثار الفنية الطلائعية النموذجية من قبيل موسيقى شونبارغ ومسرح براشت وبيكيت ورسوم بيكاسو وأشعار بودلير وأدب كافكا.

ولعلَّ أهمَّ ما يجعلنا نصنِّف هذه الاستطيقا ضمن حداثة الرائع في مقابل حداثة الجميل، هي جملة من الاعتبارات الجوهرية بسطناها تباعًا من خلال الأفكار التالية:

  • تفضيل أدرنو استعادة الرائع الكانطي ضد إقصاء هيغل للجمال الطبيعي من حيز الجماليات وعدم اعترافه بالرائع الذي يكتفي بزجِّه في الماضي الشرقي، وهو ماضٍ لم يعرف قطُّ، بحسب التشخيص الغربي الهيغلي، فكرة الجمال أصلًا. وبالتالي إن أدرنو إذ ينشِّط حداثة الرائع ضد حداثة الجميل، إنما يفعل ذلك في أفق جدلية سالبة مضادة لجدلية هيغل الموجبة التي تنجز المصالحة بين العقل والتاريخ، في حين يكتشف أدرنو كم أن الواقع الذي آل إليه العقل الحديث غير عقلي من فرط تحوُّل العقل فيه إلى أداة هيمنة.

  • تقوم استطيقا القبح إذن على تكذيب حلم التقدُّم التنويري وعلى نقد كل أشكال الأمل والطوباويات الحالمة بما في ذلك أفق الثورة الماركسية، الذي تحوَّل إلى فاشية ستالين. لا ينبغي على الفن أن يصمم من أجل الإمتاع وتجميل الواجهة. بل إن كل فنٍّ حقيقي إنما يكون فنًّا حزينًا حاملًا للآلام المتراكمة في ذاكرة الإنسانية الحديثة ووعيها. ليس هناك أيضًا فنٌّ بريء، فكل فنٍّ جذري إنما هو إحساس بذنوب هذه الحضارة التي شوَّهت الأفراد والحياة والطبيعة، وطفقت تنشر القبح والفظاعة بين البشر. لذلك لا ينبغي للفنِّ أن يتصالح مع المجتمع الحالي لا عبر فلسفة التواصل ولا من خلال تأويلية الأثر الفني. حسب أدرنو ليس الفن موضوعًا للتواصل ولا للتأويل. إنما هو الشكل الوحيد المتبقِّي للإنسان الحديث من أجل فضح قبح العالم وآلام البشر داخله. إن الفن يدخل الفوضى على نظام المجتمع الحالي الذي سقط بالإنسانية في الكارثة الكبرى، بدلًا من التصالح معه، لذلك فهو في جوهره «ميميزيس» ينشِّط ضربًا من المكبوت في ذاكرة الغرب، مستعيدًا إمكانية ما قبل حديثة لمصالحة الإنسان مع الطبيعة ومع نفسه.

    وضد ما يسميه روشليتز «العدمية الثورية» التي سقطت فيها جماليات بنيامين، تحت راية ضرب من «الرائع المهدوي» اليهودي المضادِّ للحداثة، فإن أدرنو يؤمن بقدرة السَّلب الاستطيقي الكامنة في كل أثر فنِّي جذري، على تحرير الأفراد من الهيمنة. وإن أشدَّ ما يثيرنا في جماليات أدرنو مراهنتها الموجبة على ما تسميه «الذات الجماعية الاستطيقية المقاومة» التي تمثل المجتمع برمته، والتي تعمل على نحو تراكمي خفي ضمن الآثار الفنية الطلائعية، من أجل بث طاقات لامتناهية على التحرُّر.

(ب) دريدا والرائع النصِّي

لئن كان موقف دريدا من الاستطيقا، من جهة ما هي ميدان مستقلٌّ خاصٌّ بتأويل التجربة الفنية عمومًا، موقفًا غامضًا بحيث يصعب علينا الحديث لديه عن «استطيقا» بالمعنى التقني المحصور، فإن ما جعلنا نتجرَّأ على تصنيف دريدا ضمن جماليات الرائع، هي أطروحة أساسية لرورتي تقضي بما يلي: «تكمن أهمية دريدا … في أنه قد خوصص الرائع». لكننا وإن اقتصرنا، في كتابنا «الفن يخرج عن طوره»، على اختبار هذه الفرضية في حدود كتاب دريدا الحقيقة في فنِّ الرسم (١٩٧٨م)، فلا شيء يمنعنا من تعميم «خوصصة الرائع» على كل مساحة الكتابة التي اخترعتها نصوص دريدا منذ نصِّ الانتثار (١٩٧٢م) إلى حدود مذكرات أعمى (١٩٩٠م)، ونواقيس ١٩٨١م، مرورًا بنصوص النفس. اختراعات الآخر(١٩٨٧–٢٠٠٣م). لكننا لا نعني بإمكانية الحديث عن جماليات للرائع لدى دريدا نفس المقصد الذي جعل رورتي يعتبر في نصوص دريدا الثاني «خوصصة للرائع» وإخراجًا له من دائرة الشَّأن العمومي باعتباره أسلوبًا حرًّا طافرًا فيه يصرف دريدا كل خياله من أجل اللعب بنصوص الغرب والعبث بها وبعثرة أنظمتها، على نحو لا علاقة له لا بالإتيقا ولا بالحقيقة ولا بالنجاعة العمومية، إنما مقصدنا مقصد آخر.
إن الأمر يتعلق ببيان كيف أن دريدا قد اكتشف إحدى أدوات تفكيره ضمن نصِّ كانط نقد ملكة الحكم. إنه يشتقُّ من هذا الكتاب الكانطي إشكالية الرائع التي عبر عنها بمفهوم «باررغا». وهو مفهوم عثر عليه دريدا في الفقرة رقم ١٤ من النقد الثالث تحديدًا، وأعاد اللقاء مرة ثانية في نصِّ كانط حول الدين في حدود مجرَّد العقل (١٧٩٣م). إن مقصد دريدا هو تفكيك «الباررغا» الكانطية في معنيين: بوصفها «باررغا» تحدُّ من مساحات الاستطيقا بحصرها الجميل ضمن حدود الإطار الشكلي العقلي المحض المتفرج على العالم. وبوصفها تختزل مساحة المقدَّس في حدود العقل المسيحي والدين المسيحي والأخلاق المسيحية.
ومهما يكن من هذا التفكيك الذي أنجزه دريدا على مفهوم «الباررغا» الكانطي، فذاك لم يمنعه من تملك هذا المفهوم والتفكير تحت رايته في الحقيقة في فنِّ الرسم. وقد تبين لنا أن «باررغون» كانط هو الذي أهدى دريدا إمكانية تنشيط الرائع الاستطيقي في نوع مما سمَّاه العاملون في أفق تفكيكية دريدا، ﺑ «الرائع النصِّي». وذلك لم يكن ممكنًا إلا بنقلة نظرية حاسمة أجراها دريدا على مفهوم «الباررغا» الكانطي من باررغا الزخرف الخارجي الزائد الأجنبي على مساحة الجمال الأصيل، إلى باررغا بوصفه طاقة حرة على اللعب على حدود النصوص وبين أنسجتها الأكثر عمقًا. باررغون دريدا هو الاسم الآخر لفنِّ الرائع بوصفه «لا هو بالأثر ولا هو بخارج عن الأثر».
مع دريدا يخرج الرائع عن طور الذات الحديثة مرة واحدة. أي إن الرائع لم يعد يسكن الطبيعة أو الذات إنما صار يقيم بين طيات النصوص وأنسجتها. مع دريدا صار الرائع ملكًا للنصوص وملكًا للتفكيك، بل هو فنُّ التَّفكيك نفسه بوصفه لا يكف عن مساءلة النصوص والسلوك ضد الإطار سواء كان شكلًا جماليًّا أو مؤسسة سياسية أو دلالة لغوية واثقة من ثوابتها. عبر مفهوم الباررغا الكانطي الأصل وتحت سماء النقد الثالث استطاع دريدا أن يربك الحدود ما بين الأثر وما هو خارج عن الأثر من أجل إقحام ما تم اقصاؤه دومًا بوصفه خارجيًّا وأجنبيًّا وآخر داخل لعبة الأثر نفسه … إنه لعب لا ينتهي ولا ينفكُّ عن إعادة طيِّ النصوص والغوص في جينيالوجياتها الأكثر خطرًا وعطالاتها الأكثر فظاعة ومواقع الألم التي تنخرها من الداخل.
مقاومة الإطار وزعزعة الأثر نفسه والتمرُّد على أعتى النصوص الغربية: ذاك هو مقصد دريدا الذي جعل من فنِّ التفكيك ضربًا من الاستطيقا المعممة حيث تكون الاستطيقا طاقة لامتناهية على تحرير النصوص من غطرسة اللوغوس وهيمنته، وحيث يتم تشغيل الهامش وتنشيطه وإنصافه بالكتابة بدلًا عن اللوغوس وبالرسم بدلًا عن لاهوت العلامة.
إن فنَّ الرائع هو لدى دريدا فنُّ اختراع الآخر. لكن أي معنًى يعطيه دريدا لهذا الآخر؟ هل يتعلَّق الأمر بعودة إلى اليونان مثلما فعل نيتشه ومن بعده هيدغر بضرب من التنشيط لعناصر ما قبل حديثة بغية اختراع أفق مغاير للعقل الحديث؟ أم ينبغي إصلاح العقل الحديث في ضرب من التنوير الجديد كما يفعل هابرماس وكل الذين يشتغلون في أفق إشكاليته؟ أم نسلك على نحو من «العدمية الثورية» المهدوية التي اقترحها بنيامين وجملة من المفكرين اليهود في ضرب من ردة الفعل اليهودية على كارثة التقدم الحديثة؟
يبدو موقف دريدا مغايرًا لهذه الحلول جميعًا. حيث نقرأ في نصٍّ مثير له ما يلي: «لا بابل ولا نمرود ولا الطوفان … ينبغي البحث عن موضع ما لا هو يوناني ولا هو يهودي.»٣٥ وفي الحقيقة أن الآخر الذي لا يكف فنُّ الرائع عن اختراعه ليس هو الآخر في المعنى الذي أقره فلاسفة الاختلاف؛ أي آخر الغرب الذي يضم لائحة كبيرة من الفئات، البدائي والمجنون والمتخلِّف والبربري … يقول دريدا منبِّهًا على الدلالة التي أوكلها التفكيك إلى اختراعات الآخر: «سوف يكون هذا الآخر أيًّا كان، لم يعد هناك البتة لا الذات ولا الأنا ولا الإنسان، أي كان يأتي ليفي بالوعد: ما يأتي من حدث يحافظ على المسافة … العلاقة بالآخر بوصفه كذلك. لا نمدُّ أيادينا على سبيل المصافحة … إنما نمدُّ أيادينا فوق الهاوية.»٣٦
١  H. R. Jauss, Pour une esthétique de la reception, Paris, Gall., 1978, pp. 173 sqq.
٢  J. Habermas, Le Discours philosophique de la modernité, Paris, Gall., 1988, p. 5.
٣  Ibid., p. 18.
٤  Ibid., p. 61.
٥  Ibid., p. 52.
٦  Ibid., p. 23.
٧  Ibid., p. 102.
٨  Adorno, Minima Moralia, Paris, Payot, 1983, p. 219.
٩  Ibid., p. 220.
١٠  Ibid.
١١  Ibid., p. 222.
١٢  Adorno, Théorie esthétique, Paris, Klincksieck, 1995, p. 42.
١٣  Ibid.
١٤  J. Habermas, Le Discours philosophique de la modernité, op. cit., p. IX.
١٥  J. F. Lyotard, La condition postmoderne, Tunis, CERES, 1994, p. 1.
١٦  Ibid., p. 6.
١٧  Ibid., 8.
١٨  J. Habermas, “La modernité: un projet inachevé,” in: Critique, n° 413/1981, pp. 966-967.
١٩  J. F. Lyotard, Le différend, Paris, Minuit, 1983, p. 29.
٢٠  Gérald Sfez, Jean-François Lyotard, La faculté d’une phrase, Paris, Galilée, 2000.
٢١  J. F. Lyotard, Le différend, op. cit., p. 206.
٢٢  J. F. Lyotard, L’Inhumin, Paris, Galilée, 1988, p. 15.
٢٣  Ibid.
٢٤  J. F. Lyotard, Le différend., op. cit., p. 258.
٢٥  E. Delruelle, “l’autre dans la conversation et la communication,” in: G. Hottois, M. Weyembergh (éditeurs), Richard Rorty. Ambiguités et limites du postmodernisme, Paris, Vrin, 1994, p. 59.
٢٦  Louis Dupré, “Postmodernité ou modernité tardive,” in: G. Hottois, M. Weyembergh (éditeurs), Richard Rorty. Ambiguités et limites du postmodernisme, Ibid., p. 38.
٢٧  Ibid., p. 51.
٢٨  R. Rorty, Contingence, ironie et solidarité, Paris, Armand Colin, 1993, p. 16.
٢٩  H.-G. Gadamer, Vérité et méthode, Paris, Seuil, 1996, p. 13.
٣٠  Ibid., p. 1.
٣١  Ibid., p. 119.
٣٢  H.-R. Jauss, “Petite apologie de l’expérience esthétique,” in: Pour une esthétique de la reception, Paris, Gall., 1978, pp. 135 sq.
٣٣  Ibid., p. 137.
٣٤  Ibid., p. 169.
٣٥  J. Derrida, Psyché, Inventions de l’autre. Paris, Galilée, 1987–2003, vol. 2, p. 129.
٣٦  Ibid., p. 105.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤