الفصل الثالث

الإنسان الجمالي في ست وقائع استطيقية

«إن الإنسان الفيزيائي وجود واقع، في حين لا يعدو أن يكون الإنسان الأخلاقي غير وجود إشكالي.»

شيلَّر

لقد مات الإنسان بما هو ذات ميتافيزيقية بتحرر العقل الفلسفي المعاصر من نظرية المعرفة الكلاسيكية التي صمَّم ملامحها القصوى كانط … غير أننا نشهد اليوم على ميلاد وجوه متعددة من الذاتية والتذاوت، من الذاتية التفكيكية للباررغون لدى دريدا إلى ذاتية اللاشخصي للريزوم لدى دولوز إلى تأويلية الذات والعناية بالنفس لدى فوكو … إننا نفترض أن مكان ولادة هذه الذاتية الجديدة التي نقترح أن نلم شتاتها تحت راية مفهوم اخترعه شيلَّر، هو مفهوم «الإنسان الجمالي»، هو تحديدًا حقل الجماليات أو ما ينضوي تحت راية فلسفة الفن …

إننا نطلب تحديدًا رصد الانزياحات السِّرِّية التي حدثت لمفهوم الإنسان في أفق الحداثة الجمالية أو في كنف المنعرج الجمالي للفلسفة … أي نمط من الإنسان ترسمه الفلسفة لنا منذ أن أعلن نيتشه الأول عمَّا يسميه ميتافيزيقا الفن؟ وهل ما زال الإنسان مفهومًا فلسفيًّا شرعيًّا بعد كل عمليات الجلد التي تمت له في أفق ما سماه ليوتار بما بعد الحداثة؟ وهل بوسعنا أن نستغني عن مفهوم الإنسان نفسه مثلما فعل ذلك هيدجر في رسالته حول الإنسانوية؟ في الحقيقة ثمة تواشج عميق وغامض بين مشروع الحداثة بكل أطيافه التي تدعو إلى الخروج منها، أو تلك التي تستأنفها أو تلك التي تنقدها على نحو جذري، وبين نمط الإنسان الممكن في أفق العقل البشري الكوني الحديث والمعاصر … نحن نفترض أن الإنسان لم يمت. بل إن من مات هو الذات الكلاسيكية التي قامت عليها فلسفة الوعي، فلسفة اجتهد أقطاب فلسفة الاختلاف في التحرُّر منها، بمعنى في تطهيرها من كل أشكال الادِّعاء الميتافيزيقي الذي لحق بالإنسان الكلاسيكي بوصفه كوجيتو سيدًا ومالكًا للطبيعة وبوصفه ذاتًا تشرع للعقل البشري في كل استعمالاته وبوصفه وعيًا مطلقًا وروحًا متناغمة مع التاريخ …

وذلك يعني تحديدًا أنه بعد نيتشه الذي أعلن عن اكتشاف قيم الجسد وفرويد الذي اكتشف أن الأنا ليس سيدًا حتى في بيته، وماركس الذي بعثر جدلية هيغل وقلبها رأسًا على عقب، لم يعد بوسع العقل البشري أن يدعي ثانية أي شكل من مركزية اللوغوس الغربي … لقد سقطت ادعاءات ميتافيزيقا الذات ولم يبقَ من الذات غير الشظايا … جمَّدها نيتشه وفكَّكها دريدا وأعلن فوكو عن موتها …

لكن ما حدث في نفس الحركة الفلسفية لتدمير الذات الميتافيزيقية هو ولادة أشكال أخرى من الذاتية من قبيل «نحن الجمالية» لأدرنو و«الإيروس» لماركوز والخلاف لليوتار والريزوم لدولوز والجموع لنيغري …

والطريف في مولد الإنسان الجمالي الذي نجمِّع تحت نفوذه هذه الأوجه المتشظية من الذاتية الاختلافية الخلافية الصَّائرة الجائلة المتسارعة … هو أنها ارتسمت في كل مرة باسم واقعة موت الذات … إن موت الذات لم يكن ليعني موت الإنسان بعامة بل هو فحسب نهاية نمط معين من التفكير بالإنسان: إنه ذاك الذي انتهى إلى نزعات إنسانوية انقلبت في معظمها ضد الإنسان والإنسانية والإنسانوية معًا. ألم تكن الفاشية والنازية والستالينية وكل شوفينيات هذا العصر قد قامت باسم الإنسان والإنسانوية وفق ما يستنكره فوكو؟ لذلك كانت ضحكة ديمقريطس التي أنهى بها فوكو الكلمات والأشياء ضحكة عادلة … حريٌّ بنا أن نتوجه في الفكر نحو ضرب من العناية بالإنسان على طريقة فوكو الأخير الذي ضحَّى بالإنسان الذات من أجل أن يظفر بما يسميه العناية بالذات …

وذلك أن أشدَّ ما نحتاجه اليوم في أوطاننا ليس فلسفة موت الذات والتشدُّق بما بعد الحداثة وكأننا نحتفل بالموضة الفلسفية الغربية، إنَّما حاجتها الأخصُّ هي العناية بالإنسان الذي يوشك في هذه الديار إلى السقوط فيما أقلَّ من بشر … في حين يطلب الغرب ما فوق الإنسان … كيف السبيل إلى تجاوز أنفسنا إلى أنفسنا العميقة؟

لقد فهم العقل الفلسفي الحالي أن أطروحة موت الإنسان لم تعد تصلح إلا للطُّغاة والجبابرة. لذلك نراهم قد كفُّوا عن التَّلويح بتحطيم العقل وجلد الإنسان … ذلك أن الموت الفعلي للإنسان لحق بالآخر في غالب الحالات … لذلك فهم الفلاسفة أن التفكير بالإنسان ينبغي عليه أن يمرَّ من هنا فصاعدًا بأفق الغيرية … لن ينفرد بمصير الإنسانية أي قوم ولا هوية … ثمة الريزومات والجموع والمشترك فيما أبعد من الجماعات والهويَّات …

ومن أجل رسم الخريطة العامة للإنسان الجمالي بوصفه حقلًا فلسفيًّا ترعرعت على أرضه كل أشكال الذاتية المنبثقة من الأفق الفني والإبداعي والخيالي بعامة، بوسعنا أن نحصي ستَّ وقائع استطيقية يلتقي فيها الجمالي بالإنساني من خلال أشكال عدة من العبور فوق الهاوية، التي كشف عنها كتاب نقد ملكة الحكم لكانط، تلك التي تفصل العقل النظري عن العقل العملي. وإننا لنعثر على أول أشكال هذا العبور ضمن مفهوم الإنسان الجمالي الذي يولد تحديدًا ضمن رسائل في التربية الجمالية للإنسان لشيلَّر (١٧٩٤م). أمَّا الواقعة الثانية التي تجعل المصالحة بين الإنسان والطبيعة ممكنة فهي من توقيع المفهوم النيتشوي ما فوق الإنسان، الذي يشتقُّ من تراجيديا ديونيزوس (١٨٧٢م) نموذجًا مغايرًا لنموذج الإنسان الحديث، قادرًا بإرادة الفن الجذرية التي بحوزته أن يذهب فيما أبعد من الإنسان نفسه. أمَّا عن شكل العبور الثالث الذي يجعل من الجمالي هو الدَّرب الوحيد لتحرير ما تبقَّى من الإنسان فينا فهو ذاك الذي اقترحه أدرنو (١٩٧٠م) ومن بعده ليوتار (١٩٨٨م)، تحت راية مفهوم اللاإنساني بوصفه شكل المقاومة الوحيد لعصر لاإنساني إلى حد فظيع. أما عن الواقعة الرابعة فهي تلك التي تعرف اليوم تحت راية «العابر للإنساني» (transhumain) أي ذاك الذي يقترح أن نقيم في المدن الحالية المخدَّدة بأجهزة الدولة والهيمنة، مترحِّلين عبر «خطوط إفلات» وفضاءات صقيلة نرسمها بالإبداع والفن، وذاك هو معنى الترحُّل الاستطيقي الذي يوقعه دولوز وغاتاري ضمن كتاب ألف مسطح (١٩٨٠م). أمَّا عن الواقعة الاستطيقية الخامسة فهي من توقيع رورتي (١٩٨٩م) الذي يدفع بنا عبر التهكُّم الليبيرالي نحو أفق ما بعد إنساني، حيث نكتفي بكتابة القصص تضامنًا مع المتألِّمين في العالم، في ضرب من صناعة اليوطوبيات الصغيرة ضد أشكال الفظاعة والمهانة التي تُمارس ضدَّ البشر الحاليِّين. وأخيرًا صار عبور الهاوية ممكنًا عبر قنوات جماليات المشترك وسياسات الجموع ما بعد الحديثة ما بعد الطوباوية وما بعد الإنسانوية. إن الأمر يتعلَّق بنموذجين لتعلُّق الجمالي بالإنساني عبر مفهوم المشترك، مثلما نعثر عليه بخاصة مع نيغري (١٩٨٨م) ورنسيار (٢٠٠٣م).

(١) الإنسان الجمالي من كانط إلى شيلَّر

يمثِّل مفهوم الإنسان الجمالي الذي يظهر تحديدًا ضمن الرسالة رقم ٢٣ من رسائل شيلَّر في التربية الجمالية الحقل الأول لإمكانية الحديث عن استطيقا الإنساني ضمن الأفق الذي دشنه كتاب النقد الثالث لكانط سنة ١٧٩٠م. لكن ما مقصد شيلَّر من هذا المفهوم؟ وكيف بوسع الجماليَّات تربية الإنسان؟

يتعلق الأمر بوقوف شيلَّر على ما آل إليه العصر الحديث من صراع مدمِّر بين الحسِّ والعقل نتيجة لسيادة النزعة النفعية من جهة ولاتِّساع دائرة العلم من جهة أخرى ولتقلص منزلة الفن من جهة ثالثة. لقد استبق شيلَّر على خطورة تحول ميدان الثقافة إلى بضاعة، الأمر الذي يهدد الحرية نفسها بوصفها الميدان الطبيعي للفنِّ أساسًا. كيف بوسع الفن إذن أن يصالح الإنسانية مع حياة حرة متناغمة مع الطبيعة ومع الفضيلة معًا؟ إن شيلَّر يدفع بالفن إلى مهام تاريخية فعلية يصير الإنسان الجمالي من خلالها قادرًا على أن يكون مواطنًا حرًّا في العالم بارتفاعه من فرديته المتفرجة المتذوقة إلى مقام الجنس البشري برمَّته. إن كل فرد بلغ مقام الإنسان الجمالي، يمكنه أن يسلك كما لو أنه كان «قاضيًا في محكمة العقل» (الرسالة الثانية)، وكما لو كان يحمل الإنسانية في شخصه.

إن شيلَّر يستعيد بذلك مبدأ أساسيًّا من مبادئ استطيقا كانط كما يصرِّح هو بنفسه منذ الرسالة الأولى. إنه مفهوم «الكونية الاستطيقية» بما هو ميدان العبور فوق الهاوية التي فصلت الإنسان الحديث عن الطبيعة وعن الفضيلة وعن الحرية معًا. لكن شيلَّر أقلُّ تفاؤلًا من كانط بالإنسان الحديث. لذلك لا يكتفي بكونية استطيقية استكشافية مثالية، إنما يدفع بالاستطيقا إلى تدبير تاريخي فعلي للشأن البشري. إنه يُجري نقلة نوعية حاسمة على مجال الجماليات دافعًا به إلى عبور فعلي لميدان الإنساني، من أجل النهوض التاريخي بفكرة الإنسانية ومصيرها. ينبغي أن يصير الجمالي حقلًا فعليًّا لتربية البشر. أي أداة صالحة ﻟ«بناء حرية سياسية حقيقية» بما هي «جوهر العمل في البحث الفلسفي» (الرسالة الثانية).

إن الأمر يتعلَّق لدى شيلَّر بالتَّحوُّل من الإنسان-الذات، الذي صممته جماليات كانط، إلى إنسان الجماعة المشتركة. وهنا ينقلنا صاحب مشروع التربية الجمالية، من الحسِّ المشترك الذي زرعه كانط في قلب الجماليات الحديثة، من جهة ما هو مجرد ملكة متعالية ما قبلية في طبيعة البشر، إلى حسٍّ مشترك محسوس استطيقي تاريخي فعلي. لذلك يقترح شيلَّر قائلًا: «من أجل إيجاد حلٍّ عملي للمشكلة السياسية، فإنه يتعين علينا حقًّا أن نسير على درب الاستطيقا، طالما أننا إنما نبلغ إلى الحرية مرورًا بالجمال» (الرسالة الثانية).

في عصر صار فيه الإنسان بعبارة شيلَّر «فريسة للفظاظة والغلظة» لا شيء يعيده إلى نفسه غير صقل طبيعته وتهذيبها عبر مشروع «على قدر من العظم والأهمية مثل تربية الجنس البشري وتثقيفه» (الرسالة العاشرة). إن شيلَّر لا يكتفي بتحصين الجميل بوصفه رمزًا أخلاقيًّا للخير، مثلما يصرِّح بذلك كانط، إنَّما نراه يبحث عن الأثر الفعلي للجميل فينا. وإلا لماذا يجد كل شيء جميل صدًى داخل الطَّبيعة البشرية؟ ذلك أن الجميل بوسعه أن يصالح الطبيعة الإنسانية مع الطبيعة الخارجية. إن الجميل يصالح في الإنسان بين الحسِّ والعقل أو بين ما يسميه شيلَّر «الجمال العاطف» و«الجمال العاصف» (الرسالة ١٦).

إن أهم ما يثيرنا في مشروع مصالحة الإنسان مع نفسه هو إذن المعالجة الطريفة غير المسبوقة التي سوف تدفع بدائرة كبرى من الفلسفة المعاصرة إلى منعرج جمالي شعاره مثلما تصوغه الرسالة ٢٣ من رسائل شيلَّر هو التالي: «أنه ليس ثمة من سبيل آخر يجعل من إنسان الحسِّ إنسان عقل إلا بجعله إنسان جمال أوَّلًا.»

إن الغاية الفلسفية القصوى من مشروع التربية الجمالية للإنسان، بجعله موجودًا جماليًّا هو الارتقاء به من حدود إنسان الحسِّ بغرائزه الفردية الضَّيِّقة إلى ما يسميه شيلَّر «أرض الحرية المقدَّسة». داخل مملكة الإنسان الجمالي تجد البشرية إمكانية العيش في حالة استطيقية حيث تكون الحرية قد امتدَّت إلى كل مجالات الحياة المدنية. وبالتالي سوف يقع التقدُّم بالنوع البشري نحو مصالحة بهيجة بين حالة الطبيعة وحالة العقل والحالة الجمالية.

إن ما يهمنا من جماليات شيلَّر هو إمكانية استعادتها مرة أخرى ضمن أفق مغاير للعناية بالإنساني على نحو جمالي، وذلك تحت راية مفهوم «الإنسان الجمالي». وذلك بالرغم من أننا نعي جيدًا بأنه لم يعد يحق لنا الانخراط تحت لواء الإنسانوية الجمالية بعد كل الرجَّات التي عاشها هذا المفهوم من بين أقلام في حجم تلك الذي خطَّ به كل المضادِّين للإنسانوية من قبيل ليوتار ودريدا وفوكو … ولعلَّ كل المنعرج الذي يسميه جيمناز «المنعرج السياسي للاستطيقا» منذ القراءة السياسية التي وقَّعتها حنا آرندت لنقد ملكة الحكم لكانط إلى حدود اقتسام المحسوس لجاك رنسيار، إنما تشتقُّ ملامحها الكبرى من رسائل شيلَّر في التربية الجمالية للإنسان بوصفها أول جماليَّات حديثة دفعت بالإنسان الجمالي نحو عبور فعليٍّ للهوة المخيفة التي تحاك فيها كلُّ الحيل الفظيعة لسياسة شئون البشر وتدجين حريَّاتهم.

(٢) نيتشه وتراجيديا ما فوق الإنسان

مع نيتشه تدرك الاستطيقا الواقعة الفلسفية الكبرى الثانية، بعد واقعة الإنسان الجمالي لشيلَّر، في العناية بالإنساني على نحو جمالي. لكن الطَّريف في هذه الواقعة هو أنها لا تهتمُّ بما هو إنساني إلَّا من أجل تجاوز النموذج الحديث للإنسان نحو نموذج مغاير تمامًا سمَّاه نيتشه، «ما فوق الإنسان». مع نيتشه نتحوَّل من حلم تنوير الإنسان الحديث لكانط وشيلَّر، القائم على التقدُّم بالنوع البشري نحو المصالحة فيه بين الجمال والحرية والعقل، إلى إحياء ديونيزوسي للفن كما جرَّبه اليونان من أجل خلق نموذج جميل من الحياة مضادٍّ للنموذج الحديث نفسه. يتعلَّق الأمر باقتراح أفق مغاير للإنسان يتجاوز كل ما كانه الإنسان إلى حدِّ الآن. لكن بالرَّغم من أن هذا المعنى لا يظهر إلا على لسان زرادشت، أي بشكل متأخِّر بالنسبة إلى كتاب مولد التراجيديا حيث استعادة الفن بوصفه «النشاط الميتافيزيقي الحقيقي والمهمة العليا للحياة»، فإننا نفترض أن هناك اقترانًا فلسفيًّا جوهريًّا ما بين موسيقى ديونيزوس والإله الراقص زرادشت الذي جاء ليعلن عن ضرورة تخطِّي مقام الإنسان إلى ما فوق الإنسان.
لكن ماذا يقصد نيتشه بمفهوم «ما فوق الإنسان»؟ يبدو أن الأمر لا يتعلَّق لا بالإنسان الأفضل ولا بالإنسان بوصفه الكائن الوحيد على الأرض العاقل والخيِّر والسيِّد … ذاك الذي قتل الإله واستولى على مكانه وعلى صفاته معًا. وبحسب تأويل دولوز، لا ينشغل نيتشه «بمن هو الإنسان» إنما مشكلته هي «من يتخطى الإنسان؟» ويبدو أن زرادشت هو الوحيد الذي لا يريد أن يحافظ على الإنسان، إنما همه هو أن يتخطَّى الإنسان، أن يذهب فيما أبعد منه. إن مفهوم ما فوق الإنسان يتخطَّى في حركة رائعة مفهوم الإنسان الأفضل لروسو من جهة، ومفهوم الإنسان الجدلي لهيغل. إن هذين النموذجين من الإنسان تعيسان بائسان معًا. ذلك أن كليهما عدمي قضى على كل قيم الحياة ولم يبقَ غير ذات متغطرسة سالبة لم تفعل إلا معاداة الحياة ونشر المشاعر الباردة والانفصال عن الطبيعة، وإن في ذلك لأفظع الجرائم التي اقترفها الإنسان ضد الأرض.١

لكنَّ إنسان نيتشه ليس ضربًا «من المزايدة على الإنسان الحديث»، مثلما يقول دولوز، إنما هو نمط جديد من الإحساس، ذات أخرى مغايرة للإنسان … «نمط آخر من التفكير»، إنه يتراوح ما بين ديونيزوس إله الموسيقى والنشوة والحياة وزرادشت خالق القيم العليا المبشِّر بما فوق الإنسان، وهو أيضًا هيرقليطس «إله الصيرورة الخالدة» لذلك لن يعرف «هيرقليطس الشيخوخة أبدًا»، وهو أخيرًا نيتشه نفسه كأول فيلسوف تراجيدي ارتقى بفنِّ التراجيديا إلى مقام «انفعال فلسفي» عميق.

لقد اقترن إذن ما فوق الإنسان بديونيزوس رمز الإنسان التراجيدي المضادِّ للإنسان النظري المعادي للحياة، وبمفهوم العود الأبدي معًا. لأن ما يعود هو الصَّيرورة النشيطة البهيجة التي انتصرت على كل قوى العدمية وأشكال نفي الحياة. إن ما فوق الإنسان هو بتعبير دولوز، «الابن السليل لديونيزوس وأريان»، حيث المصالحة بين الآلهة والبشر والطبيعة والحياة.

إن الأمر يتعلَّق بمضادة نيتشه للهيغلية بكل أشكال السَّلب والتناقض والوعي التَّعيس التي انتشرت داخل فلسفة الذات الحديثة. مع جماليَّات ما فوق الإنسان تنتصر القيم الإثباتية لرؤية استطيقية للعالم على جدلية السلب والتناقض. ها هنا ما فوق الإنسان وها هنا تنتهي آلام السَّلب والوعي التعيس، ولن يبقى غير إمكانيات الإثبات المرح للحياة بوصفها المعنى العميق للتراجيديا في عنفوانها الجمالي. بذلك تغدو استعادة ديونيزوس استعادة للرائع الديونيزوسي ضدَّ الجمال الأفلاطوني المعادي للغرائز اليونانية. إن ما فوق الإنسان هو المقام الجمالي الكفيل بإعادة الحياة إلى برودة قيم الإنسان الحديث. وحده ديونيزوس الموسيقار كفيل باختراع أفق آخر للإنسانية الحديثة، وحده إله راقص، زرادشت قادر على تعليم الإنسان كيف يتخطى نفسه نحو إمكانيات أخرى من الإقامة الجميلة في الأرض. فما يعود على نحو أبدي هو الحياة نفسها، هي موسيقى ديونيزوس بوصفها قد أدركت مقامًا من التناغم الجذري مع الحياة بكل أبعادها بجمالها وفظاعتها معًا.

إن أهمَّ ما نخرج به من هذا الأفق الجمالي الذي افتتحه نيتشه هو ما أدركه هيدغر ودولوز كل على طريقته من اتخاذ الفلسفة ورشة كبرى لإبداع إمكانيات كثيفة من ما فوق الإنسان، سواء عبر إقامة شعرية في العالم أو عبر ترحال استطيقي في المدن التي خدَّدتها أجهزة الدولة.

(٣) اللاإنساني والرائع ما بعد الحديث: أدرنو وليوتار

إننا نعتبر أن اللقاء الفاجع الذي نصطدم به مع ميدان الإنساني عبر تنشيط الرائع الكانطي مع أدرنو ثم ليوتار، تحت راية مفهوم اللاإنساني تحديدًا هو بمثابة واقعة استطيقية أساسية، بوسعنا أن تكون ورشة من ورشات تجريب الاستطيقا الفلسفية للإنساني بعد موت الإنسان-الذات . وقد تبين لنا في كتابنا حول جماليات الرائع كم بوسع الرائع اللاإنساني أن يكون في حجم لاإنسانية هذا العصر بدلًا عن التواصل معها أو عن تجميل واجهاتها بالتأويل أو بالتلقِّي الموجب لها أو بالمساهمة في بنائها على نحو كوني.
وإن مفهوم لاإنسانية الفن الذي اكتشفه أدرنو ضمن صفحات كتاب النظرية الجمالية (١٩٧٠م) يعتبر رجة كبرى لكل دعاة الجميل والمتعة الجمالية وأصحاب الذوق الأصيل. لكن كيف بوسع الفن بلاإنسانيته أن يفضح لاإنسانية حضارة الإنسان الحديث وقبحها؟ — ذاك رهان استأنفه ليوتار على نحو كثيف من خلال كتاب يحمل عنوان اللاإنساني (١٩٨٨م) نفسه تنبيهًا على دخول الإنسانية الحالية في عصر جديد، عصر «نزاع اللاإنسانويات» نفسها. لكن هذا الاشتغال الاستطيقي على ميدان الإنساني من خلال لاإنسانية الرائع بعد نهاية الجميل، لا يعني شيئًا آخر غير الدفاع عما هو إنساني ضد أشكال التنكيل بالإنسان بعامة. هناك ضرب من الإنسانوية المفرطة في إنسانويتها داخل هذه النزعات التي سماها هابرماس فوضوية عدمية لاإنسانوية. إنه الذهاب بالإنساني إلى أبعد مدًى ممكن. إن لاإنساني أدرنو وليوتار إنساني مفرط في إنسانيته لأنه يغوص في الهاوية الحقيقية التي تفصل الإنسان عن إنسانيته وتدفع إلى به إلى كارثة اللاإنساني بكل ما آل إليه المجتمع الحالي من آلام البشر ومعاناتهم الفعلية.

(٤) الجمالي يعبر الإنساني أو في الترحال الاستطيقي مع دولوز وغاتاري

مع دولوز وغاتاري ومع كتاب ألف مسطح ومسطح (١٩٨٠م) تحديدًا، نحن نعثر على ما نعتبره الواقعة الرابعة من وقائع اللقاء بين الجمالي والإنساني فيما أبعد من براديغم الحداثة القائمة على النزاع بين الإنسانويين والمضادِّين للإنسانوية أو ما سميناه النقيضة الاستطيقية ما بين جماعة الجميل وجماعة الرائع. وعلينا أن ننبِّه هنا على الأهمية الفلسفية القصوى التي أولاها الفيلسوف الفرنسي الكبير دولوز للفنِّ بوصفه العيادة الكبرى التي بوسعنا أن نعالج ضمنها كل مشاكل الإنسانية الحالية. ولا يخفى على الجميع حينئذٍ كم يظل دولوز أكثر من جسد مقولة العقول الحرة التي مهَّد لقدومها نيتشه كأول من استشرف، وبحسب عباراته الجميلة نفسها، ضمن مفتتح كتاب إنساني مفرط في إنسانيته، تحت أية «نجمة سعيدة» تولد هذه العقول.
إن المتصفح لجملة مؤلفات دولوز يلاحظ لتوه ما للفنِّ من منزلة هامة لديه، حيث تخصص أكثر من ثلث عناوينه للاشتغال مباشرة على آثار فنية بعينها، حول بروست والعلامات (١٩٦٤م) أو كافكا والأدب الصغير (١٩٧٥م) أو فنِّ الرسم لدى بيكون (١٩٨١م) أو السينما ١ و٢ … والطَّريف في كلِّ ذلك هو التقاطع الجوهري الذي يرسمه الفن لدى دولوز مع الإنساني عبر ميدان الحرية ضد حقل الحقيقة. ولأن الحرية لا وجود لها ينبغي علينا وفق عبارات دولوز أن نخترعها بالفنون وبالفضاءات الاستطيقية الصقيلة ضد فضاءات خططتها وخدَّدتها وحصَّنتها وراقبتها أجهزة الدولة.
بالفن نبدع فضاء حرية يسميه دولوز صحبة صديقه غاتاري، الذي كتب معه ألف مسطح (١٩٨٠م)، «الفضاء الصقيل» (espace lisse) وهو فضاء مضاد ﻟ«الفضاء المخدد» (espace strié). ومن أجل تنضيد جمالي سياسي للإنساني يخترع دولوز مفهوم الريزوم ضد مفهوم الشجرة ذات الجذور. إن الريزوم لا يترعرع بين الأشجار إنما يخترع لنفسه فضاء مضادًّا، خيط إفلات عابر طافر لا هووي، لا يزرع إنما يجتذُّ الجذور ويقاومها لا يتذكر ولا يؤَوِّل ولا ينتمي، إنما يحارب ويترحَّل ويعبر المدينة في سرعة مغايرة وعلى خطوط جائلة طافرة لا شكل لها رائعة على نحو طريف.

لذلك لا يصلح الفن لدى دولوز لا للتَّأويل ولا للتَّفسير ولا للنَّقد أو الذوق أو التواصل والجماعة المشتركة، إنما هو فنٌّ من أجل الإنساني في دلالة مغايرة تمامًا لكل الدلالات الحديثة وما بعد الحديثة معًا. إن الفن يصير إلى ورشة تجريب يتدرب فيها الفكر نفسه على الإبداع بوصفه مهمة للفلسفة نفسها.

وفي الحقيقة لم يعد بوسعنا أن نتحدث عن فنٍّ أصلًا مع دولوز إنما الأمر يتعلَّق بالفنون في تعدُّدها وكثرتها، وفي قدرتها على خلق الفرديات والكثافات والسرعات والصيرورات بلا كلل ولا ملل. وتلك هي مهمة الريزوم هذا النمط الجديد من العابر للإنساني الذي لم يعد ذاتًا ولا إنسانًا أرقى ولا حتى شخصًا. إن الفن فضاء لإبداع اللاشخصي، هذا «الضمير الرابع» المتحرِّر من كل الأسماء التي اقترنت داخل اللغات بمفهوم الإنسان نفسه.
إن الأمر يتعلق بفضاء استطيقي جديد يعدِّد دولوز بمعية غاتاري أسماءه ويضاعفها وينثرها على مسطحات كتاب ألف مسطح. إنه فضاء بلا وجه وبلا هوية وبلا ذاكرة. هو فضاء آلة الحرب ضد جهاز الدولة، وهو فضاء الرُّحَّل ضد فضاء أهل المدينة، وهو فضاء لا يركبه غير الفرديَّات المبدعة اللاشخصية اللاهووية واللاكونية واللاتواصلية معًا.
إن أهمَّ ما يهمنا من هذه الواقعة الرابعة التي يعبر فيها الفيلسوف دائرة الإنساني مترحِّلًا استطيقيًّا، هو هذا البعد الطريف لما يسمَّى بضرب من الأنطولوجيا الثورية للصيرورة، أنطولوجيا الإبداع التي لا تكفُّ أبدًا عن الفتك والهتك والهزم لتاريخ الهويات. إن أهمية استطيقا الترحل هذه المفتوحة على الحرية وعلى التعدد والاختلاف البشري، إنما تهمُّنا شديدًا في التفكير اليوم بالإنساني ما بعد الإنسانوي وما بعد الحداثوي وما بعد الديني معًا. وربما لم ندرك بعد كم من إمكانيات التحرر الثاوية في طيَّات الترحل الاستطيقي الذي صممه كتاب ألف مسطح، بوصفه يوفر لنا ألف إمكانية وإمكانية تحرر من كلِّ ضروب الفظاعة والمهانة التي تحاك ضد الإنسان اليوم. وذلك بدءًا بالجذور الهووية مرورًا بالعلامة والدلالة الألسنية وصولًا إلى الوجه والجسد والجهاز العضوي … وكل ضروب الاستيلاء على المكان والأرض وتخديد المدن بالهيمنة، وخنق الحريات.

إن الترحُّل الاستطيقي يراهن في آخر المطاف على رسم خرائط جديدة تجعل من الفنون أداة إبداع لفضاءات حرية، ضد الأمكنة التي تخدِّدها المؤسسات والتنظيمات والأنساق بوصفها في أصلها قائمة على الاستيلاء على الإنسان وتضييق الحياة عليه. لكنَّ هذه الفضاءات الاستطيقية الإبداعية لا تكفي من أجل إنقاذ البشرية الحالية من الفضاءات المثقوبة وأشكال الهوَّات التي تزداد عمقًا وفظاعةً. ورغم ذلك لا يعد مترحِّلو دولوز بأية يوطوبيا: حسب المرء «أن يسكن المدينة كهَّافًا أو مترحِّلًا».

(٥) رورتي والتهكُّم الليبيرالي فيما أبعد من كل إنسانوية

إننا نعتبر كتاب الفيلسوف الأمريكي ريتشارد رورتي عرضية وتهكم وتضامن (١٩٨٩م) إحدى الوقائع الاستطيقية الأساسية من أجل التوجُّه بالشأن البشري توجهًا جماليًّا شعريًّا ما بعد ميتافيزيقي ما بعد رومانسي وما بعد إنسانوي معًا. وقد سبق لنا أن اشتغلنا على هذا الكتاب ضمن نصِّ محاضرة كتبناها باللغة الفرنسية، أدركنا فيها أهمية هذه الاستطيقا الليبيرالية بوصفها تتخطَّى الكونية الاستطيقية والتواصلية التي استأنفها دعاة التواصل بعد كانط، نحو ضرب طريف من العناية بالمشترك الكوني بين البشر؛ أي التضامن مع كل الذين يتألمون ويهانون في إنسانيتهم، بوصفنا إنسانيتنا، نحن جميعًا الذين نتقاسم هذا العالم سويًّا.

يقول رورتي: «لو أردتم من الأجيال القادمة أن تتذكَّركم، اجتنبوا الرياضيات واكتبوا الشعر». ولقد وجدنا في هذا القول الذي نعثر عليه في آخر صفحات كتاب هذا المتهكِّم الليبيرالي، شعارًا رسميًّا للثقافة الشعرية التي يستعيدها رورتي إلى حد يصل فيه إلى ضرورة تحويل الفلسفة إلى جنس أدبي. ذلك أننا لا نحتاج إلى المحافظة على بصيص من الأمل إلا إلى نسج حكاية ما. فليشرع كل منَّا في كتابة قصته الخاصة في ضرب من صناعة اليوطوبيات الصغرى في عصر نهاية اليوطوبيات الكبرى. ذاك هو معنى التهكم الليبيرالي الذي يعتبره العقل الحالي أحد آفاق التحرر الاستطيقي من أشكال إيلام البشر وإهانتهم.

شيئان يعرف بهما المتهكِّم الليبيرالي على حدِّ رسم رورتي له: مواجهة الطابع العرضي لعقائدنا ورغباتنا من جهة، والأمل في إمكانية الحدِّ من آلام البشر ومن ضروب إهانتهم من طرف بشر آخرين كأفظع الجرائم ضد الإنسانية نفسها.

يقترح رورتي التحول من النظرية إلى السردية ومن الحقيقة إلى الحرية. ذلك أنه باستعادتنا للأفق السَّردي القصصي بوسعنا أن نرتقي إلى ثقافة ينعتها رورتي نفسه بكونها ما بعد دينية ما بعد ميتافيزيقية وما بعد فلسفية معًا.

ولعلَّ من أهم سمات هذه الثقافة الجمالية التي تتسم بتخطِّي أفق الإنسان الحديث بتنشيط فنِّ القصص هو ما يعبر عنه رورتي في هذه الجملة الرائعة: «ينبغي علينا أن نقبل بلا كلل ولا ملل على صنع يوطوبيات جديدة وبلا نهاية. وهو معنى التحقيق المتواصل والمتدفق للحرية، بدلًا عن الاتفاق حول حقيقة موجودة سلفًا.»٢ إن التهكُّم الجمالي هو إذن ذاك الذي به نقبل على كتابة القصص كسبيل للإقامة في هذا العالم الذي لم يبقَ لنا فيه غير فنِّ التضامن مع البشر المتألمين بما هم ليسوا بشرًا آخرين بل هم نحن أنفسنا ما دمنا شركاء جميعًا في دائرة النوع البشري.

مع فنِّ التهكُّم الليبيرالي نتعلم مع رورتي كيف ينبغي علينا أن نكتفي بالتضامن مع البشر بدلًا عن الحلم الذي بات مستحيلًا بتغيير جذري للعالم. إذ «لم يبقَ للمتهكِّم غير الأشياء الصغيرة الفانية، وما عليه إلا أن يعيد ترتيبها عبر وصفها من جديد». لكن هل يكفي الوصف من أجل الحدِّ من أشكال الظُّلم والفظاعة التي تعيشها الإنسانية اليوم؟ هل يمكن لفنِّ القصص التهكُّمي الليبيرالي أن يكون في حجم ما يحدث للشأن البشري؟

(٦) الإنساني والمشترك أو كيف نتقاسم المحسوس في عصر «قلق في الاستطيقا»

وهنا ننتهي إلى آخر الوقائع الاستطيقية الحاسمة في التوجُّه بحقل الشَّأن البشري على نحو جمالي سياسي وإبداعي معًا. يتعلَّق الأمر برواد فلسفة المشترك الذين أقحموا التجربة الفنية ضمن مسارات الجموع ما بعد الحديثة «حيثما تسلك هذه الجموع على نحو إبداعي». وبوسعنا أن نعتبر رسائل المفكر الإيطالي نيغري حول الفن التي كتبها ما بين ١٩٨٨م و٢٠٠٤م، وكتابات رنسيار منذ لحم العالم ١٩٩٨م، واقتسام المحسوس ٢٠٠٠م، ومصير الصور ٢٠٠٣م وأخيرًا قلق في الاستطيقا ٢٠٠٤م، بمثابة توجه جوهري في فلسفة الفن المعاصرة نحو اهتمام بالإنساني على نحو جمالي سياسي وإتيقي معًا.

أمَّا عن نيغري الذي وقفنا عنده بمثابة خاتمة لكتابنا «الفن يخرج عن طوره» فإننا ندرك كم هي مثيرة معالجته لما يحدث اليوم لما سمَّاه الجموع ما بعد الحديثة في زمن «نعيش فيه أكثر أشكال القحط الأنطولوجي». في هذا الزمن لم يتبقَّ للجموع أو للكثرة ما بعد الحديثة، التي لم تعد لا إنسانًا ولا ذاتًا، هذه الكثرة أو الجمهور الكوني الواسع المتدفِّق من عمق الوجود، لم يبقَ له غير الفن من أجل أن يحصِّن العالم من السقوط في الفراغ. وإن نيغري إنما يعبر عن إمكانية التوجه نحو يوطوبيا ملموسة أو إتيقا مادية تحمينا من هذا الجزع إزاء إمكانية المستقبل، الذي أصابنا في مجتمع حوَّل كل شيء إلى سوق وبضاعة. وفي الحقيقة يعتقد نيغري، ضد هيدغر، «أن الوجود لا يتألَّم من الفراغ، إنما هو يتألم من المستقبل، أو ممَّا هو ليس بعد». ماذا سيحدث في المستقبل، بل هل هناك إمكانية للمستقبل أصلًا في العصر النووي الذي يهدد فيه العالم بالانقراض؟ وهنا نشهد كم يرتفع الفن تحت قلم نيغري إلى مقام أسمى من حيث الصلابة والاقتدار. مع نيغري يصير الفن في حجم صلابة الوجود وقوته التي تسحقنا. إن الفن «اقتدار وإتيقا معًا»، وإن «الفن مثله مثل الكون برمته ملك للجموع».

هكذا يكون الرائع، في رسائل نيغري حول الفن والجموع، ضربًا من التدفق للعمل الحي، فهو فعل جماعي للتحرر وهو تدفُّق للوجود في آنٍ. بالفن نحصِّن الوجود من الفراغ؛ أي من التحول إلى بضاعة. إن الفن يحمي العالم من تأبيد السوق. وبالجموع، بوصفها فرديات منتجة ومبدعة، نهزم الفراغ الذي تخلقه السوق ما بعد الحديثة، بتهديدها المستمر لمنطقة الإبداع والخيال والمشاعر الإنسانية. بالفن نبني أوطانًا حرة للكينونة في العالم ونخرج من زمن القحط الأنطولوجي.

أمَّا عن رنسيار فيقترح علينا نموذجًا جديدًا من علاقة الفن بالمشترك: إنه نموذج اقتسام المحسوس. ماذا يعني رنسيار بهذا المفهوم الذي نعتبره من آخر الأحداث الاستطيقية الكبرى للتوجُّه عبر الفن نحو تدبير لهاوية الشأن البشري التي نبَّه عليها كتاب نقد ملكة الحكم لكانط؟
يقترح علينا رنسيار إذن «نظامًا إتيقيًّا للفنون» بدلًا عن استطيقا بالمعنى التقليدي لهذه العبارة. وهو نظام بوسع الفن فيه أن يخترع «ضروبًا جديدة من الشعور وأشكالًا جديدة من الذاتية السياسية».٣ والمقصود هو إمكانية انخراط الفن فيما سماه رنسيار «الاستطيقا السياسية». وهي استطيقا كامنة في عمق السياسة الكبرى للفضاءات والأزمنة والأمكنة. إن الفن مسكون في عمقه بالسياسة لأنه «اقتطاع لأزمنة وفضاءات، للمرئي وغير المرئي، للكلام وللضجيج» …
إننا نعثر هنا على ورشة من آخر ورشات اللقاء بين الإنساني والاستطيقي عبر أفق تسييس للجماليات كان قد وقَّعه، مثلما أشرنا إلى ذلك، سابقًا شيلَّر في رسائله في التربية الجمالية للإنسان. مع رنسيار يصير مشروع التربية ذاك نوعًا من التسييس للمحسوس، أو من الأشكال الاستطيقية لاقتسام المحسوس: إن الركح المسرحي والجوقة الموسيقية وصفحة الكتاب وشاشة الصورة كلها أشكال من توزيع المحسوس وتقاسمه.
وهنا يقدِّم لنا رنسيار مثالًا طريفًا على هذا الاقتسام الاستطيقي للمحسوس يجد في رفض فلوبار إعطاء رسالة للأدب معنى من معاني التوزيع الديمقراطي للمحسوس في شكل فنِّ الأدب. سوف يكون فلوبار بذلك «ديمقراطيًّا لأنه اختار أن يرسم بدلًا عن أن يعلم».٤ إن المحسوس الأدبي يتم اقتسامه في مساواة تامة بين كل البشر: والمساواة نفسها تظهر على كل صفحة كتابة بما هي دومًا «صفحة مباحة لكل نظرة». إن الأدب اقتسام للمحسوس على نحو ديمقراطي لأنه مباح للجميع. لا أحد وصيًّا على الفن، وأي كان بوسعه أن ينال من خيرات المحسوس الاستطيقي نصيبه.

ذاك هو معنى أن يكون الفن طريقة في خلق ذاتية سياسية جديدة، شكل آخر من توزيع المحسوس على نحو عادل؛ فالفن مباح ومتاح للجميع، لا فضل فيه لأيٍّ كان على الآخر، فيه تغيب كل أشكال الترتيب غير العادل للبشر. وفيه يكون كل البشر أحرارًا على نحو جذري، كشكل آخر من الاستطيقا السياسية ما بعد الطوباوية.

إن ما يهمنا من هذه الورشة الاستطيقية التي لا تفصل الفن عن السياسة ولا عن الإتيقا هو إذن فتح التجربة الفنية على باحة المشترك البشري، حيث يكون الفن ربَّما هو الشكل الوحيد من الاقتسام الديمقراطي العادل للمحسوس وقد صار إلى محسوس استطيقي. ولأن الفن وحده هو الذي لا يبالي بالانتماءات الثقافية ولا بالفوارق الاجتماعية، فإن استطيقا اقتسام المحسوس تفتح الفن على مشترك فعلي حقيقي بين البشر جميعًا. وهو جمع أو جماعة لا تشتقُّ مشروعيتها من أية هوية إنما هي فحسب جماعة تقدُّ باستمرار من «لحم الكلمات» وتشتقُّ فحسب من السيلان والتدفق الاعتباطي للحروف على صفحات الكتابة.
١  G. Deleuse, Nietzsche et la philosophie, Paris, P.U.F./Quadrige, 2003, p. 187.
٢  R. Rorty, Contingence, ironie et solidarité, op. cit., p. 18.
٣  J. Rancière, Le partage du ssensible, Paris, 2000, p. 5.
٤  Ibid., p. 16.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤