هل ثمة أشباح في أحذية فان غوغ …
فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى
«وذهبت إلى الملاك أقول له إن عليه أن يعطيني الكتاب وقال لي: خُذ الكتاب وكُله، وسوف يسبِّبُ لك مرارة في البطن لكن في الفم سيكون له حلاوة العسل.»
ما علاقة الحواسِّ بالأحذية؟ وهل بوسعنا أن نحسَّ بأحذيتنا أم نحن فقط نودع فيها أقدامنا كل يوم وننسى أنها هي من يتحسس الطريق بدلًا عن بقية أعضائنا وأنها هي من يحملنا حيثما ذهبنا؟ وحينما ندخل رحاب الكتاب والكتابة، هل على كل امرئ أن يخلع نعليه كما لو كان سيدخل معبدًا؟ هل بوسعنا أن نفكر بأحذيتنا، فيها وانطلاقًا من الطابق السفلي لأنفسنا حيث تقيم باستمرار؟
… أحذيتنا التي ندخل بها بهو الكتابة ليست ليبيرالية ولا نسوية ولا دينية … لن تخلع نعليك وأنت تكتب عن الأحذية، ولا أحد يضطرُّك إلى تركها خارجًا … لأنك لن تُصلِّي هنا لأحد …
ويحدث للأحذية من تحت مكر القلم الكثير من المعاني والمُعاناة معًا. يحدث للأحذية أولًا أن تبقى مُجرد أحذية فقط … قطعة من جلد صُنعت لباسًا لأقدامنا … أحذية من أصل حيواني تلتحم بنا يوميًّا كي تذكرنا بأننا وإياها من أصل واحد … ننتمي معًا إلى الحظيرة الكبرى للحيوان … أي إلى الحياة … يحدث إذن للأحذية أن تشاركنا في لحم العالم؛ لذلك فعلاقتنا بها هي علاقة لحمية حميمة إلى حدٍّ يعجز فيه كل منَّا عن رسم الحدود بين أحذيته وقدميه … جلدُ الحذاء يكاد يكون من فرط التصاقه بنا جلدًا لنا … ولا نكاد حينها ندرك شكل الحيوان الذي نسكنه بأقدامنا … هل يكون ماعزًا أم نمرًا أم تمساحًا … كلٌّ وحيوانه الذي سيظل روحه التوأم … لكن حذارِ؛ فها هنا يحدث للأحذية أن تدعم رءوس الأموال أو أن ترسم الهوة عميقًا بين الفقراء والأغنياء … كلٌّ وثمن جلد حيوانه المُفضَّل … كلٌّ وثمن جلده الخاص ولحمه الخاص إن كان له لحم من فرط نقص اللحم في غذائه …
لأي شيء تصلح الأحذية؟ وهل هي دومًا ضرورية كي نواصل السير على الطريق؟ يحدث للأحذية أن تكون من قبيل لزوم ما لا يلزم … من يحتاج إلى الأحذية؟ ثوار الخبز الحافي، أم أصحاب الوجه والوجهة تكاد لا تعرف من أين وجهتهم إلا بمدى بريق أحذيتهم؟
تصلح الأحذية إذن لحماية أقدامنا من صلف الأرض ونتوءات الثنايا وأشواك الطريق … وتصلح الأحذية للدُّخول إلى المدينة لأن الريف لا يخجله عراء الأقدام … وحدهم سكان المدن مُتخلِّقون أكثر من اللازم بل هم محافظون أو بالأحرى هم خجولون من عراء اللحم … ومهما كان العضو المقصود … لا ندخل المدينة بلا أحذية … لكننا من جهة مُضادة لا ندخل المساجد بأحذيتنا … هل يعني ذلك أن المدن مُدنسة وأن المساجد مُقدسة … وحينما نموت نُدفن بلا أحذية … ونولد أيضًا بلا أحذية … لكن يوم نلبس أول حذاء يُعتبر ذلك عُرسًا عائليًّا بهيجًا …
لمن تصلح الأحذية إذن؟ للفقراء أم للأغنياء؟ للحقول أم للنُّزُل؟ للمساجد أم للمدن؟ هل هناك أحذية مُدنَّسة وأخرى مُقدَّسة؟ أحذية مذنبة وأخرى بريئة؟ لماذا نؤثِّمُ الأحذية؟ يحدث للأحذية أيضًا أن تكون ذات رمزيات ودلالات وسيميائيات وسياسات أخرى غير الدناسة والقداسة … لا ذنب على الأحذية … فالأحذية رمز لكل ما يحدث من الأسفل ولكل أسفل وسفلي جدًّا قد لا تطاله أعيننا وعقولنا ونصوصنا … بل قد لا نريد النظر إليه وجهًا لوجه … فالحذاء بلا وجه … بل هو في جوهره مُغاير للوجه وللوجهية وللوجاهة … لأنه يقبع دومًا في الجهة السفلية والتحتية والسافلة من وجودنا … ويقبع معه كل المُهمشين عن الواجهة وكل الذين لا يشاركون في اقتسام خيرات البلد … هؤلاء الفقراء والمهمشون الذين مات أبناؤهم واحترقوا من أجل الحياة الكريمة، هؤلاء لهم اسم آخر … إنهم أحذية الوطن … بنيته التحتية … حقوله التي تُطعم الجميع … أنطولوجيا ثورية غاضبة تولد تحت وقع أقدام الحفاة من بين أيادي أحذية سوف تأتي …
تصلح الأحذية كي تُلمع من أجل أصحاب الوجوه الأنيقة والفرحين بما لديهم والذين لا ينظرون إلى الأسفل حيث تقيم أحذيتهم إلا لمامًا … لكن يحدث للأحذية أن تكون ثورية وساخطة فنراها تتحول من لبوس للأقدام إلى سلاح لرجم الطغاة وركلهم.
كما يحدث للأحذية أن تؤجِّج الفلسفة وأن تكون موضع خصومة شديدة اللهجة بين أقطاب الفكر الإنساني … وهو ما سوف نحاول المرور به حذو النَّعل بالنَّعل انطلاقًا من تفكيكية يقترحها الفيلسوف الكبير دريدا للوحة أحذية فان غوغ …
لمن أحذية فان غوغ؟ لأي شيء تصلح أحذية مُهملة على صدر لوحة مُعلقة على جدران المتاحف والبيوت المُغلقة؟ هل تصلح للسير؟ وإلى أين المسير؟ أم تصلح للتَّزيين والفرجة؟ أم هي لا تصلح إلا للكتابة عليها وللتَّفلسف في شأنها ولاختراع مفاهيم جديدة ودروب مُغايرة للتفكير؟ أم هي تصلح للدِّفاع عن الأحذية وعن الذين يقبعون حذو الأحذية في أسفل السلم الاجتماعي؟
إن تفكيك لوحة أحذية فان غوغ يقتضي بدءًا الانطلاق من مفهوم محدد للتفكيك. ولنقل على نحو وقتي، إن ما يريده دريدا في كتابه «الحقيقة في فنُّ الرسم» (١٩٧٨م) تحت راية فنِّ التفكيك، هو تحديدًا تحرير فنِّ الرسم من الكلام عن الرسم. إنه يجرُّ اللوحة من فضاء اللوغوس إلى حقل الكتابة … فهو يغريها بالتفكيك إذ ينتزعها من غطرسة براديغم الاستطيقا القائم على غطرسة ميتافيزيقا الذات. إنه يحولنا مع اللوحة من الكتاب بكل المكنة الميتافيزيقية التي يفترضها اللوغوس من ذات الكاتب وذات القارئ والإنسان الذات وكل الثنائيات الظالمة للمحسوس والمعقول والعقل والجسد والمادة والصُّورة، والهو هو والآخر، والغرب والشرق. إن التفكيك يتدخَّل ها هنا من أجل إنصاف الغريب والمقصى والمسكوت عنه وكل مواقع الصمت حيثما ثمة صمت أي حيثما ثمة حيف يمارسه الكلام على الكتابة والحضور على الغياب والمركز على الهامش …
ها هنا يفصلنا دريدا عن تاريخ الخطاب بما هو تاريخ مركزية اللوغوس منذ الفكرة الأفلاطونية إلى حدود العلامة الألسنية. ويدعونا إلى اكتشاف حقل الكتابة الذي اكتشفه الشرق وأقصاه الغرب منذ سقراط إلى حدود دي سوسير. فإذا كان الكلام يقول دومًا ما تسمح به سياسة الحقيقة القائمة على اللوغوس فإن الكتابة بما هي ميدان التفكيك، إنما تكتب الصمت أي هي تكتب الحيف وما هو ممنوع ومسكوت عنه ومهمَّشٌ وخارج عن الأطر التي تضبطها سلفًا أجهزة اللوغوس وسياساته.
ها هنا تستحيل الفلسفة تحت أقلام التفكيك أو بالأحرى تحت أحذيته، إلى تصحيح للحقيقة في فنِّ الرسم. حيث يقصد دريدا الانخراط في مهمة جديدة للفلسفة مُغايرة لمهمة تأويله وتبريره على طريقة هيجل، أو تغييره بثورة شيوعية على طريقة ماركس. إن الفلسفة مدعوة إلى تفكيك العالم الحديث عبر خلخلة لنصوصه التي تدعمه وتشرع له وتضمن له كل صلاحيات غطرسة الإطار والأجهزة من إطار لوحة الرسم إلى جهاز الدولة، ومن غطرسة العقول إلى استبداد الطغاة.
تعود الأحذية إلى النصِّ فتكف عن أن تكون مجرد أحذية … وهي تعود من أجل التنبيه على ضرورة أن تنظر الفلسفة إلى أسفل … أن تجد لنفسها موطئ قدم على الأرض … أن ننظر إلى أقدامنا بدلًا عن التحديق بالسماء … وهي إذ تعود تعود مُحملة بحزمة من الأسئلة الفلسفية المُغايرة لأسئلة الفلسفة التقليدية … ماذا رسم فان غوغ على وجه التحديد؟ وهل بوسعنا أن نقف عند الرسم كما يبدو أم ليس الرَّسم إلَّا إشارة إلى جهة أخرى للحقيقة وللحقِّ وللصِّدق معًا؟ أي أقدام كفيلة بشرف الانتساب إلى هذه الأحذية؟ ولأول مرة سوف نحتاج إلى أن ننتسب هذه المرة إلى أحذيتنا بدلًا عن الانتساب إلى هويات تاريخية جاهزة. هل هي أحذية الرسَّام أم أحذية شخص آخر غريب عن الرسَّام وعن الرسم؟ هل هي أحذية فلاحة تقضي يومها في السير بين الحقول (مثلما أوَّل هيدجر) أم هي أحذية فان غوغ نفسه (مثلما أوَّلها شابيرو)؟ هل هي أحذية الرسَّام الذي بدلًا عن رسم وجهه البشري المُتغطرس اكتفى برسم أحذية بلا وجه؟ ولماذا أحذية بالذات؟ لماذا لم يرسم فان غوغ أي عضو آخر من أعضائه أو أي متاع آخر من أمتعته؟
ربما قرر الرسَّام فان غوغ الاعتراف بما هو أسفل وبمن يقبع في الأسفل وبمن نمط إقامته في العالم أن يسكن حذو الأحذية … هناك في وجود بعيد عن المركز … فهو دومًا إضافي أو ملحق أو ثانوي … خارج عن الإطار. وربما قرر فان غوغ أن يشرِّف الأحذية برسمها. إن رسم الأحذية ومنحها مرتبة الأثر الفني إنما هو شكل من منحها ضربًا من ألقاب الشرف الاجتماعي والسياسي.
ثمة ما يدعو إلى القول بضرب من منح الأحذية نوعًا من القداسة الخاصة … إن في رسم الأحذية تبرئة لذمتها من تأثيم اللاهوتيين لها. ها هنا معركة الرسوم ضدَّ اللَّاهوت وها هنا معركة الصور التي تستعيد حقوقها ووجودها ضدَّ تحريمها وتجريمها. وقد تصل الحكاية مع الأحذية إلى معركة شرسة بين الآلهة والمبدعين على ميدان الخلق نفسه.
سوف يكون التفلسف عن الأحذية والسَّير بها ثانية على قامة النصوص واللوحات، مناسبة سعيدة للشَّهادة بالحرف والعقل والقلب معًا، على مرافعة فلسفية من أجل إنصاف الأحذية وفنِّ الرسم وكل المُهمَّشين القابعين في نفس منزلة أحذيتهم وأقدامهم. ها هنا تصير المواقع السفلية إلى لوحة فنية ترسم بريشة فنان في قامة فان غوغ وفي حجم أحذيته وحجم جرأته الفريدة على انتزاع أذنه من رأسه.
إن التفكيك لا يختصم هنا إلى الأشخاص ولا إلى الذوات ولا إلى الفلسفات. فهو يؤلِّبُ النصوص على النصوص محاربًا أشكال خللها وأحكامها المسبقة وسياساتها السيئة وادِّعاءاتها وكل مواطن الحيف فيها وكل شطط في التأويل داخلها ونقصها في الأسئلة وطُمأنينتها الكاذبة.
ثلاثة أسئلة فقط، وقد تكون مغلوطة أو شرعية أو ظالمة أو مُخيبة للآمال أو حتى حمقاء، هي أسئلة بوسعها أن تُوجِّهنا في متاهة التَّفكيك وفي ظلمة الأحذية وخوائها القاتل:
- أوَّلًا: من هذه الأحذية؟ هل هي زوج من الأحذية إحداهما تنتمي إلى اليمين والأخرى إلى اليسار؟ أم هي يساران معًا دون يمين؟ كيف نحرر الأحذية ونجعلها تنطلق بعيدًا عن اليمين واليسار؟
- ثانيًا: لمن هذه الأحذية؟ هل هي لفان غوغ نفسه أم لفلاحة عائدة لتوها من الحقول؟ أم هي ملك لفن الرسم فحسب؟
- ثالثًا: ما هي السياسات الثاوية في أحكامنا الجمالية عن الأحذية وعن كل فنٍّ اختار أن ينتصر للذين يقيمون في أسفل السُّلَّم الاجتماعي والمحرومين من مراتب الشرف وألقاب النُّبل ومن اقتسامهم معنا بالتَّساوي الفن والأحذية والحياة؟ هل بوسع الفلسفة إنصاف الأحذية من قساوة الحقل ومن أكاذيب المدن ومن سياسات الدول؟
(١) من هي أحذية فان غوغ؟
نحن إذن أمام كتاب كبير من كتب الفلسفة الحديثة وثلاث لوحات. لكن ما هذا الجمع بين نصٍّ فلسفي في حجم نقد ملكة الحكم وثلاث لوحات تنتمي إلى مدارس مُختلفة في فنِّ الرسم؟ خلطة عجيبة بين كتاب كلاسيكي لا يزال ينتمي إلى عصر الكتاب ولا يزال يقيم بكل نفوذه ضمن رفوف المكتبات وبكل لغات العالم، وثلاث لوحات منسية في المتاحف … أو مُهملة على بعض الجدران القليلة، التي تملك ذائقة خاصة لبعض اللوحات العجيبة التي لا تنتمي إلى فنِّ الجمال إنما إلى فنِّ المريع والقبيح والكارثة. ومن يشتري لوحة أحذية؟ ومن يمتعه مرآها مُعلقة على جدار أحلامه؟ ربما لا أحد … وربما بعض الأذواق التائهة والحواسِّ الشريدة والقلوب النادرة …
ما يقصده دريدا من وراء هذه الخلطة العجيبة هو الانطلاق من تفكيك أكثر النصوص نفوذًا داخل الجماليات الحديثة قبل التمكُّن من إنصاف فنِّ الرسم من غطرسة ميتافيزيقا الذات. ثمة علاقة ما أدركها دريدا بين أوَّل كتاب نسقي ورسمي في تاريخ الجماليات الحديثة وبين تاريخ الظلم والحيف الذي لحق بدائرة الفنِّ عامة وبفن الرسم بخاصة. إنها محاكمة للحاكم الذي أصدر الحكم بالتهميش على كل ما لا يتناسب مع جماليات الذوق الأصيل؛ أي الذوق المحض المتزهد والمترفع عن النظر إلى الأحذية ومن يقيمون حذوها.
وهو حيف أساسه اختزال اللوحة في حدود غطرسة الذات العبقرية … ذات مُتغطرسة رتبت العالم الحديث على اختزال الطبيعة في مجرد موضوعات للمعرفة العلمية، والإنسان في ذات عارفة مُحيطة بأسرار الكون وبأوهام العقل وحائزة على كل الحلول لمشاكل النوع البشري. تلك هي ملامح ميتافيزيقا الذات التي يشتغل التفكيك على خلخلتها بأنساقها ونفوذها وثنائياتها العقيمة بين الذات والموضوع والشكل والمضمون، بين ما هو داخل الإطار خاضع للمفهوم وللقانون وما هو خارج الإطار أي المتمرد والمهمش والمغضوب عليه.
كان إذن على دريدا أن يبدأ في خلخلة إطار مركزية اللوغوس الحديث منذ أول أكبر نصٍّ مُؤسس لبراديغم الاستطيقا الذي نصَّب نفسه منذ كانط إلى أدرنو وصيًّا على ميدان الجمال والإبداع والفن بعامة. وهو براديغم لجماليات لم تفعل غير السقوط في ضرب من الاستطيقا السالبة والمتنسكة التي جعلت من الفن منذ كانط محرومًا من المتعة ومن الغاية ومن المفهوم واختزلته في كونية غربية تحولت في آخر المطاف إلى كارثة.
وحين ينتصر التفكيك إذن على الإطار الرباعي الذي اختزل داخله كانط ظاهرة الإبداع بوصفه لانفعيًّا لامفهوميًّا لاغائيًّا لكنه كوني بإطلاق، سوف يتجه رأسًا نحو فنِّ الرسم وقد حرره من الاستطيقا.
إنه يمرُّ بنا مباشرة إلى اللوحة. ويختار من بين اللوحات التي تُغري التفكيك ويُغريها دريدا ويجلبها إلى حقل التفكيك، هي لوحة «سفر الرسم» لآدمي؟ لكن أي اختيار؟ وأي عنوان؟ فالتفكيك لا يشرف من النصوص غير ما يعشق … لا تفكيك بلا محبة عميقة للنصِّ الذي نفككه … تلك هي إحدى قواعد لعبة دريدا … من لا يُحب غير قادر على أن يُفكك؛ أي على أن يتجرأ على التفلسف بنفسه … ومن لا يُحب لن يقدر على تدمير أصنامه …
إلى أين سوف يُسافر بنا الرسام آدمي؟ إلى أية وجهة تتجه بنا لوحة الرسم؟ ولماذا السفر؟ لأن المدينة لم تعد تتسع لا للرسم ولا للحلم ولا حتى لمجرد الوجود اللحمي للبشر؟ إنه سفر المفكر والفنان بنيامين إلى حيث لا يعود. آدمي يرسم بورتري بنيامين منتحرًا على الحدود الإسبانية الفرنسية خوفًا من شبح النازية. لوحة فنية تنتمي إلى فنِّ الرسم لكنها لا تنتمي إلى جماليات الجمال … ها هنا لا يصلح الفن للفرجة البلهاء ولا للمُتعة الساذجة … إنها لوحة ترسم كارثة المجتمعات الغربية وما آلت إليه من الكوارث … لوحة فنية هي على حد عبارات دريدا «تلسكوب هائل لحدث فظيع»، أو هي انتحار للرسام ولفن الرسم وانهزام فظيع لكل أجهزة الدولة الكليانية الحديثة.
وحينما ننتهي من «سفر الرسم» نحو العدم، يزجُّ بنا التفكيك في هاوية أعمق فأعمق …
ولماذا اختار دريدا التعليق على هذه التوابيت ثم الكتابة عليها ضمن الحقيقة في فنِّ الرسم؟ ها هنا لا تسير الأسئلة في اتجاه الإجابات … حسبنا السؤال ونعم السؤال … وحين يستحيل التفكيك إلى تعليق على توابيت الموتى تُغير الفلسفة من عنوانها ومن أحلامها وتتخلى عن حقائقها القديمة. سوف تدفع بنا الكتابة إلى نثر وانتثار كثيف وبذر وتبذير لأقصى انفعالات الفلسفة … وتصير الأوجاع أكثر من الكلمات … عمل كامل للحداد على موت الذات والإنسان والرسم معًا، أو بالأحرى بُكائية ورثائية هي مناسبة سعيدة للتفلسف وكتابة النصوص. ومن يجرؤ على استعمال عقله بوسعه أن يصل إلى حد توقيع توابيت الضحايا. لكن لماذا تتماثل التوابيت؟ أم أنه لكلٍّ موتته الخاصة وجثمانه وتابوته الفريد من نوعه؟
وسوف نصل أخيرًا إلى الأحذية كي نقيم فيها بالحرف على قدر احتمالنا. لكن لماذا تأتي أحذية فان غوغ في خارطة الكتاب في آخر المطاف؟ ألأن أحذيتنا هي آخر ما يتبقى منا بعد التابوت؟ فحين تُسافر أقدامنا الحافية وأجسامنا العارية إلى العدم، وحين لا شيء يضطرنا إلى المشي لا يبقى من الطرق التي احتضنتنا غير أحذية فارغة لا أقدام فيها …
ونصل أخيرًا إذن إلى الأحذية. أحذية فان غوغ تحديدًا. والسؤال هو: إلى أي حدٍّ ليست أحذية فان غوغ أحذية فان غوغ، بل هي أحذية قد تملكها الفلاحة لأنها كبيرة الحجم شعثاء غبراء شبيهة بتعب الحقول. وقد لا يملكها أحد … وقد تكون رُسمت من أجل أن تبقى على ملك اللوحة وفن الرسم فحسب …
لقد صارت لوحة أحذية فان غوغ منذ هيدجر ملكًا للفلسفة … وصارت مع دريدا ملكًا لفلسفة التفكيك … كيف نقصُّ عليكم الحكاية التي تتابعونها معنا لو أغراكم التفكيك ولو كنتم من عشاق الفلسفة والكتابة لو اخترتم أن تكونوا كائنات من ورق … خففوا الوطء إذن …
(٢) هل هناك أشباح في أحذية فان غوغ؟
ليكن هذا السؤال هو الذي تركبه الفلسفة في هذه الطرق الانتقالية والقناطر المتحركة وعواصف الرمل والنار التي تعصف بنا في هذه الثورات العربية الرائعة … أي سؤال بوسعه حينئذٍ أن يحملنا إلى الحقيقة في فنِّ الرسم. هنا نبدأ بالتفكيك بوصفه سحرًا وبدريدا باعتباره يحمل اسمه جيدًا: ساحر يلعب بالكلمات ويبعثرها كيفما راق مزاجه … شيطان يكتب عن الحقيقة … لكنه لن يحدثنا عنها بنفس أسلوب الفلاسفة التقليديين … ولن يصالحنا مع أي شكل من الواقع.
ما رأيكم في هذه البداية؟ قد تقولون عادية وقد تقولون قصصية وقد تبدو لكم مُخيفة وغرائبية عجائبية لأنها بدأت ببث الأشباح في قلوبكم … هل يخيفنا دريدا من التفكيك بنثر الأشباح على قارعة النصوص والرسوم؟ هل يهدِّدنا بعودة الأشباح لو لم ننصف مناطق الصمت والهامش ومواقع الأحذية الفاغرة التي لا وجه لها ولا أقدام ولا طريق؟
بوسعكم أن تُفكِّروا بما شئتم من المعاني والتأويلات. ذلك أنه بقدر ما تولد فيكم تحت وقع الأحذية من إمكانيات الفلسفة والأسئلة بقدر ما ينجح التفكيك. لكن ما ذا يقصد دريدا بالأشباح؟ وما علاقة الأشباح بالأحذية؟ الأشباح هي كما يعرف الجميع أرواح تائهة عن جثامينها هاجرتها وطارت تبحث لها عن أجسام أخرى لم يدركها الفناء. فالأشباح تحبُّ الحياة وتهرب من الموتى. لكن لماذا نخاف الأشباح؟ ولا ننسى الدور التربوي للأشباح التي كانت تُصاحب مخيلاتنا الصغيرة ونحن أطفال … وكان آباؤنا يهددونا بها كلما حاولنا المُغامرة فيما أبعد من دائرة المسموح به. دريدا يستعمل الأشباح هنا كي يُغرينا بالسير معه نحو المجهول. فالأشباح تُغري بالفلسفة؛ لأنها تكره الموتى وتطير بحثًا عن الحياة في أجسام أخرى.
نحن إذن إزاء قصة أشباح. إنها تسكن تحديدًا لوحة أحذية فان غوغ. من أين جاءت إلى هذه اللوحة؟ أي الجثامين هاجرت؟ وأي الأجسام الحية تطلب؟ وما هي شروط الانتساب إلى هذه الأشباح؟ ولأول مرة يصير للأشباح شرف الإقامة في نصوص الفلسفة … لأن هذه الأشباح هي نصوص الفلاسفة أنفسهم وتأويلاتهم للحقيقة في فنِّ الرسم. ولكل منا حينئذٍ حق اختيار شبحه المُفضَّل إن كان بوسعه أن يختار جسمه جيدًا. وإن كان بوسعه أن يختار حياته وموته جيدًا … لدينا إذن أكثر من شبح في هذه القصة عن الأحذية بعامة وعن أحذية فان غوغ نموذجًا. وما علاقة النموذج بالنسخ حينئذٍ؟ وما الفرق بين الشبح والنسخة والطيف والمسخ؟ … الشبح روح تائه لجثمان والنسخة تحاكي الأصل والطيف هو الشكل الأخفُّ والأضعف من الكائن والمسخ كائن خيالي مرعب …
أي الأشباح هو الأقرب إلى الفلسفة؟ هو شبح الفيلسوف نفسه الذي يمضي جسمه الذي به كتب وفكر ويبقى شبحه بين السطور راعيًا أمينًا ووريثًا شرعيًّا لشخص الفيلسوف وعقله وقلمه. ها هنا وإزاء لوحة أحذية فان غوغ سوف تتضاعف الأشباح وتتكاثر الأرواح التائهة المتنازعة على ملكية هذه الأحذية: فان غوغ نفسه وهيدغر وشابيرو ودريدا مُصمم هذا الركح الفلسفي العجيب التراجيدي والعدمي معًا. وربما أشباح أخرى لكل قارئ تجرأ على الإقامة قليلًا أو كثيرًا في هذا النصِّ الشبحي لأنه لا شيء غير حروف وجمل وكثير من اللعب وقليل من جنون الكتابة.
إنها بداية للفلسفة لا تشبه أي أسلوب آخر في البدايات. فالتفكيك مُضاد لفلسفات النسق التقليدية التي تُؤمن بالبدايات والنهايات. لا بداية للنصوص ولا للفلسفة ولا للكتابة ما دمنا نسكن العالم على نحو دائري … نحن كائنات تحيا وفق هندسة كُروية منذ كوبرنيك وغاليلي … لا أحد بوسعه أن يستعيد ذاكرة الكسمولوجيا القديمة حيث السماء فوقنا مليئة بالآلهة والأرض حظيرة للنوع الحيواني برمته … ودريدا لم يعد يذكر … بداية مضادة للذاكرة ولفنِّ التذكُّر الأفلاطوني … نسيان مقصود أو سياسات أخرى للذاكرة … لا يهم لأننا لا نتذكر ها هنا غير الأحذية والأشباح التي تسكنها بعد رحيل أقدامها عنها … أحذية فان غوغ إذن قد تكون على ملكية شبح يزورها ليلًا كلما أنهكه التشرد … هو شبح بلا منزل قارٍّ يلتجئ إلى الأحذية بوصفها مقرَّه الآمن الوحيد … شبح لا ينشط إلا ليلًا فهو يقتات من الظلام حينما تنجح أجهزة النفوذ في تنويم الجميع … تبقى الفلسفة والعقول الحرة يقظة وتنشط في شكل أشباح …
ولأننا إزاء قصة أشباح علينا أن ننتظر قليلًا … وبالتالي على الكتابة أن تتريث وعلى النصوص أن تُبطئ الخطى. علينا ألا نحث خطانا وإن اقتضى الأمر أن نُمسك عن الكلام لأن الأشباح لا تقيم إلَّا ضمن الصمت. يوصينا دريدا بأن ننتظر سويًّا على حافة النصوص وعلى حافة الأحذية حتى يصير كل منَّا أكثر من واحد … علينا أن نحمل أشباحنا معنا كي ندخل هذه القصة ذلك أن عزلة الفيلسوف لم تعد وصفة ناجعة للتفلسف. إن التفكيك شأن جماعي لأنا لن نقاوم الأشباح المندسة بيننا إلا ونحن جماعات. حذارِ فأنت لن تكتب عن الأحذية وحيدًا. سوف يُصاحبك فان غوغ وتُصاحبك أحذيته. ومعك سوف تسير الفلاحة صاحبة القدمين المتعبتين، وسوف يصحبك هيدغر وشابيرو ودريدا نفسه ويصاحبك فنُّ الرسم وتُصاحبك الفلسفة. لا تُحاول أن تُقصي أيًّا من أصحابك فأنت تحتاج إلى أقدامهم جميعًا كي تنصف الأحذية.
بداية للدخول في الأحذية لا تشبه أية بداية أخرى … ها هنا بقدر ما تتماثل أساليب البداية بقدر ما تفشل الفلسفة ويتعطل التفكيك. فلنجرب فنَّ الاختلاف ولنذهب بتجاربنا الفريدة إلى أقصى حدودها علَّنا نعثر على شيء من الفلسفة أي من الحرية أي من إمكانيات الحياة نفسها … علَّنا بالأحرى نضاعف الأشباح بدلًا عن إقصائها ومُطاردتها أو الهروب منها خوفًا ورعبًا … فالأشباح التي تُغرينا بالتفلسف هنا وتراودنا على الكتابة هي الفلسفة نفسها، نصوصها وكل ما تبقى من الأفكار في حقولها …
كيف نبدأ في الفلسفة وكيف ننتهي؟ سؤال شغل هيغل ومن بعده هيدغر واستأنفه على نحو تفكيكي دريدا. ويبدو أن الجميع قد اتفقوا هذه المرة أن ليس هناك بداية للفكر ولا نهاية … لأننا نقيم داخل الدائرة. بوسعنا أن نبدأ من النهاية أو من الوسط أو من أي هامش. لا فرق من أين ندخل في الفلسفة لأنه لا وجود لطريق جاهز سلفًا وسابق عن مسارات التفلسف. ولأننا غادرنا عصر الكتاب ودخلنا عصر الكتابة بوسعنا أن نبدأ من «كفانا قولًا. هاوية وهجاء للهاوية.» ماذا نفهم من هذه البداية الخاصة بفنِّ التفكيك؟ وحينما نكفُّ عن القول كيف سنتفلسف في الحقيقة أو في فنِّ الرسم أو في الأحذية؟ وهل نكفُّ عن ممارسة الفلسفة حينما نكفُّ عن القول؟ وهل نصمُتُ كلَّما توقفنا عن الكلام؟ وحينما يكون هناك صمت هل يتعطل التفكير؟
يُجيبنا دريدا كاتبًا لغة الصمت: «أن نبدأ وأن ننتهي ﺑ «كفى» لا علاقة للأمر بالكفاية ولا باكتفاء الاكتفاء ولا بأي شكل من القناعة والرضا …» نحن لا نكف عن الكلام لأنا اكتفينا منه وأخذنا منه نصيبنا أو لأنا رضينا واقتنعنا واكتفينا … بل لأنا تحررنا من الكلام ونطلب الآن أن نكتب الصمت بكل أطيافه المسكوت عنها والمقصاة والمُهمشة والتي تقف على الحدود والتخوم بلا أوراق رسمية للدخول في قارة غطرسة اللوغوس. ها هنا يصير التفلسف إقامة ثرية في الصمت بدلًا عن لوغوس بأنساقه ومفاهيمه وكل أشكال تواطئه مع أجهزة النفوذ.
وحينما نقول إنها زوج من الأحذية ففي طيَّات اعتقادنا هذا ثمة الكثير من الأحكام المُسبقة الخفية ومن علامات غطرسة اللوغوس. ثمة الرغبة في اختزالهما في هُوية واحدة وفي السكوت عن عجرفة براديغم الهُوية الذي يُفكر بالأصول والذاكرة واستبداد الهو الهو الذي لا يقبل الاختلاف والتعدد … ثمة أيضًا الرغبة في المُصالحة وفي الوصل وفي طمس الثقوب ومواقع الخلاف والعطالة … ثمة رغبة في النسق والنظام وفي المُحافظة على استقرار الوقائع والنصوص وإنقاذ الواجهة … ثمة استئناف لرسم فلسفي لاهوتي معًا يختزل الوجود منذ أفلاطون وأرسطو إلى ديكارت وكانط في الثنائيات بين المادة والصورة والله والعباد والمتناهي واللامتناهي والجوهر المفكر والجوهر الممتد والذات والموضوع … والأخطر من كل ذلك على مصير الأحذية هو أن وراء الوصل بينها واختزالها في مؤسسة الزوج والزواج ثمة رغبة في إسنادها إلى ذات تملكها … ثمة براديغم العودة إلى الذات وثمة براديغم الملكية الخاصة.
هكذا تُكتب أسئلة الصمت … ضد أسئلة الكلام التي كلما تكلمت إلا وأسكتت أسئلة أخرى … خطاب الكلام هو خطاب مستعجل يحثُّ الخطى مُتجاهلًا للأسئلة الحقيقية لأنها أسئلة تُشوِّش عليه صفاءه المزعوم … وويلٌ حينئذٍ لكلِّ من يصرُّ على تعطيل سرعة النسق ولهفته على الاستقرار الموهوم. سوف يقع إقصاؤه واستبعاده كأنه «كارثة.» إن التفكيك كارثة على كل هذه الخطابات المُتصنعة وعلى هذا الضجيج والتهريج الذي يُغيب الأسئلة الحقيقية.
وتنفجر كل الأسئلة عن هوية الأحذية. ها هنا نسأل فقط وقد لا يأتي إلينا غير سؤال آخر. فالتفكيك هو فنُّ ولادة الأسئلة … فنٌّ للتفلسف يُبعثر كلَّ الأسئلة التقليدية الملهوفة على الإجابات. ها هنا نسأل إذن لكن ليس من أجل الإجابة … فلا مجال لعودة منطق الثنائيات إلى حقل التفكير. كل البديهيات يقع بلبلتها. نسأل «من هي الأحذية» فيأتينا قول مُغاير عما افترضه السؤال أو انتظره … نتحول من هو الواحد إلى «هُما منفصلتان» … لا يجمع بينهما أي شيء غير «فم فاغر» لكنه لا يرغب في الكلام بل هو «أبكم» يرفض التواصل والتواطؤ مع النسق. هوية الأحذية صارت من نوع مُغاير للمفاهيم التقليدية للهوية. إنها فقط تفسح مجال الكلام والحيرة … إنها هُوية طريفة لأنها تهب الفلسفة إمكانية الكتابة والتفكير لا بالحقائق المجردة والسماوات البعيدة والعلل الأولى بل التفكير بما لا يُفكر فيه: التفكير بالأحذية. وتستحيل هذه الأحذية من موضوع تتأمله الذات ومن منتوج يصلح للاستعمال إلى شيء ضاحك من فرط سذاجة هذه الكوميديا التي ينسجها اللوغوس حول الفن وحول إمكانيات تأويله.
وتبدأ المكنة في تفكيك لوحة أحذية فان غوغ … تبدأ من النهاية … تبدأ حيثما تتوقف آلة اللوغوس الفلسفي عن العمل. عمال جدد للفلسفة سوف يولدون على يد دريدا وسوف ينتثرون وينتشرون في عمق النصوص فاتحين قارات جديدة تُغري بالتفكير. يقبض دريدا على الأحذية في عرائها التشكيلي بعد أن حررها من الزوج التقليدي المتصالح مع نفسه الجامع بين اليمين واليسار في هوية واحدة، هي ذات الأحذية التي بها نسير في ركب النسق والنظام والإطار وبها نتأقلم مع المؤسسات ونهلل لها.
لكن «ماذا عن أحذية حينما لا تسير؟ وحينما تُوضع جانبًا، باقية لزمن يكاد يكون طويلًا بل وإلى الأبد، خارجة عن الاستعمال؟ ماذا تعني؟ ما قيمتها؟ … على ما يدُلُّ فائض القيمة أو ناقص القيمة التي لها؟ ومُقابل أي شيء يُمكن استبدالها؟»
يجمد دريدا إذن الأحذية ويعيدها إلى فضاء اللوحة … لكن المعركة مع فلسفات الفن التقليدية لم تنته. يتعلق الأمر هنا بعلاقة الفن بالسوق. فمنذ قرنين من الزمن سقط ميدان الفن في حقل البضاعة. ولم يسقط لوحده بل سقطت معه كل دائرة الثقافة وصارت الحضارة برمتها في كنف النظام الرأسمالي إلى بضاعة مُطلقة. وتراكمت السلع وفائض القيمة واقتصاد السوق. كيف نحرر الفن من البضاعة؟
تلك معركة لا تخصُّ في الحقيقة دريدا. ذلك أن من خاضها بشكل شرس هو على وجه التحديد ثيودور أدرنو وبنيامين. أدرنو يرى ضرورة تحرير الفن من السوق بنوع جديد من الجماليات سماها جماليات القبح. وبنيامين رأى في الاستنساخ التقني للفن وتراكمه انفتاحه على الجماهير. هي معركة بين فنٍّ جذري سالب مضادٍّ للتواصل وللمتعة وللجميل التقليدي، وبين فنٍّ فقد سحره في عصر التقنية لكنه تحول بذلك إلى أداة خلق لوعي جماهيري ثوري.
بعيدًا عن اليمين واليسار وبعد نهاية عصر الأيديولوجيات لم يتبقَّ من غطرسة اللوغوس غير الحَوَلِ. معاناة وتشويش وغشاء على الأبصار. ها هنا لم نعد نعرف كيف التوجه في الفكر. صار اللوغوس أحول. وصار ينظر إلى اليمين واليسار معًا. ولم يعد يميز بينهما. لم يعد اليسار يسارًا حقيقيًّا. ولا اليمين يمينًا مطلقًا. وصار بذلك الحذاء أعرج. لكن هذه الوضعية ليست مريحة لأحد. لذلك أسرع كل من هيدغر وشابيرو إلى صنع الزوج وتحويل الأحذية إلى أعضاء نسقيين طيعين لآلة التفكير التقليدية سجينة الثنائيات التي سرعان ما تُصالح بينها حتى تضمن إقامة آمنة على دروب الفكر.
كيف اختراق الطبقات السفلية من الثقافة؟ كيف نمشي وأنظارنا موجهة هذه المرة إلى حيث تقبع الأحذية ومن يجاورها حذو النعل بالنعل؟ لن نخلعها هذه المرة لأننا لن ندخل بها المعابد. إنما نسير بها حيث هي، أي فيما أبعد من كل مكر الفكر التقليدي، حيث تُقيم الأفواه الفاغرة والأقدام العرجاء من فرط الإهمال والتهميش.
لمن هذه الأحذية؟
يتعلَّق الأمر بنوع من المُراسلة المجازية بين إجابتين. هي مجازية لأنها من صنع دريدا. وفي الحقيقة ما حصل هو نقد لاذع، صدر عن شابيرو أحد المختصين في النقد الفني وفي لوحات فان غوغ تحديدًا، لتأويل هيدغر للوحة أحذية فان غوغ.
هيدغر رأى في هذه الأحذية ملكًا لعالم الفلاحة أي ملكًا للأرض بوصفها الأصل والحضن الذي يهب الكينونة، لكن شابيرو أعاد هذه الأحذية لصاحبها فأعتقد أن الرسام لم يرسم في الحقيقة غير أحذيته. ركح عجيب لإعادة الأحذية إلى أصحابها ومناورة مثيرة حول سياسة الحقيقة في فنِّ الرسم. أما دريدا فيوجه الحقيقة نحو وجهة أخرى … فهو يكشف أولًا أن فضاء الصمت الذي التجأت إليه هذه اللوحة قد استولى عليه نفوذ الكلام والنقد والمعاني الموهومة. وإنه على صناعة التفكيكك ثانيًا أن تحررَ هذه اللوحة الصامتة وهذه الأحذية المُهملة والمتروكة والخارجة عن دائرة الاستعمال والتي لا نسب لها من نفوذ الذات المُتغطرسة. لذلك يتساءل مُتهكمًا «لمن هذه الأقدام التي نريد إعادة الأحذية إليها» ومن هي الذات الحاملة لها؟ وكم من مُدن اخترقت وعبرت وكم من الحروب تحملت؟ وكم من المُهجرين والمُضطهدين حملت؟ وكم من التوابيت والجنازات شيعت؟ وكم أماتت وكم أحيت؟
إن السير نحو أصل الأثر الفني ليس سيرًا على طريق مستقيم بل هو اندفاع مثير وتدحرج داخل دائرة لا نملك ضمنها إلا قطعها كاملة والطواف داخلها. وليس في الأمر أية لعنة ولا خطيئة ولا شعورًا بالذنب. إنما سيرنا لملاقاة ماهية الفن بوصفه ما به ننشد إلى العالم وما به ينتصب العالم بل ويأتينا وينفتح على المدى، هو العُرس بعينه، عُرس الفكر.
ومن أجل تسمية الحقيقة قيد الفعل وتجسيدها يحيلنا هيدغر على لوحة أحذية فان غوغ. حيث يستعين بهذا الأثر على تحديد السبيل الذي بوسعنا التوجه وفقه ضمن الدور التأويلي لإشكالية أصل الأثر الفني ومنبته. علينا أن نتوقف عند مفهوم الأثر نفسه. هل هو مصنوع من أجل الاستعمال ولمنفعة مُحددة؟ هل هو شيء بوسعنا اختزاله ضمن الزوج التقليدي للمادة والصورة؟ ويبدو أن هذا الزوج هو بمثابة «الرسم المفهومي بامتياز لكل نظرية الفن ولكل استطيقا.»
لكن يبدو أن هذا التصوُّر للأشياء النابع من هذه الثنائية التقليدية مادة وصورة يعوقنا عن السير قُدمًا نحو ما يجعل من الشيء شيئًا ومن الكائن كائنًا ومن الأثر أثرًا. إن اختزال الأثر في الشيء والشيء في ثنائية المادة والصورة يكشف عن غطرسة هذه المفاهيم وبداهتها الوهمية والمزعومة. خطوة أخرى تدفعنا خارج رسومات الاستطيقا التقليدية. لكن هيدغر يُحذرنا بألَّا نستعجل … ها هنا لا عجلة ولا استباق ولا إجابات مسبقة … علينا أن نتمهل حتى لا نسقط في هاوية المسار التقليدي … بوسعنا حينئذٍ أن نضمن لأنفسنا سبيلًا أفضل ومن دون العودة إلى أية نظرية فلسفية … وهنا نلتقي بأحذية فان غوغ. زوج من الأحذية لريفية … ومن أجل وصفها لا نحتاج البتة إلى أن تكون هذه الأحذية حاضرة نُصب أعيننا. لكن هل نقتصر على تمثل هذا الزوج من الأحذية (هكذا) «بعامة» …؟ ولو اكتفينا بالنظر إلى هذه اللوحة ذات الأحذية الفارغة التي توجد هنا دون أن نستعملها … لكننا بذلك لن نتعلم شيئًا عما به يكون المصنوع مصنوعًا … هل يعني ذلك أن خروج المصنوع من دائرة الاستعمال يلقي به في سلة المُهملات أي اللامعنى؟ بل وأكثر من ذلك أننا لا نستطيع عبر لوحة أحذية فان غوغ أن نُحدد أين توجد الأحذية …
إلى أين تنتمي الأحذية؟ ما هو العالم الذي تفتحه وما هي الأرض التي هي لها بمثابة الحضن والرحم؟ إنها أحذية لريفية عادت لتوِّها من الحقول. إن أحذية فان غوغ هي ملك لعالم الفلاحة … إنها تأتينا من الأرض … إنها تنتمي إلى نداء الأرض. كل الأسئلة عن علاقة هذا الأثر بالمنفعة هي أسئلة لا جدوى منها … فقد تصلح الأحذية للرقص أيضًا.
لكن هذه الأحذية الماثلة في لوحات فان غوغ وقد رسمها أكثر من ثماني مرات هي ما هي فهي توجد على نحو أكثر صراحة من الريفية نفسها. لكن هذه الريفية التي تلبس هذه الأحذية وتقضي معها يومًا كاملًا تجوب الحقول وتعتني بالأرض وتكد من أجل قوتها اليومي، لا تنظر البتة إلى هذه الأحذية وهي لا تشعر بها حتى مجرد الشعور. وإنها واقفة وإنها لتسير بواسطة هذه الأحذية. ذاك هو كيف تصلح هذه الأحذية على وجه الحقيقة.
ورغم ذلك لا شيء نبصر في هذه اللوحة غير فضاء وسيع مُبهم … فحينما نكتفي بالنظر إلى هذه الأحذية وحتى حينما نحدِّق بها مليًّا لا شيء نظفر به … ها هنا تنتهي إحداثية الاستطيقا التقليدية القائمة على اختزال الفن والعالم برمته في ثنائية الذات والموضوع. مع هيدغر نغادر استطيقا الذات وتكف بذلك الأحذية عن أن تكون مجرد موضوع لذات تحكم على جماله أو قبحه وفق مزاج الذائقة المتغطرسة. مع هيدغر تكف الأشياء عن المثول أمامنا في شيئيتها المدقعة وفي برودها الموضوعي … بل ربما تكون الأشياء هي التي تأتي إلينا لأنها تنجلي في باحة المنفتح أمامنا حيزنا البصري. نحن لا نلتقي أشياء العالم على نحو إرادي وبلوحة مقولات جاهزة … وإن الفن نفسه يصنع عالمًا ويشدنا إليه بما ينتصب في باحة الكينونة الوسيعة … لوحة أحذية فان غوغ تصنع عالمًا خاصًّا بها تنتمي إليه وتجذبنا نحوه وتغرينا بالإقامة فيه … ما يهمنا هنا لم يعد جمالها أو قبحها بل كونها علامة على الكيان … وإلَّا ماذا في أحذية شعثاء غبراء مترهلة مغبرة مكفهرة متروكة بلا سوق ولا ثمن ولا مساحيق تلمعها، غير كونها تدعو إلى عالم مغاير جدير بأن نسائله ونجعله وجهة للفكر نفسه؟
كيف يُفكك دريدا هذا الدور التأويلي الذي يُعيد لوحة الأحذية إلى نداء الأرض؟
إن دريدا لن يقيم في هذه الأحذية … ولن يتخذ منها صنمًا … إنما سوف يتخذ على عاتقه مهمة تحرير الفلسفة من هذا التأويل الذي جذبنا معه إلى الدائرة … دائرة العودة إلى أصل الأثر الفني ودائرة نداء الأرض … الأرض التي تحضن العالم والعالم الذي يشده الأثر … لن يقيم دريدا في الأرض لأن هذه الأحذية قد تكون بلا أرض وبلا أصل بل هي أحذية منبتة أو مهجرة … ثمة انفعالات غامضة سوف تُؤججها هذه الأحذية عن غير قصد: معارك بين اليهودي المنبتِّ المهجر الذي لا أرض له والمسيحي اليميني القومي السعيد بتأويلية للمعاني قد لا تصلح إلا للأرستقراطيين والرومانسيين … هي معارك بين اليسار واليمين أي بين شابيرو وهيدغر … ورغم ذلك يوصينا دريدا بأنه «لا ينبغي أن نترك هذه الأحذية بين أيادي شابيرو وهيدغر.» لماذا نحرر الأحذية من أيديولوجيات اليمين واليسار واليهودي والمسيحي والحضري والريفي؟
إن أهم عيب سقط فيه هيدغر في تأويله للوحة أحذية فان هو ما سمَّاه دريدا «سذاجة المرجع»، وهي سذاجة ارتكبها هيدغر ثلاث مرات في حق الأحذية: في المرة الأولى حينما اعتقد بأنها زوج من الأحذية. وفي المرة الثانية حينما أعادها مُتعجلًا إلى الريفية. وأخيرًا حينما ماثل بين اللوحات الثمانية للأحذية مُعتقدًا أنها واحدة.
(٣) ماير شابيرو ولوحة أحذية فان غوغ
ماير شابيرو مؤرخ للفن الأمريكي (١٩٠٤م، ١٩٩٦م) عُرف بدفاعه عن الفن الحديث وبقراءته الماركسية لتاريخ الفن. وكان من الذين حضروا دروس هيدغر حول أصل الأثر الفني. وكتب كتابًا حول فان غوغ (نُشر بنيويورك سنة ١٩٥٠م). ما يهمنا هو أن شابيرو قدم قراءة للوحة أحذية فان غوغ يُعيد فيها هذه الأحذية إلى فان غوغ نفسه.
يكشف دريدا عن ثلاثة عقائد في تأويل شابيرو هي التالية:
- أولًا: إن أحذية مرسومة بوسعها أن تعود فعلًا وأن يقع إرجاعها حقًّا إلى ذات حقيقية ذات هوية واسم محدد.
- ثانيًا: إن الأحذية هي أحذية سواء كانت رسمًا أو أحذية فعلًا، فهي أحذية فحسب وبكل بساطة هي ما هي متطابقة مع نفسها وقابلة للتأقلم مع الأقدام.
- ثالثًا: إن أقدامًا (مرسومة شبحية أو فعلية) تنتمي إلى جسد خاص. وإنها ليست قابلة للفصل عنه … هذه عقائد ثلاثة ليس بوسعها أن تصمد. إنها تنهزم بمجرد ما يحدث ضمن هذا الرسم.
إن المعركة بين شابيرو وهيدغر حول أحذية فان غوغ ليست مجرد معركة بين الريفي المسكون بالحنين إلى الحقول والحضري المُحب لحياة المُدن. يتعلق الأمر بتقاطع عجيب بين معارك شتى: معارك هويات بين المسيحي عاشق التأويل والمعاني السعيدة لكينونة شاعرية في العالم، واليهودي المُهجر المنبتِّ. معارك إيديولوجيات بين اليمين المحافظ واليسار الغاضب. غير أنهما يشتركان في الكثير من العقائد والأوهام الساذجة إزاء فنِّ الرسم من قبيل: انتمائهما إلى براديغم الذات المُتغطرسة التي تعتقد في ضرورة أن تنتسب هذه الأحذية إلى ذات تملكها … اعتقادهما في أن ما رسمه فان غوغ هو فعلًا أحذية … اعتقادهما في الثنائيات التقليدية التي تختزل الأحذية في زوج من اليمين واليسار …
(٤) هل وقع إنصاف الأحذية؟
لا أحد بوسعه أن يدعي ملكية أحذية فان غوغ حتى فان غوغ نفسه. لا أحد مذنب في هذه القصة ولا أحد مُتهم. لا ذنب على الرسوم. كل ما وقع تحت إغراء التفكيك هو الكتابة والرسم والحقيقة. كل ما وقع هو محبة الحكمة. ومحبة بذر الكتابة وتبذيرها وتناسل الحروف. أمَّا عن أحذية فان غوغ فهي ملك لفنِّ الرسم فحسب. ليست هذه الأحذية للبيع. لقد صمِّمت من أجل أن تبقى هناك. متروكة لحالها مودعة في فضاء الصمت. أعيدوها إلى صمتها وأبعدوا عنها غطرسة اللوغوس وأكاذيب الخُطب. ورغم ذلك ما زالت هذه الأحذية تشهد على كرامة الإنساني. فيما أبعد من اليمين واليسار لا تزال تبقى هذه الأحذية شاهدًا على ما تبقى من الإنساني فينا. وبالرغم من أنها أحذية مُهملة لكنها أحذية لا تُنسى …
لا تصلح هذه الأحذية إلى أي شيء من فرط ما وقع استعمالها. هي أحذية لا جمال فيها ورغم ذلك هي أثر فنيٌّ لا يُنسى. إنها لا تنتمي إلى تاريخ الجمال ولا إلى براديغم الاستطيقا بل هي أثر فنيٍّ فقط دونما وصاية ولا أبوة فارغة.
وحين شعر فان غوغ يومًا أنه مُهدد، تمسك بأحذيته كمن يتمسك بورقة قش لأنها آخر ما تبقى من كرامته. وحين تقطعت بها السبُلُ لم تجد أحذية فان غوغ من ملجأ لها غير فنِّ الرسم. إنه عالمها الوحيد وإليه تنتمي. ويبدو أن لهذه الأحذية كرامتها الخاصة مثل الكرامة التي للشيوخ والمُسنين والضعفاء والمُشردين وكل الذين أخرجهم النسق عن دائرة الاستعمال. وللأحذية الحقُّ في أن ترفع قضية استرداد حقوق مثل المُعطَّلين والمُهمَّشين والمغضوب عليهم والغاضبين والذين لا سكن لهم ولا عمل ولا منزلة اجتماعية ولا أفق … لا أحد ينتظرهم ولا أحد يستقبلهم …
ليست أحذية فان غوغ أحذية فقط وربما ليست أحذية أصلًا. وسوف تبقى هذه الأحذية قابعة في فضاء فنِّ الرسم، لا شيء يحتضنها غير اللوحة المُعلقة على الجدار. عليها حينئذٍ أن تتحمل الوحدة واليُتم وبرودة الجدران … لكن برودة اللوحة أجمل عندها من معارك الأصل والذات والهوية … وفضاء الصمت عندها أرحم من غطرسة اللوغوس … ما يتبقى في هذه الأحذية الفاغرة الفم معاني أخرى وثورات سوف تأتي …